الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع الصَّحَابة وَالتَابعين
1 - المخطط الأول للفتح:
الفتح الإسلامي نَسِيجُ وَحْدِهِ في تاريخ البشر، لا يشبهه فتح ولا يدانيه ولا يقاس به
…
فقد خرج المسلمون يعلنون كلمة الله، ويبشرون بدينه، ويبذلون في سبيل ذلك أموالهم وأرواحهم، ويفارقون من أجله ديارهم وأولادهم: لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.
كانت غايتهم إصلاح البشر في أرواحهم وعقولهم وأخلاقهم، وسعادة الناس في دنياهم وآخرتهم؛ فإذا قبلوا الهداية كفوا عنهم، وإن لم يقبلوا فرضوا عليهم الجزية، وإن أبوا قاتلوهم (1).
وكان الفاتحون لا يعلنون عن الإسلام بألسنتهم فحسب، ولكنهم كانوا في أخلاقهم ومعاملاتهم وسيرتهم أمثلة حيّة وترجمة عملية لتعاليم الإسلام.
لذلك لم ينجلِ الفتح الإسلامي عن غالبين ومغلوبين، وإنما انجلى عن أمة واحدة، لها رب واحد ونبيّ واحد وقرآن واحد وسُنَّة واحدة.
(1) قادة فتح العراق والجزيرة ص 476.
لهذا استقر الفتح الإسلامي وخلد، وبقيت البلاد المفتوحة للإسلام، فكان هذا الفتح فتحاً (مستداماً)، لأنه كان فتح خير وبركة وهداية (1).
لقد كان الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام هو المخطط الأول للفتح الإسلامي، فهو الذي رسم بنفسه الخطة التمهيدية التي حملت الجيوش الإسلامية على فتح أرض الشام وتأسيس أول ركن لدولة الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية. ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب تبليغه الدعوة الإسلامية إلى قادة العالم في وقته، كان قائداً ماهراً يقظاً لا يغض الطرف عن أي مظهر عدواني قد يَحُطُّ من شأن دعوته أو يعمل على النيل منها، فلم يقف ساكناً إزاء استشهاد رسوله الذي بعثه إلى أمير الغساسنة في (بصرى)(2)، فأرسل في السنة الثامنة الهجرية (629 م) أحد قادته المقربين إليه، وهو زيد بن حارثة الكلبي رضي الله عنه على رأس ثلاثة آلاف رجل إلى الحدود الشمالية الغربية من بلاد العرب. وهناك عند (مؤتة) الواقعة على حدود (البلقاء)(3) إلى الشرق من الطرف الجنوبي للبحر (الميت) التقى المسلمون بقوات الروم (4).
ومهما تكن الخاتمة التي لقيتها غزوة (مؤتة)، فإن نتائجها
(1) الفاروق القائد ص 50 - الطبعة الثالثة.
(2)
بصرى: قَصَبةُ كورةِ حوران من أعمال دمشق، انظر التفاصيل في معجم البلدان
2/ 278.
(3)
البلقاء: كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى قصبتها عمان، انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/ 276. (4) انظر تفاصيل معركة (مؤتة) في: الرسول القائد ص 295 - 299.
وآثارها كانت بعيدة المدى؛ فبينما رأى الروم تلك الغزوة (غارة) من الغارات التي اعتاد البدو شنها للنهب والسلب، كانت غزوة (زيد) هذه في الحقيقة غزوة من نوع جديد لم تقدِّر دولة الروم أهميتها، فهي حرب منظمة كانت لها مهمة خاصة، جعلت المسلمين يتطلعون جدياً لفتح أرض الشام.
وفي العام التالي، أي في السنة التاسعة الهجرية (630م)، قاد النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه غزوة (تبوك)، فأظهر للروم وحلفائهم من العرب الغساسنة قوة المسلمين، ثم عاد إلى المدينة المنورة، فكانت غزوة (تبوك) إيذاناً بانطلاق الفتح الإسلامي لتحقيق أهدافه.
وفي السنة الحادية عشرة الهجرية (632م) أعد الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام جيشاً من المسلمين بقيادة أسامة بن زيد الكلبي (1) للتعرض لقوات الروم وحلفائهم، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة الهجرية قبل تحرك ذلك الجيش، فترك لخلفائه خطة واضحة المعالم، وولَّى وجوههم شطر قبلة عيّنها لهم
…
وهكذا وقف الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام بثاقب نظره على أن أشد الأخطار التي يمكن أن تحل ببلاد العرب وتناوئ دعوته هي في أرض الشام حيث الروم وعمالهم الغساسنة، وقد أثبتت حوادث الفتح الإسلامي في مناطق الروم صدق هذه الإشارة، فكان الروم أشد المحاربين عناداً (2).
(1) انظر ترجمته في: قادة فتح أرض الشام ومصر، ص 33 - 51.
(2)
الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم ص 41.