الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سيزحفون حتى يبلغوا كنيسة (آيا صوفيا) وهناك يهبط ملك من السماء فيقهرهم ويردّهم على أعقابهم.
هكذا كانت حال القسطنطينية في أيامها الأخيرة وهي تدنو من نهايتها، تتوزعها الأوهام والأماني والنبوءات.
أما قسطنطين وجنوده، فكانوا يعرفون الحالة على حقيقتها ويدركون خطر الموقف وشدة بأس العدو.
17 - قبيل الهجوم العام:
مضت سبعة أسابيع والحصار قائم على قدم وساق، وقد تهدَّمت أجزاء كثيرة من السور وأبراجه وامتلأ الخندق بالأنقاض، بعد أن كلَّت أيدي المحصورين عن رفعها.
وأصبحت أمام السلطان الفاتح ثلاثة مسالك للهجوم واقتحام المدينة: الأول ما بين (تقفور) وباب (أدرنه)، والثاني في (وادي ليكوس) عند باب القديس رومانوس (طوب قبو) وهو أكثر الأماكن تهدُّماً وانهياراً، والثالث بالقرب من الباب العسكري الثالث.
واعتقد الفاتح أن السبيل للفتح قد تمهَّد أمامه، وأن الوقت قد حان للقيام بالهجوم العام.
ولكنه قبل أن يُقدِم على تنفيذ خطة الهجوم العام، بعث برسالة إلى قسطنطين يدعوه فيها إلى تسليم المدينة قبل أن يستمر القتال وتراق الدماء وتكون المدينة غنيمة للفاتحين. وأوفد إليه إسماعيل اسفنديار أوغلو الذي كانت تربطه بقسطنطين صحبة قديمة، وعرض عليه أن
يسلّم القسطنطينية بعد أن وصلت إلى ما وصلت إليه من الخراب والبؤس والشقاء وتهدَّمت أسوارها، وأن يجنّب الأطفال والنساء والشيوخ أهوال الحروب وويلاتها، وعرض عليه باسم السلطان أن يكون حاكماً على (الموره) كما كان من قبل. أما سكان المدينة فمن أراد الرحيل عنها بما شاء من أمواله، ومَن آثر البقاء فيها ضَمِن لهم السلطان الأمان على أنفسهم وأموالهم وأولادهم. فإن أبى قسطنطين هذا، فلا ينتظرنَّ غير الحرب الشعواء الضروس التي لا ترحم.
واجتمع قسطنطين برجاله وأهل مشورته وعرض عليهم رسالة الفاتح، فمال قسم منهم إلى تسليم المدينة، ولكنّ جستنيان ونفراً من رجال الحرب أصرُّوا على مواصلة القتال مهما تكن نتائجه. وكان ذلك رأي قسطنطين، فقال لرسول الفاتح:"إنه يشكر الله إذ جنح السلطان إلى السلم، وإنه يرضى أن يدفع له الجزية. أما القسطنطينية، فإنه قد أقسم أن يدافع عنها إلى آخر نفس في حياته؛ فإما أن يحتفظ بعرشها أو يدفن تحت أسوارها". فلما بلغ الفاتح جواب قسطنطين قال: "حسناً، عما قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش، أو يكون لي فيها قبر".
وعمد السلطان الفاتح إلى مضاعفة قوة مدفعيته واستمرار قصفها للأسوار بدون انقطاع، وقد تمكَّن المهندسون من ابتكار مدفع جديد يرمي قنابله إلى أعلى فتتخطى الأسوار وتسقط في قلب المدينة، كما هي الحال في مدافع الهاون، وكانت المدفعية قبل ذلك ترمي بصورة مستقيمة، فتصيب الأسوار ولا تتخطاها، وبابتكار المدافع الجديدة أصبحت المدينة كلها لا الأسوار وحدها تحت رحمة قصف المدفعية العثمانية.
وبالإضافة إلى ذلك، عقد السلطان الفاتح مؤتمراً حربياً في مقرّه حضره وزراؤه وكبار قادة جيشه والشيوخ والعلماء للنظر في الموقف الراهن وما يجب اتخاذه من مقرَّرات لمعالجته، وطلب الفاتح إلى الحاضرين أن يعلن كل منهم رأيه بصراحة وفي حرية تامة.
وأشار قسم من الحاضرين بالمبادرة إلى الهجوم العام فوراً على المدينة، قبل أن يتسرَّب اليأس إلى نفوس الجنود.
وقال الوزير العجوز خليل باشا: "إن الحميَّة والحماس شيء جميل يستحق الثناء والتقدير، ولكن يجب التريُّث والتبصُّر قبل الهجوم على قلعة قوية كالقسطنطينية، فقد حاصرت أكبر الجيوش في العالم هذه القلعة أكثر من سبع وعشرين مرة انتهت كلها بالخيبة والإخفاق. والمهم ليس ضرب الحصار على المدينة، بل الاستيلاء عليها، وقد مضى الآن أكثر من أربعين يوماً على حصارنا لها، وبذلنا في ذلك أغلى التضحيات وأفدحها، ولم تبدُ أية بارقة للنجاح؛ فالأنفاق التي حفرناها لم تجدنا شيئاً، والقلاع الخشبية حُرِقت، والمهندسون قُتلوا. وقد أشرت من قبل بدء الحصار، أن هذا العمل أمر عسير لن يحقق الغاية التي نريدها، وقد ظهر لكم الآن صدق قولي ورجاحة رأيي بعد أن مضى عليه أكثر من أربعين يوماً. وإذا أحسنَّا الغرض والظن واستولينا على القسطنطينية، فإن شعوب النصرانية في العالم كله ستتألَّب علينا وتزحف إلينا بجموع لا قِبَلَ لنا بها، ولن تدعنا حتى تسترد القسطنطينية من أيدينا. فخيرٌ لنا أن نقنع بجزية كبيرة نطلبها من قسطنطين ونرفع الحصار عن المدينة ونعود إلى ديارنا في الوقت الذي نستطيع أن نفعل ذلك بأمان".
ولم يكن كلام خليل باشا يخلو من التعريض والنقد للسلطان، وكان الفاتح قد لمس في خليل باشا ما يثير الريبة والشك وما يستحق المؤاخذة والعقاب، ولكنه أغضى وأمسك عنه وأسرَّ الأمر في نفسه حتى تواتيه الفرصة. فما زاد الفاتح بعد أن أتمَّ خليل باشا كلامه أن تبسَّم، ثم التفت إلى زغنوس باشا وسأله رأيه. وكان زغنوس لا يزال في عنفوان الشباب، شديد العزم وثّاب الهمة، وهو الذي كان يشرف على حفر الأنفاق تحت أسوار القسطنطينية لاقتحامها من بطن الأرض.
قال زغنوس: "حاشا وكلاّ أيها السلطان! أنا لا أقبل أبداً ما قاله خليل باشا، فما أتينا هنا إلا لنموت لا لنرجع. إن خليل باشا أراد بما قاله أن يخمد فيكم نار الحمية ويقتل الشجاعة، ولكنه لن يبوء إلا بالخيبة والخسران. إن جيش إسكندر الكبير الذي قام من اليونان وزحف إلى الهند وقهر نصف آسيا الكبيرة الواسعة لم يكن أكبر من جيشنا، فإذا كان ذلك الجيش قد استطاع أن يستولي على تلك الأراضي العظيمة الواسعة، أفلا يستطيع جيشنا أن يتخطَّى هذه الكومة من الأحجار المتراكمة؟! وقد أعلن خليل باشا أن دول الغرب ستزحف إلينا وتنتقم منا، ولكن ما الدول الغربية هذه؟! هل هي الدول اللاتينية التي شغلها ما بينها من خصام وتنافس؟ هل هي دول البحر الأبيض المتوسط التي لا تقدر على شيء غير القرصنة واللصوصية؟ ولو أن تلك الدول أرادت نصر بيزنطة لفعلت وأرسلت إليها الجند والسفن؛ ولنفرض أن أهل الغرب بعد فتحنا القسطنطينية هبُّوا إلى الحرب وقاتلونا، فهل سنقف منهم مكتوفي الأيدي بغير حراك؟! أوَليس لنا جيش يدافع عن كرامتنا وشرفنا؟
"يا صاحب السلطنة! أمَّا وقد سألتني رأيي، فلأعلنها كلمة صريحة: يجب علينا أن تكون قلوبنا قوية كالصخر، ويجب أن نواصل الحرب دون أن يظهر علينا أقل ضعف أو خور. لقد بدأنا أمراً، فواجب علينا أن نتمَّه، ويجب أن نزيد هجماتنا قوة وشدة، ونفتح ثغرات جديدة وننقضّ على العدو بشجاعة. لا أعرف شيئاً غير هذا، ولا أستطيع أن أقول شيئاً غير هذا".
وبدت على وجه الفاتح أمارات البِشْر والانشراح لسماع هذا القول، والتفت إلى القائد طرخان يسأله رأيه، فأجاب على الفور:"إن زغنوس باشا قد أصاب فيما قال، وأنا على رأيه يا سلطاني". ثم سأل الشيخ آق شمس الدين والمولى الكوراني عن رأيهما، وكان الفاتح يثق بهما كل الثقة، فأجابا: إنهما على رأي زغنوس باشا، وقالا:"يجب الاستمرار في الحرب، وبالعناية الصمدانية سيكون لنا النصر والظفر".
وسرت الحمية في جميع الحاضرين، وابتهج السلطان الفاتح واستبشر بدعاء الشيخين بالنصر والظفر، ولم يملك نفسه من القول:"مَن كان من أجدادي في مثل قوتي"؟!
والواقع أن الفاتح لم يقل هذا القول تفاخراً ومباهاة، بل قاله لرفع معنويات قادته العسكريين وقادته السياسيين وقادته الدينيين.
ومع ذلك فهو صادق في تقدير قوته، إذ كان يتفوَّق على أجداده بعدد رجاله وضخامة مدفعيته وبأسطوله البحري.
وانفرد الفاتح بعد المؤتمر بوزيره زغنوس باشا وقال له: "يجب ألا نضيّع شيئاً من الوقت، فقد دكّت الأسوار، وأعدت العدة للهجوم،
وتخيّرنا مواضعه؛ فاذهب إلى الجنود وأخبرهم أن ساعة الهجوم قد أزفت، وانظر أثر هذا القول فيهم، وارجع به إليّ".
وذهب زغنوس باشا إلى المعسكر، وجمع الجند حوله، وقال لهم:
"إن سلطاننا المعظَّم يرى أنَّ الحصار والغارات التي دامت سبعة أسابيع كافية، وآن أوان الهجوم العام، ولا أدري متى يصدر أمره به، وأظنَّه قريباً جداً .. لقد حانت الساعة لكي تُظهروا شجاعتكم وبسالتكم في هذا الهجوم، ولا ريب في أنه يحتاج إلى أعظم الجهد وأكبر التضحيات، فهل أنتم مستعدُّون"؟
ولم يكد زغنوس باشا يلقي سؤاله، حتى جلجل هذا المعسكر الواسع المترامي بدويّ كهزيم الرعد، وهتف الجند بصوت واحد: "الله أكبر
…
الله أكبر".
وعاد زغنوس باشا إلى الفاتح ليخبره بما رأى وسمع، فاطمأنَّ السلطان إلى أن رجاله عند حسن ظنّه، وأنَّ معنوياتهم عالية جداً، وأنهم مستعدُّون للتضحية والفداء.
وفي يوم الأحد الثامن عشر من جمادى الأولى السابع والعشرين من مايس (مايو) أمر الفاتح جنوده بالصيام تطهيراً وتزكية للنفوس وتقوية للعزيمة والإرادة.
وزار الفاتح في ذلك اليوم سور القسطنطينية من بحر (مرمره) إلى القرن الذهبي يستطلع أجزاءه بدقّة ويتفحَّص ما أحدثته المدفعية فيه من ثغرات، والمواضع التي لا تزال تحتاج إلى الدكّ والهدم منه.
ولم تنقطع المدفعية طوال ذلك اليوم واليوم التالي عن قصف
السور وبخاصة المواضع التي رمَّمها المحاصَرون.
وفي مساء ذلك اليوم أوقد الجنود العثمانيين النيران والمشاعل والقناديل، وأشعلت الشموع على رؤوس الرماح حول معسكرهم، وتصاعد الضوء إلى الفضاء في توهُّج ونور، وتشرَّبت مياه بحر (مرمره) والبسفور باللون الأحمر واستحالت السماء إلى قبة حمراء.
وتعالت صيحات المسلمين وهم يهتفون بأعلى صوتهم: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله". يقول رئيس الأساقفة (ليونارد Leonard) الذي شهد هذا المنظر الرائع بأم عينيه، إذ كان في القسطنطينية مع المحصورين:"لو أنك سمعت مثلنا صيحاتهم المتوالية المتصاعدة إلى السماء: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) لأخذتك الروعة والإعجاب".
وأمضى السلطان يوم الإثنين التاسع عشر من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثمانمئة الهجرية الثامن والعشرين من مايس (مايو) في إكمال استعداداته الأخيرة، فطاف بالسور مرة أخرى ليكمل استطلاعه الشخصي المفصَّل؛ كما فتَّش جنوده، ليتعرَّف على درجة استعدادهم وحالتهم المعنوية.
وقصد في نفس اليوم إلى مَرْسى أسطوله في (بشكطاش) يصحبه حمزة باشا أمير البحر، ليطلع بنفسه على ما اتخذه من الاستعدادات.
وسأل الفاتح قائد بحريَّته حمزة باشا إن كان ثمة نقص في شيء، فأجابه:"إنَّ كل شيء قد تمَّ، وإنَّنا في انتظار أوامركم لتنفيذها"؛ فطلب إليه الفاتح أن يشترك جميع الأسطول في الهجوم العام، ويصفّ
سفنه حول السور الواقع على بحر (مرمره)، ويتسلَّقه الجنود بالسلالم والحبال، ويقتحمون المدينة. ثم بعث الفاتح إلى سكان (غلطه) من الجنويين يحذرهم من مساعدة القسطنطينية، فقد كان على علم تام بما كانوا يفعلونه طوال أيام الحصار.
وكان الفاتح كلما مر بجمع من جنده خطبهم وأثار فيهم الحمية والنخوة، وأبان لهم أنهم بفتح القسطنطينية سينالون شرف الدنيا والآخرة، ويأمن العثمانيون بفتحها دسائس هذه المدينة التي طالما مالأت عليهم الأعداء والمتآمرين، وسيكون لأول جندي يرفع راية الإسلام فوق سور القسطنطينية الجزاء الأوفى والإقطاعات الواسعة وأجر الله في الجنَّة.
وكان الشيوخ والعلماء يتلون عليهم آيات القتال والجهاد، وما أعدَّ الله للمجاهدين من حسن الجزاء، ثم يقولون لهم:"لقد نزل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة المنورة في دار أبي أيوب الأنصاري، وقد قصد أبو أيوب إلى هذه البقعة ونزل هنا"(1).
وكان هذا القول يلهب الجند ويبعث في نفوسهم أشدّ النخوة والحمية الدينية، فيسجدون إلى الأرض، ويدعون الله عز وجل ويبتهلون إليه أن يتم لهم النصر المبين.
وعاد الفاتح إلى مقرّه، فدعا إليه قادة جيشه وأصدر إليهم التعليمات الأخيرة، ثم ألقى عليهم الخطبة التالية: "إذا تمَّ لنا فتح القسطنطينية تحقَّق فينا حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزة من
(1) أحمد مختار: فتح جليل قسطنطينية.
معجزاته، وسيكون من حظّنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير؛ فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً، أنَّ الظفرَ العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغرَّاء نصب عينيه، فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسُّوها بأذى، ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون".
وأخلد الجنود العثمانيون إلى الراحة والنوم استجماماً للقوة والنشاط واستعداداً للقتال الذي أزف موعده، وخيَّم على المعسكر الإسلامي سكون عميق شامل أثار دهشة سكان القسطنطينية وأثار فيما بينهم كثيراً من التساؤل والقلق، وأحسَّ الناس في المدينة أن هبوب العاصفة قد اقترب، وأن الهجوم العام وشيك الوقوع، فدقّت أجراس الكنائس تدعو الناس إلى الصلاة والدعاء والاستعداد والتأهب.
وأرهقت أعصاب كثير من المحصورين في هذا الجو المتوتّر، وضاقت بهم أنفسهم وعيل صبرهم، ففرُّوا إلى معسكر المسلمين ينشدون فيه الأمن والسلامة والطمأنينة لأنفسهم، فأحسن المسلمون لقياهم ومعاملتهم. وقد التجأ إلى المعسكر الإسلامي فيمن التجأ الراهب (بترو) في ثلاثمئة من أصحابه، فأكرمهم المسلمون وأحسنوا معاملتهم. ووقع ذلك موقعاً حسناً في نفس الراهب وشرح الله صدره للإسلام، فأسلم وعُرِف منذ ذلك الحين بمحمد بترو.
وكانت الجاسوسية تعمل بحذق ونشاط من جانبي الروم والعثمانيين على السواء، فكانت لقسطنطين عيون وجواسيس في المعسكر