الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
21 - الفتوح:
أ) كان فتح القسطنطينية أول الغيث، ثم انهمرت الفتوح عليه.
وليس في نيّتي تفصيل فتوحه، ولكنني سأمر عليها مرَّ الكرام لإعطاء صورة مختصرة جداً عنها.
لقد كانت للعثمانيين سيادة على كثير من أجزاء البلقان، ولكنها كانت سيادة مزعزعة تقوى حيناً وتضعف حيناً، ولكن بعد أن وضع الفاتح يده على القسطنطينية - مفتاح أوروبا الشرقية - تيسرت الطريق وتوطدت سيادة العثمانيين، وبدأت حقاً إمبراطوريتهم في أوروبا، وسهل على محمد الفاتح فتح البلاد الصربية واليونان والأفلاق (1) والقريم والجزر الرئيسية في بحر الأرخبيل، وتم ذلك كله في خلال بضعة وعشرين عاماً من حكمه، ولم يزد خلفاؤه من بعده شيئاً ذا بال على فتوحاته بأوروبا.
وكان أول هدف قصده الفاتح هو صربية التي تحدها من الغرب الدولة المجرية الكاثوليكية، وكان الصرب متعصبين لمذهبهم الأرثوذكسي تعصب الروم له. وكانت بعض أجزاء صربية تحت سيطرة العثمانيين، وكان بعض أجزائها تحت سيطرة المجر، وكانت إذا جاءها الخطر من قبل العثمانيين لاذت بالمجر، وإذا جاءها الخطر من قبل المجر لاذت بالعثمانيين. وكان أمير صربية إذ ذاك (جورج برنكوفيتش)، وبالرغم من أنه كان يدفع الجزية للعثمانيين لم يكن في الحقيقة مخلصاً في تبعيّته لهم، بل كان يخادعهم ويداجيهم ويتربص بهم، أو كما قال السلطان الفاتح نفسه
(1) valachia.
عنه: "كان يُظهر الصداقة ويُبطن العداوة". فلما جاءه رسول هونياد المجري يعرض عليه الاشتراك في الحلف الذي ستعقده بعض الدول الأوروبية ضد الفاتح الذي عظم خطره على أوروبا بعد فتحه القسطنطينية، بادر إلى الموافقة عليه وتأييده. ولم يخف أمر ذلك على السلطان الفاتح الذي كان يبث العيون والأرصاد في كل مكان. ولتفادي هذا الخطر، بادر إلى غزو صربية قبل أن تتخذها القوات المتحالفة قاعدة للهجوم على العثمانيين، فلما علم جورج برنكوفيتش بزحف السلطان الفاتح نحوه، أمر الناس أن يلجؤوا إلى الأماكن الحصينة وفرّ هو إلى المجر بعد أن وعدهم أنه سيأتيهم بالمدد والقوة من هناك.
وأفزع ذلك البابا وشرع للنصارى صلاة التبشير فتدق النواقيس ويتوجه النصارى إلى العذراء يسألون العون ويطلبون النصر على العثمانيين، وطلب البابا إلى الناس في جميع بلاد النصرانية ألا يغفلوا عن دق الناقوس صباح كل يوم والذي سماه: ناقوس الأتراك.
ودعا البابا أهل أوروبا إلى قتال العثمانيين، واختار هونياد المجري ليتولى قيادة الحملة الصليبية يعاونه في ذلك مندوبه (جان أنجيلو Jean Angelo) وذلك الراهب الخطيب المتحمس (جان كابسترانو) وكثير غيرهما من رجال الدين. وتكوَّن حلف صليبي ضد العثمانيين اشترك فيه ملك المجر وملك (أرجونة) وعدة من أمراء إيطاليا ودوق (بورغنديا) والبنادقة والجنويون وفرسان (رودس) وألمانيا وبوهيميا وبولندا وصربية.
ولم ينتظر الفاتح حتى يدهمه الهجوم، بل سار إلى بلغراد في مئة
وخمسين ألف مقاتل، وحاصر تلك المدينة براً وبحراً، ودارت معارك طاحنة حولها، وتكبد الفريقان خسائر فادحة، وجرح السلطان الفاتح في فخذه جرحاً بليغاً نزف الدم منه فسقط عن ظهر جواده مغشياً عليه، وكاد يقع في الأسر لولا استقتال رجاله دفاعاً عنه.
وانسحب السلطان الفاتح بجنوده، وأقيمت الاحتفالات في جميع أنحاء العالم المسيحي لاسيما روما مقر البابوية، حيث أقيمت احتفالات ومهرجانات عظيمة، وأمر البابا بأن يتخذ اليوم السادس من أغسطس سنة (1456م) وهو اليوم الذي انتصر فيه الجيش الصليبي على العثمانيين (عيد التجلي).
وأعاد السلطان الفاتح الكرة على صربية، فانتصر انتصارات حاسمة على الصربيين سنة ثلاث وستين وثمانمئة الهجرية (1459م)، فأصبحت صربية عدا بلغراد ولاية من ولايات العثمانيين من ذلك الحين.
كما أصبحت (البوسنة) كلها سنة سبع وستين وثمانمئة الهجرية (1463م) ولاية من ولايات العثمانيين، وأقبل أهلها على اعتناق الإسلام.
كما أصبحت (الهرسك) بعد عام ولاية من ولايات العثمانيين، وأقبل أهلها على اعتناق الإسلام.
وأصبحت (أثينا) في حكم العثمانيين نهائياً سنة أربع وستين وثمانمئة الهجرية (1460 م)، كما أصبحت (الموره) ولاية عثمانية أيضاً في السنة نفسها، وبذلك أصبحت اليونان كلها للدولة العثمانية.
وفي سنة ست وستين وثمانمئة الهجرية (1462م) أكمل السلطان الفاتح ضم جزر بحر الأرخبيل إلى الدولة العثمانية.
وفي سنة أربع وثمانين وثمانمئة الهجرية (1479م) استتب الأمر للعثمانيين في الأفلاق ( Valachia) وهي من رومانيا.
ومهد لفتح البوغدان ( Moldavia) حتى استسلمت لابنه بايزيد الثاني سنة اثنتين وستين وتسعمئة الهجرية (1554م).
وفتح أماصرة وهي مدينة على البحر الأسود في آسيا سنة خمس وستين وثمانمئة الهجرية (1461هـ).
واستولى على إمارة سينوب الواقعة على البحر الأسود في آسيا في السنة نفسها.
وفتح أرضروم في السنة نفسها أيضاً، وكانت قد حالفت الصليبيين ضد السلطان محمد الفاتح.
وفتح (طرابزون)(1) أيضاً، وكان إمبراطورها قد حالف الصليبيين ضد السلطان محمد الفاتح، وقد تم فتحها في سنة ست وستين وثمانمئة الهجرية (أواخر سنة 1461م).
وبذلك قضى السلطان محمد بما أظهره من حسن السياسة ونفاذ البصيرة وقوة العزيمة وسرعة الحركة على تلك المحالفة الكبرى
(1) إمارة رومية نصرانية تقع في شمال شرقي آسيا الصغرى على شاطىء البحر الأسود، وقد كانت هذه البلدة بما حبتها الطبيعة من غزارة الثروة وحسن الموقع هدفاً للغزاة والمغامرين. وقد حاول مراد الثاني سنة 1442م كما حاول الجنيد شيخ أردبيل وجدّ إسماعيل مؤسس الأسرة الصفوية بفارس فتحها، فردتهما أسوارها وقلاعها المنيعة.
أو المؤامرة الكبرى التي دبرت للقضاء عليه وعلى دولته، وقد كانت تلك المؤامرة معقد آمال كبيرة للمشتركين فيها لاسيما امبراطور
طرابزون وأمير أرضروم والبابا.
كما طهّر الفاتح حدوده الشمالية من كل خطر، فامتدت أملاكه حتى البحر الأسود شمالاً.
ب) وجدّ البابا (1) في إعداد حملة صليبية جديدة، وقد أرادها هذه المرة أن تكون حملة فريدة، إذ قرر أن يخرج بنفسه في هذه الحملة، وكتب إلى الأمراء في البندقية وبورغنديا للخروج مع قواتهم حتى يلقي في نفوس المسلمين الروع والرهبة.
وفي يوم 22 من تشرين الأول - أكتوبر - سنة 1463 م أذاع البابا منشوراً حماسياً بليغاً على جميع النصارى دعاهم فيه إلى الحرب المقدسة ضد العثمانيين، وأعلن أن احتشاد الجيوش سيكون في مدينة (أنكون (2) Ancone) ، وأنذر أنّ صواعق الكنيسة ستنزل على المتخاذلين والذين يعكرون صفو السلام في الداخل بمحاربة بعضهم بعضاً. ولكي يجمع البابا أكبر قدر من المال، أمر ببيع صكوك الغفران في جميع أرجاء القارة الأوروبية، وجعل لكل ذنب ثمناً محدداً، والصك الكامل لغفران جميع الذنوب كان ثمنه عشرين ألف فلورن.
وفي يوم (11 من تشرين الثاني سنة 1463 م) كتب البابا إلى دوق البندقية:
(1) هو البابا بيوس الثاني.
(2)
مدينة في منتصف إيطاليا على ساحل بحر الأدرياتيك.
"إنه عزم أن يقوم في الصيف القادم بحملة ضد العثمانيين بصحبة الكرادلة والجنود المغاوير
…
".
وكتب البابا إلى أمير ألبانيا وغيره يحثهم على حشد جنودهم للحرب المقدسة ضد العثمانيين.
ولم يكن السلطان الفاتح في غفلة عما يدبره البابا وحلفاؤه ويعدونه لمحاربته، فحاول أن يفسد هذه المحالفة الصليبية الكبرى ضده، ولكنه أخفق في مسعاه فلم يبق أمامه إلا أن يعتمد على نفسه وعلى قوته، وتأهب لملاقاة الحملة الصليبية التي ستهاجمه من أوروبا وآسيا.
واطمأن البابا إلى نجاح خطته، ورسخ في قلبه أن الحملة القادمة ستقضي قضاء مبرماً على الدولة العثمانية، وفي (11 من حزيران - يونيو - 1464م) أدى البابا بيوس الثاني آخر صلواته في كنيسة الرسل بروما، ثم بدأ سيره إلى (أنكون) ليبحر منها إلى الشرق.
وهذه أول مرة في تاريخ البابوية والنصرانية وآخر مرة أيضاً، يخرج فيها البابا من روما ليتولى قيادة حملة صليبية بنفسه، وقد انتابت البابا عند بدء سفره من روما حمى خفيفة، ولكنه لم يحفل بها وطلب إلى أطبائه ألا يذكروا عن ذلك لأحد شيئاً.
لم تمضِ على رحلته ثلاثة أيام، حتى بلغه أن جموع الصليبيين المحتشدين في مدينة (أنكون) يجأرون بالشكوى لأنهم لا يجدون ما يستعينون به على السفر، فأوفد إليهم البابا: الكاردينال (جان كرفجال Jean Carvajal) لتهدئتهم. ولم يكد يقترب البابا من بحر
الأدرياتيك حتى شاهد مجموعات من الصليبيين وهم يعودون إلى أوطانهم، قد انصرفوا عن هذه الحملة المقدسة!. وكان بين المحتشدين في (أنكون) عدد كبير من رجال الحرب الأشداء المدربين على القتال، ولكنهم لما وجدوا أن الكنيسة لا تدفع إليهم شيئاً غير صكوك الغفران، ازْوَرُّوا عنها وانصرفوا إلى بلادهم ساخطين ساخرين!!
…
وكان قد توافد كثير من العامة والبسطاء من أرجاء أوروبية كثيرة إلى (أنكون) بدون سلاح ولا أرزاق ولا مال، دفعتهم الحماسة الدينية الساذجة التي تتأجج في صدورهم، وكانوا واثقين أنهم سيُزَوَّدون بكل ما يحتاجون إليه من سلاح وأرزاق ومال إن لم يكن ذلك بوسيلة من وسائل الأرض فبمعجزة من معجزات السماء
…
وطال بهم الانتظار، وألحّ عليهم الجوع، ولم يغن عنهم البابا شيئاً، لذلك فترت عزيمتهم وخابت آمالهم، وعادوا أدراجهم إلى أوطانهم في حالة يرثى لها. والتقوا بالبابا وهو يتهادى في محفته، فحزّ في نفسه أن يكون أول ما تقع عليه عينه انصراف هؤلاء إلى بلادهم، وأول ما تسمع أذنه قولهم:"هل نشبع بصكوك الغفران؟! هل نطعم أهلنا صكوك الغفران"؟!.
وقال البابا فيما قال: "
…
على أني لن أخوض غمار القتال بنفسي، فإن ضعف بنيني وجلال الكهنوتية التي لا يليق بها الضرب بالسيف يحملانني على الابتعاد عنه. ولكنني سأجثو على ركبتيَّ على كوثل (1) مرتفع أو على قمة جبل، وبين يديّ القربان المقدس،
(1) الكوثل: مؤخر السفينة.
وستحيطون أنتم بي (1) من حولي، وندعو الله بقلوب خاشعة ذليلة أن يهب النصر لجنودنا"، وكان هذا نص كلامه حين خطب الكرادلة.
ومن الواضح أن البابا كان يزمع أن يحوز النصر على العثمانيين الأقوياء بالدعوات!! وحطَّ البابا رحاله في (أنكون) ينتظر ما سيمده به ملوك وأمراء أوروبا من جند وعتاد وسلاح ومواد تموينية وسفن حربية وسفن نقل، ولكنه لم يجد شيئاً مما كان قد أمّل، إذ لم تؤت دعوته ما كان يتوقعه؛ ففرنسا قد شغلتها دسائس ملكها لويس الحادي عشر ومكائده، وألمانية قد شملتها الفوضى والاضطرابات تحت حكم إمبرطورها الضعيف فردريك الثالث، وأمير البندقية التحق بالبابا كرهاً لا طوعاً، واعتذر دوق البندقية عن الالتحاق بالحملة متعللاً بعدم قدرته على السير بنفسه وبأسباب داخلية.
واغتم البابا لعدم تلبية دعوته غماً شديداً، وثارت به العلل والأسقام، ورزحت تحت وطأتها القاتلة شيخوخته الذابلة. وعندما شاهد أسطول البندقية في الميناء على أهبة السفر قال فى توجع وحسرة:"لقد كنت قبل اليوم أنشد الأسطول لأبحر به فلا أجده، وهاهو ذا اليوم يحضر إليّ فلا يجدني"، فقد أحس الوهن يسري في جسمه، وشعر بدنو أجله، فدعا إليه جميع الكرادلة لتوديعهم، وطلب منهم أن يصلُّوا لأجله.
(1) يريد الكرادلة.
خريطة تبين مدى اتساع رقعة الدولة العثمانية في عهد السلطان الفاتح وأهم الفتوحات العثمانية في آسيا الصغرى.
ومات البابا بيوس الثاني بين أيدي الكرادلة في (14 من آب - أغسطس - 1464م).
وهكذا انتهت الحملة الصليبية الفريدة التي دعا إليها البابا بيوس الثاني للقضاء على الدولة العثمانية. على أن أثرها لم يقف عند هذا الإخفاق وهذه المأساة المحزنة، فإنها فوق ذلك أشاعت في نفوس النصارى نوعاً من القنوط واليأس من إعداد أي حملة صليبية أخرى ضد العثمانيين.
ولم يفت البابا بيوس الثاني قبل موته بعد أن تحقق من إخفاق الحملة التي أعدها أن يعود إلى محاولته الأولى، فوجّه نداء آخر إلى السلطان الفاتح دعاه فيه إلى التنصر.
وكان ذلك آخر عمل قام به البابا بيوس الثاني في سبيل النصرانية.
ج) ونشب القتال بين العثمانيين والبندقية في (الموره) واليونان وجزر بحر الأرخبيل ودامت الحرب ثلاث سنوات انتهت سنة (1464م)، فلم يكن لها من نتيجة غير الدمار والخراب على الروم الذين أخذوا يلوذون بالعثمانيين وينشدون حمايتهم.
كما نشب القتال بين العثمانيين وإمارة (القرمان) التي كانت واحدة من الإمارات العشر التي قامت على أنقاض الدولة السلجوقية، وكانت أشدّها بأساً وأقواها شكيمة وأوسعها رقعةً، انتهت في ربيع سنة خمس وسبعين وثمانمئة الهجرية (1471م)، بفتح (القرمان) وضمها إلى الدولة العثمانية.
واختار الكرادلة بول الثاني من أهل البندقية ليكون خلفاً لبيوس الثاني، فلم تكد تتم مراسم تتويجه حتى جمع الكرادلة وشاورهم في أنجع الوسائل للقيام بالحرب المقدسة ضد العثمانيين. وما لبث البابا أن شغل عن هذا الأمر وانصرف إلى محاربة ملك بوهيميا (جورج بوديبراد George Podebrad) لحماية المنحرفين عن الكثلكة في بلاده.
ووجَّه الفاتح الذي صمم أن ينزل ضربة قوية بالبندقية حملة إلى مستعمرتها الكبرى جزيرة (نيجربون Negrpont) التي تُعدّ من أكبر جزر بحر الأرخبيل والتي تقع في الناحية الغربية من هذا البحر لا يفصلها عن الأرض اليابسة اليونانية غير قناة بحرية تعرف بقناة (أوريب Euripe) ، فاستطاع اقتحامها في اليوم الثالث عشر من محرم الحرام سنة خمس وسبعين وثمانمئة الهجرية (12 من تموز - يوليو - 1470م).
وكان لسقوط (نيجربون مجنّ المسيحية وحصنها دوي هائل في الغرب بأسره، فإن الناس في أوروبا إلى ذلك الوقت كانوا يعتقدون أن قوة العثمانيين في البر وحده، وكان فتح هذه الجزيرة دليلاً على أن قوة العثمانيين في البحر أيضاً، وبذلك أصبحت الشواطئ الإيطالية مفتوحة أمام العثمانيين.
لذلك انصرف البابا بولص الثاني بكل قواه إلى جعل إيطاليا كلها جبهة واحدة أمام العثمانيين، فربطها بحلف واحد وثيق أذيع على الناس يوم (22 من كانون الأول - ديسمبر - 1470م) وأقيمت له الأفراح والأعياد في كل مكان.
ولم يكتفِ البابا بولص الثاني بهذه الجبهة الإيطالية المتحدة،
بل أراد أن يقيم سداً منيعاً في كل موضع قد يتقدم منه العثمانيون، فأصلح ما بين الإمبراطور فردريك الثالث وماتياس كورفان ملك المجر وجعلهما يداً واحدة على العثمانيين.
واستطاع الصليبيون الاتصال بأمير تركماني هو أوزون (1) حسن وعقد محالفة معه، وكان يحكم الحدود الشرقية للدولة العثمانية، ولكن السلطان الفاتح انتصر على جيش أوزون حسن سنة ثمان وسبعين وثمانمئة الهجرية (1473م) في إقليم أرزنجان وكبَّده خسائر فادحة.
وعلى أثر وفاة البابا بولص الثاني في (تموز سنة 1471م)، خلفه على كرسي البابوية (سيكست الرابع Sixte IV) ، فواصل جهود سلفه في محاربة العثمانيين، ورأى أن أول خطوة يجب خطوها في هذا السبيل هو أن يستأصل جميع أسباب الشقاق والنزاع بين ملوك أوروبا ويصلح ما بينهم ويوحّد جهودهم وقواهم ويوجهها جميعاً نحو غاية مشتركة هي تحطيم الدول العثمانية؛ لذلك بعث كردنالاً ليصلح ما بين لويس الحادي عشر ملك فرنسا وشارل (دون بورغنديا) ويزيل ما بينهما من خلاف ويؤلبهما على محمد الفاتح، ولمثل هذا الغرض بعث كردنالاً آخر إلى ملكي (أرجونة) في إسبانيا والبرتغال وكردنالاً ثالثاً إلى ملكي بولندا والمجر، وجمع البابا كل ما قدر عليه من مال لتجهيز الحملة الصليبية إلى الشرق.
على أن الرسل الذين بعثهم إلى مختلف الملوك لم يحرزوا في أداء رسالتهم ما كان ينتظره من النجاح والتوفيق، وأسفرت الجهود الأخيرة
(1) أوزون: الطويل، وأوزون حسن: حسن الطويل.
التي بذلها البابا عن تكوين حلف ثلاثي بينه وبين البندقية ونابولي عرف باسم حلف (كارافا Garaffa) ، وهو اسم المندوب البابوي الذي إليه يرجع أكبر الفضل في عقده.
وكانت البندقية قد أرسلت أسطولها البحري إلى الشرق بقيادة (بترو موسينجو)، وقد وجَّه حملته هذه نحو آسيا، حيث يكون أغلب سكانها من المسلمين. وتشجيعاً لجنوده وعد بأن يمنح دوقة ذهبية مكافأة لكل من يأتيه برأس مسلم، وهي مكافأة سخية مغرية أدت إلى قتل آلاف من نصارى الروم وقدمت رؤوسهم على أنها رؤوس مسلمين! ووعد بمنح ثلاث دوقات ذهبية لمن يأتيه بأسير رجلاً كان أو امرأة.
وكان (موسينجو) قد قام بتخريبات واسعة النطاق في شواطئ آسيا الصغرى، عندما جاءته في أوائل محرم الحرام سنة سبع وسبعين وثمانمئة الهجرية (منتصف حزيران - يونيه - 1472م) أمداد من السفن: ست عشرة منها أرسلتها نابولي، وتسع عشرة أرسلها البابا. وانضمت إلى هذا الأسطول الصليبي بعد ذلك سفينتان لرودس، فبلغت وحداته بذلك خمساً وتسعين سفينة.
أغارت هذه السفن على (انطالية) وهي مدينة تجارية كبيرة في جنوب آسيا الصغرى حافلة بمختلف البضائع، وأغارت على شواطئ (أيونيا)، وأغارت على (أزمير)، فدمروا المساجد والكنائس وقتلوا المسلمين والمسيحيين.
وفي السنة التالية أي سنة ثمان وسبعين وثمانمئة الهجرية
(1473م) تلقى (موسينجو) أمراً بأن يتبع في حملته القادمة الأوامر التي يصدرها الأمير التركماني الخائن أوزون حسن ويحاول الاتصال به، فواصل تخريباته في آسيا الصغرى التي كان يصحبها دائما أشد ضروب القسوة والفتك والتدمير وانتهاك المحرمات والمقدسات.
ولكن (موسينجو) عاد إلى جزيرة (قبرس) بعد أن جاءه نبأ هزيمة أوزون حسن التي أدت إلى وقف الحملات النصرانية البحرية على مدن آسيا الصغرى.
وطلب الفاتح إعداد ثلاثمئة سفينة للقيام بغزوة جديدة، وأمر بالتقدم نحو شبه جزيرة القريم في السادس والعشرين من محرم الحرام سنة ثمانين وثمانمئة الهجرية (أول حزيران - يونيو - 1475م)، ففتح مدينة (كفه) وهي أكبر قاعدة تجارية للجنويين في القريم، وفتح شبه جزيرة القريم بسهولة.
وبسيطرة العثمانيين على القريم وسيطرة أسطولهم على البحر الأسود، أصبح هذا البحر بحيرة عثمانية لا ينازعهم في سيادتها منازع.
وبقي أمام السلطان الفاتح ألد أعدائه: البندقية.
وهاجم الفاتح المدن التي تخضع للبنادقة، بل هاجمهم في عقر دارهم، فاجتمع مجلس الشيوخ وقرر عقد صلح مع الفاتح وذلك يوم (2 من مايس - مايو - 1478م)، ولكن موافقة البندقية على شروط الفاتح جاءته متأخرة، لأنه كان في طريقه على رأس جيشه إلى (ألبانيا).
وفي اليوم الرابع عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين
وثمانمئة الهجرية (15 من حزيران - يونيو - 1478م) استسلمت (كرويا) المدينة المنيعة الحصينة في ألبانيا للفاتح.
وفي اليوم الثالث من ذي القعدة سنة ثلاث وثمانين وثمانمئة الهجرية (26 من كانون الثاني - يناير - 1479م) وقع ممثل البندقية باسم حكومته معاهدة الصلح بينها وبين السلطان الفاتح، وبمقتضاها تخلت البندقية عن (أرجوس) و (نيجربون)، وسلمت (لنموس) وجميع ألبانيا ماعدا بضعة مواقع على الساحل، وتدفع للسلطان الفاتح تعويضاً حربياً قدره مئة ألف دوقة، وضريبة سنوية قدرها عشرة آلاف دوقة.
وكانت هذه الشروط هي الشروط التي أصر على فرضها السلطان الفاتح على البندقية ليقبل معاهدة الصلح معها.
وأصبح في وسع الأسطول العثماني بعد إبرام هذه الاتفاقية أن يجوب بحار المشرق بحرية وأمان، كما جعل كبرى الدول الإيطالية فوق ذلك طوع يدي الفاتح.
وفي اليوم الرابع من جمادى الآخرة سنة خمس وثمانين وثمانمئة الهجرية (11 من آب - أغسطس - 1480م) استولى العثمانيون على مدينة (أوترانتو) الإيطالية. واستحوذ الفزع على البابا سيكست الرابع ولاح له أن روما ستسقط بيد العثمانيين كما سقطت القسطنطينية من قبل، وزاد في فزعه ما شاع من أن العثمانيين سينزلون في ساحل (مارس Marches) في وسط إيطاليا، فهمّ البابا بالفرار من إيطاليا، ولكنه تلبث
قليلاً، وأذاع على أمراء النصرانية رسالة يدعوهم فيها أن يتصافوا