الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شديد، يتوقَّعون دخول العدو وأخذ البلاد (1).
لقد كانت المعنويات منهارة، فلا عجب أن يبذل قطز كل جهده لرفع معنويات قادته ورجاله بخاصة والشعب المصري بعامة، وأن يستحثّ القادرين على حمل السلاح للجهاد بأرواحهم والقادرين على تقديم الأموال للجهاد بأموالهم، وأن يحشد كلّ طاقاته المادية والمعنوية للحرب، فلا يعلو صوت على صوت المعركة، ولا يُقبل عذر من أحد قادر على الجهاد بماله وروحه، وقد قدَّم قطز لجيشه مثالاً شخصياً رائعاً في الجهاد بماله وروحه في سبيل الله.
كما أن قطز صمَّم على لقاء التتار خارج مصر، وألَاّ ينتظرهم في مصر للدفاع عنها على الأرض المصرية، وذلك حتى يجنّب مصر ويلات الحرب أولاً، وحتى يرفع معنويات رجاله ومعنويات المصريين ثانياً، وحتى يوحي للتتار بأنه لا يخافهم فيؤثِّر ذلك في معنوياتهم ثالثاً، ولأن المدافع لا ينتصر مطلقاً إلَاّ في نطاق ضيق محدود بعكس المهاجم الذي يؤدِّي انتصاره إلى كارثة تحيق بعدوه رابعاً، ولأنَّ الهجوم أنجع وسائل الدفاع خامساً وأخيراً.
إن تصميم قطز على قبول المعركة خارج مصر كان قراراً عسكرياً
فذّاً.
6 - المعركة:
وخرج قطز من مصر في الجحافل الشامية والمصرية في شهر
(1) النجوم الزاهرة 7/ 78.
رمضان من سنة ثمانٍ وخمسين وستمئة الهجرية (1260م)، وغادر معسكر (الصالحية) بجيشه، ووصل مدينة (غزة) والقلوب وجلة (1).
وكان في (غزة) جموع التتار بقيادة (بيدر)، وكان (بيدر) قد أخبر قائده (كَتْبُغا نُوين) الذي كان في سهل (البقاع)(2) بالقرب من مدينة (بعلبك)(3) بزحف جيش قطز، فردَّ عليه:"قف مكانك وانتظر".
ولكن قطز داهم (بيدر) قبل وصول (كتبغا نوين)، فاستعاد (غزَّة) من التتار، وأقام بها يوماً واحداً ثم غادرها شمالاً باتجاه قوات التتار (4).
وكان (كتبغا نوين) مقدم التتار على جيش هولاكو لما بلغه خروج قطز وكان بالبقاع، وقد عقد مجلساً استشارياً واستشار ذوي الرأي في ذلك، فمنهم مَن أشار بعدم الملتقى بجيش قطز في معركة، والانتظار حتى يجيئه مددٌ من هولاكو ليقوى على مصاولة الجيش المصري، ومعنى ذلك مشاغلة جيش قطز بالقوات المتيسّرة لديه ريثما ترده النجدات التي تضمن له النصر. ومنهم من أشار بغير ذلك: قبول المعركة، اعتماداً على قوات التتار التي لا تُقهر، وهكذا تفرَّقت الآراء. وكان رأي (كتبغا نوين) قبول المعركة، ومواجهة جيش قطز، فتوجه من فوره
(1) النجوم الزاهرة 7/ 78.
(2)
البقاع: سهل يقع في لبنان بين سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية، وهو من السهول العالية، تغذِّيه شبكة ري نهري العاصي والليطاني وروافدهما، ومن مدنه في لبنان: شتورا وبعلبك
…
إلخ.
(3)
بعلبك: مدينة قديمة، فيها أبنية عجيبة وآثارها عظيمة، انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/ 226، والمسالك والممالك 46. وهي مدينة أثرية تقع في لبنان شمال شرقي بيروت، لا تزال آثارها قائمة.
(4)
السلوك للمقريزي 1/ 430.
جنوباً (1) باتجاه القوات المصرية.
وكان هذا أول الوهن: اختلاف الآراء، وظهور رأي يحبّذ الانسحاب انتظاراً للنجدات، وإعلان رأي يحبّذ عدم الانسحاب وقتال قطز.
وبعث قطز طلائع قواته بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري لمناوشة التتار واختبار قواتهم، واستحصال المعلومات المفصَّلة عن تنظيمها وتسليحها، فالتقى بيبرس بطلائع التتار في مكان يقع بين (بيسان) و (نابلس) يدعى:(عين جالوت) في (الغَور) غور الأردن، وشاغل التتار حتى وافاه قطز على رأس القوات الأصلية من جيشه (2).
وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك من سنة ثمانٍ وخمسين وستمئة الهجرية (6 أيلول - سبتمبر - 1260م) نشبت بين الجيشين المتقابلين معركة حاسمة، وكان التتار يحتلون مرتفعات سهل (عين جالوت)، فانقضُّوا على جيش قطز تطبيقاً لحرب الصاعقة التي يمارسها التتار في حروبهم، تلك الحروب التي تعتمد سرعة الحركة بالخيَّالة، وكان القتال شديداً لم يُرَ مثله حتى قتل من الطائفتين جماعة كثيرة.
وتغلغل التتار عمقاً واخترقوا ميسرة قطز، فانكسرت تلك الميسرة كسرة شنيعة، ولكنَّ قطز حمل بنفسه في طائفة من جنده، وأسرع
(1) النجوم الزاهرة 7/ 79.
(2)
انظر تفاصيل سيرته في النجوم الزاهرة 94 - 200.
لنجدة الميسرة حتى استعادت مواقعها.
واستأنف قطز الهجوم المضاد بقوات (القلب) التي كانت بقيادته المباشرة وكان يتقدَّم جنوده وهو يصيح: "وا إسلاماه
…
وا إسلاماه". واقتحم قطز القتال وباشر ذلك بنفسه، وأبلى في ذلك اليوم أعظم البلاء، وكانت قوات القلب مؤلَّفة من المتطوّعين المجاهدين أتباع الطرق الصوفية وغيرهم من الذين خرجوا يطلبون الشهادة ويدافعون عن الإسلام بإيمان، فكان قطز يشجع أصحابه ويحسّن لهم الموت، ويُضرب به المثل بما يفعله من إقدام ويبديه من استبسال.
وكان قطز قد أخفى معظم قواته النظامية المؤلفة من المماليك في شِعَب التلال لتكون كمائن، وبعد أن كرَّ بالمجاهدين كرَّة بعد كرَّة حتى زعزع جناح التتار، برز المماليك من كمائنهم وأداموا زخم الهجوم بشدة وعنف.
وكان قطز أمام جيشه يصيح: "وا إسلاماه
…
يا الله!! انصر عبدك قطز على التتار"، وكان جيشه يتبعه مقتدياً بإقدامه وبسالته، فقُتِل فرس قطز من تحته، وكاد يُعرَّض للقتل لولا أن أسعفه أحد فرسانه فنزل له عن فرسه.
وسار قطز إلى قيادة رجاله متغلغلاً في صفوف أعدائه، حتى ارتبكت صفوف التتار، وشاع أن قائدهم (كتبغا نوين) قد قُتِل، فولّوا الأدبار لا يلوون على شيء.
كان (كتبغا نوين) يضرب يميناً وشمالاً غيرة وحمية، وكان يكرُّ