الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولأنَّه كذلك لم يسترح يوماً واحداً من الحروب. ولقد كان ذا نظر بعيد في الأمور، يضع الخطط لنفسه فلا يغيّرها، بل ينفِّذها بكلِّ جدارة وإقدام. ولو مات قبل موته بستة أشهر لكان مصابه أليماً ورزؤه جسيماً على نور الدين وأهله وبلاده، ولكنه مات بعد أن أنهى ما علق في عنقه، وانقضت مهمّته التي تطاول إليها فأدركها، تاركاً ثمرة جهاده وانتصاراته إلى ابن أخيه يوسف صلاح الدين، الذي استحق بكل جدارة شرف الوراثة لهذا البطل الكبير" (1).
وبذلك في هذه السن المبكّرة، تهيّأ لصلاح الدين ثلاثة عوامل حاسمة لنجاحه حاكماً وقائداً فذّاً: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية.
3 - السلطان:
كانت أول مشكلة خطيرة صادفها صلاح الدين، هي نزول الإفرنج والروم في (دمياط) ومحاصرتها برّاً وبحراً؛ وذلك في صفر من سنة خمس وستين وخمسمئة (1170م)، ولكنّ صلاح الدين انتصر عليهم وأجلاهم عن البلاد (2).
لقد علم الإفرنج باستقامة أمور صلاح الدين في مصر، فخافوا أن يملك بلادهم ويخرب ديارهم، لذلك عزموا بمعاونة الروم أن يحتلُّوا رأس جسر في (دمياط) ثم يحاولون التغلغل بالعمق لتهديد أمن
(1) Steven son، Crusaders in The East، نقلاً من كتاب: حياة صلاح الدين الأيوبي 97.
(2)
انظر التفاصيل في: النوادر السلطانية 41 - 43، والنجوم الزاهرة 6/ 7.
مصر أو احتلالها حتى لا يزداد صلاح الدين قوة فتمتنع عليهم مصر أولاً، وتهدّدهم في الأراضي المحتلة من الأرض المقدسة وساحل فلسطين ولبنان. ولكن انتصار صلاح الدين عليهم أدّى إلى ازدياد تخوّفهم من مصر ومن قيادتها الجديدة، كما أثر في معنوياتهم تأثيراً حاسماً.
ومن الواضح أن قيادة صلاح الدين قلبت خطط مصر الدفاعية إلى خطط تعرضية كان لها أبلغ الأثر في مصير المنطقة كلها.
ومات العاضد آخر الخلفاء الفاطميين في مصر يوم الإثنين العاشر من المحرّم سنة سبع وستين وخمسمئة الهجرية (1171م)، وكان صلاح الدين قد خطب لبني العباس خلفاء بغداد في أواخر أمر العاضد
…
وبموت العاضد استقرَّ المُلك لصلاح الدين في مصر، ولكنَّه كان تحت أوامر نور الدين زنكي المعروف بالشهيد صاحب دمشق، فأخذ ينظم قواعد الحكم، ويتأهَّب لقتال الصليبيين في فلسطين والمناطق المحتلة من سواحل بلاد الشام (1).
وفي سنة ثمان وستين وخمسمئة الهجرية (1172م)، خرج بجيشه يريد بلاد (الكرك)(2)، وإنَّما بدأ بها لأنها كانت أقرب إليه، وكانت في الطريق تمنع مَن يريد مصر، وكان لا يمكن أن تصل قافلة من بلاد الشام حتى يخرج هو بنفسه يعبرها بلاد العدو، لذلك عزم على توسيع الطريق وتسهيله لتتَّصل البلاد بعضها ببعض وتسهل على السابلة.
(1) النوادر السلطانية 45، والنجوم الزاهرة 6/ 8.
(2)
الكرك: مدينة تقع على مسافة 140 كيلو متر من جنوب (عمان) عاصمة الأردن، وهي قصبة (موآب)، ولا تزال موجودة في الأردن حالياً.
وحاصر صلاح الدين (الكرك)، وجرت بينه وبين الإفرنج بعض المعارك، فلم يستطع أن يظفر منها بشيء (1)، ولكنه حصل على معلومات مهمة عن الأرض وقوَّات العدو وأساليب قتاله وتسليحه وتنظيمه وقيادته ونقاط الضعف فيه التي يمكن أن يستغلّها في المستقبل.
كما أنَّ صلاح الدين نفَّذ عملياً خطته الهجومية على العدو، فخرجت جيوش مصر إلى خارجها، ولم تبقَ في منطقتها مكتفية بالدفاع عنها.
وكانت هذه الغزوة أول غزوة غزاها صلاح الدين خارج مصر.
وفي سنة تسع وستين وخمسمئة الهجرية (1173م) سيَّر صلاح الدين أخاه الأكبر شمس الدين (تورشاه) إلى اليمن للقضاء على حكم عبد النبي بن علي (2) فمضى إليها وقتل حاكمها الخارجي واستولى على معظم اليمن (3).
وهذا دليل على توطيد حكمه في مصر، وبلوغ جيشه درجة عالية
من القوة.
وفي يوم الأربعاء حادي عشر من شوال سنة تسع وستين وخمسمئة الهجرية توفي نور الدين زنكي الشهيد في دمشق (4)، فأصبح صلاح الدين مستقلاًّ استقلالاً تاماً في مصر.
(1) النوادر السلطانية 45، والنجوم الزاهرة 6/ 67.
(2)
المهديون: أسرة حكمت (زبيد) بين سنتي (554 - 569هـ = 1159 - 1173م)، وحكم من هذه الأسرة ثلاثة: علي بن مهدي، ومهدي بن علي، وعبد النبي بن مهدي.
(3)
النوادر السلطانية 46.
(4)
النوادر السلطانية 47، ويصادف ذلك يوم 15 مايس- مايو سنة 1174م.