الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان قائد الكتيبة برتبة (عقيد)، يحمل على كتفيه رتبته العسكرية، وهي بحساب النجوم اثنتا عشرة نجمة، على كل كتف تاج يعادل أربع نجوم، ونجمتان مع التاج، فيكون مجموع النجوم على الكتفين اثنتي عشرة نجمة.
ويومها قلت له: "إنني أطيعك في تنفيذ أوامرك العسكرية، وأطيع الله في أوامره، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ إنك تحمل على كتفيك اثنتي عشرة نجمة، فانظر إلى سماء الله لترى كم تحمل من نجوم".
وبهت القائد، وردد: السماء
…
! السماء
…
! نجوم السماء
…
وأشاح قائد الكتيبة بوجهه عني، ومضى غضبان آسفاً وهو يقول: "هذا الضابط لا يفيدنا
…
لا يفيدنا أبداً".
ويومئذ شعرت بأن موقفي ليس مصاولة بيني وبين القائد، ولكنها مبارزة بين إرادته بشراً وإرادة الله خالق البشر.
وجلست وح صلى الله عليه وسلم السماء.
…
(2)
كان الاعتقاد السائد بين أكثر الضباط أن التدين تخلّف وجمود، وأن التقوى بلادة وتواكل.
وصمّمت أن أُثبت أن تلك المفاهيم خاطئة، وأن الضابط المتدين حريّ بالتفوق، وأن الدين يستثير الهمم والعزائم، فعزمت ألا أرضى
بالنجاح وحده بل بالتفوق في النجاح؛ وكان سبيلي إلى ذلك العمل الدائب وإتقانه، والحرص الشديد على أداء الواجب وإحسانه، واستيعاب العلوم العسكرية بدقائقها، والسهر على تدريب الجنود وحل مشاكلهم، حتى أصبح رعيلي (1) نموذجياً، يقصده الزائرون من الوحدات الأخرى والأجانب، ويحوز قصب السبق تدريباً وتهذيباً وتنظيماً وضبطاً على رعائل الكتيبة.
كنت أحضر الثكنة قبل شروق الشمس، وكنت أغادرها في الهزيع الأول من الليل، وكنت أقضي وقتي كله متعلماً ومعلِّماً ومتدرباً ومدرّباً، وكان من الأمور الاعتيادية أن يصدح بوق النهوض وأنا في الثكنة، فيجدني جنودي منتصب القامة في قاعة نومهم؛ فشاع بين الضباط أنني أصلي الفجر في الثكنة ولا أغادرها إلا بعد صلاة العشاء. كانوا يرددون ذلك بشكل نكتة تستدر الابتسام، ولو أنها كانت تقريراً للواقع.
وبهذا الجهد الجهيد، استطعت تكذيب ما أُلصق بالمتدينين ظلماً وعدواناً، واستطعت الاستحواذ على ثقة قادتي وجنودي، وتسنُّم مناصب عسكرية لا يحلم بها زملائي في الرتبة والقِدَم.
ونُقلت من كتيبتي إلى منصب ضابط ركن مقر لواء الخيالة في بغداد، وكان قائد اللواء قليل الاختلاط بالضباط، يعرفهم بأعمالهم لا باتصاله الشخصي بهم.
(1) الرعيل في سلاح الفرسان: فصيلة في سلاح المشاة، مؤلف من نحو اثنين وثلاثين جندياً
وضابط صف، بقيادة ضابط برتبة ملازم.
وجاء موسم كتابة التقارير السرية السنوية، والقادة يكتبون كل عام تقريراً سرياً عن ضباطهم، يقوّمون خطياً أعمالهم وسلوكهم، واستناداً على تلك التقارير يُرفَّع الضباط أو يحرمون من الترفيع.
وجاءني مقَدّم اللواء ضاحكاً وبيده تقريري السري السنوي بخط قائد اللواء، فإذا به قد سجل إزاء فقرة:"هل يشرب الخمر"؟ في التقرير: "نعم يشربها بالمناسبات".
وأخبرت القائد بأنني لم أذق طعم الخمر أبداً، فقال:"كيف لا تشربها وأنت من خيرة الضباط"؟.
ودار الزمن دورته، وتخرجت من كلية الأركان، وشهدت
عشرات الدورات العسكرية، فرشحت نفسي معتمداً لدار الضباط في الموصل الحدباء.
ونجحت قائمتي في الانتخابات، فتنكرتُ لمقصف الدار، وأهملتُه إهمالاً شديداً، وأقمت مسجداً للصلاة؛ وكان في الدار سجل للمقترحات، يتقدم مَن يشاء من الضباط بمقترحاته حين يشاء.
وفي يوم من الأيام كتب ضابط من الضباط في سجل المقترحات: "ينقص الدار مقرئ للقرآن الكريم"، وقد أراد بهذا الاقتراح الاحتجاج على إهمال المقصف والاهتمام بالمسجد.
وأخيراً أُقيلت لجنة إدارة الضباط التي كانت برياستي قبل انتهاء مدتها، وعينت لجنة جديدة، فعاد الكاس والوتر إلى الدار، وعادت إلى المقصف أيامه السعيدة.
***