الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والواقع أن معاملة الفاتح لسكان القسطنطينية - وبخاصة إذا قورنت بمعاملة الفاتحين في أيامه، تعتبر معاملة مثالية حقاً. وإذا قورنت هذه المعاملة الحسنة بمعاملة الصليبيين السيئة حين استولوا على القسطنطينية قبل قرنين ونصف من ذلك العهد، نجد سماحة المسلمين وأريحيتهم مع النصارى أفضل بكثير من معاملة الصليبيين لإخوانهم في الدين.
وهذا الفرق الشاسع في المعاملة، اعترف به المؤرخون المنصفون من المسيحيين، أما غير المنصفين فلا عبرة لادّعاءاتهم، ولا قيمة لافتراءاتهم لأنهم يصدرون عن حقد وضغينة ويخضعون لنوازع الهوى لا لحقائق التاريخ (1).
20 - صدى الفتح:
كان حصار محمد الفاتح للقسطنطينية هو الحصار العثماني الخامس لعاصمة الدولة الشرقية، وقد حاصرها (بايزيد) مرتين، ثم حاصرها ولده موسى لثالث مرة، وحاصرها مراد الثاني الحصار
(1) من المؤسف أن ينقل قسم من الكُتاب العرب والمسلمين مزاعم المفترين الحاقدين من مؤرخي الغرب، بدون تمحيص دقيق ولا دراسة عميقة.
من هؤلاء الكتَّاب الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه: مواقف حاسمة، فقد نقل افتراءات الغربيين بحذافيرها في بحثه: فتح العثمانيين لقسطنطينية (169 - 200).
وأفترض توفر النية الحسنة في نقله، لأنه اقتصر على المصادر الأوروبية فقط، والمصادر غير المنصفة بوجه الخصوص، وآمل أن يعيد النظر فيما كتب ويرجع عما سجَّله من أخطاء تاريخية، فليس ما كتبه تاريخاً بل اتهامات باطلة، يرفضها المنطق والعقل، ولا تتناسب مع علمه وفضله وجهوده في خدمة التاريخ العربي الاسلامي.
الرابع، ثم كان الحصار الخامس والأخير على يد محمد الفاتح. وحوصرت القسطنطينية منذ تأسيسها تسعاً وعشرين مرة، وسقطت في أيدي الغزاة سبع مرات، كانت في كل مرة تعود بعدها إلى مُلك القياصرة، وسقطت للمرة الثامنة في يد محمد الفاتح، وكانت خاتمة القياصرة وخاتمة الدولة الرومانية الشرقية، وكان خروجها لأول مرة من حظيرة النصرانية إلى حظيرة الإسلام.
وهكذا سقطت القسطنطينية في يد العثمانيين بعد حصار صارم دام ثلاثة وخمسين يوماً، بعد قتال عنيف أبدى فيه العثمانيون أعظم ضروب الإقدام والجرأة والشجاعة، وبذلك سقطت هذه المدينة بعد حياة طويلة حافلة دامت منذ أنشأها قسطنطين ألفاً ومئة وخمسة وعشرين عاماً.
وقد كان سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين حادثاً جللاً، اهتزت له أوروبا النصرانية من أقصاها إلى أقصاها، ورأت فيه نذيراً مزعجاً لتجدّد قوى الإسلام. والحق أن النصارى قد انبعث فيهم نوع من الروح الصليبية القديمة، وتداعى النصارى إلى طرح الحزازات والاختلافات والاتحاد ضد العثمانيين. وأنحى الكاردينال (سنت أنج Saint Ange) باللوم على اللاتين وقرَّعهم على تخاذلهم عن نجدة الروم، وألقى عليهم تبعة هذه الكارثة المفجعة. وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثراً بنبأ سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين، وجدَّ في توحيد الدول الإيطالية وتأليبها على قتالهم، ورأس مؤتمراً عُقِد في روما أعلنت الدول المشتركة فيه عزمها على التهادن فيما بينها وتوجيه جميع
جهودها وقواها ضد العدو المشترك. وكاد هذا الحلف الصليبي يتم لولا أن البابا اشتدَّ عليه أثر الصدمة العنيفة من نبأ سقوط القسطنطينية فأضناه الكمد والهمّ فمات في 25 من آذار (مارس) سنة 1455م، وترك لخلفائه مواصلة العمل لإكمال ما شرع فيه.
وكان من أعظم الناس تأثراً باستيلاء العثمانيين على القسطنطينية فيليب الطيب دوق (بورغنديا)، وقد كان هذا الدوق بطبعه ذا نزعة صليبية عارمة، وكان من أشد الناس حماسة لقتال العثمانيين من قبل سقوط القسطنطينية. فلما استولى العثمانيون على هذه المدينة وجاءه رسول البابا سنة 1453 م يستحثّه على قتال محمد الفاتح، التهب حماسة وحمية واستنفر جميع النصارى إلى هذا القتال، وذهب بنفسه إلى ألمانيا يستنهض إمبراطورها فريدريك الثالث الذي وعده خيراً. وبعث هذا الإمبراطور بدوره إلى ملك فرنسا شارل السابع، ولم يكن شارل في حاجة إلى مثل هذه الإثارة والتحريض، فقد كان يتحفز حمية وشوقاً إلى قتال العثمانيين، ولكن كان عليه إذ ذاك أن يواجه عدواً آخر أكثر قرباً منه وأشد خطراً عليه وهم الإنكليز، فرأى أن ينهي أمره معهم أولاً، ثم يتفرغ بعد ذلك للعثمانيين، واكتفى آنئذٍ بأن عاون في تقوية تحصينات جزيرة (رودس) التي كان يتوقع أن يغزوها السلطان الفاتح.
أما الدوق فيليب الطيب، فإنه ما إن عاد إلى (فلاندرس) حتى أقام حفلة تمثيلية في مدينة (ليل Lille) لاستثارة الحمية والنخوة، دعا إليها نبلاء قومه. وعرض في هذه الحفلة منظراً يمثل سقوط القسطنطينية واستغاثتها بحماة النصرانية، وأعلن الدوق بعد ذلك أنه سيسير بنفسه إلى قتال العثمانيين، وحذا حذوه جميع النبلاء والفرسان.
ولم تلبث أن تحولت فكرة قتال العثمانيين إلى قتال المسلمين كافة وغزو بلادهم انتقاماً للقسطنطينية (1).
أما النصارى الذين كانوا يجاورون السلطان الفاتح أو يتاخمونه في (طرابزون) و (آماسيا) وبلاد (الموره) و (لسبوس) وغيرها، فقد اضطرهم قربهم من الفاتح أن يكتموا شعورهم الحقيقي، فتظاهروا بالفرح وبعثوا وفودهم إلى السلطان في (أدرنه) لتهنئته على انتصاره العظيم، وكان في مقدمة هؤلاء المهنئين رسل حاكمي (الموره) أخوي الإمبراطور قسطنطين.
ولم يجد السلطان الفاتح بدّاً من مواصلة الحرب إزاء الثورة العارمة والسخط الشديد في أوروبا، فاستطاع أن يقضي على كل الدول النصرانية القريبة من (بيزنطة)، فقضى على قوات البلقان والبلغار، وهزم المجر هزيمة ساحقة.
عند ذلك بدأت أوروبا تنصرف عن حرب العثمانيين، إذ وجدت أن بُعد المسافة وسوء المواصلات في ذلك الوقت، يحول دون قتال
(1) يقول المؤرخ ابن تغري بردي في كتابه: (حوادث الدهور): "وفي هذا الشهر (ربيع الآخر 861 هـ - مايس - مايو - 1457 م) وردت الأخبار من الإسكندرية وغيرها من بلاد الساحل، أن الإفرنج عمرت نحو ثلاثمئة مركب لغزو سائر سواحل الإسلام من الروم إلى الإسكندرية ودمياط مكافأة لأخذ السلطان محمد بن عثمان اسطنبول من الإفرنج خزاهم الله، فلم يلتفت السلطان لهذا الخبر لعزة شوكة الإسلام ونصرته إن شاء الله إلى يوم القيامة". والواقع أنه بعد ذلك بقليل وصل إلى الشرق أسطول صليبي وأخذ يُغِير على المدن الإسلامية في شواطئ آسيا الصغرى ويخربها، ولكنه اقتصر على ذلك ولم يتعدَّه إلى المدن الإسلامية. انظر الهامش رقم 1 في ص 105 من كتاب: محمد الفاتح.
العثمانيين. وظهر واضحاً أن هذه الاتفاقيات ووحدة الصف المسيحي لو تمَّت؛ فإنها لا تستطيع قهر العثمانيين أو التغلُّب عليهم، وبخاصة بعد معركة (نيكوبوليس) التي دافع فيها العثمانيون عن مركزهم بنجاح أذهل ملوك أوروبا وأمراءها وشعوبها، وكانت نتيجة هذه المعركة خيبة أمل المسيحيين بدرجة لم يعد معها من السهل استثارة الأوروبيين من جديد لحرب المسلمين. كما أن هذه الحملات كانت تستلزم جمع المال الوفير للاستعداد للحرب، ولتحرير الأسرى بعد الحرب، ولم يعد الأوروبيون يطمئنون بسهولة إلى إنفاق أموالهم في حملات غير مضمونة النتائج ولا مأمونة العواقب. ولكن بالرغم من ذلك لم تكن البابوية زعيمة المسيحية لتنصرف إلى اليأس أو تخلد إلى السكون، فكانت تخشى اعتداء العثمانيين على البلاد المجاورة لهم والتي تخضع للنفوذ البابوي الديني، فحوّلت البابوية الفكرة الصليبية من محاولة انتزاع الأرض المقدسة من المسلمين إلى صراع دفاعي هدفه إنقاذ أوروبا الكاثوليكية من العثمانيين. لذلك حاول البابا بيوس الثاني بكل ما أوتي من مقدرة خطابية ومهارة سياسية تأييد الفكرة الصليبية الجديدة، وحاول توحيد أوروبا ضد العثمانيين.
فقد حاول أولاً أن يقنع العثمانيين باعتناق الدين المسيحي، ولكنه لم يرسل البعثات التبشيرية لذلك الغرض إلى القسطنطينية أو إلى (أدرنه) وبلاد العثمانيين الأخرى، بل اكتفى بإرسال خطاب إلى السلطان الفاتح يطلب منه أنْ يعضد المسيحية كما عضدها من قبله قسطنطين وكلوفيس، وأن يكفِّر عن خطاياه باعتناق المسيحية ويُخلِص لهذا الدين.
وبالطبع كانت محاولته هذه عبثاً من العبث، وأكبر الظن أنه كان يعلم مقدماً بأن الفاتح لا يوافق على هذه الدعوة ولا يعتبرها دعوة جدّيّة تستحق أقل الاهتمام.
ولما أخفق البابا في محاولته هذه، لجأ إلى خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، وذلك عن طريق إقناع الدول المسيحية بتكوين حملة صليبية جديدة ضد العثمانيين؛ ولكن الدول الأوروبية والجمهوريات الإيطالية لم تنفذ هذا المشروع بالرغم من الخطر الذي يهدد معظمها، وبالرغم من أن القيام بحملة صليبية مازالت من المثل العليا الأوروبية.
فقد وعدت بعض الدول بالاستعداد لتحقيق فكرة البابا، وعندما جاء وقت العمل اعتذرت دول عديدة بكثرة مشاغلها ومتاعبها الداخلية، وانتهى الأمر باتفاق الملكيات الأوروبية والجمهوريات الإيطالية في (لودي) على الاتحاد ضد العثمانيين وذلك في عام (1454 م)، ولكن ذلك الاتفاق سرعان ما تحطَّم، فقد انفصلت (البندقية) عن الاتحاد وعقدت معاهدة صداقة وحسن جوار مع العثمانيين رعاية لمصالحها التجارية وغيرها في الشرق الأدنى، وقامت الحرب على قدم وساق في شبه الجزيرة الإيطالية، واهتم الكاثوليك باضطهاد أتباع (يوحنا هوس) أكثر من اهتمامهم بمحاربة المسلمين. وكانت إنكلترا منهمكة في مشاغلها الدستورية وحروبها الأهلية. أما فرنسا فقد خرجت من حرب المئة عام وهي في حالة داخلية لا تسمح لها بإشعال حرب ضد العثمانيين، كما كانت إسبانيا تناضل في ذلك الوقت في سبيل وحدتها القومية ضد المسلمين في الأندلس.
لقد قدَّرت البابوية وقدرت دول الغرب الخطر الحقيقي الداهم نتيجة لسقوط القسطنطينية بيد العثمانيين، وقد شعروا جميعاً أنهم بفقد هذه المدينة فقدوا أعظم عضد وأمنع معقل يحمي النصرانية في المشرق، وشعرت الأمم النصرانية كلها بأنها تواجه موجة جديدة من الخطر الداهم مشحونة بالويل والثبور على حاضرها ومستقبلها. لقد بدأت الفتوح العثمانية تنساب بسرعة مذهلة إلى شمال البلقان وجازت إلى ما وراء الدانوب، وبدأت القوة البحرية العثمانية تتوغَّل في مياه البحر الأبيض المتوسط وتهدد سيادة البندقية وجنوا البحرية، وكان استيلاء الفاتح على ثغر (أوترانتو) في جنوب إيطالية سنة (1480 م) عاملاً جديداً في إذكاء الفزع والروع في إيطالية وباقي الأمم النصرانية.
والحقيقة أن سقوط القسطنطينية كان فاتحة لسلسلة طويلة من الفتوح والانتصارات العثمانية الباهرة في البر والبحر، ولم يأتِ أواسط القرن السادس عشر حتى استطاع العثمانيون أن يبسطوا سلطانهم على مناطق شاسعة في أوروبا الوسطى مثل المجر ورومانيا وجنوب بولونيا وأجزاء من شرق النمسا، وزحف العثمانيون على (فْيِنَّا) وحاصروها لأول مرة في سنة (1529 م)، ثم حاصروها للمرة الثانية في سنة (1683 م)، وبالرغم من إخفاق العثمانيين في هذين الحصارين الشهيرين، فإن مجرَّد وصول الفتوح العثمانية الى قلب أوروبا النصرانية على هذا النحو، كان مثار الروع في جميع الأمم الأوروبية، وكان في أحيان كثيرة عاملاً من عوامل جمع كلمة العروش النصرانية واتحادها على مقاومة الخطر المشترك ورد الغزاة إلى الجنوب والشرق.
ولم تستطع الدول الأوروبية أن تفعل شيئاً حاسماً ضد العثمانيين
نظراً لظروفها الداخلية واستشراء العداوة فيما بينها، كما أن العثمانيين كانوا في أوج قوتهم وعظمتهم، وكانوا يسيرون على الطريق الصحيح إدارة وتنظيماً وقيادة.
لقد كان سقوط القسطنطينية كارثة قاصمة للدول الغربية، وكان نصراً حاسماً للإسلام والمسلمين.
فقد استقبلت دول الشرق الإسلامي فتح القسطنطينية بأعمق مشاعر الفرح والحبور، بعكس استقبال دول الغرب لهذا الفتح، إذ عمَّ الفرح والابتهاج بين المسلمين في ربوع آسيا وإفريقية.
وما إن وصل رسل السلطان الفاتح إلى مصر والحجاز وفارس والهند وهي أكبر الدول الإسلامية في ذلك الوقت يحملون نبأ هذا الفتح حتى هلَّل المسلمون وكبَّروا، وأذيعت البشائر من منابر المساجد وأقيمت صلوات الشكر، وزُيِّنَت المنازل والشوارع والدكاكين والحوانيت، وعلِّقت على الجدران والحوائط الأعلام والأقمشة المختلفة الألوان، وأمضى الناس في هذه البلاد أياماً كأحسن ما تكون أيام الأعياد الإسلامية روعة ورونقاً وبهاء.
وندع المؤرخ المصري المعاصر أبا المحاسن بن تغري بردي يصف شعور الناس وحالهم في القاهرة بعد أن وصل إليها رسول السلطان الفاتح ورفقته في الثالث والعشرين من شوال سنة سبع وخمسين وثمانمئة الهجرية (27 من تشرين الأول - أكتوبر - سنة 1453 م) بنبأ فتح القسطنطينية ومعهم الهدايا وأسيران من عظماء الروم، قال: "قلت ولله الحمد والمنَّة على هذا الفتح العظيم، وجاء القاصد المذكور ومعه أسيران
من عظماء اسطنبول، وطلع بهما إلى السلطان - سلطان مصر إينال - وهما من أهل قسطنطينية وهي الكنيسة العظمى باسطنبول، فسُرَّ السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم، ودُقَّت البشائر لذلك، وزُيِّنت القاهرة بسبب ذلك أياماً. ثم طلع القاصد المذكور، وبين يديه الأسيران إلى القلعة في يوم الإثنين الخامس والعشرين من شوال، بعد أن اجتاز القاصد المذكور ورفقته بشوارع القاهرة، وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والأماكن وأمعنوا في ذلك إلى الغاية، وعمل السلطان الخدمة بالحوش السلطاني من قلعة الجبل
…
" (1).
ويقول ابن تغري بردي في كتاب آخر: "ثم طلع قاصد متملك بلاد الروم ورفقته إلى القلعة من غير أن يحضر القضاة، وتمثَّلوا بين يدي السلطان، وقدَّموا ما معهم من الهدية التي أرسل بها مرسلهم، وكانت تسعة أقفاص
…
، فقبلها السلطان ورحَّب به، ثم أنزل إلى محل إقامته ومعه رفقته وهم يتفرَّجون في الزينة، وكانت عظيمة واستمرت أياماً، وتغالى العوام في شأنها مع استمرار دق البشائر في صباح كل يوم أياماً" (2). ويقول ابن إياس صاحب كتاب (بدائع الزهور):"فلما بلغ ذلك دقت البشائر بالقلعة ونودي في القاهرة بالزينة، ثم إن السلطان عيَّن برسباي أمير خور ثاني رسولاً إلى ابن عثمان يهنئه بهذا الفتح".
وما يقال عن الأفراح التي أقيمت بمصر، يقال عن الأفراح التي أقيمت في كل بلد إسلامي في آسيا وإفريقية.
لقد كان من حق المسلمين أن يحتفلوا بهذا النصر الإسلامي الحاسم.
(1) النجوم الزاهرة.
(2)
حوادث الدهور.
خريطة البلقان