المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقَدمَة المؤلفْ

- ‌(1)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌العقيدة والقيَادة

- ‌مَع التراث العَرَبي الإسْلَامي

- ‌(1)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌مَع المشير مونتكومري

- ‌(1)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌(5)

- ‌(6)

- ‌(7)

- ‌(8)

- ‌(9)

- ‌مَع القَادة الآخرين

- ‌(1)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌الإسلام والنّصر

- ‌أثر الإسلام في العَربْ

- ‌(1)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌الإسْلَام في مجَال التربيَة العَسكريَة

- ‌1 - التدريب الفردي

- ‌2 - التدريب الإجمالي

- ‌3 - الحرب العادلة:

- ‌4 - الحرب النفسية:

- ‌5 - عزَّة الإسلام:

- ‌التطبيق العملي في عهد النبوّة

- ‌مستهل

- ‌(1)

- ‌مع الرسول القائد عَليهِ أفضَل الصَّلاة وَالسّلام

- ‌في مَكّة المكَرّمَة

- ‌(1)

- ‌1 - الأهوال:

- ‌2 - الهجرة:

- ‌في المَدينَة المنوَّرة

- ‌1 - الأعمال التمهيدية:

- ‌2 - الجهاد الحاسم:

- ‌أ- في بدر:

- ‌ب- بعد بدر:

- ‌3 - القدوة الحسنة:

- ‌4 - المثال الرائع:

- ‌في مَكّة

- ‌1 - التعذيب:

- ‌2 - في الحبشة:

- ‌في المَدينَة

- ‌1 - المجتمع الجديد:

- ‌2 - في بدر:

- ‌3 - في أُحُد:

- ‌4 - كارثة الرجيع:

- ‌5 - يوم الأحزاب:

- ‌6 - محاسبة الغادرين:

- ‌7 - إخلاص الأنصار:

- ‌8 - يوم الحديبية:

- ‌9 - في مؤتة:

- ‌10 - اختبار العقيدة:

- ‌11 - الجهاد بالمال:

- ‌12 - خير القرون:

- ‌مع الصَّحَابة وَالتَابعين

- ‌1 - المخطط الأول للفتح:

- ‌2 - بعث أسامة:

- ‌3 - حرب الردة:

- ‌4 - في اليرموك:

- ‌5 - في معركة الجسر:

- ‌6 - في القادسية:

- ‌7 - في فتح المدائن:

- ‌8 - نماذج بطولية:

- ‌9 - في إفريقية:

- ‌10 - في الأندلس:

- ‌11 - انتصار عقيدة:

- ‌12 - المثال الشخصي:

- ‌التطبيق العملي بَعدَ الفَتْحِ الإسْلامي العَظيمْ

- ‌مستهل

- ‌1 - العالِم:

- ‌2 - الفاتح:

- ‌3 - الإنسان:

- ‌4 - القائد:

- ‌5 - أسد في التاريخ:

- ‌ 2 -صَلَاح الدّين الأيوبي قَاهر الصَليبيينَ ومحرّر بيت المقدسْ

- ‌1 - أيامه الأولى:

- ‌2 - الوزير:

- ‌3 - السلطان:

- ‌4 - في دمشق:

- ‌5 - معركة حطين:

- ‌6 - معارك استثمار الفوز:

- ‌7 - استعادة القدس:

- ‌8 - مجمل الفتح:

- ‌9 - الإنسان:

- ‌10 - في المصادر الأجنبية:

- ‌ 3 -المَلك المظَفَّر قطز قَاهر التَّتَار

- ‌1 - السلطان:

- ‌2 - الموقف العام:

- ‌3 - موقف أوروبا:

- ‌4 - زحف التتار:

- ‌5 - الحشد:

- ‌6 - المعركة:

- ‌7 - أسباب النصر:

- ‌8 - الشهيد:

- ‌ 4 -السلطان محَمَّد الفَاتح فَاتح القسطنطينيَّة

- ‌1 - أيامه الأولى:

- ‌2 - محاولات الفتح الأولى:

- ‌3 - أهمية القسطنطينية:

- ‌4 - آخر الأباطرة:

- ‌5 - نقض العهد:

- ‌6 - التمهيد للفتح:

- ‌8 - إكمال الإعداد:

- ‌9 - الزحف:

- ‌10 - الحصار:

- ‌11 - المناوشات:

- ‌12 - سفن البر:

- ‌13 - القتال البحري:

- ‌14 - تضييق الخناق:

- ‌15 - الحرب النفسية:

- ‌16 - اليأس:

- ‌17 - قبيل الهجوم العام:

- ‌18 - الهجوم العام:

- ‌19 - الفاتح في القسطنطينية:

- ‌20 - صدى الفتح:

- ‌21 - الفتوح:

- ‌22 - وقع النعي:

- ‌23 - الإنسان:

- ‌الخاتمة

- ‌(1)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌(5)

- ‌أ) الفرد:

- ‌ب) الدولة:

- ‌المصادر

- ‌المَرَاجع

- ‌1 - المراجع العربية:

- ‌2 - المراجع التركية:

- ‌3 - المراجع الإنكليزية:

- ‌الفهرَس

الفصل: ‌23 - الإنسان:

ولعلّ فرح أعدائه من جهة وحزن المسلمين لفقده من جهة أخرى، خير دليل على مبلغ جهاده لإعلاء كلمة الله.

لقد كان رجلاً حقاً، وكان أمة في رجل ورجلاً في أمة، ومثله في الرجال قليل.

‌23 - الإنسان:

أ) وربما يتبادر إلى الأذهان أن السلطان الفاتح كان رجل حرب وسياسة، أمضى كل عمره في الغزو والجهاد والفتح، فلم يترك أثراً في ميادين الحياة العامة الأخرى.

إن حياة الفاتح لا تتصل بالحرب والسياسة فحسب، وإنما

تتصل بالثقافة والفكر والعلم والفن والإدارة والحكم أيضاً، وقد كانت للسلطان الفاتح في كل هذه الميادين جولات باهرة لا تقلّ روعة وعظمة عن جولاته في ميداني الحرب والسياسة.

قضى الفاتح أيام طفولته بمدينة (أدرنه) وكانت عاصمة العثمانيين، فاهتم أبوه السلطان مراد الثاني بتنشئته وتربيته جسمياً وعقلياً: دربه على ركوب الخيل ورمي القوس والضرب بالسيف، وعندما شبّ وترعرع ولاّه أبوه بعض الولايات بآسيا الصغرى يتدرّب فيها على شؤون الحكم والإدارة، ثم أخذ أبوه يستصحبه معه بين حين وآخر إلى بعض المعارك ليعتاد الحرب، ويتعلم القيادة العسكرية، ويتمرّس بالقتال وأساليبه.

وقد عني أبوه من جهة أخرى عناية فائقة بتعليم ابنه محمد الفاتح

ص: 484

وتثقيفه، غير أن محمداً أظهر أول الأمر جموحاً وإعراضاً شديداً عن التعليم والدرس، ولم يسلس قياده لأحد من المعلمين الذين ندبهم أبوه لتعليمه!.

وسأل أبوه عن رجل ذي جلالة ومهابة وشدة، فدُلّ على المولى أحمد بن إسماعيل الكوراني الذي كان طويل القامة كثّ اللحية مهيب الطلعة، فأعطاه السلطان مراد قضيباً ليضرب به. ودخل على محمد الفاتح والقضيب في يده وقال له:"أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري"، فضحك منه محمد وسخر من كلامه، فعاجله المولى الكوراني بضربة قوية ارتاع لها الفتى الشموس ثم استخذى لها، وأدرك أنه أمام معلم من نوع جديد يختلف عمن سبقه كل الاختلاف. وكأنما كانت هذه الضربة الأولى الحازمة التي تلقاها محمد هي الطلسم الذي أعاده إلى رشده، إذ أقبل بعدها على التعليم بنهم وجدّ ونشاط، فما مضى عليه غير قليل من الوقت حتى ختم القرآن الكريم. واستبشر والده بذلك واغتبط، وغمر المولى الكوراني بالعطايا والأموال الغفيرة.

ولم يسمع السلطان مراد بعد ذلك بأستاذ برع في علم من العلوم أو مهر في فن من الفنون أو اشتهر بخصلة من خصال الفضيلة، إلا ويستدعيه ويبعثه إلى ابنه محمد لتعليمه وتأديبه (1)، وفي مقدمتهم المولى محمد بن فرامز خسرو: " وكان إماماً بارعاً مفنناً محققاً نظاراً طويل

(1) وقد كان المولى الكوراني - أول أساتذة محمد الفاتح - عالماً فقيهاً، شهد له علماء عصره بالتفوق والإتقان، ويقول السيوطي في ترجمته: "ودأب في فنون العلم حتى فاق في المعقولات والأصلين والمنطق وغير ذلك، ومهر في النحو والمعاني والبيان، وبرع في الفقه واشتهر بالفضيلة

"؛ انظر السيوطي في: نظم العقيان.

ص: 485

الباع راسخ القدم" (1)، وتلقى العلم على كثيرين غيره.

وإلى جانب هؤلاء الشيوخ والفقهاء، أحضر السلطان مراد إلى ابنه أساتذة في الرياضيات والجغرافية والفلك والتاريخ واللغات المختلفة. وقد حذق محمد الفاتح من هذه اللغات - فضلاً عن لغته التركية - العربية والفارسية واللاتينية واليونانية.

ولم ينقطع محمد الفاتح بعد توليه السلطنة عن التعلم والدرس، فما توسّم في رجل نبوغاً أو تضلعاً في علم من العلوم إلا اتخذه معلماً لنفسه. وأكب الفاتح على دراسة التاريخ، لا سيما ما يتعلق بسير عظماء الشرق والغرب، فقرأ بإمعان حياة القياصرة، وأعجب بشخصية الإسكندر المقدوني، فقد لمح فيها صورة من نفسه ورأى فيها قوة النفس وصحة العزم وسرعة التنفيذ بعد إحكام الخطة وعدم التردد. كما قرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير الخلفاء الراشدين وقادة الفتح الإسلامي وسير الخلفاء والأمراء والقادة المسلمين. كما اهتم بوجه خاص بفلسفة أرسطو والرواقيين والفلسفة الإسلامية واتخذ له في ذلك أساتذة من العلماء النابهين.

وكان أول ما عني به السلطان الفاتح بعد فتح القسطنطينية أن أنشأ المدارس والمعاهد وعمل على نشرها في جميع أرجاء دولته. وقد كانت أول مدرسة في الدولة العثمانية هي التي أنشأها السلطان أورخان بمدينة (أزنيق)، وسار مَنْ بعده من السلاطين على منواله، وانتشرت

(1) السيوطي في نظم العقيان، وكان الفاتح يسميه:"أبا حنيفة زمانه"؟ انظر الشقائق النعمانية وشذرات الذهب.

ص: 486

المدارس في (بروسه) و (أدرنه) وغيرها من المدن.

أما السلطان الفاتح فقد بزّ أسلافه ومن جاء بعده من السلاطين في هذا المضمار: بزَّهم بما كان له من الثقافة العالية الممتازة، وبما بذله من جهود كبيرة في نشر العلم وإنشاء معاهده، وما أدخله من الإصلاح والتنظيم في مناهج التعليم، وما أسبغه من رعاية كريمة غامرة على أهل العلم والأدب والفن.

فقد أنشأ السلطان الفاتح المدارس وبثها في المدن الكبيرة والصغيرة، بل أنفذها إلى القرى النائية وأوقف عليها الأوقاف العظيمة، ونظم هذه المدارس ورتبها على درجات ومراحل ووضع لها المناهج وحدد العلوم والمواد التي تدرس في كل مرحلة، واتخذ لها الامتحانات، فلا ينتقل طالب من مرحلة إلى أخرى إلا بعد أداء امتحان دقيق عسير. وكان السلطان الفاتح يحضر هذه الامتحانات ويشهدها بنفسه، كما كان يزور هذه المدارس بين حين وآخر ويستمع إلى الدروس التي يلقيها الأساتذة، ثم يوصي الطلبة بالجد والاجتهاد، ويجزل العطاء للنابغين من الأساتذة والطلبة، وكان التعليم في جميع هذه المدارس بالمجان.

وكانت المواد التي تدرس في هذه المدارس: النحو والصرف والمنطق وعلم الكلام وعلم الأدب والحساب، وعلوم البلاغة من البيان والبديع والمعاني، والهندسة والهيئة والفقه والحديث والتفسير.

وأشهر المدارس التي أنشأها الفاتح هي المدارس الثمان التي أنشأها على جانبي مسجده الذي بناه بالقسطنطينية، على كل جانب منه

ص: 487

أربع مدارس يتوسطها صحن فسيح، لذلك سميت هذه المدارس أيضاً بمدارس الصحن، وفيها يقضي الطالب المرحلة الأخيرة من دراسته.

وألحقت بهذه المدارس مساكن للطلبة يتناولون فيها طعامهم، كما يتناولون منحة مالية شهرية، وكانت الدراسة في هذه المدارس تجري في جميع أيام السنة. وأنشئت بجانب المدارس مكتبة خاصة، وكان يشترط في الرجل الذي يتولى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل الصلاح والعلم عارفاً بأسماء الكتب والمؤلفين، ويعير الطلبة والمدرّسين ما يطلبونه من الكتب بطريقة منظَّمة دقيقة، ويسجل أسماء الكتب المستعارة في سجل خاص. وهذا الأمين مسؤول عن الكتب التي بعهدته، بل مسؤول عن سلامة أوراقها، وتفتش هذه المكتبة كل ثلاثة أشهر على الأقل.

وأدخل السلطان الفاتح في مناهج التعليم نظام التخصص، فجعل للعلوم النقلية والنظرية قسماً خاصاً وللعلوم العملية التطبيقية قسماً خاصاً أيضاً.

وحذا العلماء والوزراء حذو سلطانهم، وتنافسوا في إنشاء المدارس والمعاهد، مما أدى إلى انتشار العلم وازدهاره. وقد أضفى السلطان الفاتح على المدرسين والأساتذة رعاية كريمة سابغة، ووسع لهم في المعيشة ليتفرغوا للعلم والتعليم.

وليس أعرف بمكانة العلماء وأقدارهم ممن مارس العلم وجهد في سبيله، وقد كان السلطان الفاتح عالماً بحق بكل ما تحمله الكلمة من معان، فقرَّب إليه العلماء وأعلى شأنهم ورفع قدرهم وشجعهم على

ص: 488

العمل والإنتاج وبسط لهم يداً ندية سخية لا تضنّ بالبذل والعطاء.

وكان السلطان الفاتح يجلّ العالم لعلمه وفضله أياً كان جنسه ودينه وموطنه، وقد حدث بعد فتح (القرمان) أن أمر بنقل العمال والصنَّاع إلى القسطنطينية، غير أن وزيره روم محمد باشا اشتدَّ في الأمر وتعسَّف الناس وأصابهم منه عنت ورهق، وكان من بينهم نفر من أهل العلم والفضل في مقدمتهم الشيخ أحمد جلبي بن السلطان أمير علي من سلالة العالم الصوفي المشهور جلال الدين الرومي، فلما علم السلطان الفاتح بأمره اعتذر إليه وأعاده إلى وطنه مع رفقائه تحفُّ بهم مظاهر التجلَّة والتكريم مثقلين بالهدايا. ومما يلفت النظر أن السلطان الفاتح لم يبعث شخصية من شخصياته إلى الشيخ جلبي أحمد للاعتذار إليه عن سوء معاملة روم محمد باشا له، بل ذهب إليه بنفسه واعتذر إليه وأعاده مع من أراد من صحبه إلى موطنه معزَّزاً مكرَّماً.

وفي فتوحه كان يشدِّد على عدم قتل الأسرى من العلماء وأصحاب المعارف، وحدث بعد هزيمة أوزون حسن أن وقع في يد العثمانيين عدد كبير من الأسرى، فأمر الفاتح بتخلية سبيل العلماء مثل القاضي محمد الشريحي الذي كان من فضلاء الزمان والسيد محمد المنشي وكثير غيرهما من العلماء والفضلاء، وأكرمهم وأحسن معاملتهم وأغدق عليهم العطايا السخية وأسند إليهم المناصب العالية في الدولة.

وبعد فتح (طرابزون) وقع في أسر الجيش العثماني شاعر من الروم يدعى: (جورج أموير تزس) كان قد وصل إلى الفاتح ذكره وشهرته العلمية، فأحسن لقياه واستصحبه معه إلى القسطنطينية وأصبح من خاصته، ورفع الفاتح منزلته ومنحه أعطيات واسعة،

ص: 489

وصار يذاكره في المسائل الفلسفية وغيرها، وقد شرح الله صدر هذا الفيلسوف فيما بعد ودخل في الإسلام.

وكان السلطان الفاتح يتطامن صاغراً متخشعاً أمام العلماء وأهل الورع والتقى، ويستشيرهم في أخطر أموره، وينصت إلى نصائحهم ويتقبَّلها بقبول حسن، وينفذ تعاليمهم نصّاً وروحاً.

حدث بعد فتح القسطنطينية أن دخل السلطان الفاتح على الشيخ الزاهد المتصوِّف آق شمس الدين في خيمته وهو مضطجع فلم يقم له.

وقبَّل السلطان الفاتح يد الشيخ وقال: "جئتك لحاجة عندك"، قال:"ما هي"؟ قال الفاتح: "أريد أن أدخل الخلوة عندك أياماً". قال الشيخ: "لا"! فأعاد عليه السلطان هذا الطلب مراراً والشيخ يقول: "لا"! فغضب السلطان الفاتح وقال: "إن واحداً من الأتراك يجيء إليك وتدخله الخلوة بكلمة واحدة"؟ فقال الشيخ: "إنك إذا دخلت الخلوة، تجد هناك لذَّة فتسقط السلطنة من عينك وتختلّ أمورها فيمقت الله إيانا. والغرض من الخلوة تحصيل العدالة، فعليك أن تفعل كذا وكذا

" وذكر ما بدا له من النصائح؛ ثم أرسل إليه الفاتح ألفي دينار، فلم يقبلها الشيخ. وقام السلطان الفاتح، فودَّعه الشيخ وهو مضطجع على جنبه كما كان، ولما خرج السلطان الفاتح قال لابن ولي الدين: "ما قام الشيخ لي"، وأظهر التأثُّر من ذلك، فقال ابن ولي الدين: "إن الشيخ شاهد فيكم الغرور بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسَّر للسلاطين العظام، وإن الشيخ مُرَبٍّ فأراد بذلك أن يدفع عنكم الغرور". وبعد يوم دعا الشيخ آق شمس الدين في الثلث الأخير من الليل، فبادر إليه الأمراء يقبِّلون يد الشيخ. قال الشيخ: "وجاء

ص: 490

السلطان محمد خان والليل مظلم، وما أدركته بالبصر بسبب الظلمة، ولكن عرفه روحي فعانقته وضممته إليّ ضمّاً شديداً، حتى ارتعد وكاد أن يسقط فما خليته إلى أن يزول عنه الحال". وقال السلطان الفاتح:"كان في قلبي شيء في حقّ الشيخ، فلما ضمَّني إليه انقلب ذلك حباً"، ثم إنه دخل مع الشيخ الخيمة، فصاحب معه حتى طلع الفجر؛ وأذَّن الشيخ للصلاة، وصلَّى السلطان خلفه، ثم قرأ الشيخ الأوراد والسلطان جالسٌ أمامه على ركبتيه يستمع الأوراد (1).

وحدث أيضاً أن السلطان الفاتح بعث مع أحد رجاله بمرسوم إلى المولى الكوراني وكان إذ ذاك يتولَّى قضاء العسكر، فوجد فيه أمراً يخالف الشرع، فمزَّقه وضرب مَن جاء به وحمله إليه. وشقَّ ذلك على السلطان الفاتح وتغلبت عليه سَوْرة الغضب، فعزل الكوراني من منصبه ووقع بينهما نفور وجفوة.

ورحل المولى الكوراني إلى مصر حيث احتفى به سلطانها قايت باي وأكرمه غاية الإكرام، وأقام عنده مدَّة من الزمن.

وما لبث الفاتح أن ندم على ما كان منه، فكتب إلى السلطان قايت باي يلتمس منه أن يرسل إليه المولى الكوراني، فحكى السلطان قايت باي كتاب الفاتح ثم قال:"لا تذهب إليه فإني أكرمك فوق ما يكرمك هو"، فقال المولى الكوراني: "نعم هو كذلك، إلا أن بيني وبينه محبة عظيمة كما بين الوالد والولد، وهذا الذي جرى بيننا شيء آخر، وهو يعرف ذلك مني ويعرف أني أميل إليه بالطبع، فإذا لم أذهب

(1) الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية.

ص: 491

إليه يفهم أن المنع من جانبك فيقع بينكما عداوة". فاستحسن قايت باي هذا الكلام، وأعطاه مالاً جزيلاً، وهيَّأ له ما يحتاج إليه من حوائج السفر، وبعث معه هدايا عظيمة إلى السلطان الفاتح (1).

وحين وصل المولى الكوراني إلى القسطنطينية، أسند الفاتح إليه القضاء ثم الإفتاء، وأجزل له العطاء، وأكرمه إكراماً لا مزيد عليه.

وكان العلماء والشيوخ يصحبون الفاتح في غزواته وحروبه، فكانوا في كل ميدان من ميادين القتال في طليعة الجيش إلى جانب السلطان: يثيرون الحمية الدينية، ويتلون على الجنود آيات الجهاد والنصر، ويقاتلون كما يقاتل الجنود، ويضربون لهم أروع الأمثال في الشجاعة والإقدام.

وقد دأب محمد الفاتح منذ كان أميراً على (مغنيسيا) على مراسلة العلماء والمثقَّفين من الأمراء في فارس ومصر والعراق والهند وغيرها.

وبقي الفاتح على هذه السنَّة الحسنة بعد تولِّيه السلطنة، وضاعف ما كان يسبغه على العلماء والأدباء من تكريم ورعاية ومنح، فكان يرسل إلى خوجه جهان أول كتَّاب الهند في زمانه ألف دوقة في كل عام، وكذلك إلى المولى عبد الرحمن الجامي من أعاظم علماء وشعراء فارس في ذلك العهد.

وممن كان يكاتبهم السلطان الفاتح من علماء مصر الشيخ محمد بن سليمان المحيوي المعروف بالكافياجي، وهو أستاذ السيوطي العالم المصري المعروف، وقد أثنى عليه العلماء والمؤرخون المصريون

(1) الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية.

ص: 492

ثناءً عظيماً لعلمه وفضله وخلقه وورعه (1) وكان الفاتح يكاتبه ويهدي إليه الهدايا السنية.

وما سمع السلطان الفاتح قطّ عن عالم في مملكته أصابه عوز وإملاق إلا بادر إلى مساعدته ومنحه ما يستعين به على الحياة والعيشة الرضيَّة. بل إنه جعل للعالم الذي يعتزل عمله لسبب من الأسباب راتباً خاصاً يُعرف بـ (راتب التقاعد) يستعين به على تكاليف الحياة صوناً له عن ذلّ السؤال وصوناً للعلم أن يمتهن، ولا يقلّ هذا الراتب في كثير من الأحيان عن الراتب الذي كان يتقاضاه في أثناء عمله.

وكان من أثر ما أفاضه السلطان محمد الفاتح على العلم وأهله من رعاية سابغة وتقدير كريم وبذل سخيّ، أن توافد إلى رحابه العلماء والأدباء والشعراء والفنانون من كل حدب وصوب، واجتمع في بلاده من جميع هؤلاء عدد عديد من العرب والترك والفرس والروم واللاتين.

وكان السلطان الفاتح يقضي الأوقات التي يستجم فيها بالقسطنطينية من الحروب في عقد المجالس العلمية والأدبية، فيباحث العلماء في المسائل العلمية ويعقد بينهم المناظرات المختلفة. وقد يشتدّ وطيس بعضها وتمتدّ عدة أيام.

وجرت عادة الفاتح في شهر رمضان أن يستحضر إلى قصره بعد صلاة الظهر جماعة من العلماء المتضلّعين في تفسير القرآن، فيقوم في كلّ

(1) السخاوي: الضوء اللامع. وابن إياس: تاريخ مصر. والسيوطي: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة.

ص: 493

مرة واحد منهم بتفسير آيات من القرآن الكريم وتقريرها، ويناقشه في ذلك سائر العلماء ويجادلونه. وكان الفاتح يشترك أيضاً في هذه المناقشات، فكان هذا الدرس الديني بمثابة امتحان لهؤلاء العلماء واختبار لمقدرتهم وكفايتهم، فيبعثهم ذلك على التنافس في الإجادة والإتقان.

والحق أنَّ العالم في حضرة الفاتح كان عرضة للسؤال والامتحان، وكان يعجبه من العالم أن يكون حاضر العلم سريع الإجابة. وقد حدث يوماً أن سأل السلطان الفاتح وهو في طريق عودته إلى القسطنطينية المولى محيي الدين المعروف بابن المغنيسي الذي اشتهر بالجدّ في التحصيل والإكباب على الدرس، عن بيت عربي فقال المولى:"أتفكَّر فيه بالمنزل ثم أجيب"! فقال الفاتح لبعض رجاله: "أحضروا مولانا سراج الدين"، فحضر. وسأله السلطان عن ذلك البيت فقال:"هو للشاعر الفلاني من قصيدته الفلانية من البحر الفلاني"، ثم قرأ البيت وحقَّق معناه، فقال السلطان الفاتح لابن المغنيسي:"ينبغي أن يكون العالم هكذا في العلم والمعرفة والتتبع"(1).

وحتى في ميادين الحرب، كان السلطان الفاتح ينتهز الفترات التي تتوقف فيه رحى القتال، فيعمد إلى مناظرة مَن يكون معه من العلماء، وبلغ حبّه لأهل العلم ومجالسهم أنَّه نبذ ملابس السلطنة الفاخرة وآثر عليها لباس العلماء وتزيا بزيّهم.

ولم يكن السلطان الفاتح أقل ولعاً وكلفاً بندوات الأدباء

(1) الشقائق النعمانية.

ص: 494

والشعراء ومجالسهم، ولا غرو فقد كان هو نفسه شاعراً، وكان يكتب أشعاره باسم:(عوني)، وهو يعد أول شاعر من السلاطين اتَّخذ لنفسه اسماً مستعاراً، وللفاتح ديوان شعر باللغة التركية.

وكان الفاتح يطرب لسماع الشعر في أي لغة من اللغات التي كان يحذقها، ويتمثَّل بالشعر في بعض المناسبات، كما تمثَّل ببيت من الشعر الفارسي عند دخوله قصر الإمبراطور قسطنطين. وحدث بعد فتح القسطنطينية أن رفع إليه الشاعر الإيطالي (فيليف Philelphe) رسالة وقصيدة يلتمس منه فيهما إطلاق نسوة من ذوي قرباه وقعن في أسر العثمانيين، فأمر السلطان الفاتح من فوره بإطلاق سراحهنّ بغير فدية (1).

وكان طبيعياً بعد ذلك كلّه، أن يطنب الشعراء والأدباء في مدح السلطان الفاتح لما أسداه إلى العلم والأدب من كريم الرعاية وجميل التقدير والتشجيع، وقد مدحه كل شاعر باللغة التي يحسنها.

وفي المجالس العلمية والأدبية التي كان يحضرها الفاتح، كان يحرص أشدَّ الحرص على أن يسودها جو الوقار العلمي وآداب المناظرة والحديث، فكان يطلب إلى كل مناظر أن يكون أميناً في قوله وفي إيراد كلام مناظره، فلا يدلس ولا يغالط. وكان يكره من رجل العلم النفاق والغرور والادعاء ويبتغي منه أن يكون قدوة حسنة للناس في القول والعمل. ولا يتغاضى الفاتح عن عالم صدر منه ما يجافي الدين أو المروءة، فإنه يبعده من مجلسه

(1) وقد كتب هذا الشاعر الإيطالي فيما بعد أرجوزة شعرية في حياة السلطان محمد الفاتح، وهي لاتزال مخطوطة وموجودة الآن بمكتبة جنوا.

ص: 495

ويقطع اتصاله به ولو كان من المقرَّبين إليه.

وينكر على الشعراء التبذُّل والمجون والدعارة، ويعاقب الشاعر الذي يخرج عن آداب المجتمع أو يطرده من بلاطه، ولا غرو فقد نشأ الفاتح منذ صغره على خير ما ينشأ أمراء زمانه تربية وأدباً.

وعمد السلطان الفاتح إلى إذكاء روح العمل والإنتاج وتنشيط الحركة العلمية بجميع وسائل التشجيع المعنوية والمادية، وكثيراً ما كان يطلب إلى نفر من العلماء الكتابة في موضوع واحد، ليدفعهم التنافس والتسابق إلى الإجادة والإتقان، ثم يمنح المتسابقين مكافآت جزيلة ويخصّ المتفوّقين بالخلع السنية، فازدهرت النهضة الفكرية في حياته وخصب الإنتاج وكثر التأليف.

ولم يفت السلطان الفاتح الثاقب البصر أن يستعين بالنقل والترجمة في بعث النهضة الفكرية ونشر العلم والمعرفة بين قومه، فأمر بنقل كثير من الآثار المكتوبة بالعربية واليونانية واللاتينية إلى اللغة التركية. من ذلك كتاب:(مشاهير الرجال) لبلوتارك، وقد علَّق

الأستاذ بيوري على ذلك بقوله: "

فإذا كان السلطان الفاتح نفسه يعرف اللغة الرومية، فلا شك أنه قد أمر بترجمته لتعميم نشره وفائدته بين رعاياه" (1). كما نقل إلى التركية من العربية كتاب:(التصريف) في الطب لأبي القاسم الزهراوي الطبيب الأندلسي مع زيادات في صور الآلات الجراحية وأوضاع المرضى أثناء إجراء العمليات الجراحية.

وقد عثر السلطان الفاتح بعد فتح القسطنطينية بكتاب بطليموس

(1) الأستاذ ( Bury) في تعليقاته على كتاب: جبون ( Gibbon) .

ص: 496

في الجغرافية وخريطة له، فقام بمطالعته ودراسته مع العالم الرومي جورج أميروتزوس، ثم طلب إليه الفاتح وإلى ابنه (ابن العالم الرومي) الذي كان يجيد اللغتين الرومية والعربية بترجمة الكتاب إلى العربية وإعادة رسم الخريطة مع التحقيق في أسماء البلدان وكتابتها بوضوح باللغتين العربية والرومية، وكافأهما على هذا العمل بعطايا مجزية.

وليس أدل على اهتمام الفاتح باللغة العربية من أنه طلب إلى الأساتذة بالمدارس الثمان التي أنشأها حول مسجده في القسطنطينية أن يجمعوا بين الكتب الستة في علم اللغة كالصحاح والتكملة والقاموس وأمثالها. ودعم الفاتح حركة التأليف والترجمة لنشر المعرفة بين رعاياه بالإكثار من نشر المكاتب العامة، وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت غرائب الكتب والعلوم، وعيَّن المولى لطفي أميناً عليها، وكانت تضم اثني عشر ألف مجلَّد عندما احترقت عام (1465م). وجدير بالذكر هنا أن الفاتح كان كثيراً ما يستعيض عن مال الجزية بالكتب والمخطوطات، فمن ذلك أنه طلب مرة من إحدى الجمهوريات الإيطالية أن تدفع له الجزية ببعض المخطوطات الإيطالية.

ب) على أن أهم ما يسترعي النظر والالتفات في السلطان الفاتح، هو ما اتصف به في الناحيتين الدينية والعلمية على السواء من رحابة صدر وسعة أفق وسماحة نفس وإدراك صحيح لمعنى حرية الضمير وحرية الرأي والقول وتطبيقاً لتعاليم القرآن الكريم:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [سورة البقرة 2: 256]. فبرغم ما بلغه من سعة الملك وقوة السلطان ونفاذ الكلمة؛ لم يشأ أن يفرض دينه على أحد، ولم يشأ أن يفرض رأيه على أحد.

ص: 497

كان (هونياد) المجري إبَّان قتاله للعثمانيين قد طلب إلى برنكوفيتش الصربي أن يمضي هو الآخر في قتال العثمانيين، فسأله برنكوفيتش:"وماذا تصنع بديننا إذا أنت انتصرت على الأتراك"؟ فأجاب هونياد: "أحمل الناس على اعتناق الكاثوليكية، وأقيم الكنائس الكاثوليكية في كل مكان"، وكان الصربيون يتَّبعون الكنيسة الشرقية.

ووجَّه برنكوفيتش نفس السؤال إلى السلطان الفاتح، فأجاب:"أقيم إلى جانب كل مسجد كنيسة، والناس أحرار في دينهم، فمن شاء ذهب إلى المسجد، ومن شاء ذهب إلى الكنيسة"(1).

ويزداد تقديرنا لهذه المعاني المعنوية في نفس الفاتح، إذا نظرنا إلى العصر الذي عاش فيه، عصر التعصُّب الديني والفكري - لاسيما في الغرب الأوروبي، حيث تلطَّخت أقطاره بالمذابح والمجازر البشرية الفاجعة ضد المخالفين في العقيدة والرأي. ومذبحة (سانت بارتلمي Saint - Barthelemy) التي حدثت في فرنسا بعد نحو قرن من وفاة السلطان الفاتح وفتك فيها الكاثوليك بموافقة ملك فرنسا شارل التاسع بمواطنيهم البروتستانت غيلة وغدراً، وذبحوهم ذبح الخراف: حادثة معروفة مشهورة.

ولماذا نذهب بعيداً، والمذابح بين الكاثوليك والبروتستانت قائمة على قدم وساق في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد نشبت معارك طاحنة بين الطائفتين المسيحيتين عام (1970 و 1971) في إيرلندا على مسمع ومشهد من العالم كله!!

(1) Temperely، History Of Serbia.

ص: 498

لقد كان السلطان الفاتح بطبعه بحاثة طالباً للعِلم محبّاً للعلماء شديد الكلف بالعلوم التطبيقية (1) والعلوم الدينية بخاصة.

وكان مسلماً صادق الإسلام، مؤمناً قوي الإيمان، وكان أول ما رضع من لبان العلم والمعرفة في صغره هو القرآن الكريم. وكان أثناء وجوده في القسطنطينية لا تفوته صلاة الجماعة بالمسجد الجامع، وكانت خطبه في السلم والحرب تفيض حمية ونخوة على الدين الحنيف.

وقد كان لفتح القسطنطينية حوافز كثيرة ذكرنا قسماً منها، ولكن الحافز الديني كان له مكان عظيم في نفس محمد الفاتح دفعه إلى الاستقتال في الحرب والإصرار على الفتح. وقد ذكر الفاتح هذا الحافز في كلماته قبل المعركة وفي أثنائها وبعدها، وعزم على أن يفوز بتحقيق البشارة النبوية في الحديث الشريف:"لتفتحنَّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش جيشها"(2).

وهذا الحديث الشريف يطالعك مكتوباً في أبرز مكان من مسجد الفاتح في القسطنطينية الذي بناه الفاتح وحرص على تتويجه بهذا الحديث النبوي الشريف.

وكان سعيداً أعظم السعادة بفتح القسطنطينية، لأنه استبشر بهذا الحديث النبوي الشريف، كما استبشر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بتحقيق هذه البشارة النبوية.

(1) استفاد الفاتح من المهندسين في تطوير أسلحته وبخاصة المدفعية وابتكار أسلحة جديدة، ولعلَّه أول من بذل جهده لابتكار المدفعية الضخمة ذات القنابل الشديدة الانفجار.

(2)

ورد في أسد الغابة لابن الأثير، وفي الإصابة لابن حجر العسقلاني.

ص: 499

كما وردت أحاديث تبشر بهذا الفتح في صحيح مسلم رضي الله عنه (1).

ولتديُّن السلطان الفاتح، فقد كان لرجال الدين في نفسه مكانة عظيمة، ومن خير ما أسداه نحو العلم والعلماء ما ابتدعه من التنسيق والتنظيم في درجات العلماء ومراتبهم، والتمييز بين المناصب والوظائف كالتدريس والقضاء، وقد جعل التدريس نفسه درجات وكذلك القضاء درجات، فلا يشغل وظيفة من هذه الوظائف إلا من ثبتت كفايته وأهليَّته لها. أما الوظائف الصغيرة التي ليست بذات خطر كالإمامة أو الأذان في مسجد، فكان يكفي فيمن يشغلها أن يكون قد أصاب قدراً من الثقافة الدينية. وكان السلطان الفاتح يحتفظ في قصره بثبت فيه أسماء العلماء ومنزلة كل منهم في العلم، وما له من كفاية وإنتاج، فإذا ما خلا منصب من المناصب الكبيرة في الدولة رجع إلى هذا السجل واختار للمنصب الشاغر أصلح العلماء له.

وقد أظهر السلطان الفاتح في الناحية الإدارية كفاية ومقدرة لا تقلان عن كفايته ومقدرته في الناحيتين السياسية والعسكرية.

وقد كان أول ما قام به عقب توليه السلطنة أن عزل الموظفين القدامى غير الأكفاء وعيَّن مكانهم الأكفاء، واتخذ الكفاية وحدها أساساً في اختيار رجاله ومعاونيه وولاته.

واهتمَّ الفاتح بالناحية المالية، فوضع القواعد المحكمة الصارمة في جباية أموال الدولة، وقضى على إهمال الجباة وتلاعبهم، وحارب

(1) راجع أحاديث فتح القسطنطينية في صحيح مسلم 8/ 176 - 177.

ص: 500

الرشوة والمرتشين بشدة.

وكان الفاتح شديد الحرص على العدالة الدقيقة الحازمة في كل جزء من أجزاء مملكته، شديد الحرص على تحقيق الرفاهية والرخاء لجميع رعاياه.

وكان عند خروجه إلى بعض الغزوات والحروب كثيراً ما يتوقف في بعض أطراف مملكته ويأمر بنصب خيامه ليجلس بنفسه للمظالم، ويرفع إليه من يشاء من الناس شكواه ومظلمته.

وكان مما قصد إليه الفاتح من تعلم اللغات الأجنبية كاللاتينية والرومية أن يتمكن من الاتصال المباشر بشعوبه العديدة ذات اللغات المختلفة ويقف على أحوالها بنفسه.

وقد عني الفاتح بوجه خاص برجال القضاء الذين يتولون الحكم والفصل في أمور الناس، فلا يكفي في هؤلاء أن يكونوا من المتضلعين في الفقه والشريعة ومن المتصفين بالإنصاف والنزاهة والاستقامة وحسب، بل لا بد إلى جانب ذلك أن يكونوا موضع تجلة واحترام بين الناس، وأن تُكفى مؤونتهم المادية كفاية تامة، سدّاً لسبل الإغراء والرشوة؛ فوسَّع لهم الفاتح في المعيشة كل التوسعة، وأحاط منصبهم بهالة مهيبة من الحرمة والجلالة والقداسة.

أما القاضي المرتشي، فلم يكن له عند السلطان من جزاء غير القتل.

وكان كثيراً ما يعس بالليل ويجوب الطرقات والدروب، ليتعرَّف أحوال الناس بنفسه، ويتسمَّع إلى شكاواهم.

ص: 501

أما فيما يتعلَّق بالأعمال المتصلة بالعمران والأغراض السلمية، فقد أكثر الفاتح من إنشاء المباني العامة والطرق والجسور في أرجاء مملكته.

وأنشأ الفاتح كثيراً من المساجد والمعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة.

ولا بدَّ لنا هنا من وقفة قصيرة لننظر في إعجاب ودهشة إلى ذلك النظام الدقيق الذي وضعه السلطان الفاتح للمستشفيات أو دور الشفاء كما يسميها العثمانيون، فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب، ثم زيد إلى اثنين من حذَّاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحال وجرَّاح وصيدلي وجماعة من الخدم والبوابين. ويشترط في جميع المشتغلين بدور الشفاء أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ويجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم، وألا تصرف الأدوية لهؤلاء المرضى إلا بعد التدقيق في إعدادها. وأكثر من هذا كله أنه كان يشترط في طبَّاخ المستشفى أن يكون عارفاً بطهي الأطعمة

والأصناف التي توافق المرضى منها، وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان، ويغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم.

وقد كان السلطان الفاتح شديد الحدب على الفقراء والمساكين برّاً بهم، ولم يكن في صدقاته وإحسانه نحوهم يفرِّق بين المسلم وغير المسلم، حتى لُقِّب بأبي الخيرات وأبي الحسنات.

وعني الفاتح بالتجارة والصناعة وعمل على إنعاشهما بكل

ص: 502

الأسباب والوسائل، وكان من أثر ذلك أن عمَّ الرخاء وساد اليسر والرفاهية في جميع أرجاء البلاد، وفي عهده ضربت النقود الذهبية لأول مرة في تاريخ الدولة العثمانية.

وبالرغم مما بلغه الفاتح من سعة المُلك وعظم السلطان وعزة المجد والقوة، فإنه لم يداخله البطر والغرور، وبقي متواضعاً يخفض جناحه لجميع الناس وبخاصة أهل العلم، وكان يزور العلماء في دورهم ويتناول ما يقدِّمونه إليه من طعام وشراب، وكان في ملبسه ومأكله أقرب إلى التقشُّف والزهادة، وكان أستاذه المولى الكوراني يعظه دائماً ويخاطبه باسمه، وإذا لقي السلطان يسلم عليه ولا ينحني له ويصافحه ولا يقبِّل يده ولا يذهب إليه يوم عيد إلا إذا دعاه.

وكثير من العلماء في عهد الفاتح كانوا على مثال المولى الكوراني في الإباء والصرامة والحرص على قول الحق، لا يغضبون إلا له ولا يرضون إلا له، يجبهون الوزراء ورجال الدولة بل السلطان الفاتح بأشد القول وأعنفه، لا يخشون لومة لائم ولا يبتغون من وراء ذلك إلا صلاح الدين والدنيا.

وكان إذا أنكر أحدٌ من العلماء على الفاتح شيئاً هدده بالخروج من مملكته أو يصلح ما ينكر، ولم يكن أشق على نفس الفاتح من أن يرى عالماً يخرج من بلاده، وقد وجد الفاتح في هؤلاء العلماء العاملين خير عون له وسند في تنفيذ سياسته التي كان يتوخَّى منها نشر العدل والرخاء في شعبه.

لقد مات قبل السلطان الفاتح عظماء في الإسلام، ومات بعده

ص: 503

عظماء، فلم تحفل النصرانية بموت أحد منهم مثلما حفلت بموت هذا

السلطان، وقد رأينا فيما تقدَّم ما أقامته البابوية في روما من الحفلات

والمهرجانات الصاخبة ابتهاجاً بموته، وظلَّت الرهبة من الفاتح تخيِّم

على أوروبا حقبةً طويلة من الزمن، وظلَّت ذكراه تلقي الفزع والرعب

في قلوب أهلها إلى عشرات السنين بعد وفاته.

وفي سنة (1681 م) أي بعد موت السلطان الفاتح بقرنين، ألَّف

مؤرخ فرنسي يدعى (جييه) كتاباً في تاريخ حكم السلطان محمد الفاتح،

وأهدى كتابه هذا إلى لويس الرابع عشر أو لويس الأكبر أعظم ملوك

فرنسا وأعظم ملوك عصره. وقد قال المؤلف في مقدمة كتابه: "إنه إذ

يسأل الله لملك فرنسا طول البقاء وأن يهب له المجد والسؤدد والقوة

والسعادة، يرجو من الله كذلك ألا يظهر مرة أخرى على وجه الأرض

حاكم كالسلطان محمد الفاتح؛ فقد كان حكمه بلاء ونكبة على

النصارى والنصرانية

وهذا ما يجب أن يتمنَّاه دوماً بدون انقطاع

لا الفرنسيون وحدهم، بل جميع الشعوب النصرانية الأخرى".

ومع ذلك لم يشتهر أحد من السلاطين العثمانيين لدى الأوروبيين

وكثر تحدثهم عنه، مثل السلطان الفاتح، وهو أول سلطان عثماني بل

أول حاكم إسلامي أطلق عليه الأوروبيون لقب: (السيد العظيم Grand

Seigneur) .

ولد محمد الفاتح في السادس والعشرين من رجب سنة ثلاث

وثلاثين وثمانمئة الهجرية (2 من نيسان - أبريل - 1429 م).

وتولى السلطنة في السادس عشر من محرم الحرام سنة خمس

ص: 504

وخمسين وثمانمئة الهجرية (18 من شباط - فبراير - 1451م) وهو في الثانية والعشرين من عمره.

وتوفي في مدينة (أسكدار) يوم الخميس الرابع من ربيع الأول سنة ست وثمانين وثمانمئة الهجرية (3 من مايس - مايو - 1481م) وهو في الثانية والخمسين من عمره بحساب السنة الشمسية وفي الثالثة والخمسين من عمره بحساب السنة القمرية حكم فيها إحدى وثلاثين سنة تقريباً.

ويُعدُّ الفاتح أعظم سلاطين آل عثمان طراً، وأعظم ملوك عصره، ويصح أن يقال: إنه كان محور السياسة الدولية في عهده وصاحب الكلمة الأولى في الشؤون العالمية. وقد اتصلت علاقاته السياسية وحروبه بالقارات الثلاث: آسيا وإفريقية وأوروبا، ووطَّد

السيادة العثمانية في أوروبا توطيداً راسخاً. وقد مدَّ قسم من خلفائه حدود الدولة العثمانية بفتوحات جديدة في المجر، ولكنها لم تثبت ولم تعمر طويلاً، فما عتمت أن زالت وانمحت. أما فتوحات السلطان محمد الفاتح، فقد ظلَّت في معظم أجزائها ثابتة راسخة إلى ما بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

لقد كان محمد الفاتح فذّاً عظيماً في كل ميدان من ميادين الحياة.

كان فذّاً عظيماً في ثقافته وعلمه، عاش طوال حياته تلميذاً لا يكفُّ عن الحرص على المعرفة، حامياً للعلوم والآداب والفنون، أسبغ على أهلها أكرم رعاية وأسناها، وقدَّر كرامة الإنسان وجعل حرية الضمير وحرية الفكر والقول مشاعاً لجميع الناس.

ص: 505

وكان عظيماً فذّاً في حروبه وسياسته، قلَّما ارتدَّ عن غاية استهدفها، لا يبطره الظفر إذا انتصر، ولا تقعده الهزيمة إذا انكسر.

وكان فذّاً في إدارته لملكه، وحُسن حكمه لرعاياه، وسماحته نحو أهل الأديان الأخرى.

وكان فذّاً عظيماً في تديُّنه وورعه وتقواه، وفي استقامته وعدله وتقشُّفه، وفي خضوعه للحق ولو كان مرّاً" (1).

رضي الله عن القائد الفاتح، الإداري الحازم، السياسي البارع، التقي النقي، المجاهد الصادق، السلطان محمد الفاتح قاهر الروم وفاتح القسطنطينية.

(1) سالم الرشيدي (الدكتور)، محمد الفاتح، القاهرة، 1375 هـ، انظر التفاصيل في هذا الكتاب. وقد اعتمدنا فى أكثر المعلومات الواردة بهذا الفصل على هذا الكتاب القيّم، وهو أفضل كتاب أُلِّف عن محمد الفاتح باللغة العربية، نال به مؤلفه الفاضل الشهادة العالمية (الدكتوراه).

وتقتضي الأمانة العلمية أن أعزو الفضل إلى هذا الكتاب في ما ورد بهذا الكتاب، وللمؤلف أعمق الشكر وأعظم التقدير.

ص: 506