الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
(1)
لا تقتصر صفة القيادة على القادة العسكريين إلا في معناها الخاص، أما في معناها العام فتشمل قيادات شتَّى، كالقيادة السياسية، والقيادة الصناعية، والقيادة العلمية، والقيادة الفنية، والقيادة الدينية، والقيادة العائلية.
وإذا أردنا التوسع في أنواع القيادات، فإن كل فرد في المجتمع يمارس من خلال منصبه أو مهنته وفي بيته أو من موقع عمله، نوعاً معيناً من القيادة في نطاق واجبه الرسمي أو المهني أو الشخصي، فهو قائد يتحمَّل أعباء القيادة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".
ولكن هناك قيادات كبيرة ذات مسؤوليات ضخمة وأهمية خاصة، وهناك قيادات أقل ضخامة وأهمية. وإذا جاز لنا أن نشبِّه كل نوع من أنواع القيادات بالهرم، فإن القيادات العليا هي قمة الهرم، وهذه هي المسيطرة الموجِّهة الرائدة؛ بينما تشكِّل القيادات الصغرى قاعدة الهرم، وهي ذات المسؤوليات المحدودة، ثم تتصاعد تلك
المسؤوليات كلما ارتفعت القيادات عن القاعدة واقتربت من القمة، ويمكن أن نطلق على درجات القيادات بين قمة الهرم وقاعدته تعبير: تسلسل القيادات.
وكل قائد يؤثِّر في أتباعه بمثاله الشخصي، فإذا كان مستقيماً صالحاً تأثَّروا باستقامته وصلاحه، وإذا كان منحرفاً فاسداً تأثَّروا بانحرافه وفساده.
وما أصدق المثل العربي القائل: "الناس على دين ملوكهم".
لذلك كان التزام القائد بالمثل العليا ضرورياً بالنسبة للقائد العسكري والقائد المدني أيضاً، وهذه المثل العليا التي هي العقيدة الصالحة هي من مزايا القائد المنتصر عسكرياً، وهي من سمات القائد المدني الناجح؛ فلا نصر في الحرب بدون عقيدة، ولا نجاح في السلام بدون عقيدة.
ولكن هناك فروقاً بين القيادة العسكرية والقيادة المدنية بأنواعها المختلفة، تجعل للعقيدة أهمية خاصة للقائد العسكري. وأستطيع أن أقول بكل اطمئنان وثقة: إن القائد العسكري بدون عقيدة راسخة يقود رجاله إلى كارثة وهزيمة ولا يقودهم إلى نصر أو ظفر أبداً.
وتاريخ الحروب في كل زمان ومكان خير دليل على ما أقول.
الفرق الأول بين القائد العسكري والقائد المدني، أن المثال الشخصي للقائد العسكري، يؤثِّر في أتباعه بسرعة خاطفة، ولا يظهر في أتباع القائد المدني بمثل تلك السرعة؛ لأن طبيعة عمل القائدين في السلم والحرب تؤدي إلى أن يكون تأثير القائد العسكري في أتباعه
حاسماً ومصيرياً إلى أبعد الحدود. ذلك لأن التماسَّ الشخصي بين القائد العسكري ومرؤوسيه أكثر بكثير مما هو عليه في القائد المدني وأتباعه، فالواجبات العسكرية تحتم أن يعيش القائد العسكري مع رجاله يومياً مدة طويلة، قد تبدأ غالباً قبل الدوام الرسمي وتنتهي بانتهاء الواجب اليومي دون التقيُّد بساعات عمل معينة محدودة، وقد يمكث العسكريون في الثكنة أو المعسكر أضعاف ما يمكثونه في دورهم وبين أهليهم.
كما أن القائد العسكري يواجه أتباعه يومياً في التدريب والتهذيب والمحاضرات وفي الواجبات العسكرية كالحراسات والخفارات - موجِّهاً ومراقباً، ومدرباً ومعلماً، ومرشداً ومقوِّماً.
لذلك وصف الجيش بأنه مدرسة الشعب، ووصف القادة بأنهم معلمو الشعب.
وتماسُّ القائد بأتباعه في أيام التدريب الإجمالي بعيداً عن المدن وفي أيام الحرب، يستمر كل الوقت ويستغرق كل ساعات الليل والنهار.
وأعرف كثيراً من الضبَّاط، أنكرهم أطفالهم الصغار حين عادوا إلى أهلهم من معسكرات التدريب أو من الحرب، لطول بقائهم بعيدين عن عوائلهم، وهذا ما لا يحدث بالنسبة للمدنيين إلا نادراً وفي ظروف شاذّة.
والفرق الثاني بين القائد العسكري والقائد المدني، أن التجنيد الإلزامي الذي تطبّقه أكثر الدول في العالم، جعل كل فرد من أفراد الشعب جندياً في الخدمة العملية أو في خدمة الاحتياط: منهم مَن يؤدِّي
الخدمة العسكرية، ومنهم مَن سيأتي دوره للخدمة العسكرية، ومنهم مَن تسرَّح من الجيش بعد أداء الخدمة العسكرية
…
وهذا يتيح للقائد العسكري الاتصال بمختلف أفراد الشعب باستمرار ويؤثِّر فيهم، بينما القائد المدني يؤثر في قطاع خاص محدود من أفراد الشعب ضمن نطاق واجبه ومحيطه.
والفرق الثالث، هو أن القائد العسكري يؤثر في أتباعه بإصدار الأوامر كقاعدة وبالإقناع كاستثناء، لأن طبيعة الحياة العسكرية تتسم بالضبط المتين وإطاعة الأوامر وتنفيذها دون تردُّد؛ بينما القائد المدني يؤثِّر في أتباعه بالإقناع كقاعدة وبإصدار الأوامر كاستثناء، لأن الحياة المدنية لا تتسم بالضبط المتين وإطاعة الأوامر بدون مناقشة واقتناع.
والذي يحدث عملياً أن الجندي المستجدّ (يتطبَّع) بسجايا قائده، وبمرور الزمن يصبح (التطبُّع) في الجندي (طبعاً)، فيقضي حياته في الخدمة العسكرية وحياته بعد انقضائها متَّجهاً إلى (الخير) إذا كان قائده (خيِّراً)، وإلى (الشر) إذا كان قائده (شريراً).
وقد رأيت جنوداً مسرَّحين، يعملون في واجبات مدنية، لا ينفكُّون يذكرون قادتهم العسكريين لأنهم أحسنوا تدريبهم وتربيتهم، فكانوا عناصر مفيدة في المجتمع لسلوكهم المتميِّز المستقيم، نتيجة لخدمتهم العسكرية بقيادة متميزة مستقيمة.
والفرق الرابع والأخير، هو أن القائد العسكري له أثر مصيري في شعبه ووطنه، لأنه بالعقيدة الراسخة يقود إلى النصر وبدونها يقود إلى الاندحار. أما القائد المدني فيكون تأثيره محليّاً لا شاملاً، ومرحلياً
لا مستداماً، ومحدوداً لا مصيرياً.
كان المرحوم الفريق الركن حسين فوزي يشغل منصب رئيس أركان الجيش العراقي عام 1938م.
وكان قائداً متميزاً في علمه وخلقه وحرصه واستقامته، وكان متمسّكاً بأهداب الدين الحنيف.
وفجأة انتشرت المساجد في الثكنات، وأقبل الضباط على الصلاة اقتداءً بقائدهم.
وفي يوم من الأيام وكنت يومها برتبة ملازم في مدرسة الخيَّالة، تلقينا إشارة من مقرّ المدرسة بأن والدة رئيس أركان الجيش قد توفيت، وسيشيَّع جثمانها إلى مثواه الأخير من جامع الإمام الأعظم في ضاحية (الأعظمية) القريبة من بغداد.
وتجمَّع ضباط مدينة بغداد في الجامع، فلما أقيمت الصلاة على المتوفاة، اصطفَّ جميع الضباط دون استثناء للصلاة! وكان الإنكليز مسيطرين على الجيش العراقي في ذلك الحين، فلم يستطيعوا السكوت عن هذا القائد طويلاً، وأحالوه على التقاعد قبل أن يكمل عاماً في منصبه الرفيع.
ولو بقي هذا القائد الطاهر في منصبه سنوات، لتبدَّل حال الجيش العراقي إلى أحسن حال.
ولكنَّ الاستعمار كان ولايزال بالمرصاد للقادة المتميّزين.