الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2)
إن العقيدة الراسخة ضرورية لكل قائد عسكري ومدني، ولكل فرد من أفراد الشعب، ولكنها بالنسبة للقائد العسكري قضية مصيرية، وهي التي تميّز بين القائد الحق والقائد المزيّف.
وليس قائداً حقّاً مَن لا يتحلَّى بالعقيدة الراسخة التي تجعله موضع ثقة رؤسائه ومرؤوسيه على حد سواء.
وليس هناك شخص واحد يولي ثقته قائداً متفسخاً منحلاًّ، لا رادع يردعه ولا ضمير يؤنبه.
وتبادل (الثقة) بين القائد ورجاله، تجعلهم يسيرون وراءه إلى الموت، وهم لا يسيرون قطعاً إلى الموت وراء قائد لا يثقون به.
ولكنَّ القول بأن العقيدة الراسخة ضرورية لكل قائد لا تغني عن كل قول، فالواقع أنها الأساس الرصين للقيادة الرصينة المنتصرة، وعلى هذا الأساس تبنى صفات القائد المنتصر الأخرى.
وكما يُشَيَّد البناء الشامخ المتين على أساس قوي متين، كذلك تشيّد كل صفات القائد المنتصر على أساس العقيدة الراسخة المتينة، وبدون هذه العقيدة لا قيمة لصفات القائد الأخرى كما لا قيمة للبنيان المشيد على جرف هار.
بل يمكن القول، بأن العقيدة الراسخة في القائد هي التي تتيح الظروف الملائمة له لتنمية صفات القيادة الأخرى فيه وتهذيبها، فهي
أول الطريق لبناء الصفات القيادية المتميزة.
فإذا تيسَّرت العقيدة الراسخة في القائد، بدأ طريقه على هدي وبصيرة، وكان الأمل كبيراً في نجاحه قائداً منتصراً.
ولكن العقيدة وحدها بدون توفّر صفات القيادة الأخرى في القائد، لا تكفي للقائد المنتصر الذي يؤمل على يديه للبلاد والأمة خير كثير.
وقد كان الصحابة عليهم رضوان الله في قمة التقوى والورع، ولكن الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام ولَّى المناصب القيادية قسماً من صحابته توفرت فيهم العقيدة الراسخة أولاً والصفات القيادة الأخرى ثانياً.
وسار على هدي النبي صلى الله عليه وسلم من بعده خلفاؤه الراشدون.
وسار على هدي الرسول القائد والخلفاء الراشدون كل مَنْ يريد خدمة (أمته) لا خدمة (شخصه) الكريم.
ومجمل صفات القائد المنتصر هي: العقيدة الراسخة، والمحبة المتبادلة بينه وبين رجاله، والثقة المتبادلة بينهما، والشخصية القوية النافذة، والإرادة الصلبة الحازمة، والخلق القويم، والقابلية على بناء الرجال تدريباً وتهذيباً، والحظ الموفق السعيد، والعقل الراجح الحصيف، والتربية العملية للإدارة والقتال، والسمعة الحسنة المشرفة، والعلم العسكري المتين، والمثال الشخصي الرفيع، والحذر واليقظة، والحرص الشديد، والشجاعة النادرة، والخبرة بالرجال، والضبط القوي المتين، والعمل الدائب المستمر بدون كلل ولا ملل، وإجراء
التفتيش الدقيق على أتباعه وقضاياهم الإدارية، والتنظيم المنطقي السليم، والتبعية المتميزة المبتكرة، والشورى، والصبر الجميل، وتحمُّل المسؤولية، والقابلية البدنية، وإتقان مبادئ الحرب، وإصدار القرارات الصحيحة بسرعة، والمعنويات العالية.
تلك هي مجمل صفات القائد المتميّز المنتصر، مقتبسة من المصادر العسكرية الأصيلة، ولعلَّ أول هذه الصفات وأهمها على الإطلاق، هي صفة: العقيدة الراسخة.
ولا بدَّ من توفر أربعة شروط في القائد المتميز المنتصر: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية، والعقيدة الراسخة.
الطبع الموهوب هبة من هبات الله سبحانه وتعالى، فكلٌّ ميسَّر لما خُلِق له، قائداً أو مهندساً أو طبيباً أو أستاذاً أو عاملاً أو فلَاّحاً.
ولكن الطبع الموهوب لا يكفي، بل لا بدَّ من إتقان العلوم العسكرية بالدرس والتمحيص والبحث والتدقيق - خاصة في هذا العصر الذي تطوَّرت فيه العلوم العسكرية، وأصبح لاثنين وستين علماً من العلوم الأخرى علاقة مباشرة بالعلوم العسكرية.
ويأتي دور التجربة العملية، وذلك بتسخير الطبع الموهوب والعلم المكتسب لميدان التطبيق العملي.
أعرف قادة في ذروة العلم المكتسب والتجربة العملية، ولكنهم لا يملكون الطبع الموهوب، فكانوا مدراء مكاتب لا قادة ميدان.
وأعرف قادة فيهم الطبع الموهوب والعلم المكتسب، ولكن
تنقصهم التجربة العملية، فكانوا أقرب إلى الهواة منهم إلى القادة المحترفين.
وأعرف قادة فيهم الطبع الموهوب والعلم المكتسب، ولكن تنقصهم التجربة العملية، فكانوا أقرب إلى الهُواة منهم إلى القادة المحترفين.
وأعرف قادة فيهم الطبع الموهوب والتجربة العملية، ولكن ينقصهم العلم المكتسب، فكانوا أقرب إلى المغامرة منهم إلى الفن العسكري الأصيل.
وأعرف موظفاً في قسم الترجمة التابع لمديرية التدريب العسكري، كان حجة في العلوم العسكرية يحفظها عن ظهر قلب، ولكنه بدون تجربة عملية وطبع موهوب، فكان لا يستطيع قيادة دجاجة واحدة.
وأعرف قادة فيهم الطبع الموهوب والعلم المكتسب والتجربة العملية، ولكن تنقصهم العقيدة الراسخة، فلم يكونوا موضع ثقة رجالهم، وكانوا بوادٍ ورجالهم بواد.
والمهمّ في هذه الظروف التي تجتازها الأمة العربية، هو اختيار القائد المناسب للقيادة المناسبة؛ فيجب على أولياء العرب والمسلمين أن يولوا كل عمل قيادي أصلح من يجدونه لذلك العمل بعيداً عن الأهواء والأغراض الشخصية.
وقد كنت ولا أزال وسأبقى واثقاً كل الثقة مؤمناً غاية الإيمان، بأن الأمة التي أنجبت الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام
والقادة الراشدين وقادة الفتح الإسلامي من الصحابة والتابعين أمثال خالد بن الوليد والمثنّى بن حارثة الشيباني وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجرَّاح وعمرو بن العاص وعقبة بن نافع وطارق بن زياد ومحمد بن القاسم وقتيبة بن مسلم الباهلي رضي الله عنه م؛ وأنجبت القادة المنتصرين بعد الفتح الإسلامي من أمثال أسد بن الفرات فاتح صقلية وقطز قاهر التتار وصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح
…
هذه الأمة العريقة لن تعجز أبداً عن إنجاب أمثالهم من القادة الفاتحين.
فأين مَن يجد القائد المناسب للقيادة المناسبة، بعيداً عن الهوى وعن المصالح الشخصية؟
…
أين؟؟.
أين المسؤول العربي أو المسلم، الذي يرتفع إلى مستوى إيثار المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؟!.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَنْ وَليَ من أمر المسلمين شيئاً، فولَّى رجلاً وهو يجد مَن هو أصلح منه للمسلمين، فقد خان الله ورسوله".
وفي رواية: "مَن قلَّد رجلاً عملاً على عصابة (1) وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين"(2).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "مَن وَليَ من أمر المسلمين شيئاً، فولَّى رجلاً لمودَّة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين"(3).
(1) العصابة: الجماعة من الناس.
(2)
رواه الحاكم في صحيحه.
(3)
السياسة الشرعية لابن تيمية، 9 - 10.
فيجب على كل من وليَ شيئاً من أمر المسلمين، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع: أصلح من يقدر عليه؛ ولا يقدِّم الرجل لكونه طلب الولاية أو سَبَقَ في الطلب، بل ذلك سبب المنع. فقد جاء في الصحيحين: البخاري ومسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنَّ قوماً دخلوا عليه فسألوه ولاية، فقال: إنَّا لا نولي أمرنا هذا من طلبه".
إن اختيار القائد المناسب للقيادة المناسبة، أمانة في أعناق المسؤولين، وصدق الله العظيم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنفال 8: 27].
وقد دلَّت سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الولاية أمانة يجب أداؤها، مثل قوله لأبي ذر حين سأله أن يولّيه منصباً من المناصب:"إنها أمانة، وإنه يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"(1).
وروى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا ضُيِّعت الأمانة، انتظر الساعة"، قيل: يا رسول الله، وما إضاعتها؟ قال: "إذا وُسِّد (2) الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
والذي يدهش حقّاً في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، هو حرصه الشديد على إبراز نموذج رفيع لتفكير:(رجل الدول) حسب الاصطلاحات الحديثة، فقد كان عليه أفضل الصلاة والتسليم:(رجل الدولة) بكل ما يعنيه هذا التعبير.
(1) رواه مسلم.
(2)
وسِّد الأمر إلى فلان: أسند إليه القيام بتصريفه.