الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العثماني يتنسطون الأخبار ويكتبونها في ورقة، حتى إذا ما جن الليل ثبتوها في السهام وقذفوا بها إلى المدينة، وكذلك كان يفعل جواسيس السلطان داخل القسطنطينية.
وقد أظهر الروم البخل والشح حتى في هذا الوقت الذي تستهدف فيه مدينتهم لأعظم الأخطار، فقد خبَّأ الأغنياء أموالهم وكنوزهم وضنُّوا بها على وطنهم، فصارت فيما بعد غنيمة باردة للعثمانيين، كما أبى كثير من الروم أن ينقلوا الأحجار والتراب إلى السور إلا إذا أخذوا أجراً على هذا العمل، واضطرَّ اللاتين أن يدفعوا لهم ما طلبوا.
ولكن الروم واللاتين قصدوا الكنائس وعلى رأسهم قسطنطين للدعاء!
18 - الهجوم العام:
في الساعات الأولى من يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثمانمئة الهجرية (29 مايس - مايو - 1453 م) سمعت فجأة في المعسكر العثماني دقة ضخمة بالطبل إيذاناً للجند بالتأهُّب أعقبتها ثلاث دقَّات أخرى مثلها، ثم تتابعت الدقات في جميع أرجاء المعسكر ونفخ في الأبواق وتصاعدت التكبيرات مجلجلة مدوية من اتجاهي البر والبحر. وكان لذلك كله دوي هائل مخيف في ذلك السكون العميق المظلم، أثار الفزع والرعب في قلوب أهل القسطنطينية، وهرع كثير منهم إلى الكنائس التي دقت أجراسها، وانطلق الجنود العثمانيون يهجمون على سور القسطنطينية من البر والبحر طبقاً للخطة المرسومة التي وضعها الفاتح وأصدرها إلى قادته.
وكان أشد الهجوم وأعنفه قد ركز نحو وادي (ليكوس) الواقع بين (طوب قبو) في الجنوب، وباب (أدرنه) في الشمال. وكان هذان البابان يقعان على نشز مرتفع، ويقع الوادي بينهما متطامناً منخفضاً، وكان السور القائم في تلك المنطقة وبخاصة الجانب الذي يلاصق (طوب قبو) قد تهدَّم تهدُّماً كبيراً، فأقام جستنيان مكانه متراساً قوياً تحصَّن به.
وقد قسَّم الفاتح جنوده الذين يقاتلون في هذه المنطقة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول مؤلف من جنود الرومللي والمتطوعين المستجدِّين من أجناس مختلفة، وقد تقدَّم هؤلاء الجنود إلى الأمام، حتى إذا صاروا على مرمى قوس من السور توقفوا وأخذوا يمطرونه بالقذائف والسهام، فردَّ عليهم المدافعون بالمثل. واندفع فجأة تحت هذا الوابل من القذائف والسهام كثير من المهاجمين نحو السور وأقاموا عليه مئات السلالم لتسلّقه، فأسرع المدافعون وقلَّبوا هذه السلالم بمن كان عليها، وقذفوا وراءهم الصخور والأحجار الضخمة. ولم يمنع ذلك المهاجمين من معاودة تسلُّق السور مرة بعد مرة، ونجح قسم كبير منهم في ارتقائه واحتلال موطئ قدم عليه. وحدث صراع عنيف بالسلاح الأبيض، فالتحم الطرفان في معركة ضارية استمات فيها جستنيان ورجاله، واستطاعوا ردّ المهاجمين على أعقابهم، وقد استمرَّ هذا القتال العنيف نحو ساعتين.
وأمر السلطان هذا القسم من الجند بالانسحاب، ودفع إلى الهجوم القسم الثاني من جنوده وهم جنود الأناضول. أما المدافعون
فقد ظنُّوا لأول وهلة عند انسحاب المهاجمين أنهم قد دحروا العثمانيين، ولكنهم لم يكادوا يتنفسون الصعداء، حتى بوغتوا بهجوم أشدّ وطأة وعنفاً من الهجوم الأول، فقد كان جنود الأناضول أحسن تدريباً وأفضل تنظيماً وأشدَّ ضبطاً وأكثر مراساً في القتال.
ومن الواضح أن السلطان كان يرمي من هجومه الأول استنزاف طاقات المدافعين وإرهاقهم، قبل أن يضربهم الضربة الشديدة القاضية، فاستخدم جنوده الذين كانوا من الدرجة الثانية تنظيماً وتدريباً وضبطاً وتجربة، واستطاع تحقيق هدفه الابتدائي من الهجوم.
كانت أشعة الفجر قد بدأت تنير المكان، وبذلك انتهى هجوم العثمانيين الليلي ليبدأ هجومهم النهاري.
واندفع العثمانيون يهاجمون السور، وقد لبس قسم منهم الدروع وهم يهلِّلون ويكبِّرون، وأقام كثير منهم السلالم للتسلُّق.
وأدرك قسطنطين خطورة الموقف، فأتى إلى هذا المكان بمزيد من الجند وآلات الرمي والقذف، ونصب مدافع صغيرة؛ ونشط جستنيان وجنوده المدرَّعون، وقاوموا هذا الهجوم مقاومة عنيفة باسلة، وصبُّوا قذائفهم ونيرانهم الحامية على المهاجمين، وقلبوا السلالم التي أُسندت إلى السور، ولكن ذلك لم يزد العثمانيين إلا حماسة وشدة في القتال وتصميماً على إحراز النصر.
ووقف الفاتح على ظهر حصانه يرقب هذه المعركة الدامية، وكان أشد القتال يجري على السور نفسه، حيث التحم المهاجمون والمدافعون بالسلاح الأبيض، ولكن القذائف والسهام التي صبَّت بكثافة على
المهاجمين كبَّدتهم خسائر فادحة بالأرواح.
وأمر السلطان الفاتح بانسحاب جنوده، كما أمر بتكثيف نيران المدفعية على السور ومواقع المدافعين، فنصبت المدافع في أقرب مكان من السور، وأخذت تقصف المنطقة التي يدافع عنها جستنيان. وتحت ستار قصف المدفعية الكثيف زحف الجنود العثمانيون، وهاجموا مرة أخرى السور، ولكن جستنيان وجنوده ثبتوا لهذا الهجوم أيضاً.
وبينما كان القتال مستعراً عنيفاً مريراً عند السور البرّي، كان هناك قتال آخر لا يقلّ عنفاً وشدّة وضراوة في البحر؛ فقد أخذت السفن العثمانية بقيادة أمير البحر حمزة باشا في بحر (مرمره) وكذلك السفن العثمانية الراسية في (القرن الذهبي) أمكنتها من السور، وأخذ الجنود يطلقون عليه قذائفهم ونبالهم، وأخذ فريق منهم يتسلقونه بالسلالم والحبال وغيرها من أدوات التسلُّق، والتحموا في صراعٍ دامٍ مع المدافعين الذين هبُّوا إلى قذف السلالم إلى البحر وإطلاق النيران والسهام والقذائف على الجنود العثمانيين.
وقد أثار هذا الهجوم الشديد من ناحية البحر الفزع والرعب بين سكان القسطنطينية، وجأرت أصواتهم بالدعاء والضراعة، ودقّت أجراس الكنائس دقات شديدة متوالية. وظلَّ الصراع على جانبي السور البحري على هذا النحو من الشدّة والعنف إلى آخر الحصار؛ وإذا كان العثمانيون لم يفلحوا في اقتحام المدينة من ناحية الأسوار البحرية، فإنهم شغلوا عدداً كبيراً من المدافعين الذين كان بالإمكان استخدامهم لتقوية الدفاع على الأسوار البرية.
أما جنود الأناضول الذين كانوا يهاجمون وادي (ليكوس)، فقد أمرهم محمد الفاتح بالانسحاب، وكان المدافعون قد بلغوا أقصى المدى من الكلال والجهد والإعياء، وكان الفاتح يرمي من هذه الهجمات المتواصلة إرهاق المدافعين وإجهادهم واستنزاف طاقاتهم قبل أن يضربهم الضربة الأخيرة القاضية.
واغتبط جستنيان ورجاله بانسحاب العثمانيين، وارتفعت صيحات الفرح والنصر من جوانب السور، وقال جستنيان للأمبراطور قسطنطين وقد طفح وجهه بالبشر:"يا صاحب الجلالة! اطمئنوا، فإن سيوفنا قد ردَّت العدو".
ولم يكد جستنيان يأخذ قسطه من الراحة، ولم يكد السلطان الفاتح يسحب رجاله من السور، حتى أمر مدفعيته بقصف السور بشدة وعنف، ثم جاء بالقسم الثالث من جنوده وهم الانكشارية وكانوا خير الجند تدريباً وتنظيماً وضبطاً وحنكة وبسالة وقيادة، وأصدر إليهم أوامر الهجوم.
كان تنفيذ خطة الهجوم في هذه المرة أكثر إحكاماً ودقة، وكان الشيوخ والعلماء يشجعونهم ويحرضونهم على القتال والجهاد، وكان الصبح قد أضاء وأمكن رؤية كل شيء بسهولة ووضوح.
وقاد السلطان الفاتح بنفسه هؤلاء الجنود إلى حافة الخندق، وهناك أمر الرماة والنبالة بأن يمطروا المدافعين بالنبال والسهام بحيث لا يقدر أحد منهم أن يطل برأسه من فوق السور.
وتحت هذا الستار الكثيف من النبال المنهمرة الكثيفة، زحف
الانكشارية وهاجموا السور كالأسود، وكان هجوماً هائلاً اهتزَّت له جوانب القسطنطينية؛ وفي مثل لمح البصر، أقام كثير منهم السلالم على السور وقفزوا منها إلى أعلى السور في خفَّة مدهشة؛ وكانت تكبيراتهم العالية ودقات الطبول الضخمة وقصف المدفعية الكثيف تُحدث دوياً يصمّ الآذان وتلقي الرعب والفزع في نفوس سكان القسطنطينية وتؤثر في معنوياتهم وتزعزعها وتؤدي بها إلى الانهيار.
وحمي وطيس القتال وبلغ أقصى مداه من العنف والشدة، لاسيما عند (طوب قبو) وباب (أدرنه)، وقد أدرك الفريقان أنها الساعة الأخيرة الحاسمة من تلك المعركة التي بدأت من خمسين يوماً.
وأصيب جستنيان بجرح بالغ عجز عن احتماله، فأزمع على الانسحاب من الميدان لتضميد جرحه، وطلب إلى الإمبراطور أن يتولَّى القيادة مكانه. وارتاع قسطنطين لهذا الأمر، ورجا جستنيان ملحّاً في رجائه ألَاّ يترك مكانه، فإنَّ ذلك سيفتّ في عضد الجند ويثبّط عزيمتهم في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى مَن يشدّ أزرهم، وإن مصير المدينة كلها متوقّف على قراره، ولكن جستنيان أصرَّ على أن يُنقل في الحال إلى سفينته الراسية في الميناء.
ويظهر أنه كان قد أَيِسَ من استمرار الدفاع وصدّ العثمانيين عن القسطنطينية، فآثر الانسحاب والنجاة بنفسه. ونُقل القائد الجنوي إلى سفينته الراسية وراء السلسلة في (القرن الذهبي)، ومن هناك نُقل إلى
جزيرة (خيوس) حيث قضى نحبه، بل لعله قد مات قبل وصوله إليها.
وتولَّى قسطنطين القيادة المباشرة بنفسه، وحاول رفع معنويات
رجاله المنهارة دون جدوى.
وكان هجوم الانكشارية يزداد عنفاً وشدَّة في هذه المنطقة، وارتقى كثير منهم أنقاض السور، وثبتوا أقدامهم فيها. واشترك السلطان الفاتح بنفسه في هذه المرحلة الأخيرة من الصراع، فاجتاز الخندق بحصانه، وأخذ يدير القتال بنفسه.
ولم يمضِ وقت طويل على انسحاب جستنيان وتولّي قسطنطين مكانه في القيادة بمنطقة (طوب قبو)، حتى انطلقت من الجهة الشمالية للسور صيحات عالية مفزعة ما لبثت أن سرت في جميع أنحاء المدينة وهي تدوي: لقد دخل العثمانيون المدينة
…
والتفت قسطنطين إلى الشمال، فإذا الأعلام العثمانية ترفرف على بعض الأبراج القريبة من باب (أدرنه).
وكان يقود القوات العثمانية في هذه المنطقة (قره جه بك)، وقد حاول من قبل ذلك اقتحام هذا الباب فأخفق، فجمع قواته وشنَّ عليه هجوماً آخر أشدّ عنفاً وقوة، فزحزح المدافعين عن أماكنهم، ووثب جنوده على أنقاض السور المتراكمة إلى جنوب هذا الباب، وتمكَّن أحدهم من قتل قائد الحامية، وبمقتله انهارت مقاومة المدافعين، فولّوا هاربين وتدفَّقت جموع العثمانيين نحو المدينة.
فلما رأى قسطنطين الأعلام العثمانية المرفرفة، أطلق العنان لفرسه واتَّجه نحو الشمال ليستخبر عن الأمر بنفسه، فإذا جموع العثمانيين تتدفَّق إلى المدينة كالسيل. ونزل قسطنطين عن حصانه، وخلع ملابسه الامبراطورية وسلَّ سيفه وأخذ يخبط به ذات الشمال
وذات اليمين، حتى كلَّت يده وأصابه أحد الجنود العثمانيين بضربة سيف قاتلة، فخرَّ صريعاً مضرَّجاً بالدماء.
وصاح صائح بأن الإمبراطور قد قُتِل، فزاد ذلك في فزع سكان القسطنطينية ورعبهم.
ولم يقف بعد ذلك شيء في وجه العثمانيين لدخول المدينة، فقد تفتَّحت لهم جميع الأبواب والمنافذ، بعد أن فرَّ حماتها وذهبوا يلتمسون النجاة لأنفسهم. واشتدَّ الهرج والمرج في المدينة، واختلط الحابل بالنابل، وتزاحم الناس يدفع بعضهم بعضاً، كل يطلب النجاة فلا يدري أين يجدها.
أما عن القتال في جانب البحر، فقد ناجز العثمانيون من فوق سفنهم الراسية في بحر (مرمره) المدافعين، وظلُّوا على ذلك إلى أن رُفعت الأعلام العثمانية فوق الأبراج القائمة على السور البري، فرآها المدافعون، فخارت قواهم واستخذت عزائمهم، فمنهم من استسلم، ومنهم مَن فرَّ مع الفارّين.
وانتهت صفحة من صفحات تاريخ القسطنطينية الطويل بهزيمة البيزنطيين، وبدأت صفحة جديدة من صفحات تاريخها الطويل بفتح العثمانيين.
وكان آخر سطر من سطور آخر صفحة من صفحاتها البيزنطية:
أن قسطنطين آخر أباطرة الروم مات بشرف في ساحة القتال، وآثر شرفه على حياته، فسقط صريعاً ولم يسقط السيف من يده.
وكان أول سطر من سطور أول صفحة من صفحات العثمانية،