الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب) كان أسد رجلاً صالحاً فقيهاً عالماً (1) ورعاً (2)، وكان مشهوراً بالعلم والدين (3)، يكفي أن نذكر من عِلمِه أنه مصنّف كتاب (الأسدية) في فروع المالكية، وهو من أقدم مصادر الفقه المالكي.
قال بعض رجال سليمان بن عمران: "كان أسد إذا قرأ علينا يقول: اسكتوا علِّي أسرد عليكم دوياً في أذني. قال: وربما رأيته يدق بيده على صدره ويقول: يا حسرتا. إن متُّ ليدخلنَّ القبر مني علم كثير". وبسبب أسد ظهر علم أهل الكوفة بالمغرب (4).
وقد رحل إليه الناس من البلدان وسمعوا عليه وتفقهوا به (5).
وكان لأسد بيان وبلاغة، إلا أنه بالعلم أشهر منه بالأدب (6).
لقد ترك أسد آثاراً خالدة في العلم والفتح على حدٍّ سواء.
4 - القائد:
1) كان انتصار أسد على (بلاطة) في المعارك الأولى التي خاضها على الروم انتصاراً تعبوياً فقط، لأن قوات (بلاطة) كانت قوات الروم المخصصة للدفاع الفوري عن الجزيرة، فكان على أسد أن يستثمر انتصاره التعبوي، وذلك بسرعة اندفاعه لفتح مناطق الجزيرة الحيوية
(1) معجم البلدان 5/ 374.
(2)
العيون والحدائق 372.
(3)
معالم الإيمان 2/ 11؛ ورياض النفوس 1/ 181.
(4)
العيون والحدائق 372.
(5)
رياض 1/ 181.
(6)
الحلة السيراء 1/ 381.
كافة، ويطلب الأمداد العاجلة لتدعيم قواته بحيث تكون مستعدة لمواجهة قوات الروم الأصلية بعد قدومها من (القسطنطينية)، ودحرها في المعركة الحاسمة المتوقَّعة.
ولا يتم له ذلك إلا بحشد قواته الضاربة في المنطقة الحيوية من الجزيرة، وعدم تشتيتها في جبهة واسعة دون مسوِّغ.
2) ومن الواضح أن معركة أسد الحاسمة لفتح الجزيرة، بدأت بعد قدوم أمداد الروم إلى (صقلية)، وبذلك أصبح أسد يواجه جيش الإمبراطورية البيزنطية لا جيش الروم المحلي في الجزيرة، لهذا لم تكن قواته كافية في دحر جيش الروم الذي تحشد في (سرقوسة) على الرغم من ورود الأمداد للمسلمين، لأن قوات أسد كانت مبعثرة في جبهة واسعة.
لقد كان أسد يخوض معركته الحاسمة حول أسوار (سرقوسة) المنيعة، فكان عليه أن يحشد قواته كافة في تلك المنطقة الحيوية لإحراز النصر على قوات الروم، لا أن يوزعها في جبهة تمتد إلى حوالي مئتي كيلو متر من (مازر) إلى (سرقوسة) إلى (بلرم) وذلك أدَّى إلى قلب خطط أسد رأساً على عقب، فقد أصبحت خططه (دفاعية)، بينما كان يجب أن تبقى (هجومية)، والدفاع - كما هو معلوم - لا يؤدي إلى الفتح الذي هو هدف أسد الحيوي.
3) إن إرسال أسد قسماً من قواته الضاربة إلى (بلرم)، وتوزيع قسم من قواته في مناطق أخرى، في مثل ذلك الوقت، وفي مثل تلك
الظروف يتنافى ومبدأ (حشد القوة)(1) من أهم مبادئ الحرب (2) وبذلك أصبح أسد ضعيفاً في منطقة (سرقوسة) ومنطقة (بلرم) أيضاً. وقد كان في إمكانه أن يترك قواتاً صغيرة (للمشاغلة) فقط في المواقع الثانوية، والإفادة من قواته كافة في المعركة الحاسمة التي تدور رحاها حول (سرقوسة).
4) كان أسد مؤمناً حقاً، يتحلَّى بمعنويات عالية، وشجاعة فائقة، ولكن ذلك كله ليس كافياً للقائد المتميز، إذ يحتاج مضافاً إلى تلك المزايا - إلى مزية الخبرة العملية في أمور القتال، ومزية التدريب على فنون الحرب.
والخبرة العملية في الشؤون الحربية، يحصل عليها القائد، بممارسة القتال، والتدريب المستمر على استعمال السلاح، فكلما كثرت مشاهد القائد، ودأب على التدريب: ازدادت خبرته ونمت وأينعت.
إن الخبرة العملية لا تأتي بالدراسة النظرية فحسب، بل بالممارسة العملية. وقد تعمل الدراسة النظرية على تهذيب الخبرة العملية، وتقوية أصولها، والإسراع في نضج ثمراتها، إلا أن الدراسة النظرية وحدها، لا تكفي مطلقاً في هذا المجال.
(1) حشد القوة: هو حشد أعظم قوة أدبية وبدنية ومادية، واستخدامها في الزمان والمكان الجازمين؛ انظر: الرسول القائد 449.
(2)
مبادئ الحرب: هي الجوهر الذي ينشىء في القائد السجية الصحيحة في تصرفاته خلال الحرب، وهي العنصر الذي يتكوَّن منه مسلك القائد في أعماله الحربية بصورة طبيعية وغير متكلّفة؛ انظر: الرسول القائد 443.
إن القائد الحق، هو الذي يمتلك الطبع الموهوب، والعلم المكتسَب، والتدريب العملي على فنون القتال، والخبرة العملية تطبيقاً لمبادئ الحرب في ساحات الحروب.
لقد كانت تعوز أسداً الممارسة الكافية للحروب، والخبرة العملية الضرورية لمعالجة متطلّباتها.
5) لقد كان أسد مؤمناً غاية الإيمان بقدسية الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، فكان مجاهداً من الطراز الأول.
إنه كان يتمنى على الله أن ينال ثواب المجاهدين الصابرين المحتسبين، فعمل جاهداً على تحقيق هذه الأمنية الغالية حقاً، وعندما أصابت المسلمين مجاعة في (صقلية)، عرض أحد زعمائهم على أسد، أن يرجع بالمسلمين إلى (إفريقية)، فقال أسد:"ما كنت لأكسر غزوة على المسلمين، وفي المسلمين خير كثير"(1).
لقد رفض أسد العودة بالمسلمين إلى قواعدهم في (إفريقية)، على الرغم من المجاعة التي حاقت بهم، لأنه لم يرد أن يحرم نفسه ولا أن يحرم مَن معه من المسلمين فضل الجهاد، فنال هو، ونال كثيرٌ من رجاله، أعلى مراتب المجاهدين: الشهادة في سبيل الله.
6) وكان من مزايا قيادته، أنه كان يتمتع بعقلية منظَّمة في تصريف أمور قيادته، تلك العقلية المنظَّمة التي كانت نتيجة لدراساته الفقهية الطويلة. قال لفيمي: "اجعلوا على رؤوسكم سيما (علامة)
(1) رياض النفوس 1/ 189؛ ومعالم الإيمان 2/ 6.
تعرفون بها، لئلا يتوهَّم واحد منا، أنكم من هؤلاء المواقفين لنا، فيصيبكم مكروه"، فجعلوا على رؤوسهم الحشيش، فكانت تلك سيماهم (1)، مما يدلُّ على تفكيره المنظَّم، الذي يتغلغل في تفاصيل الأمور.
7) إنه مجاهد أصيل، كان له في قتال الروم آثار مشهورة، ومقامات مذكورة (2) ولكنه كان قاضياً في قيادته، يتحكَّم فقهه وورعه في تصريف أمور جنده، فكان كما قال:"أصابوا من يجري لهم مراكبهم من النواتية، فما أحوجهم إلى من يجريها لهم بالكتاب والسنة"(3)، فهو يتلو الأوراد ويزمزم ويقرأ سورة (يس) وغيرها من سور القرآن الكريم في أوج معمعان المعركة (4) ويرفض معاونة غير المسلمين له في حربه، لأنه كان يؤمن إيماناً عميقاً، أنَّ النصر من عند الله، لا من عند أحد غيره.
كان رأس سلاحه في حربه: تقوى الله وحده، وكثرة ذكره، والاستعانة به، والتوكل عليه، والفزع إليه، ومسألته التأييد والنصر والسلامة والظفر (5)، وكان مقداماً شجاعاً مجاهداً صابراً، يثق بنفسه (6)، ويثق برجاله، ويبادلونه ثقة بثقة وحباً بحب، له ماضٍ ناصع مجيد.
(1) رياض النفوس 1/ 188؛ ومعالم الإيمان 2/ 6.
(2)
رياض النفوس 1/ 173.
(3)
رياض النفوس 1/ 187.
(4)
قضاة الأندلس 54، وزَمْزَمَ: صَوَّت من بعيد تصويتاً له دوي غير واضح.
(5)
مختصر سياسة الحروب 15؛ وانظر: الأحكام السلطانية 6.
(6)
كان أسد يقول: "أنا أسد، والأسد خير الوحوش. وأبي فرات، والفرات خير الماء.
وجدي سنان، والسنان خير السلاح" انظر: الحلة السيراء 2/ 380، والمكتبة 331.