الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن السلطان الفاتح، صمَّم أن يكون له عرش في القسطنطينية أو يكون له قبر فيها، فاعتلى العرش لأنه طلب الموت فوهبت له الحياة.
ليت قادة العرب والمسلمين اليوم يتلقَّون هذا الدرس الثمين.
19 - الفاتح في القسطنطينية:
وقف محمد الفاتح وهو على صهوة جواده ينظر إلى جنوده وهم يدخلون من كل حدبٍ وصوب مدينة القسطنطينية ترفرف عليهم أعلام النصر، وأقبل عليه كبار رجاله تطفح وجوههم بالبشر والسعادة يهنِّئونه بالفتح، فكان الفاتح يجيبهم:"حمداً لله، ليرحم الله الشهداء، ويمنح المجاهدين الشرف والمجد ولشعبي الفخر والشكر".
أما أهل القسطنطينية فقد تملَّكهم الخوف والذعر، إذ كانوا يعتقدون أن العثمانيين وحوشٌ كاسرة. ولعلَّهم ذكروا دخول الصليبيين مدينتهم قبل قرنين ونصف، وما ارتكبوه فيها من التقتيل والتدمير والتحريق.
وكان معظم سكان القسطنطينية قد لجؤوا إلى الكنائس وبخاصة كنيسة آياصوفيا التي غصَّت بجموعهم، وغلقوا على أنفسهم الأبواب.
وعند الظهيرة توجَّه الفاتح إلى القسطنطينية على ظهر جواده، يحفّ به كبار رجال دولته وحرسه، وقد أعجبته المدينة بآثارها الرائعة ومبانيها الفخمة، وكان ألوف من العثمانيين يحيطون بموكبه.
ولما بلغ الفاتح منتصف المدينة توقَّف عن السير وقال لمن حوله من الجند: "أيها الغزاة المجاهدون! حمداً لله وشكراً، لقد أصبحتم فاتحي
القسطنطينية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتفتحنَّ القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش) "، ثم هنَّأهم بالنصر ونهاهم عن القتل والنهب والسلب، وأمرهم أن يكونوا أهلاً للشرف الذي حباهم به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وترجَّل الفاتح عن فرسه، واستقبل الكعبة وسجد على الأرض، وحثا التراب على رأسه شكراً لله على ما منحه من توفيق ونصر. ثم استأنف سيره إلى كنيسة آياصوفيا، ولما اقترب منها، وصلت إلى سمعه أصوات خافتة حزينة هي أصوات الصلوات والدعوات التي كانت تجري فيها. وقصد الفاتح إلى أحد أبواب الكنيسة، وكان باباً منيعاً حصيناً، فوجده مغلقاً. وعلم الراهب بمقدم الفاتح، فأمر بفتح ذلك الباب على مصراعيه، وانتاب الناس خوف عظيم وفزع لحضور السلطان، وتوجَّسوا شرّاً وقطعوا ما كانوا فيه من الصلاة والدعاء، وساد بينهم لغط وضجيج؛ فما كان من الفاتح إلا أن طلب من الراهب أن تستمر الصلاة كما كانت من قبل، وأن يبقى كل إنسان في مكانه دون أن يجزع، فتمّت الصلاة في هدوء وأمان.
وسجد الفاتح مرة أخرى سجدة الشكر، وأخذ يحمد الله ويشكره، ثم طلب إلى الراهب أن يأمر المصلين بالعودة إلى منازلهم آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يعود كل إنسان إلى ما كان يمارسه من قبل من عمل وحرفة. ونزل هذا الكلام برداً وسلاماً على هؤلاء الناس الذين كانوا يتوقَّعون أن ينزل بهم أشدّ أنواع البطش والتنكيل، وشاعت في نفوسهم الراحة والطمأنينة، وبعث الفاتح إلى مختلف أرجاء المدينة نفراً من رجاله لتأمين الناس وليعودوا
إلى حياتهم العادية.
وفيما كان الفاتح يطوف بأرجاء كنيسة آيا صوفيا، إذ سمع قرعاً ونقراً من ورائه، فالتفت فرأى أحد جنوده يضرب بفأس في يده عموداً من المرمر كانت معلقة عليه إحدى الصور المقدسة عن المسيحيين.
واقترب الفاتح من الجندي وقال له غاضباً: "ماذا تعمل"؟! فأجابه الجندي الأمي بكل بساطة: "ألستَ مسلماً؟ أريد محو آثار الكفار"!
فقال له الفاتح: "ليس من الحق تخريب المعبد"، ثم خطف الفأس من يده وضربه بها على رأسه.
وكان نفرٌ من الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة خوفاً من القتل، فلما سمعوا بما فعله الفاتح، ولمسوا حسن رعايته للنصارى، خرجوا من مخابئهم وأعلنوا إسلامهم، وعرف أحدهم الذي كان أكبرهم سناً باسم: بابا محمد (1).
وأمر السلطان الفاتح بعد ذلك بتحويل تلك الكنيسة إلى مسجد، وطلب إلى أحد العلماء الذين كانوا برفقته أن يؤذن، فجلجل صوته بالأذان، وأدَّى صلاة العصر، وأعلن أنه سيصلي صلاة الجمعة القادمة في المسجد الجديد.
وقصد إلى قصر الإمبراطور، وتجوَّل في صالاته وغرفه، وقد كان مهملاً بدت عليه الوحشة والظلام والكآبة.
وسأل الفاتح عن قسطنطين وجستنيان ونوتاراس، فلم يأته منهم غير نوتاراس الذي كان يقوم بالإدارة المدنية في القسطنطينية أثناء
(1) أحمد مختار: فتح جليل قسطنطينية.
الحصار. وقد أحسن الفاتح لقاءه وسأله عن الإمبراطور، فأجاب بأنه لا يعلم عنه شيئاً. فسأله السلطان عن مصير جستنيان فأجاب:"إن كل ما يعلمه عنه أن عقب إصابته بالجرح، نقل إلى سفينة راسية بميناء القرن الذهبي"، فأرسل الفاتح من فوره قسماً من رجاله إلى (طوب قبو) للبحث عن الإمبراطور، كما أرسل أناساً آخرين إلى الميناء للبحث عن السفينة التي يرقد فيها جستنيان وإنزاله إلى البرّ وإحضار أمهر الأطباء لمعالجته.
وقد كان السلطان بطلاً يكرم البطولة ولو كانت في ألدّ أعدائه، وكان قد أظهر إعجابه بجستنيان عندما كان يدافع عن السور بحذق ومهارة وبسالة.
وجاء جندي يحمل رأس قسطنطين وقد ظنَّ أنه جاء بما يفرح السلطان، فسأل الفاتح نوتاراس إن كان حقاً هو رأس قسطنطين، فأجاب بالإيجاب وهو يبكي. وعزَّ على السلطان أن يمثّل بالإمبراطور ويُزدرى على هذا النحو، فأمر بقطع رأس ذلك الجندي الذي ارتكب هذه المثلة وأن يُحتفل بدفن الإمبراطور قسطنطين بما يليق بمكانته ومنزلته (1).
وسلك السلطان الفاتح نحو أهل القسطنطينية سياسة التسامح والرأفة، وأمر جنوده بحسن معاملة مَن في أيديهم من الأسرى والرفق بهم، وقد بذل الفاتح ما كان في وسعه لتخفيف آلامهم وفكّ أسرهم، وفدى عدداً من كبار الأسرى بماله الخاص. وكان كثير من سكان
(1) الأب دي كوبيه اليسوعي: كشف المكتوم.
القسطنطينية قد فرُّوا من المدينة عندما دخلها العثمانيون خوفاً من القتل، فأصدر الفاتح بياناً عاماً دعا فيه هؤلاء الفارين للعودة إلى مدينتهم ومنازلهم، وأمَّنهم على حياتهم وأموالهم، ودعا إلى عودة التجار والحرفيين إلى أسواقهم لمزاولة أعمالهم ومهنهم، ووعد الجميع بحريّة العبادة وممارسة شعائر دينهم.
وكان الفاتح يعلم أن الروم متمسِّكون بدينهم، فرأى أن خير ما يجمع شملهم ويشجعهم على العودة إلى بلدهم والاطمئنان إلى حكمه هو أن يظهر العناية بالناحية الدينية. وكانت البطريركية إذ ذاك شاغرة، فعمل على تنصيب بطريرك رومي جديد بنفس المراسيم الفخمة التي كانت تتبع في عهد الأباطرة الأُوَل؛ فاجتمع الأساقفة وانتخبوا (جناديوس) بطريركاً لهم، وقد كان من أقوى المعارضين لاتحاد الكنيستين الشرقية والغربية. وبعد انتخابه سار في موكب حافل من الأساقفة إلى الفاتح، فاحتفى به أعظم احتفاء، وبالغ في تكريمه والترحيب به، وتناول معه الطعام على مائدته، وتحادث معه حديثاً طويلاً، ثم قدَّم إليه بعد ذلك عصا البطريركية وقال له:"إنك البطريرك، وليحفظك الله، واعتمد دائماً على صداقتي ومودّتي، وتمتَّع بكل ما كان يتمتَّع به سلفك من الحقوق والامتيازات".
ولما همَّ البطريرك بالانصراف، نهض له الفاتح ورافقه إلى باب القصر، وأعانه على ركوب الجواد المطهَّم الذي أُعد له، وأمر وزراءه وكبار رجال دولته أن يصحبوه إلى مقره الذي هُيِّئ له.
وقد تأثر البطريرك لما لقيه من محمد الفاتح من بالغ الحفاوة،
وشعر بشيء من الخجل، فقال للسلطان:"إنَّ الأباطرة النصارى لم يفعلوا قط مثل هذا لمن سبقه من البطاركة".
وأصدر الفاتح بعد ذلك مرسوماً للبطريرك أمَّنه فيه على
شخصه، وجعله برتبة الوزراء، وعهد إليه النظر في أمور الروم من الناحيتين الدينية والمدنية كالزواج والطلاق والميراث، فأصبح البطريرك بذلك زعيماً دينياً وسياسياً للروم.
ولم تمضِ بضعة أيام على فتح القسطنطينية، حتى ساد الأمن والسكينة ربوع المدينة، واستأنف الناس حياتهم المدنية العادية في أمن وسلام.
وكان الدوق نوتاراس كما ذكرنا قد قابل السلطان ولقي منه كل حفاوة ورعاية. وقد عاتبه السلطان على عدم تسليم المدينة بعد أن أرسل إليها الإنذار الأخير، فأجاب نوتاراس بأن استمرار المقاومة يرجع إلى الجنود الأجانب وإلى الرسائل التي كان يبعثها أحد وزراء السلطان إلى قسطنطين يحثه فيها على مواصلة المقاومة وعدم الاستسلام، ويطمعه في رفع الحصار، وقد اهتمَّ قسطنطين بهذه الرسائل وعمل بها. وما إن سمع خليل باشا هذا حتى ظهر عليه الارتباك والخوف، وكان واقفاً بجانب السلطان فصاح:"كلا يا سلطاني! من المستحيل أن يوجد في معيَّتكم من يرتكب مثل هذا الخزي والعار. إنَّ هذا الكافر يفتري كذباً، فلا تسمحوا له بالكلام واقطعوا رأسه"، فقال له السلطان:"فلماذا ترتبك إذن؟! ألا تجيب على هذه التهم الموجهة إليك؟! " وعزله السلطان عن الوزارة وعهد بها إلى محمود باشا، ورعايةً لكبر سن خليل باشا، اكتفى بمصادرة أمواله وحبسه، وقد بقي في السجن حتى وافاه الأجل المحتوم.
وأمَّا نوتاراس فقد صفح عنه السلطان وأكرمه ووهب له ولأولاده مالاً كثيراً، وذهب في اليوم التالي إلى بيته لعيادة زوجته المريضة، فواساها وأسبغ عليها من عطفه ورعايته. ولكن نوتاراس ومَن معه من نبلاء الروم أغرتهم هذه المعاملة الحسنة من الفاتح وأطمعتهم، فأخذوا يأتمرون لإخراج المسلمين من القسطنطينية، وبعثوا رسلاً إلى إيطاليا يدعون إلى حملةٍ صليبيةٍ ضدَّهم، فأمر السلطان الفاتح باعتقالهم وقتلهم.
واستعرض الفاتح جنوده بعد فتح القسطنطينية استعراضاً عسكرياً، ومثل هذا الاستعراض من التقاليد العسكرية التي لا تزال متَّبعة في الجيوش الحديثة حتى اليوم، ثم أُقيمت بين الجنود مسابقة في الرماية بمختلف الأسلحة، فأقبلوا عليها بشوقٍ وكفاية. والحقُّ أنَّ الجنود العثمانيين المشاة منهم والفرسان والمدفعية أبدوا مهارةً فائقةً في التصويب الدقيق أثناء الحصار، فحرَّم رماة السهام على المدافعين عن الأسوار الظهور من شرفاتها، ودكَّ جنود المدفعية تلك الأسوار وكانت إصاباتهم مركزةً تركيزاً مباشراً، وكان لتدريب العثمانيين على الرماية تدريباً راقياً أثرٌ كبيرٌ في إحراز النصر.
وقد أقام الفاتح لجنوده بعد انتهاء مسابقة الرماية مآدب حافلةً كرَّم فيها الأبطال الذين برزوا في القتال، والأبطال الذين تفوقوا في الرماية بخاصَّة، وسائر الجنود والمجاهدين والعلماء والشيوخ الذين شهدوا الفتح. وقد استمرت المآدب ثلاثة أيام، أُقيمت خلالها الزينات والمهرجانات والأفراح، وكان السلطان الفاتح يخدم جنوده بنفسه، وقد وزَّع عليهم العطايا والهدايا والمنح.
وفي أثناء الاحتفالات خطب الشيخ العالم الورع آق شمس الدين الذي شحن الجنود بطاقاتٍ دينيةٍ مذهلةٍ في أيام الحصار، فقال:"يا جنود الإسلام! اعلموا واذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأنكم: (لتفتحنَّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويغفر لنا جميعاً. أَلا لا تسرفوا ما أصبتم من أموال الغنيمة ولا تبذروا، وأنفقوها في البر والخير لأهل هذه المدينة، واسمعوا لسلطانكم وأطيعوه وأحِبُّوه"، ثم التفتَ إلى الفاتح وقال له:"يا سلطاني! لقد أصبحتَ قرَّة عين آل عثمان، فكن على الدوام مجاهداً في سبيل الله"، ثم صاح مكبِّراً بصوتٍ جهوري جليد (1).
وقد اهتدى الشيخ آق شمس الدين بعد فتح القسطنطينية إلى قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري بموضعٍ قريبٍ من سور القسطنطينية، فأمر السلطان الفاتح ببناء المسجد والحجرات والقبَّة على ذلك الموضع. وما إن تمَّ بناء المسجد حتى قصد إليه السلطان وأدَّى فيه الصلاة. وهناك نهض الشيخ آق شمس الدين وسلَّم إليه سيفاً عظيماً، وجرت السنَّة بعد ذلك أن يكونَ تقليد السلطان الجديد وتنصيبه في ذلك المسجد.
وبعد ذلك الفتح المبين أُطلقت على السلطان محمد الثاني كنية (أبو
الفتح).
وقد أثار فتح القسطنطينية أشدَّ الفزع والرعب بين أهل (غلطه)، وكانت هذه المدينة أثناء الحصار تعمل بوجهين، وتنافق الفريقين
(1) أحمد مختار: فتح جليل قسطنطينية.
المتقاتلين على السَّواء، فكانت تقدِّم معونتها إلى الفاتح وتنقل إليه أسرار الروم العسكرية، وفي نفس الوقت كانت تنقل إلى الروم أسرار العثمانيين العسكرية وترسل جنودها إلى القسطنطينية للدفاع عنها (1)، وتَزويد المحاصَرين بالمواد التموينية والأسلحة.
وكان الفاتح على علمٍ بكل ما كانت تفعله (غلطه) ضدَّه أثناءَ الحصار، ولكنَّه آثرَ الإغضاءَ إلى أن تواتيهُ الفرصة المناسبة، فلما فتح القسطنطينية رأى حاكم (غلطه) أن يتفادى الاصطدام بالعثمانيين في حربٍ لا قِبَلَ له بها، فبعث إلى السلطان الفاتح في نفس اليوم الذي فُتحت فيه القسطنطينية وفداً يحمل الهدايا ومفاتيح (غلطه) ويلتمس منه عطفه وأريحيَّته، وطلب الحاكم إلى السكان ألَاّ يقلقوا ويظلوا هادئين رابطي الجأش، وأمر السفينة الراسية في الميناء أن تبقى في أماكنها، وكان الحاكم يرمي من وراء ذلك كله أن ينال أفضلَ ما يمكن نيله من الشروط والمزايا.
وجاء زغنوس باشا إلى (غلطه) فأمَّن أهلها باسم السلطان وهدَّأ روعهم، غير أن قسماً من الناس تسللوا في جنح الليل وفرُّوا على السفن، فغضب السلطان الفاتح لذلك، وذكر للوفد الجنوي أنه كان على علم تام بأعمال سكان (غلطه) ومعاونتهم لأهل القسطنطينية أثناء الحصار، وأن ذلك نقض للعهد وخروج على الحياد؛ فطلبوا الصفح من السلطان، وتضرَّعوا إليه في ذلك حتى رضي وعفا عنهم، وأمَّن أهل (غلطه) على حياتهم وأموالهم.
(1) فريدون بك: منشآت السلاطين.
وأصدر زغنوس باشا مرسوماً في هذا الأمر باسم السلطان، ضمن لهم فيه حرية العبادة وبقاء كنائسهم، وأن تكون لهم إدارتهم الداخلية الخاصة وينتخبوا حاكمهم بأنفسهم، وضمن لهم كذلك حرية التجارة في جميع أرجاء الدولة العثمانية براً وبحراً على أن يدفعوا جزية سنوية وتهدم أسوار مدينتهم. وبعد خمسة أيام من فتح القسطنطينية، زار الفاتح مدينة (غلطه)، فنزع عنها جميع الوسائل التي تغريها أو تعينها على العصيان والثورة، فجرَّدها من السلاح وهدم أسوارها من ناحية البر لتكون مفتوحة أمام الجيوش العثمانية، وأبقى على أسوارها من ناحية البحر.
ووجد الفاتح كثيراً من البيوت والمحلات في (غلطه) خاوية قد هجرها أهلها وأصحابها، فأمر بإحصاء هذه المباني وتسجيلها في سجل خاص لكي لا يضيع منها شيء. وبعث الفاتح رسولاً خاصاً ومعه رسالة من الحاكم الجنوي إلى الجنويين الذين فرُّوا إلى جزيرة (خيوس) يدعوهم للعودة إلى (غلطه) حيث يستعيدون جميع أملاكهم، وأمهلهم ثلاثة أشهر - وهي مدة كافية لانجلاء الموقف ومعرفة الحقائق بعيداً عن التهويل والدعايات المعادية والإشاعات المغرضة -، فإن عادوا خلال هذه المدة أعيدت إليهم جميع أملاكهم ومتاجرهم وأموالهم وأمتعتهم، وإلا أصبحت للدولة.
وقد كان استسلام مستعمرة (غلطه) أسوأ ما نزل من الكوارث
بجمهورية (جنوا) الإيطالية، فضاعفت نشاطها وجهودها في محاربة العثمانيين، وأخذت تؤلِّب دول أوروبا لشنّ حرب صليبية شاملة عليها.