الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأشرافهم، وجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على مَن خالفه من قومه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس والجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، فعمد إلى ظل شجر العنب وجلس فيه يقول:"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهمني، أم إلى عدوّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك؛ لك العُتبى (1) حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك"، ثم انصرف من (الطائف) راجعاً إلى مكة حين يئس من خير (ثقيف)(2).
وتحرّج موقفه في مكة، وقَلَّ نصيره فيها، واشتدت مقاومة قريش
لدعوته، وأصبح مقامه بينهم عسيراً.
2 - الهجرة:
وكانت بيعة (العَقَبَة) الأولى وبيعة (العقبة) الكبرى، ثم أمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة قائلاً:"إن الله عز وجل قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها"، فخرجوا أرسالاً (3). وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) العتبى: الرضى.
(2)
عيون الأثر (1/ 134)، وجوامع السيرة (67).
(3)
الأرسال: جمع رَسْل. والرَّسْل: الجماعة من الناس. يقال: جاء القوم أرسالاً: جماعات، بعضهم إثر بعض.
بمكة المكرمة، ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة (1).
ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له أتباع وأصحاب من غيرهم في غير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، وعرفوا أنهم قد نزلوا داراً وأصابوا منهم مَنَعَة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم لأنهم خافوا أن يحاربهم، فاجتمعوا في دار (الندوة) يتشاورون فيما يصنعون من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم:"احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً، ثم تربَّصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله"، وقال آخر:"نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا، فوالله لا نبالي أين يذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وأُلفَتنَا كما كانت". وقال أبو جهل بن هشام: "والله إن لي لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد! أرى أن نأخذ من كل قبيلة شاباً فتىً جَلْداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه فنستريح منه؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فرضوا منا بالعقل (2) فعقلناه لهم"؛ فتفرَّق القوم على ذلك وهم مجتمعون (3).
واجتمع الشباب الذين اختارهم أشراف قريش من القبائل لقتل النبي صلى الله عليه وسلم على بابه ليلاً يرصدونه متى نام ليثبوا عليه، فلما رأى
(1) سيرة ابن هشام (2/ 76).
(2)
العقل: الدية.
(3)
سيرة ابن هشام (2/ 92 - 95).
رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "نَم على فراشي، وتسجَّ ببُردي (1) هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لا يخلُص إليك شيء تكرهه منهم"(2).
هنا تبدو قصة من أجلّ ما عرف تاريخ المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة! كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قد أعدّ راحلتيه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وخرجا من خَوْخَة (3) لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بجبل (ثَوْر) أسفل مكة، فدخلاه ليلاً وأقاما فيه ثلاثاً" (4)، وجعلت قريش حين فقدوه مئة ناقة لمن يردّه عليهم، وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الطلب، حتى انتهوا إلى
باب (الغار)، فقال بعضهم:"إن عليه العنكبوت قبل ميلاد محمد"(5).
وفي (الغار) كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه خائفاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقترب منه ويلصق نفسه به، فيهمس النبي صلى الله عليه وسلم بأذن أبي بكر الصدِّيق:"لا تحزن، إن الله معنا".
وحين شعر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بدُنُوِّ الباحثين عنهما قال هامساً: "لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبْصَرَنا"، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم:"يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما"(6).
وخرجا بعد ثلاثة أيام من (الغار) حين عرفا أن قد سكن الناس
(1) البُرد: كساء مخطط يلتحف به. (ج): أبراد، وأبْرُدٌ، وبُرود.
(2)
سيرة ابن هشام (2/ 95) وطبقات ابن سعد (1/ 227).
(3)
الخوخة: كوّة في البيت تؤدي إلى الضوء. والخوخة: باب صغير وسط باب كبير نصب حاجزاً بين دارين. والخوخة: مخترق ما بين كل دارين.
(4)
سيرة ابن هشام (2/ 98 - 99).
(5)
طبقات ابن سعد (1/ 228).
(6)
طبقات ابن سعد (1/ 173 - 174).
عنهما، ولكن سُراقة بن مالك بن جُعْشَم علم بمكانهما، فركب في أثرهما، فلما اقترب منهما عثر به فرسه وذهبت يداه في الأرض، وسقط عنه، فعرف سراقة حين رأى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مُنع منه (1).
لقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد بعثته حتى هجرته إلى المدينة المنورة، كلها جهاداً من أجل التوحيد: توحيد الله، وجمع كلمة الناس.
قضى حياته المباركة في مكة المكرمة لتحقيق هدف واحد، هو: بناء الرجال. وكانت هجرته إلى المدينة المنورة تهدف إلى اجتماع الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام بجنوده الغر الميامين عليهم رضوان الله، لمواصلة جهادهم لتكون كلمة الله هي العليا، وليظهر الله دينه ولو كره الكافرون.
وكانت عدته في الجهاد المرتقب الوشيك ثمرات ما قدمه من جهود في: بناء الرجال.
…
(1) سيرة ابن هشام (2/ 103).