الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد نظم صلاح الدين الطاقات المادية والمعنوية لمصر وأرض الشام والجزيرة، وحشدها كلها للمجهود الحربي، لغرض طرد الصليبيين من (القدس) والأرض المقدَّسة والبلاد العربية الإسلامية التي احتلوها.
كما أصبحت لدى صلاح الدين معلومات تفصيلية عن الصليبيين وخبرة عملية فذة في الأساليب الناجعة في قتالهم وفي قيادة جيوشه في الحرب وإعدادها للقتال، كما أصبح لديه قادة متمرِّسون يعتمد عليهم ويثق بهم.
وأمضى في تنظيم الطاقات وتوحيد الصفوف وإعداد القوات للحرب سبع عشرة سنة (1).
5 - معركة حطين:
وجاء موعد اقتطاف ثمرات جهود وجهاد صلاح الدين التي استمرَّت سبع عشرة سنة استغلَّ كل لحظة فيها مجاهداً من أجل الوحدة وموحداً من أجل الجهاد.
وكانت أول ثمرات تلك الجهود والجهاد انتصاره في معركة (حطين)(2) الحاسمة.
كانت نُذُرُ المعركة الكبرى واضحة للعيان، فأراد صلاح الدين
(1) من سنة 567 هـ وهي السنة التي أصبح فيها المسؤول الأوحد عن مصر إلى سنة 583 هـ وهي سنة انتصاره في معركة (حطين) الحاسمة. انظر التفاصيل في النجوم الزاهرة 6/ 63 - 104.
(2)
حطين: قرية تقع غرب مدينة (طبرية) في الطريق إلى مدينة (الناصرة).
أن يُعدَّ لها إعداداً كاملاً، فأرسل إلى قادته في مصر والشام والجزيرة، يستنفر القادرين منهم على حمل السلاح من المجاهدين والقوات النظامية للجهاد.
وفي أواخر شهر محرم الحرام من سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة الهجرية (نيسان - إبريل سنة 1187م) خرج على رأس قواته من دمشق، وسار إلى (بصرى)(1) ليحمي منها طريق عودة الحُجَّاج من بيت الله الحرام، إذ بلغه أن (رينو دي شاتيون) أمير (الكرك) الذي تسميه المصادر العربية (أرناط) ينوي الفتك بهم. وكان هذا الأمير الإفرنجي من أشدّ الأمراء الصليبيين تعصُّباً وغدراً، وكان قد فتك بالحجاج سابقاً بحملة برية وبحرية خلافاً لعهوده ومواثيقه، حتى إن صلاح الدين أقسم بأنه إن ظفر بهذا الأمير الغادر، فإنه سيقتله بيده. ولما انتهى عَوْد الحُجَّاج، سار صلاح الدين إلى (الكرك) و (الشوبك)(2) وعاث في أنحائهما. ووافقته جيوش مصر بقيادة أخيه العادل قادمة من طريق (أيلة)(3)، وكانت قوات الشام والجزيرة تتلاحق في تلك الأثناء وتتحشَّد في دمشق تحت قيادة الملك الأفضل ولد صلاح الدين.
وسارت من جيوش دمشق حملة قوية إلى ثغر (عكا) لاقتحامه
(1) بصرى: مدينة أثرية قديمة من أعمال دمشق، وهي قصبة حَوْران، تقع بالقرب من الحدود السورية - الأردنية، وهي في سورية.
(2)
الشوبك: مدينة تقع جنوب (الكرك) على مسافة 98 كيلو متراً منها، وهي عاصمة منطقة (آدوم)، وارتفاعها فوق سطح البحر 1328 متراً، وهي الآن من أعمال الأردن.
(3)
أيلة: هي ميناء العقبة على مدخل الخليج المسمَّى باسمها، وهي من أعمال الأردن.
وتخريبه، واشتبكت مع الإفرنج وقوات الصليبيين الأخرى، واستولت على كثير من السبي والغنائم.
واجتمعت قوات صلاح الدين بقوات ولده الملك الأفضل، فاجتمع من ذلك جيش ضخم يقدر باثني عشر ألف فارس من القوات النظامية وعدد كبير من المتطوّعة المجاهدين.
ونزل غربي (طبريَّة)(1) على سطح الجبل بتعبية الحرب منتظراً الإفرنج، وذلك يوم الأربعاء الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة الهجرية (1187م)، فلما رأى الإفرنج لا يتحرَّكون، هاجم (طبريَّة) فاستولى على المدينة ولم يستطع الاستيلاء على قلعتها.
وبلغ الصليبيُّون ما حلَّ بطبرية، فلم يستطيعوا الصبر بل قصدوها للدفاع عنها. وعلم صلاح الدين بحركة الصليبيين نحو (طبرية)، فترك عليها من يحاصر قلعتها، وقصد قوات الصليبيين، فالتقى الطرفان في أواخر الخميس الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة الهجرية، ولكن الليل حال دون التحام الفئتين.
وبات الطرفان وهما على تعبية في أعلى درجات الحذر واليقظة، وطلائع الطرفين بتماس شديد.
وفي صبيحة يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر،
(1) طبرية: مدينة تقع على بحيرة (طبرية) المسماة باسمها، وهي منخفضة 210 أمتار عن سطح البحر.
التحم القتال واشتدَّ أواره، وذلك في قرية (لوبيا)(1)، فشدَّد صلاح الدين الخناق على الصليبيين، وعزم عزماً أكيداً على إحراز النصر.
واستمرَّت المعركة طيلة يوم الجمعة، حتى حلَّ ظلام الليل، وكان الطرفان في أشدِّ حالات التعب والإعياء.
وفي صبيحة يوم السبت الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة الهجرية (4 من تموز - يوليه - 1187م)، بدأ القتال عنيفاً قاسياً، وقد علم كلٌّ من الطرفين أنَّ اندحاره يؤدّي إلى إبادته، خاصة صلاح الدين الذي كانت قواته محاصرة بنهر الأردن من الشرق وبلاد العدو من الغرب والشمال والجنوب، فكان في اندحارها هلاكها عن بكرة أبيها؛ لذلك هاجم صلاح الدين بكل قواته - الطلائع والمقدمة والقلب والمجنبتان قوات الصليبيين وزجَّ بكلِّ قواته في المعركة.
وانهارت معنويات الصليبيين، فهرب (القومص)(2) الذي رأى أمارات الخذلان وبوادر الاندحار، وأخذ طريقه إلى (صور)(3)، فتبعه قسم من المسلمين ولكنه نجا بنفسه.
وطوَّق صلاح الدين قوات الصليبيين من كل جانب، وقاتلوهم بالسهام والسيوف والرماح، فانهزمت منهم طائفة، ولكن المسلمين
(1) لوبيا: قرية تقع غرب مدينة طبرية.
(2)
القومص: تعريب حرفي للفظة اللاتينية ( Comes) ، أي الأمير، ومعناها الأصلي في اللاتينية:(الرفيق)، لأنه كان في بادىء الأمر يرافق الملك في حروبه وتنقلاته، ثم سُمِّيَ بالأمير. انظر الهامش (1) من كتاب: النوادر السلطانية 77.
(3)
صور: مدينة مشهورة تقع على البحر الأبيض المتوسط جنوب بيروت في لبنان.
طاردوها فلم ينجُ منهم أحد.
واعتصمت طائفة أخرى من الصليبيين بتل (حطين)، فضايقهم صلاح الدين على التل، وأشعل المسلمون حولهم النيران، فضاق بهم الأمر، وقتلهم العطش.
وأقبل الصليبيون زرافات ووحداناً على الأسْر خوفاً من القتل، فكان ممن أُسِرَ (ملك القدس) و (رينوا دي شاتيون) ومقدَّم الاسبتارية (1) وعدد ضخم من الفرسان، كما استولى المسلمون على الصليب الكبير المسمى:(صليب الصلبوت) وهو الذي يزعمون أنَّ فيه قطعة من الخشبة التي صُلِبَ عليها السيد المسيح عليه السلام.
وأُخِذَ الأمراء والأسرى إلى خيمة صلاح الدين، فقتل السلطان بيده رينو دي شاتيون (الأمير أرناط) وفاءً لنذره وجزاءً له على غدره المتكرِّر، وجرأته المثيرة في قطع طريق الحُجَّاج والفتك بهم، ومحاولته السير إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقصد الاعتداء عليه (2).
لقد كانت معركة (حطين) من المعارك الإسلامية الحاسمة.
(1) الاسبتارية: هذه هي التسمية لطائفة من الفرسان الهسبتاليين، وهو تحريف ظاهر للفظ الإنكليزي ( Hospitallers) ، وكان يطلق في عصر الحروب الصليبية على طائفة من الفرسان الدينيين. وقد أسَّس الطائفة ( Blessed Gerard) في سنة 1099م، بعد استيلاء الصليبيين على بيت المقدس، وكانت الدار التي يسكنها هؤلاء الرهبان ( Hospice) موجودة قبل ذلك في بيت المقدس، تُتَّخذ مأوى للحجاج والمرضى من المسيحيين. وتشبه هذه الطائفة في كثير من صفاتها طائفة فرسان المعبد ( Fempliers) التي عرفها العرب باسم الداوية، وقد لعب فرسان هاتين الطائفتين دوراً خطيراً في الحروب الصليبية. انظر:( King: Knights Hospitallers. P. 1 - 33) . نقلاً عن الهامش (5) من كتاب: النوادر السلطانية 77.
(2)
النوادر السلطانية 75 - 79، والفتح القسي 14 - 17.