الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - بعث أسامة:
والتحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وتولى أبو بكر الخلافة، فكان أول أمر أصدره بعد أن تمت له البيعة بالخلافة:"أنفذوا بعث أسامة".
ولكن أسامة طلب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يرجع إلى المدينة ليستأذن أبا بكر في رجوع الناس قائلاً: "ارجع إلى خليفة رسول الله، فاستأذنه يأذن لي أن أرجع بالناس، فإن معي وجوه الناس وحدَّهم (1)، ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل (2) رسول الله يتخطفهم المشركون".
وأبلغ ابن الخطاب رضي الله عنه رسالة أسامة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فلم يلبث حين سمعها أن ثار ثائره وقال:"لو خطفتني الكلاب والذئاب، لم أردَّ قضاءً قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ". كما رفض أبو بكر الصديق رضي الله عنه رفضاً قاطعاً أن يؤمّر على الجيش غير أسامة قائلاً لعمر بن الخطاب: "
…
استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟! " (3). وقال الناس لأبي بكر: "إن هؤلاء جند المسلمين، والعرب على ما ترى، فقد انتقضت بك، فلا ينبغي أن تفرق جماعة المسلمين عنك"، فأجابهم أبو بكر: "والذي نفسي بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني،
(1) حَدُّ الناس: أصحاب النجدة والبأس منهم. وحدّ الرجل: بأسه ونفاذه في نجدته.
(2)
الثقَل: المتاع. والثقل: الشيء النفيس الخطير. ويريد: أمهات المؤمنين وآل النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
الطبري 2/ 462.
لأنفذت جيش أسامة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم " (1).
ورجع أسامة بنفسه إلى أبي بكر الصديق وقال له: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني وأنا على غير حالكم هذه، وأنا أتخوف أن تكفر العرب، فإن كفرت كانوا أول من يقاتل، وإن لم تكفر مضيت، فإن معي سراة الناس وخيارهم
…
"، فقال أبو بكر: "والله لأن تخطفني الطير أحبَّ إليَّ من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم " (2).
لقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يريد أن يعلِّم المسلمين أهمية الطاعة وضرورة التحلي بالضبط المتين، فطبّق ذلك على نفسه أولاً ملتزماً بالطاعة إلى أقصى الحدود، حتى يستطيع مطالبة غيره بالطاعة.
وكانت بعثة أسامة العنوان الأول لسياسةٍ عامة في الدولة الإسلامية، هي في ذلك الحين خير السياسات. كان قوام تلك السياسة، طاعة ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الطاعة -جد الطاعة- مناط السلامة وعصمة المعتصمين من الخطأ الأكبر في ذلك الحين.
وحيث يكون التمرُّد هو الخطأ الأكبر، فالطاعة - بل الطاعة الصارمة - هي العصمة التي ليس من ورائها اعتصام.
وقد كان التمرد هو الخطر الأكبر في ذلك الحين لا مراء!.
كان النفاق يطلع رأسه في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكانت
(1) ابن الأثير 2/ 127.
(2)
طبقات ابن سعد 4/ 74.
القبائل في البادية تتسابق إلى الردة في أنحاء الجزيرة العربية، وكان جند أسامة يودون لو استبدل به أميراً غيره، وكان أسامة أول من يشك في طاعة القوم إياه ويترقب أن يخلفه على البعثة أمير سواه.
تمرُّدٌ أو نذيرٌ بتمردٍ في كل مكان!.
وطاعةٌ واجبة هنا حيث نبغ التمرد، أو لا سبيل إلى واجب بعد ذلك يطاع. وهنا تسعف الصدِّيق طبيعةٌ هي أعمق الطبائع فيه، فيقول وقد خوّفوه الخطر على المدينة المنورة وجيش أسامة يفارقها: "والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم! ولو أن الطير تخطَّفتنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين، لأجهزنّ جيش أسامة
…
".
فلا خطر إذن - في نظر الصديق - أكبر من خطر الاجتراء على حق الطاعة في تلك الآونة، ولو جرّت الكلاب بأرجل البنات والأمهات.
لقد رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أن العصمة - حق العصمة - في رأي واحد لا رأي قبله ولا بعده، وهو الطاعة في غير تردد ولا هوادة ولا إبطاء.
وقد ضرب المثل الأعلى في الطاعة التي أرادها، فشيَّعَ جيش أسامة وهو ماشٍ على قدميه، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقود دابته بجواره، فقال أسامة:"يا خليفة رسول الله! والله لتركبنَّ أو لأنزلنَّ"، فقال:"والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما عليَّ أن أُغبِّر قدميَّ في سبيل الله ساعة".
ثم استأذن أسامة قائلاً: "إن رأيت أن تعينني بعمر، فافعل"(1)، فعاد عمر بإذنه
…
بإذن القائد الذي هو في مقام الطاعة هناك، حتى على الخليفة وعلى أكبر الصحابة من بعده (2).
وقبل أن يعود أبو بكر أدراجه إلى المدينة، وقف في جيش أسامة خطيباً وقال: "أيها الناس! أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلّوا (3)، ولا تغدروا، ولا تمثلوا (4)، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليه، وتلقون أقوماً قد فحصوا (5) أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقاً
…
اندفعوا باسم الله".
وقال لأسامة: "اصنع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم: ابدأ ببلادِ قُضاعة، ثم ائت (آبل) (6)، ولا تقصرنّ في شيء من أمر رسول لله، ولا يعجلنّ لما خلفت عن عهده"(7).
(1) الطبري 2/ 463.
(2)
انظر التفاصيل في: عبقرية الصديق 132 - 137.
(3)
غلّ: خان في المغنم. وفي التنزيل العزيز: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
(4)
مَثَّلَ بفلان: نكَّلَ به بجدع أنفه أو قطع أنفه أو غيرها من الأعضاء.
(5)
فَحَصَ: كشف. وفحصوا أوساط رؤوسهم: كشفوها بحلق شعرها.
(6)
آبل: تسمى آبل الزيت، وهي مدينة بالأردن من مشارف الشام، انظر التفاصيل في معجم البلدان 1/ 52.
(7)
الطبري 2/ 463.
وسار أسامة في ثلاثة آلاف رجل (1) يقطع البيد في أيام شديدة الحر من شهر حزيران (يونيو)، وبعد مسيرة عشرين يوماً نزل بجيشه، فأغار على (آبل) الواقعة شمال (مؤتة)، وبثّ خيوله في قبائل قضاعة وأحلافهم، تلك القبائل التي ظاهرت الروم على جيش المسلمين في غزوة (مؤتة)، فبث خيوله في تلك القبائل، وقضى على كل مقاومة صادفها هناك، فما:"رُئي جيش كان أسلم من ذلك الجيش"(2).
وعاد أسامة إلى المدينة بجيشه الظافر، فتلقاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جماعة من الصحابة وتلقاه أهل المدينة، فدخل المدينة والناس من حوله يرددون قول النبي صلى الله عليه وسلم عنه:"إنه خليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقاً لها"(3).
لقد كان أثر هذه الغزوة عظيماً في المرتدين وغيرهم، فقد شاع في الجزيرة العربية خبرها، فكانت لا تمر بقبيل يريدون الارتداد إلا تخوِّفوا وسكنوا وقالوا فيما بينهم:"لو لم يكن المسلمون على قوة، لما خرج من عندهم هؤلاء"!.
وكان أثرها في تأديب القبائل العربية القاطنة على الحدود الشمالية لجزيرة العرب واضحاً، فلم يحرِّكوا ساكناً بعدها أبداً، حتى جاءتهم جيوش المسلمين سنة ثلاث عشرة الهجرية، فدخلوا في الإسلام وأصبحوا من حماته.
(1) البدء والتاريخ 5/ 152.
(2)
طبقات ابن سعد 4/ 68.
(3)
المصدر السابق نفسه.