الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مكة المشرفة زادها الله تشريفًا، وجالسته وحادثته، فكان رجلًا عاقلًا أديبًا، ذا بشاشةٍ وتواضع، رزينًا له لحية كثة بيضاء قد أعفاها، ممتلئ الجسم، بهي المنظر، وقد يجلس على كرسي في الحرم الشريف للوعظ، ولكلامه وخطبته وقراءته وقعٌ عظيم في النفوس، وتطمئن إليها، فنسأل الله أن يتغمده برحمته ويسكنه في جنته، وقد حظي لدى جلالة الملك عبدِ العزيز واختصه لهذه الوظيفة، فقام بها خير قيام.
ذكر مصرع الملك عبد الله
كان لقتل الملك عبدِ الله أسباب، وذلك بأنه دعى لديه رئيس الوزارة اللبنانية رياض الصلح، وكان الملك عبد الله لما مرَّ ببيروت في طريق عودته من تركيا، لم يكن رياض الصلح في استقباله، فقيل له أن رياض الصلح وهو خارج الوزارة لم يشأ أن يفرض نفسه على استقبال رسمي يقام للملك عبد الله، فقال: إني أريد أن أراه لأمر هام، وكان رياض الصلح يستجم في برمانا، ولما علم الملك عبدِ الله أنَّه خارج بيروت طلب إبلاغه بضرورة الذهاب إليه في عمان، واتصل رياض الصلح تليفونيًا بالملك عبدِ الله في قصر الرغدان يشكر له اهتمامه بالسؤال عنه، وقال له الملك عبدِ الله: اني أريدك في أمر هام، فتعال عندي غدًا، واعتذر رياض الصلح بأنه لا يستطيع، وضرب الملك موعدًا آخر، ثم ضرب الملك موعدًا ثالثًا يحل في ليلة القدر، وقال لرياض الصلح في التليفون: أريدك أن تقضي معي ليلة القدر، واعتذر رياض بك وقال للملك: هل يأذن لي سيدنا في أن أجيء في العيد بدلًا من ليلة القدر؟ ووافق الملك عبدِ الله، ولما أن كان في يوم العيد اتصل رياض الصلح بقصر رغدان يعتذر للملك عبدِ الله ويرجو منه تأجيل موعده مع جلالته أسبوعًا.
ولما أن أراد السفر على مضض قال لمن حوله: الواقع أني لا أعلم لماذا يريدني الملك، ولكني خجلت من إلحاحه، ومع أني غير مستريح إلى هذه
السفرة فإني سأذهب، ولما أن قدم على الملك عبدِ الله كان أول عبارة قالها الملك له:
والله ما كرهتك قط برغم كل ما مرَّ بيننا من خلافات ومن تباعد في بعض وجهات النظر، وعلق الملك على صدر رياض الصلح أرقى وسام أردني وقال له: أمنيتي أن تحمل هذا الوشاح في جميع الحفلات التي تحضرها، وقال رياض بك: سيزين هذا الوشاح صدري طوال عمري يا صاحب الجلالة، فرد عليه الملك بقوله: بل إن صدرك هو الذي سيزين الوشاح يا رياض بك.
ولما أن كان في ساعة الوداع قال له الملك عبدِ الله: بالله يا رياض بك ابق معي لنصلي الجمعة معًا في المسجد الأقصى، فأجابه شكرًا يا سيدنا، لا بد أن أعود اليوم إلى بيروت، لقد ارتبطت بحضور جلسة مجلس النواب يوم الأربعاء لأتكلم في مسألة هامة، ولما افترقا من الوداع اتجه رياض الصلح إلى فندق فيلاديفيا، ثم إلى طريق مطار عمان حيث كان الموت يتربص له، وبينما هو يسير بسيارته على مهل وفي رفقة سيارة أخرى تحرسه، ومعه بعض رفقته إذ تقدمت فجاة سيارة خضراء قد أطلقت أَبواقها، فأعطاها سائق السيارة الطَّرِيقِ، ومشت بين السيارتين في وقت تحقق الريب منها مرافقوا سيارة رياض وهموا بصدها، ولو أثر ذلك تصادمًا لكنها أطلقت الرصاص على سيارة رياض الصلح، واستمرت في سيرها، أما سيارة الرئيس فقد وقفت وأقبل عليه أحد الذين معه يكلمه فإذا به لا يجيب، وإذا بالرصاصة الثانية قد أصابت رفيقه.
أما هو فإنه أصيب بالرصاصة الأولى ودخلت في قبله فلم يتحرك من مكانه، ولما نزل بعض حراسه مهرولًا من السيارة الثانية وجد جليسه ملقى على أرض السيارة يتلوى، ورياض الصلح جالسًا ووجهه ملوث بالدم، وعيناه مغمضتان نصف إغماضة، فأخذه على صدره يصيح للسائق أسرع به إلى المستشفى، ولم يكد يكمل كلامه حتَّى سال دم أسود من فم رياض الصلح، ثم تدلى لسانه من فمه وشرع بقية حراسه يطاردون القاتلين.