الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غدر بها يحيى، ويدافع عن بلادنا وكياننا وشرفنا، وأبرقت ليحيى بأننا لا نريد إلا السلم، ولا نريد الحرب، وأن باب السلم لا يزال مفتوحًا متى أراد أن يجنح له وأن ينسحب من بلادنا، ولا يتدخل بشؤوننا، وهذا التدبير لم ألجأ إليه إلا مضطرًا، وبعد أن أعيتني جميع الوسائل، ولا أعذر أمام الله ولا أمام خلقه إذا لم أقم بواجب الدفاع عن مملكتي وبلادي، لنا أكثر من عشرة أشهر ونحن نقابل يحيى ونجادله، وانتشر خير ذلك في سائر الأنحاء فلم يظهر من المسلمين ملوكهم وأمرائهم وأحزابهم من يتقدم لإصلاح ذات البين أو يطلع على حقيقة ما بيننا ويعلم من الصادق ومن الكاذب، ولم يردنا غير برقيات التمني التي لا تنتج شيئًا، هذا أخر كلامه، ومن أراد الاطلاع على المقالة فليراجعها في جريدة أم القرى.
رجوع وفد يحيى
لما امتدت المفاوضات شهرين إلا ثمانية أيام ولم تسفر عن شيء ولم يظهر نتيجة، ولاحظ الوفد السعودي محاولة اليمن التنصل من شروط المعاهدة تارةَ بزعم أن الإمام يحيى لم يوقع عليها بالذات، وأخرى بأنها لم يقصد بها تحديد الحدود أو الاعتراف بالوضع الحاضر في الحجاز، أضف إلى ذلك سوء نوايا الإمام يحيى بتجهيزه في هذه الفترة على الحدود، لم يكن لهذا الاجتماع فائدة فسافر وفد يحيى في 24 ذي الحجة عن أمر يحيى وطلبوا السفر عن طريق ظهران، وحيث أن خط الحرب ممتد على طول خط الجبهة لم يرَ صاحب الجلالة حفظًا لكرامة الوفد وصيانة لحياته أن يسمح لهم عن ذلك الطريق، فاقترح عليهم أن يكون سفرهم إلى الساحل وأن يركبوا إلى موانع الإمام يحيى.
فبعث ابن الوزير برقية إلى جلالة الملك بواسطة فؤاد حمزة ما معناه أنكم استحسنتم أن تكون خطة عودتنا إلى اليمن من جهة القنفذة والبحر، وهذه خطة صعبة بعيدة، ومعنا جملة خيل وذلول يتعذر ركوبها في البحر، ومن البعيد أن لا يكون في وسع مقدرتكم خطة عودتنا هي خطة سفرنا أولًا فلم يكن قبلنا إلا جندكم الذين هم تحت أمركم ونهيكم إقدامًا وإحجامًا، وسمو الأمير سعود
والأمراء من آل فيصل ومحال أن لا يكون في مقدرة الجميع بلاغ ما تريدون من عودتنا بأحسن حال، فنرجوكم الأسراع بأوامركم الكافية والطريقة واضحة، وأصحابكم معنا، والأمر جلي ليس فيه خفاء عند أحد، مع أن لنا أغراضنا في الاتفاق بسمو الأمير سعود كما سيعرض عليكم إن شاء الله، وليس لنا إرادة إلا في كل خير للجميع والسلام عليكم ورحمة الله.
فأجاب الملك عبد العزيز وفد الإمام يحيى بكل جميل، ولا يخفى ما فيه من الفصاحة التي تسحر العقول، بل هذا لعمر إلهك السحر الحلال وذلك بتاريخ 24 منه.
إن الباعث على ذلك والقصد هي المحافظة على راحتكم ومنع المشقة عليكم في الحالة الراهنة، ولا تخفى عليكم خطة الحرب، وطريقكم الذي تريدون السير معه هو محل المعارك الحربية، ولو كان المقصد الخوف عليكم من جندنا فالجند الحمد لله تحت السمع والطاعة وتحت قيادة أبنائنا كما ذكرتم، ولا خطر عليكم منهم ولكن الذي نحاذره هو أن يكون في الجبال أحد من الهاربين أو أناس أعطوا الأمان في الطريق، وتخشى أن يقع عليكم أي حادث منهم يكدركم ويكدرنا، وأنتم تعرفون أن لكم علينا حقوقًا كثيرة منها أنكم ضيوف أعزاء علينا، ومنها نسبتكم لسيادة الأخ الإمام يحيى، والله المطلع أننا لا نزال نجله ونجل من انتسب اليه، ونأسف كثيرًا لما وقع مما لم يكن يخطر لنا على بال، ولكن كما قال الله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ} [التكوير: 29]، ومنها أن لشرفكم ومقامكم منزلة عالية عندنا وأنا نحافظ على شرفكم ومقامكم وراحتكم، كما نحافظ على شرفنا وراحتنا، ومن أجل ذلك أمرنا فؤاد أن يراجع الولد سعود وإن كان يجد طريقًا سلميًا فتؤمن به راحتكم أن يبذل في ذلك جهده، وكونوا مطمئنين الخاطر أننا سنعمل كل ما يمكن لما يحفظ راحتكم، فإن أردتم طريقة أخرى فإنا مستعدون لأن نحظر لكم أحد الزوارق البخارية التي عندنا، أو نعد مركبًا خاصًا ينقلكم من إحدى الموانئ، فنحن مستعدون لذلك، أما ما معكم من الدواب فنحن نتعهد بإيصالها إلى المحل التي
تريدون، ولا شك أن درايتكم ومعرفتكم بالأمور تجعلكم لا تشكون في أن كل ما قدمته لكم هو الحرص على راحتكم وشرفكم شفقة مني على ذلك، أما رغبتكم في مقابلة ولدنا سعود فإن كان هناك مصلحة أو أمر جديد فيمكن تعيين وقت لمقابلتكم، ونحن ممنون من كل أمر فيه راحة وإصلاح للجميع، وقد أمرنا فؤاد أن يتراجع مع الولد سعود، وأن يراجعكم في كل ما يؤمن راحتكم ويحفظ المصلحة في ذلك والسلام.
ولما أن تقدمت القوات السعودية وجعلت توالي الزحف على اليمن ما كان إلا القليل، بل لم يمض إلا بضعة أيام حتى استولت على كثير من البلاد اليمانية، وقام يحيى وأبرق إلى جميع الدول الإسلامية يناشدهم الوساطة لإيقاف الحرب، وحل الخلاف، فبادر المؤتمر الإسلامي بانتداب وفد من قبله لحل هذا الخلاف، وانتصر ابن سعود وخدمته الأيام، وقلبت لأعدائه ظهر المجن فعززوا بأنفسهم، وتداعوا بقواتهم، وكان جيش الأمير فيصل بن عبد العزيز الذي زحف به من الحجاز يقدر عدده بستة عشر ألف مقاتل مجهزًا بأقصى ما يستطاع من القوات المستحدثة، وقدمنا عدة جيش الأمير فيصل بن سعد البالغ سبعة آلاف مقاتل مرابطًا على الحدود واستعداد للطورئ، كما أصدر صاحب الجلالة أوامره على نجله سعود بالزحف في 6 ذي الحجة يقود خمسة آلاف مقاتل، وتقدم الأمير محمد بن عبد العزيز بقوة احتياطية لمساعدة أخيه سعود، وصدرت الأوامر على الأمير خالد بن محمد ابن أخي جلالة الملك أن يزحف يحيش وينضم إلى ولي العهد سعود.
وما زالت الجنود تتوافد على القائدين حتى بلغ جيش ولي العهد ستة وثلاثين ألفًا، أما جيش فيصل بن عبد العزيز فقد بلغ أربعة وثلاثين ألفًا فبذلك بلغ مجموع الجيش سبعين ألف مقاتل.
ولما أن وصل سعود إلى بلاد وادعة، أمر على ابن عمه فيصل بن سعد المرابط في خميس مشيط أن يتقدم بقسم من الجند إلى باقم فتقدم وحاصرها وشدد الحصار
عليها، وكان فيها قوة من الجيش اليمني وأصدر أمره أيضًا إلى ابن عمه خالد بن محمد أن يسير بقسم آخر من الجند إلى بلد نفعة، وناهيك به من قائد محنك استولى على بعض البلدان وحاز انتصارًا عظيمًا.
ولما زحف إلى بلد نفعة وفيها قوة من قبل يحيى احتلها بعد أن سلمت الجنود اليمنية فأمنهم على أرواحهم، وتقدم الأمير محمد بن عبد العزيز بقوة فاحتل بقواته مدنًا وقرى، ثم أخذت القوات السعودية في تقدمها إلى نجران، وأخرجت الجنود اليمانية منها واحتلتها واستولت على نجران استيلاءً تامًا، وأصدر صاحب الجلالة أو أمره على حمد الشويعر أن يتقدم بقوات إلى حرض، وذلك عن طريق تهامة، كما صدرت الأوامر على صاحب السمو فيصل بن عبد العزيز أن يتقدم بالجنود النظامية وغيرها، فزحف بالبطاريات والمدافع والرشاشات على تهامة عن طريق الساحل، وأن يتولى القيادة في تهامة فتقدم ووالى زحفه حتى استولى على كثير من بلدان الساحل التابعة ليحيى، وهجم على ميدي وأسر كثيرًا من جنود اليمن، وفيها عامل الأمام يحيى على ميدي عبد الله عرشي، وبعد ما احتلها تقدم فاحتل الحديدة، وسنذكر صفة احتلالها في السنة التالية لهذه إن شاء الله تعالى، وبهذا يتحقق معنى كلام الملك الذي باح به في 16 محرم من السنة المتقدمة، حيث يقول: "إني والله أحب السلم وأسعى إليه، فإذا ما بليت صبرت حتى إذا لم يبقَ في القوس منزع، وحان وقت الدفاع عن الدين والوطن فعلت:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبٌ
…
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وهنا لا يكون إلا إحدى الحسنيين، إما السعادة، وإما الشهادة، وكلاهما نعمةً من الله، ونحن نقابل أيهما بصدر رحبة ووجوه باشة وهذه سنة رسول الله وأصحابه من بعده رضوان الله عليهم، والناس معنا ثلاث، إما محب ومساعد، وإما لا محب ولا مساعد، واما معاند فقط.
فأما الأول: فله ما لنا وعليه ما علينا.
وأما الثاني: فنسعى جهدنا في إفهامه الطريق الذي نسير عليه، فإذا اتبعنا فالحمد
لله وإذا أبى فالأمر لله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].
وأما الثالث: فهذا ليس له قصد إلا الفساد في الأرض وهذا جزاءه ما جاء في الآية الشريف: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]، ويذكر المؤرخ فلبي في تاريخ نجد أنه استغرق احتلال الحديدة ومنطقة تهامة الواقعة شمالًا ثلاثة أسابيع، وكان ثلاثة أسابيع أخرى كافية لإضافة اليمن إلى الممتلكات الوهابية، غير أنها صدرت الأوامر على فيصل تلك الأوامر بينما أمر سعود بأن يبقى في المكان الذي اتفق عليه سابقًا كي يكون حدًا بين السعودية واليمن، وذكر أنه في أثناء ذلك سارعت السفن الحربية الإنكليزية والإيطالية والفرنسية إلى الحديدة منتحلة أعذارًا مختلفة، إلا أنها لم تكن تهدف إلى تهنئة القائد الوهابي المنتصر على فوزه، أو جعل مهام السلطة المحتلة أسهل من ذي قبل، وربما كان لهذا الاهتمام المفاجيء باليمن من جانب الدول الكبرى أثر كبير في منع الملك من انتهاج سياسة صريحة، غير أنه أصرَّ على أن يستمر احتلال قواته للمناطق التي استولت عليها إلى أن تجري مفاوضات أخرى في الطائف تحت حمايته وإشرافه، فأعلنت الهدنة للتمكن من البدء في هذه المحادثات، وسنعود إلى آخر القصة عن قريب، وإنه لمن العجب العجاب انتصار الجيوش السعودية في تلك الجبال الصعبة المرتقا المجهولة الطرق، ولقد كان ولي العهد سعود يقود جيش الصحراء المتمركز في أبها ونجران، وكان بطيئًا بسبب طبيعة البلاد الوعرة وضرورة السير مع قوافل التموين التي كانت سيارات نقلها تدلي بالحبال من فوق الصخور العالية في أكثر من مناسبة، ولقد ثارت عاصفة رملية استمرت ثلاثة أيام متوالية، وكان من جرائها أن تعطلت المواصلات اللاسلكية بين القائدين، وكانت هذه الغضبة من الملك ابن سعود لما نفد صبره من عناد جاره، وأرسل إليه الإنذار النهائي، وبما أن أراضي اليمن مخوفة
ومملوءة بالثوار فإن بعضها لا تخلو من الحمى لا سيما الذين لم يعتادوا طقسها، وطال لبثهم فيها من السعوديين.
ومما أنشد الأديب محمد بن الحسين بن أحمد بن الطيب يذكر بلاد الغربة:
إذا اغترب الحر الكريم بدت له
…
ثلاث خصال كلهن صعاب
تفرق أحباب وبذل لهيبةٍ
…
وإن مات لم تشقق عليه ثياب
وفيها وقع الوزير عبد الله بن سليمان بن حمدان عن الحكومة السعودية اتفاقية التنقيب عن الذهب في المملكة العربية السعودية والمعادن، وعن الشركة "ولوديهملتن" وذلك بعد أخذ ورد ومساومات، ومن ضمن ذلك منجم المهد، ولكن هذا نفد انتاجه بعد عشرين عامًا، بعد أن ساهم مساهمة متواضعة في واردات الدولة إذ عاد عليها بربح صافي بلغ العشرة ملايين من الدولارات، وفيها عثر العمال بينما هم يحفرون أساس القسم الشمالي لمدرسة العلوم الشرعية في المدينة المنورة الواقعة بقرب باب النساء بعد عمق أربعة أمتار على مصباح زيت قديم، ووجدوا هناك بركة صغيرة ومجاري مياه وقطعًا من قلل الماء.
ونحن نوردها هنا كلمات خالدة عن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن حينما قام خطيبًا في المأدبة الملكية التي أقيمت لتكريم وفود بيت الله مساء يوم الجمعة 5 ذي الحجة من السنة التي قبل هذه حيث يقول أنا مبشر أدعو لدين الإسلام ونشره بين الأقوام، أنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وما جاء عن الخلفاء الراشدين.
أنا مسلم وأحب جمع كلمة الإسلام والمسلمين، وليس أحب عندي من أن تجتمع كلمة المسلمين ولو على يد عبد حبشي، وإنني لا أتأخر عن تقديم نفسي وأسرتي ضحية في سبيل ذلك، أنا عربي وأحب عز قومي والتآلف بينهم، وتوحيد كلمتهم، وأبذل في ذلك مجهوداتي، أنا مسالم ومدافع، أنا مسالم للناس وأحب النصيحة قبل كل شيء، لأن الدين النصيحة لله وللرسول ولأئمة المسلمين وعامتهم، أنا مدافع لأنني ما حاولت في وقت من الأوقات أن أعتدي على إخواني
وأبناء قومي، وكنت في كل وقت أقابل ما يصدر إلى منهم من إساءة أو خطيئة بصدر رحب على أمل أن يرجعوا إلى الصواب، ولكنني إذا رأيت تماديًا في الغي والإساءة اضطر حينئذ للدفاع، أنا عربي ومن خيار الأسر العربية ولست متطفلًا على الرياسة والملك، فلإن آبائي وأجدادي معروفون منذ القدم بالرئاسة والملك، ولست ممن يتكلمون على سواعد الغير في النهوض والقيام، وإنما اتكالي على الله ثم على سواعدنا يتكئ الآخرون ويستندون إلى آخر كلمة.
وفيها وفاة الشيخ عبد الله بن أحمد العجيري تغمده الله برحمته وأسكنه بفضله فردوس جنته، وكان يسمى "راوية نجد" لما قام به من جمال الصوت وحسن الإلقاء، كما اشتهر بقوة الحافظة العجيبة، وبسعة اطلاعه على آداب العرب وأخبارها وعلومها وآثارها، حتى نشرت جريدة أم القرى ترجمة له وسمته "أديب نجد" وكان يختصه الملك عبد العزيز للسفر في معيته لما لديه من العلوم والأخبار، ولقد رثاه الشيخ الأديب محمد بن عبد الله بن عثيمين بمرثية بديعة، وذكر فيها شيئًا من صفات المترجم، ذلك لما كان بينهما من تقارب السن ورابطة الجوار، وتماثل الفضل، ولأنه من خلصاء الشاعر ورواة شعره، وأعز أصدقائه، فقد عاش خدنين تجمعهما أواصر العلم والآدب:
هو الموت ما منه ملادٌ ومهربٌ
…
متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نشاهد ذا عين اليقين حقيقةً
…
عليه مضى طفلٌ وكهلٌ وأشيب
ولكن على الران القلوب كأننا
…
بما قد علمناه يقينًا نكذب
نؤمل آمالًا ونرجو نتاجها
…
وعلى الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوى
…
وفي علمنا أنا نموت وتخرب
ونسعى لجمع المال حلًا ومأثمًا
…
وبالرغم يحويه البعيد وأقرب
نحاسب عنه داخلًا ثم وخارجًا
…
وفيم صرفناه ومن أين يكسب
ويسعد فيه وارث متعففُ
…
تقى ويشقى فيه آخر يلعب
وأول ما تبدو ندامة مسرفٍ
…
إذا اشتد فيه الكرب والروح تجذب
ويشفق من وضع الكتاب ويمتني
…
لو أن رد للدنيا وهيهات تطلب
ويشهد منا كل عضو بفعله
…
وليس على الجبار يخفى المغيب
إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي
…
عملتم وكلٌ في الكتاب مرتب
وماذا كسبتم في شبالب وصحةٍ
…
وفي عمر أنفاسكم فيه تحسب
فيا ليت شعري ما نقول وما الذي
…
نجيبٌ به والأمر إذ ذاك أصعب
إلى الله نشكو قسوةً في قلوبنا
…
وفي كل يومٍ واعظ الموت يندب
ولله كم غاد حبيبٍ ورائحٍ
…
نشيعه للقبر والدمع يسكب
أخٌ أو حميمٌ أو تقيٌّ مهذبٌ
…
يواصل في نصح العباد ويدأب
نهيل عليه الترب حتى كأنه
…
عدوٌ وفي الأحشاء نارٌ تلهَّب
سقى جدثًا وأرى ابن أحمد وابل
…
من العفو رجاس العشيات صيب
وأنزله الغفران والفوز والرضى
…
يطاف عليه بالرحيق ويشرب
فقد كان في صدر الجالس بهجة
…
به تحدق الأبصار والقلب يرهب
فطورًا تراه منذرًا ومحذرًا
…
عواقب ما تجني الذنوب وتجلب
وطورًا بآلاء الإله مذكرًا
…
وطورًا إلى دار النعيم يرغب
ولم يشتغل عن ذا ببيع ولا شرا
…
نعمٌ في ابتناء المجد للبذل يطرب
فلو كان يفدى بالنفوس وما غلا
…
لطبنا نفوسًا بالذي كان يطلب
ولكن إذا تم المدى نفذ القضاء
…
وما لامرءٍ عما قضى الله مهرب
أخٌ كان لي نعم المعين على التقى
…
به تنجلي عني الهموم وتذهب
فطورًا بأخبار الرسول وصحبه
…
وطورًا بآداب تلذ وتعذب
على ذا مضى عمري كذاك وعمره
…
صفيين لا نجفو ولا نتعتب
وما الحال إلا مثل ما قال من مضى
…
وبالجملة الأمثال للناس تضرب
لكل اجتماع من خليلين فرقةً
…
ولو بينهم قد طاب عيشٌ ومشرب
ومن بعد ذا حشرٌ ونشرٌ وموقفٌ
…
ويوم به يكسى المذلة مذنب
إذا فرَّ كلّ من أبيه وأمه
…
كذا الأم لم تنظر إليه ولا الأب
وكم ظالمٍ يدمي من العض كفه
…
مقالته يا ويلتى أين أذهب
إذا اقتسموا أعماله غرماؤه
…
وقيل له هذا بما كنت تكسب
وصك له صكٌ إلى النار بعدما
…
يحمل من أوزارهم ويعذب
وكم قائلٍ واحسرتا ليت أننا
…
نرد إلى الدنيا ننيب ونرهب
فما نحن في دار المنى غير أننا
…
شغفنا بدنيا تضمحل وتذهب
فحثوا مطايا الارتحال وشمّروا
…
إلى الله والدار التي ليس تخرب
فما أقرب الآتي وأبعد ما مضى
…
وهذا غراب البين في الدار ينعب
وصل إلهي ما همى الودق أو شدا
…
على الأيك سجاع الحمام المطرب
على سيد السادات والآل كلهم
…
وأصحابه ما لاح في الأفق كوكب
وفي هذه السنة مرض الشيخ العالم العلامة محمد بن عثمان الشاوي، وهو مقيم في مكة المشرفة، فألجأته الأحوال إلى أن يدرس مضطجعًا إجابة لطلب تلامذته وأحبابه، وكان مرضه في فخذه بداء السرطان، فقال في ذلك قصيدة عظيمة شكى إلى ربه حالته وشماله كشف ضره، ولما قال هذه القصيدة سعى الملك عبد العزيز في علاجه وبذل جهودًا جبارة لعلاجه في الملكة العربية السعودية وخارجها، غير أن الله لم يأذن جزاه الله خيرًا، وهذه القصيدة المشار إليها:
أسير الخطايا عند بابك يقرع
…
يخاف ويرجو الفضل فالفضل أوسع
مقرٌ بأثقال الذنوب ومكثر
…
ويرجوك في غفرانها فهو يطمع
فإنك ذو الإحسان والجود والعطا
…
لك المجد والأفضال والمنُّ أجمع
فكم من قبيحٍ قد سترت عن الورى
…
وكم من نعيم تترى علينا وتتبع
ومن ذا الذي يرجى سواك ويتقى
…
وأنت إله الخلق ما شئت تصنع
فيا من هو القدوس لا ربٌ غيره
…
تباركت أنت الله للخلق مرجع
ويا من على العرش استوى فوق خلقه
…
تباركت تعطي من تشاء وتمنع
بأسمائك الحسنى وأوصافك العلى
…
توسل عبدٌ بائسٌ يتضرع
أعني على الموت المريرة كأسه
…
إذا الروح من بين الجوانح تنزع
وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما
…
يركم من فوقي التراب وأودع
وثبت جناني للسؤال وحجتي
…
إذا قيل من ربّ ومن كنت تتبع
ومن هول يوم الحشر والكرب نجني
…
إذا الرسل والأملاك والناس خشع
ويا سيدي لا تخزني في صحيفتي
…
إذا الصحف بين العالمين توزع
وهب لي كتابي باليمين وثقلن
…
لميزان عبدٍ في رجائك يطمع
ويا رب خلصني من النار إنها
…
لبئس مقرًا للغواة ومرجع
أجرني أجرني يا إلهي فليس لي
…
سواك مفرٌ أو ملادٌ ومفزع
ويا سيدي هب لي من الخلد منزلًا
…
فإن عطاء شئته ليس يمنع
وإنك تعطي الجزل فضلًا وتغفر الـ
…
عظيم وفضل الله أعلى وأوسع
وهب لي شفاءً منك ريي وسيدي
…
فمن ذا الذي للضر غيرك يدفع
فأنت الذي ترجى لكشف ملمةٍ
…
وتسمع مضطرًا لبابك يقرع
فقد أعيت الأسباب وانقطع الرجا
…
سوى منك يا من للخلائق مفزع
إليك إلهي قد رفعت شكايتي
…
وأنت بما ألقاه تدري وتسمع
ففرج لنا خطبًا عظيمًا ومعضلًا
…
وكربًا يكاد القلب منه يصدع
وماذا على ربي عزيز وفضله
…
علينا مدى الأنفاس يهمي ويهمع
فكم منح أعطى وكم محن كفى
…
له الحمد والشكران والمن أجمع
وأزكى صلاة الله ثم سلامه
…
على المصطفى من في القيامة يشفع
محمد المختار من نسل هاشمٍ
…
وآلٍ وأصحابٍ ومن كان يتبع
ولقد كانت هذه القصيدة عظيمة تدل على عظمة منشئها وما لديه من العلم والمعرفة، وقوة الإيمان، ورسوخ العقيدة، ولا ننسى مآثر صاحب الجلالة عبد العزيز بن عبد الرحمن وما بذله من الأعمال الطيبة التي سيجازيه الله عليها.
وفيها صدرت إرادة الملك عبد العزيز بإحضار ساعة عظيمة ضخمة، فركبت على قاعدة فوق دار الحكومة المسماة بالحميدية، وكان ارتفاعها خمسة عشر مترًا عن سطح دار الحكومة، كما أنه يبلغ ارتفاعها عن سطح أرض الشارع الفاصل
بين دار الحكومة وبين المسجد الحرام أكثر من خمسة وعشرين مترًا، وصارت بهذا الارتفاع تضاهي منائر المسجد الحرام، وهي ذات وجهتين إحداهما مطلة على المسجد الحرام وشارع المسعى، والأخرى مطلة على محلة أجياد، ويسمع صوت دقات جرسها كل من كان في المسجد الحرام، وشارع المسعى وسكان المدارس التي حول المسجد الحرام وما جاوره، وتضاء مينتها ليلًا بالكهرباء، وقد شدت قاعدتها بالآجر والنورة والحديد وأحكمت إحكامًا متقنًا، ولا شك أن هذه الساعة أول ساعة وجدت بالحجاز بهذه الصفة ضخامةً وضبطًا وقوة وبهاءً، وأصبحت هذه الساعة هي الوحيدة للمسجد الحرام يعتمد عليها في التوقيت، ولما أن أحضرها وزير المالية عبد الله بن سليمان عهد إلى أمين العاصمة إذ ذاك عباس قطان بوضعها في الموضع المذكور.
وفيها جمع العلماء رسالة نصيحة في الحث على طلب العلم، جاءت بعد البسملة: من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وعمر بن محمد بن سليم، وصالح بن عبد العزيز، ومحمد بن إبراهيم آل عبد اللطيف، إلى كافة المنتسبين لطلب العلم من أهل نجد، وفقهم الله تعالى وهداهم وتولانا وإياهم، ثم ذكروا الآداب التي ينبغي لطالب العلم أن يتأدب بها، وحثوا على التشمير في الطلب والجد والاجتهاد، وكان تحرير كتابتها في 17 ذي القعدة من هذه السنة ثم إنه سجل عليها جلالة الملك وصدق في أسفلها بأن ما كتب المشايخ هو الحق ونصح، وأبلغ وألزم من كان أهلًا لطلب العلم أن يطلبه، وأكد في ذلك وختمها بتاريخ ما تقدم، فجزى الله من أعان الإسلام وأهله ولو بشطر كلمة، وسدد إمام المسلمين ومشايخ الإسلام الأئمة الأعلام، وكان لهذه النصيحة أعظم الوقع في القلوب، وفعلًا قد بادر العلماء إلى القيام على الطلاب، ولكنها قد غلبت الفترة والكسل على أكثر النفوس فأوثرت الدنيا على الأخرى، فما كأنها تبصر ولا تسمع وأصبح الخلق في نقص في أمور دينهم، ووقع الوهن وضعفت العزائم والهمم، وحلت مصيبة عمت فأعمت، وعظمت فأصمت، وأصيب المسلمون بنقص العلماء، وكثرة السفهاء وزهد أبناء