الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجلية والمواهب الربانية، وما زال المترجم يجدّ في طلب العلم حتَّى أصبح منتظمًا في سلك أهل الدين، ومنتميًا إليهم، ومحبأ لهم، ومقدرًا ذلك لمكارم أخلاقه وعلو همته ونبل معرفته، وكم لهذا الرجل العظيم من مآثر في الإسلام ودفاع عن الوطن، وجهاد في تقدمه، ونجاحه بما كان به موضع الإعجاب من بين سائر البلدان، وإن بلادًا يقوم بها رجال الدين والبصيرة والعلم والمعرفة لجديرة بالنجاح والتقدم والرقي وبلوغ شأو العلى والمفاخر.
ذكر شيء من مقاماته التى بذل مهجته فيها لمصالح الأمة
لقد قام ابن مشيقح هذا وزميله الرجل العظيم فهد بنُ علي الرشودي بأمور هامة، وكان له رأي ومعرفة وتجربة، وله جاه عند الملوك والأمراء فيسمع له ويطاع، ويتمشى على ضوء آرائه وأفكاره، وبلغت به همته أن كان من أكبر الزعماء في القصيم.
فمن ذلك لما كان قبيل واقعة السبلة المتقدمة بين صاحب الجلالة وبين البغاة من البدو أصحاب الدويش وابن حميد أبدى حكمًا وآراء جميلة، فإنه خرج هو وفهد بنُ علي واتفقا بصاحب الجلالة فطلبا أن تكون الواقعة مؤجلة بعدما عزم صاحب الجلالة على القتال سنة 1346 هـ فأُجلت إلى السنة القادمة، وطلبا أن يكون ميدان القتال حوالي القصيم وذلك لإمداده بالمياه، وخشية أن يقطع عليه العدو خط الرجعة، فنزولًا على الرغبة وافق على هذا الرأي، وبذلا مهجهما لطلبه فكان لا ينساها لهما، وجعل الله في ذلك النصرة وحسن العاقبة، وكان الملك الراحل يستأنس بآرائه ويميل إليها لنصحه ومعرفته، ولقد قام على أنجاله فهذبهم وثقفهم ورباهم أحسن تربية كانوا بها طلاب علم يسعون في الطلب ويدأبون في نيل الفضائل والعلم، وأبان لهم ما ينبغي لطلاب العلم أن يتصفوا به حتَّى كانوا هبة من الله تعالى أقرَّ بها عينه.
وقد قام في عمران مسجده الكبير الواقع غربي بريدة واستجلب إليه طلاب العلم، حتَّى مرَّ عليه طور وله كضيض من الزحام، فامتلأ بطلاب العلم وطلب من
الشيخ عبدِ العزيز العبادي أن يدرس فيه ويعلم، فأحاطت بهذا الشيخ طلاب العلم من كل جهة وقصدوه من كل جانب، وكنت أظن أنَّه يبذل لفقراء الطلبة مساعدات مالية ويشجعهم ويحثهم ويبذل نفسه ونفيسه في ذلك.
ولقد طلب من الشيخ القاضي عمر بنُ محمد بنُ سليم أن يدرس في بيته بعد العشاء الآخرة فكان يجلس إلى جانب الشيخ ويستمع التدريس، ولا تزال القهوة العربية والشاي يدار على جميع الحاضرين من الطلاب والمستمعين، وبذلك أمسى بيته العامر الكبير مأوى لطلاب العلم والمستمعين.
وكان يقدر العلماء ويوقرهم ويؤيدهم ويقيم المآدب الكبار على الدوام للعلماء والكبراء، فقلَّ من زائر يقدم بريدة إلَّا ويدعوه إلى بيته وكرامته، وله عادات حسنة يقوم بها ويجمع الأخيار ويانس برؤيتهم، ويطمأن إلى حديثهم، فبذلك كان سخيًا جوادًا مبذالًا، ويختص أهل العلم والدين ويقدم مجالسهم ويقربهم، ويميل إليهم بتواضع ولين عريكة وخفض جناح، وإذا منَّ الله على عبدٍ فليفعل ما شاء من خصال الخير.
وكان المترجم تاجرًا كبيرًا وحصل على شيء عظيم من البيوت والأراضي والدكاكين، وساعدته الظروف والأحوال في زمنه فكان له جاه ومنزلة عند الخاص والعام.
ومما عرف عنه أنَّه يدقق في إحصاء أمواله، فإذا كان في شهر رمضان أخرج زكوات كثيرة، ويعتبر بيته في القصيم من أكبر بيت، فإنه قد امتلأ بأولاده وبناته وأبنائهم وأبناء أبنائهم، حتَّى روي لنا أنَّه أخرج عن بيته في صدقة الفطر ستين فطيرة، ويرى على أبنائه وأحفاده آثار النعيم والبهجة، وقد ثقل في آخر عمره لأنه عاش اثنتين وتسعين سنة، فكان يحمل في عربة أهداها له جلالة الملك المعظم عبدِ العزيز بنُ عبدِ الرحمن، وكانت جميلة تدف من خلفها، وهذه مما أهداها لجلالته رئيس الولايات المتحدة روزفلت.
ومما يؤثر عن المترجم أنَّه ذكر لجميع أنجاله وأحفاده أن من كان مشتغلًا منهم
بطلب العلم فإنه مكفي المؤونة، ولا عليه إن كان فارغًا من جميع أشغال الدنيا، وقد زوج جميع البالغين وجعلهم يترددون زرافات كل سنة لحج بيت الله الحرام، وأكرم جميع أسرته وسد خلتهم، وسيرهم لحج بيت الله الحرام، وقد يتطاول بالمساعدات المالية والتجهيز للحج من يراه بحاجة إلى ذلك.
فنسأل الله تعالى أن يرفع درجاته في دار الآخرة وأن يصب عليه من الغفران سحبًا ماطرة، وأن يجعله من وجوه ناضرة إلى ربها ناظرة، ولي من أبيات رثائية قلتها في بعض الأحباب لا فجعت بموته، وما أولى بمناسبتها في هذا الوضع لأن هذا الرجل الهمام يجدر بنا أن ننوه بذكره ونخلد مآثره التي قلَّ من يتصف بها من أهل الإسلام ويجاريه فيها غالب الأنام، فلا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم:
رأيتك في الدنيا مقيمًا وواثقًا
…
تروح وتغدو ناسيًا كل نازل
أتعمر درًا آذنت برحيلها
…
وتصرخ في ويلاتها بالزلازل
أما قد تراها في شتات وخدعةً
…
تغر ذويها بالخداع الأباطل
تذيق محبًا من حلاوة شهدها
…
وفي طيتها سمٌ لها كالحبائل
ألم ترها ترقي ذوي الحب رتبةً
…
فترميهموا من شاهقات المنازل
لك الله ما طابت فترضى بموطنٍ
…
وقلبك مشغوفٌ على غير حاصل
تجر الدواهي والبلايا خطوبها
…
ويسأمها أهل النها والفضائل
بنفسي وأهلي من حبيب مفارقٍ
…
أديبٍ نجيبٍ ماهرٍ في المسائل
دهينا به وأسوأتًا كيف أننا
…
نكبنا به رغمًا على كل عامل
فلو أن فيه الموت يقبل فديةً
…
لكنا بها نسعى سريعًا بعاجل
وقمنا سراعًا كي ندافع دونه
…
بجاهٍ وأموالٍ كذا كل طائل
فما قد دهانا مثلها من مصيبةٍ
…
ولا قد عرى من مزعجات الزلازل
فيا للمنايا كم أبادت لمثله
…
فخرَّ صريعًا في العرا والجنادل
ويا ما أمرَّ البين والله إنه
…
فراق حبيبٍ قد دهى بالعواضل
وقائلةٍ ما لي أراك مفجعًا
…
كثير همومٍ بالفؤاد شواعل
وذا فكرةٍ تصبو إلى كل فائت
…
كأَنَّك موكولٌ برعي المنازل
فقلت ذريني قد عراني كوارث
…
وهمٌ طويلٌ دائمٌ غير زائل
دعيني فلا والله ما بعد هذه
…
مصابٌ كبيرٌ من عظام البلابل
أينسى شفيقٌ نافعٌ غير ضائر
…
كريمٌ وصولٌ نابغٌ في الأمائل
له في الندى رسمٌ يطول على الورى
…
ويعلو على أقرانه في الفضائل
ومنها:
على مثله يبكي محبٌ ووامق
…
كفى الله شر الطارقات النوازل
أعلل نفسي بالتلاقي وقربه
…
وأوهمها لكنها في التغافل
أقول لها كفي عن البين إنه
…
مضى لطريق كلنا فيه داخل
وذي من تقادير الإله مصيبةٌ
…
قضاهاحكيم ملكه غير زائل
فحمدًا لمولانا وشكرًا على القضاء
…
ونرجوا له الزلفى بدار الأفاضل
ونسأل رب العرش يجبر كسرنا
…
ويفرغ صبرًا عاجلًا غير آجل
مات المترجم عن سبعة بنين، ولكل ابن نسل كثير، وعن بنتين، ومن أشهر أبنائه عبدِ الله وحمود وغالب أبنائه وأحفاده وأسباطه تلامذة لآل سليم، وقد مرَّ ذكر بعضهم ولا نطيل هنا لأننا نؤثر الاختصار.
ولما مات صلى عليه المسلمون وحمل إلى المقبرة الجنوبية في بريدة فلاجة، ولا يزال قبره يزار ويتردد إليه كل جمعة، وأصيبت به الأمة وفقده أهل الإسلام، واتفق على تعظيمه والدعاء له الخاص والعام، فنسأل الله تعالى أن يجبر المصاب بفقده ورفع منازله في دار كرامته.
وفي هذه السنة نشأ خلاف عظيم ونزاع طويل في شأن واحة البريمي وذلك بدعوى أنَّها مشمولة بالحماية البريطانية وهي تدين أولًا بالسمع والطاعة لآل سعود حكام نجد، وبالنظر لأن الحكومة السعودية تستند في ملكية هذه المنطقة إلى التاريخ، والواقع لأنها تدين من قبل لآل سعود فقد ظلت هذه المنطقة تحت حكم آل سعود أيام سلطانهم.
وقد غاب آل سعود عن قلب الجزيرة العربية إحدى عشرة سنة ثم عاد جلالة الملك وبسط سلطانه ونفذه على تلك الأماكن منذ أكثر من اثنتين وخمسين سنة من غير منازع، إلى أن قامت السلطات البريطانية بأعمالها العدوانية في تلك المنطقة.
ولما أن اعتدت بريطانيا في الخليج العربي على بعض المناطق في الجنوب الشرقي من المملكة العربية السعودية بدعوى الدفاع عن مطالب لسلطان مسقط، عقدت اتفاقية في الرياض سميت اتفاقية التوقف في المنطقة المختلف عليها، ووقع السفير البريطاني يحدة مع سمو وزير خارجية المملكة العربية السعودية على هذه الاتفاقية، وقد التزم كوجبها الجانبان السعودي والبريطاني التزامات خاصة، غير أن السلطات البريطانية لم تراعي تلك الاتفاقية، وبدأت سلسلة من الاعتداءات المتكررة بأن وصل البريمي الضابط السياسي البريطاني 23 صفر 1372 هـ الموافق 11 نوفمبر 1952 م ومعه سيارتان وعشرة جنود مسلحين، ووصل البريمي أيضًا الضابط السياسي في 1 ربيع أول من هذه السنة ومعه ثلاثون جنديًا، وبقي خمس ساعات يحاول فيها أخذ صقر بنُ سلطان بعدما قدم الضابط المذكور قبل ذلك وأخذ صقر بنُ سلطان بالقوة، ولكنه هرب.
واستمرت الاعتداءات من بريطانيا بسيارات مسلحة وأعادت طائراتها التحليق المنخفض فوق المنطقة، واستعملت بريطانيا القوات المسلحة ضد القبائل الآمنة، واستدعيت قوات من بعض البلدان العربية المجاورة لتستخدمها الحكومة البريطانية في احتلال مناطق جديدة، وللقبض على الأهلين وسجنهم وتقييدهم بالأغلال، واعترافهم بأن ذلك إجراءات لازمة.
كل ذلك لإرهاب الأهلين والتأثير عليه، ولإرغامهم بالقوة على الخضوع للسلطات البريطانية.
وبالرغم من قرارت المادة الثانية والثالثة من مواد اتفاقية التوقف فإن الحكومة البريطانية لا تزال في غيها، وآخر شيء قامت تصادر جميع الأرزاق الواردة على إمارة البريمي، واتخذت كل الوسائل لفرض حصار شديد، وأخرجت سيارات