الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان قصير القامة، قليل اللحم، يخضب لحيته بالحناء بعدما علاها الشيب، ويظهر من وجهه البشر ويبرق بالسرور والطلاقة، ليس بالعبوس ولا المقطب، وكان أصله من القرائن ثم انتقل بعض أسرته إلى القرعاء القرية التابعة لبريدة، وكنت أظن أن نقله من الحجاز لأن الجو لم يوافق له هناك.
ذكر أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ومقاماته في الإسلام
كان الشيخ عبد الله بن بليهد من أعظم المقربين عند الملك عبد العزيز، وكثير المناصحة له، إذ هو المقدم على رأس المجتمعات العظيمة، ولما كان في بعض الأيام دعى صاحب الجلالة بالعلماء واستوفدهم إليه في الرياض، وجعل يشكو زهد الناس في العلم وطلبه وأنه لا يطلب العلم إلا متعطل الأسباب كأعمى وقاصر في أمور الدنيا، فأجابه الشيخ عبد الله بقوله: نعم يا طويل العمر وما بال أهل العلم لا يكون عددهم قليل وهم لا يجدون الكفاية في أمر معيشتهم، فلو كان لديهم كفاية لفرغوا أوقاتهم للطلب، وأكبوا على الدراسة، وحصلوا على معلومات كثيرة، فلما أصبح طالب العلم فقيرًا لا يجد ما يسد به حوائجه وحقيرًا لدى الناس ضيق المعيشة، لا يجد ما ينفقه على نفسه ولا على أهله، فإن أعطيتموه شيئًا من بيت المسلمين فإن حقه نذر يسير، وإن حضر فإنه في آخر المجالس لا يلتفت إليه ولا يراعى ولا يقرب، كانت بضاعة العلم كاسدة بين الناس ولا يصبر على مكابدة مرارته إلا أفذاذ الرجال، فإذا أحببتم العلم وأردتم أن ترفعوا مستواه فأسسوا مدارس ومعاهد وشجعوا الطلاب بالمكافات الشهرية، وأكرموا العلماء وقدروهم وارفعوا من شأنهم، وجعل يحث على رفعة العلم والعلماء وإكرام العلم، وطلب من صاحب الجلالة تأسيس مدرسة كبرى لطلاب العلم في بريدة تكون دارًا للحديث والعلوم الدينية، وأن يصرف لأهلها كفاية من المطعم والمشرب واللبوسات، وأن يكون الشيخ عمر بن سليم إمامًا في مسجد وسط البلد وأشياء طلبها، فبادر الملك إلى ذلك وأسست هذه المدرسة حوالي سنة 1345 هـ ولكنها لم تنتظم والقصد من هذه المدرسة أن تكون مأوى
لكل غريب وفقير من طلاب العلم، ويا ليتها انتظمت وأصبحت يتردد إليها كل غريب وفقير، ولكنها ويا للأسف تأخرت وأملنا عظيم بحكومتنا أن تقوم بإكرام أهل الدين وفتح ملاجئ وبيوت للعجزة، وإنشاء مستشفيات وإصلاح طرق وغير ذلك مما يعود نفعه على البلاد.
وكان جلالة الملك عبد العزيز يصبر على ما ينال جانبه ويتحمل العنف من المشايخ إذا ما بدت غيرتهم لله ولدينه، وذلك لما منحه الله من الخصال الجميلة والمكارم، وكنت أظن أن الله جلت قدرته إنما مكن له في الأرض وبسط ملكه وأعلى شأنه لإكرامه العلماء والعفو عن زلاتهم وأخذ نصائحهم، وكان المترجم يغلظ في النصيحة، حتى قال مرة: يا عبد العزيز إن بيت المال للعلماء والقضاة والمفتيين والأئمة والمؤذنين ليس بيت مال المسلمين خاصًا لجنودكم، وسمع جلالة الملك سيارة لحديدها وأخشابها قعقعة في مسيرها فجعل ينظر إليها من النافذة استنكارًا لصوتها وإلى جانبه الشيخ عبد الله، فسأل الملك عن هذه السيارة بعض من حواليه؟ فأجابه الشيخ قائلًا: هذه سيارة المشايخ التي تبعثونها إليهم إذا أرتم حضورهم.
وكان الشيخ يحبذ للعامة ركوب السيارات والانتفاع بهذه المخترعات الحديثة، ويبين أنه لا مانع من ذلك ولا ينبغي للإنسان أن يتجاهل ويكون غبيًا، فإن الإنسان عدو ما جهل.
أما كرمه وجوده فقد جعل موضعًا للضيافة، وحدثني من رأى بذله وجوده أنه كان في ضيافته ثلاثة أيام ولقي هناك أنواعًا من الأطعمة والأشربة كاللحم والأرز والخبز واللبن والشاي والبن، قال ثم استأذنته بالرحيل وودعته فسألني عن الإقامة في حائل وهل كان لي أهل؟ فلما تبين له أني أريد الإقامة ولا أهل لي في البلد طلب أن أتردد شهرًا كاملًا، وقال يا بين إن الشيء خارج لك أو لغيرك وهذه عادتنا فلا نتكلف للضيوف، وكان لديه سيارات ويحمل من استحمله، وكم له من يد بيضاء تجود بنفع المحتاج وكسوة العاري وإطعام الجائع، ومن فوائده أنه وعظ مرة فقال في موعظته:
ما أحرص الشيطان على حرمان ابن آدم من الأجر، إني رأيت مرة رجلًا صلى مع الجماعة، فساعة سلم الإمام قام ليخرج مسرعًا، فلما خرجت قدمه الأولى وقف يفكر إلى أين يذهب، ولبث كذلك بين السوق والمسجد فعجبت كيف أقامه الشيطان من موضعه ذلك الذي ما دام فيه فإنه في صلاة وفوت عليه الثواب والحسنات، فيا له من حبر أديب شهدت له بالفضل محاريب العلا، وعرفه بالمكارم أهل الخبرة والنهى، فيا ليت شعري من مثل هذا الشيخ ومن يباريه في الفضل أدبًا وعلمًا ودينًا وعقلًا، وأنى لنا مثله، ولكنه من رجال كانوا فبانوا، وقد امتدحه الأدباء والأفاضل وترنموا بمديحه نظمًا ونثرًا في حياته وبعد وفاته، قال بعض المدنيين في قصيدة يمتدحه:
إمامٌ له في المشكلات إذا دجت
…
مقال لدى التحقيق يسفر عن فجر
يجدد من تلك العلوم رسيسها
…
ويحي به ميت الفؤاد مدى الدهر
فلا غرو أن عاد الحجاز به سنًا
…
وجر ذيول الفخر تيهًا على مصر
هو الشهم عبد الله آل بليهد
…
مؤيد دين الحق بالعز والنصر
فمن ذا يضاهيه سموًا ورفعةً
…
وفضلًا ومجدًا وهو أوحد في العصر
وماذا يقول الواصفون وفضله
…
تجلى فحلى فائق النظم والنثر
إذا رام شخصٌ مادحٌ حصر وصفه
…
فقولوا له قصر فقد جل عن حصر
ولما مات رثاه العلماء والأدباء بمراثي كثيرة حسان، وباحوا بما عندهم ونحن نسوق بعضًا من كل، فمن ذلك ما قلناه فيه لما فجعنا بموته، بل الله ثراه بوابل العفو والغفران وأسكنه عاليات الجنان يمتع في جوار سيد ولد عدنان ويطوف عليه بالأباريق والأكواب فيها الولدان:
على الحبر بحر العلم فرد الفضائل
…
وبدر الدجى فالبيك كل القبائل
على عالم التوحيد لا زلت باكيًا
…
بدمع غزيرِ ساكب بل وهاطل
عنيت به ذا الحزم بل كامل الحجا
…
يعز علينا فقده في القبائل
فأعظم بهذا الرزء أي مصيبة
…
كفقدٍ لعبد الله زين المحافل
هو الحبر ذو التحقيق نجل بليهد
…
سليل سليمان كريم الشمائل
حبيب رحيب بالوداد ومكرم
…
لأهل العلوم الطيبين الأفاضل
فيا أسفا من فقد ذي الجود والندى
…
ومروي الصدى من غامضات المسائل
لقد كان ذا قلبٍ سليم سرائر
…
سؤول لمولانا جزل الفضائل
يحب ذوي الإيمان من كل مخلصٍ
…
ويبغض أهل الزيغ من كل جاهل
يحامي على الإسلام من كيد مارق
…
ويدمغ يافوخًا لأهل الأباطل
له غيرةً لله تحمي محارمًا
…
لدين الهدى إن رامه كل خاتل
له في علوم الشرع باع طويلةً
…
يقصر عنها خطو كل مماثل
وفي كل الفنون أمسى محققًا
…
بفهمٍ منيرٍ واقد في المسائل
يبين أحكام الشريعة جاهدًا
…
بتقرير مندوب وحظر لباطل
وكم باع أردى بشهب علومه
…
وقطع أعراقًا لها بالمعاول
إذا جئته بالليل تلقاه خاضعًا
…
ملحًا على المولى وليس بكاسل
وفي كل آناء النهار بعلمه
…
يبصر حيرانًا ويهدي لجاهل
إمامٌ لعمر الله يسطو بحجةٍ
…
ويجلي داجي مظلمات المشاكل
وإن جئته في الجود تبغي لنيله
…
فسبحان من يعطي جزيل الفضائل
له خلق زاك يميل إلى العلى
…
ويبذل مما عنده غير باخل
إذا جاءه من مبتغي الفضل عاجزٌ
…
يجد عنده كشف الهموم النوازل
يجود ببذل المال لله وحده
…
سجيته بذل الندا في القبائل
وما همه جمع الحطام لوارثٍ
…
وتحصيل مشرباتها والمآكل
به تشهد الوفاد إن كنت سائلًا
…
فسل ساكنًا في طيئها وأهل حائل
فيأتيك بالأخبار من قاطن الحمى
…
وضيف ثوى والمحصنات الأرامل
له نهمةٌ في الجود والعلم والنهى
…
فسل منصفًا عماله من فضائل
ودع أحمقًا في غيه وضلاله
…
ومن كان شريرًا كثير الغوائل
وخنزير طبع بالسواقط مولعًا
…
فهمته كسب القذا في المزابل
فنشكوا إلى الله الخطوب جميعها
…
فيا محنة الإسلام من كل عاطل
وقد جاءنا عن سيد الرسل أحمد
…
نبيّ أتى بالمعجزات الدلائل
بأن ذهاب العلم موت رعاته
…
وبعدهم تبقى شرار الرذائل
فمن مثل عبد الله في الناس كلهم
…
خبيرٌ بصيرٌ ماهرٌ في المسائل
يغوص بفهم حاضرٍ متوقد
…
لحل عويص المشكلات النوازل
تغمده رب العباد بعفوه
…
وإحسانه والله أقدر فاعل
فيا من هو العالي على كل خلقه
…
تمد الأيادي نحوه في المسائل
ويا قاهرًا فوق العباد بقدرةٍ
…
تباركت خلاقًا تجيب لسائل
أغث قبره بالمن منك تفضلًا
…
ونعمه في الجنات مع منازل
لأن كان أمسى رهينًا بقبره
…
فنرجوا له العقبى بدار الأفاضل
ونسأل رب العرش يحسن عزاءنا
…
ويحبر مكسورًا دهي بالمهاول
ويبقى لنا حبر البلاد وشيخها
…
فتى من سليم عالمًا بالدلائل
فيا رب متعنا به وعلومه
…
وتكفيه شر الطارقات النوازل
وصلِّ إلهي ما تألق بارقٌ
…
وما اهتزت الأزهار في صبح هاطل
وما أمُّ بيت الله من كل سائر
…
وما هل في الغبرا رذاذ الزواجل
على أحمد الهادي إلى خير شرعةٍ
…
وآل وأصحاب كرام فاضل
وقال أيضًا الشاعر الحجازي أحمد بن إبراهيم الغزاوي يرثي الشيخ عبد الله بن سليمان بن بليهد، وكان يعرف عن أخلاقه وشهامته حينما كان الشيخ قاضيًا في مكة:
في مثلك الصبر عند الله يحتسب
…
والعلم يرفع والأشجان تصطخب
يا ويح كل فؤادٍ أنت موقظه
…
أمسى بفقدك في أعماقه يجب
ويا رزية هذا النعي في ملأ
…
كأنما الدمع من أعماقه عبب
ترمض عبراته حزنًا على جدثٍ
…
فيه السماحة والأخلاق والأدب
ما للجفون أراها فيك دامية
…
كأنما هي بالأحشاء تنسكب
هيهات أودى الردى في غير ما لجب
…
بمشمخرٍ من الأطواد ينشعب
حبرٌ من الصفوة الأولى علقت به
…
فما فتئت أعاني فيه ما يجب
هوى به الموت في لجي غمرته
…
فأين لا أين ذاك المدرة الذرب
في ذمة الله ما ألقى به وله
…
من رحمة الله ما نرجو ونرتقب
ما كان إلا جنانًا ثابتًا ويدًا
…
تشد أزر الهدى والوعد مقترب
تبلو الشريعة فيه حاذقًا فطنًا
…
من الذين لهم في شملها دأب
يجيش كالموج أو كالبحر منطقه
…
ولا تباريه في آفاقه السحب
في قلبه من ضحى الإسلام ألويةً
…
خفاقةً وهي في غاراته خطب
وفي سويدائه التوحيد مدرعٌ
…
حسن اليقين غير أنه لهب
إذا انبرى في مجال من مواقفه
…
حسبت سحبان تجثو حوله الركب
عجبت للحد هل في اللحد متسعٌ
…
حتى انزوى فيه رضوى فهو محتجب
بشد ما ضاقت الدنيا به أبدًا
…
فكيف وأراه شبرٌ وهو منقلب
ما لي وللندب فيمن خطبه جلل
…
ومن عليه حدود الله تنتحب
لا نملك اليوم إلا زفرةً ورضا
…
بما قضى الله فيه ثم تحتسب
وما قضى من له في ربه أمل
…
ولا قضى من له في دينه نصب
فإن ذكراه في الآصال باقيةً
…
والموت حق وما من دونه هرب
فضاعف الله أجر المؤتسين به
…
في جنة الخلد وليعظم به السبب
وعوّض الدين عنه خير ما طلعت
…
عليه شمس الضحى أو غارت الحقب
وقيل فيه مراثي كثيرة رثاه بها الشعراء والأدباء وأطالوا، فمن الذين رثوه الشيخ عثمان بن أحمد بن بشر، ورثاه أيضًا الأخ في الله والمحب فيه عمر الوسيدي وغيرهم، ولا نطيل بذكرها.
ولما مات أحصي ما عليه من الديون فإذا هي كثيرة جدًا فتولى قضائها جلالة الملك عبد العزيز بن سعود، وصليَّ عليه في الآفاق بالنية، وله أنجال كرام ليس فيهم من يسد ثلمة والده، ثم إنه جعل الملك عبد العزيز مكانه في قضاء حائل وما يليها فضيلة الشيخ عبد الله بن عمر بن دهيش، وكان رزينًا صالحًا وذا شخصية بارزة.
وممن توفى فيها من الأعيان الشيخ عبد العزيز بن بشر، وهذه ترجمته:
هو الشيخ العالم القاضي العارف المتفنن في العلوم عبد العزيز بن عبد الرحمن آل بشر من بني زيد من شقراء، وكان فيه صلاحية للقضاء ومؤهلات للأعمال، فجعله ابن سعود قاضيًا في بريدة لما دخلت في ولايته للمرة الثانية، وكان القاضي قبله إبراهيم بن حمد بن جاسر، فلما قدم الشيخ المترجم تولى القضاء وأخذ يدرس في العلوم الدينية، ومما نقل عنه أنه لما قدم إلى ضواحي البلد مساء استضافه رجل من أهالي الصوير القرية المجاورة للبلد إلى جهة الشرق، فلبى طلبه وقال: سندخل البلد صباحًا ونسلم في آخر النهار من تبعات المسؤولية، ومعنى هذه الكلمة كل واقعة من القضايا تحل ويسلم القاضي منها تعد غنيمة، وكان سخيًا كريمًا مبذالًا، واتخذ كاتبًا من أهالي بريدة وهو عبد الله بن ناصر بن سليمان بن سيف نجل الشيخ ناصر ابن سليمان، ووافق قدومه المسغبة التي جرت على نجد، فألّف رسالة مختصرة فصيحة للمسلمين في هذا الموضوع فاستمر في القضاء ثلاث سنين، ثم أنه لعدم معرفته بالناس وتمييزه لطبقاتهم اختلط لديه الحابل بالنابل وسعى بعض أهل الأغراض فتوترت العلاقات بينه وبين بعض العلماء، فساءت الحال إلى أن نقل من القصيم إلى الإحساء فتولى القضاء هناك وقام بهذه الوظيفة قيامًا حسنًا، ولبث في الإحساء مدة طويلة، ثم أنه نقل إلى قضاء الرياض، ثم إنه أسنَّ وهرم فكان من المعمّرين لأن ولادته حوالي سنة 1273 هـ، وقد رأيت له تقريرًا لتضعيف إمامة المرأة للرجال في صلاة النافلة وهذه المسألة التي قال بضعفها من مفردات الإمام أحمد، وقد انتقد الشيخ عبد العزيز بعض العلماء بشأن هذه المسألة، ولما مات صلى عليه المسلمون في سائر الأقطار بالنية، وكان الذي خلفه على قضاء الإحساء الشيخ سليمان العمري، أما القاضي بعده في الرياض فقد جعلت الحكومة بعده الشيخ ابن زاحم والشيخ عبد الله بن حميد.
وفيها أمر الشيخ القاضي عمر بن محمد سليم بنقض بناية المسجد الجامع في مدينة بريدة وإعادة بنايته لأن المسجد قد تضعضع بعض بنائه لكثرة ما يتردد عليه
من السيول على مر السنين، فشرع في هدمه وأضيف له سعة من جهة الشمال، وقام الشيخ بأعباء العمل، وكان قد شاور الأعيان من الأهالي فوافقوه على ذلك، غير أن الشيخ هو الذي باشر المهمة بنفسه وبعث بالأخبار إلى جلالة الملك، فبعث الملك أيده الله ورفع قدره مساعدة على العمل، وهذه المساعدة قدرها خمسة عشر ألف ريال فرنسي، وتقدر بخمسة وأربعين ألف ريال سعودي، وكم لهذا الملك من الأعمال الطيبة والمسارعة إلى كل مشروع ديني، ولما أن هدم إلى اسه عدل الشيخ جهته وأقيمت العمد كأحسن ما يكون في القوة والحسن، وجعل محل السقف الخشي عقودًا من الحصا وكان الشروع في العمل في 15 جمادى الأولى، ثم إنه جلب إليه مهندسين وأكثر من العمال في بنائه فاستقام من طين وأحكم بنائه إحكامًا مبرمًا، وقام الشيخ أكمل القيام فكان يباشر وضع العمد والجدر ويرشد المهندسين إلى إكمال العمل، وقد وزع الأهالي وقت بنائه في أربعة مساجد من بريدة، وكان انتهاء العمل في 9 شعبان إذ امتد وقت العمارة ثلاثة أشهر إلا قليلًا، وتعتبر هذه المدة قصيرة لكبر المسجد ولأنه أصبح يسع خمسة آلاف من المصلين، وتعد هذه الخطة حسنة خالدة في تاريخ الشيخ المذكور والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وقد قام أهالي عنيزة فعمّروا مسجد الجامع في مدينتهم وأتقنوا صنعته، وقد امتاز علمهم الخيري بأن غالب النفقة كانت من الأهالي وفقهم الله وأكثر القائمين بالأعمال الدينية.
وفيها طلب أهالي مكة من جلالة الملك عبد العزيز أن يسنّ بهم سنته في أهل تجد بأن يجعل عندهم من ينظر في مشكلات القضاء، وشكوا إليه ما يقاسونه من ضياع أموالهم في طول المراجعات والتردد إلى المحاكم، فأتحفهم بالشيخ العالم العاقل محمد بن عبد العزيز بن مانع صاحب شرح عقيدة السفاريني، وكان عالمًا حسن الخلق ذا بصيرة وسياسة وتجربة في الأمور، أشمط اللون، قصير القامة، فجلس المذكور في مكة على كرسي العدالة، وطلبت منه الحكومة رجالًا من المنتسبين إلى العلم في نجد يكونون مرشدين يعظون في مساجد مكة المشرفة ويدّرسون في كتب
الحنابلة على الشيخ المذكور، ويكون يضاف إليهم من الأعمال كونهم أعضاء في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك بشرط أن يكون أولئك المذكورون من تلامذة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ومن تلامذة الشيخ عمر بن محمد بن سليم، فذهب المذكورون إلى مقر أعمالهم التي طلبوا إليها، ولما أن وصلوا في هذه السنة إلى أم القرى أخذوا في الدراسة على الشيخ محمد وانبعثوا يرشدون في مساجد مكة وما يليها، كان يذهب المرشد إلى أحد المساجد فيصلي مأمومًا ثم يأخذ بعد الصلاة في الموعظة والإرشاد، ويا حبذا هذا العمل الخيري، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يقوم به الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع والأعضاء الذين معه فكانوا في قوة وعزيمة ونشاط، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ومن الأعضاء من لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد كان يجلس الرئيس محمد بن مانع وإلى جانبيه الأعضاء من الحجازين والنجديين فيؤتى بالمجرم فيوتف أمام الهيئة يسوقه العسكري، فيقرر على جنايته هذا شتم، وهذا لم يشهد الجماعة، وهذا يشتكي جاره، وذلك مؤذن يشكو زميله يقول أقام للصلاة ولم يؤذن، وهذا شرب مسكرًا، وذا عثر على أنه يفتح الراديو في الملهى إلى غير ذلك، فيعزر العاصي بما يستحق ويردع المعتدي، وكثيرًا ما يجري الخلاف في كثير من المسائل، هذا وقد جعل لكل شخص مرتب شهري يصرف له من الأرز والسمن والتمر واللبن والسكر والشاي والنفقة والسكنى والكسوة.
وفيها نزل غيث عظيم على مكة المشرفة حتى سقط منها مائة وأربعون بيتًا، وخرب لذلك بعض مجاري عين زبيدة، ودخل السيل في المسجد الحرام حتى كان على قدر قامة الإنسان، وبلغ حوالي باب الكعبة المعظمة، وخرّب أسلاك الكهرباء بعدما دخل إلى أعمدتها فاضطرت الحكومة السعودية إلى وضع اسطوانات من حديد يجعل من بينها ألواح خشبية في أبواب المسجد الحرام للوقاية من دخول السيل فيه، لكن الله دافع عن الأنفس البشرية، كذلك قامت الحكومة بإنشاء سد في أعالي مكة ليصرف الوادي عن البلد.
وفيها حصل تمرد من شرار في مكة يريدون زعزعة نظام الحكم بحسب ما يتصورون، وكان القائمون بهذا الأمر بعض أحفاد الشريف عون الرفيق أمير مكة في العهد العثماني، وهم الشريف حسن والشريف عبد الحميد طلبا من الملك في العام الماضي الحضور إلى الحجاز لإدارة شؤون أملاكهما الخاصة فيها، فأذن لهم جلالة الملك بذلك وأكرم مثواهم فحضروا إلى الحجاز بهذه الدعوى، وأخذوا يعملون للقيام بثورة داخلية، وأخذوا يتصلون برجال البادية ويوزعون الأموال على بعض زعماء القبائل بواسطة عامل من عمالهم يقال له عابد الديب، ثبت في النتيجة أنه هو الذي كان يحرضهم على ذلك ويسول لهم إمكان نجاحهم في مهمتهم دون أن يعلم المفتون أن حب المليك قد تغلغل في كل قلب من قلوب الشعب، ولذلك قام زعماء القبائل المشار إليهم يطلعون سمو الأمير فيصل نائب الملك ويخبرونه بالخفاء بجميع حركات الثائرين وسكناتهم وما يقبضونه من أموال في هذا السبيل، حتى حان وقت موعد التنفيذات الموهومة، فعند ذلك عاجلهم جلالة الملك فأمر بالقبض على كل من الشريف عبد الحميد والشريف حسن، وعابد الديب وبعض من كان له بهم صلة وأودعهم في مكان خاص بدار الأيتام بمكة المكرمة، وشرع مدير الأمن العام مهدي بك الصلح في إجراء التحقيق معهم حتى ثبتت إدانة عابد الديب باعتباره اليد المباشرة في الأمر فحكم عليه بإعدامه، وبعدما أراد الملك إعدام الشريف عبد الحميد وسجن الشريف حسن سجنًا مؤبدًا لكونه لم يعارض في الأمر قضت إرادته بأن يمثلا بين يديه، ولما جيء بهما أنبئهما على فعلهما ثم عفى عنهما، وأمر لهما يحوائز وصرفهما إلى مصر، وحج بالناس في هذه السنة جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، وممن حج فيها من الأعيان الشيخ عمر بن محمد بن سليم، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وقاضي جيزان محمد بن عبد الله التويجري، وكان قد تأثرث هذا بمرض أصابه، ويظهر لي أنه شبيه بالسل، لأنه مات على أثره رحمه الله.
وفيها حجتنا الثانية على ظهور الإبل، ولم يحج من الإبل إلا قليل لأن الأمة قد