الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلماء أصبحوا غرضًا للموت، وهذا أكبر دليل على أسباب نزع العلم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولو أنني أتيت بكل من جلس إليه وقرأ عليه من العامة لضاق الموسع.
الباب الخامس: في سعة علمه وورعه في قضائه وفتياه
أما علمه واطلاعه على نصوص الوحيين فهو البحر الخضم الذي لا ساحل له، وكان لا يحتاج إلى مراجعة كتبه ولا تفتيشها في القضاء والفتيا بل علمه في صدره لا في قمطره، وقد شاهدت من تقريراته وتفسيره للجمل ما يفيد ويسكت كل متكلم ويقف عندها كل مستفيد، وكان يحب الاختصار ويجيب جوابًا مختصرًا ويفيد فائدة حسنة، ولا يثاره للاختصار كان قليل الكلام، ويا ليت شيخنا ألّف مؤلفات تفيد الأمة وتقتبس منها العلماء فلا تموت بموته، وكان فقيهًا أصوليًا محدثًا لغويًا فرضيًا نحويًا، وذا معرفة بعلم التوحيد، ويحامي على دين الله وشرعه على قدر طاقته، ولا يتسامح بشيء، ويحب ذكر الخلاف الذي بين العلماء في مسائل العلم، وقد سألته مرةً عمن صلى وعليه نجاسة لم يعلم بها إلا بعد الصلاة؟ فأجابني بالروايتين، وكان إذا أفتى بمسألة فإنه يأتي بأدلتها حتى كان لم يكن بالباب غيرها، ويحب الإصلاح بين الناس، ويتحرى العدل في القضاء، ويرحم الفقير، ويلطف فيمن لا يحسن أن يخاصم، وربما أقام وكيلًا عمن لا يحسن إقامة الحجة إذا رأى خصمه جدليًا، وتقنع الأنفس بقضائه، أضف إلى ذلك أنه كان بصيرًا في أمر دينه، ضليعًا قويًا لا يقعقع له بالشنان، وإذا وقع عليه وقف لأحد أوصية فإنه يحتفظ بذلك ويبرئ ذمته عن المشتبهات، فيا ليت شعري من يقوم بهذه الخصال، وأنى وهيهات كلا فلا والله لا يسد مقامه فئة من الناس، وله غيرة وطنية وحمية عربية تأبى له أن يضام موظفوه الذين أقامهم في الأعمال.
الباب السادس: في عبادته ونسكه وتلاوته
لما كان هذا الحبر النحرير قد أعطاه الله حظًا وافرًا من العلم كان متقيدًا
بالعمل به ويعبد ربه، وله معه معاملة، وإذا منَّ الله على عبد فليفعل ما شاء من خصال الخير، فأما تلاوته للقرآن فإنه كان يتلوه قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا، وما كان في زمنه مثله في التلاوة، وكثيرًا ما يسمع أوائل النهار في أوقات العبادة يتلوه من أوله وفي آخره قد ختمه، ثم شرع في أوائله، ولقد سهل الله عليه التلاوة والحفظ فكان لا يريد حفظ شيء إلا ويحصل عليه، وقد عجب أصحابه ورفقته من محبته للتلاوة، فكان إذا خرج إلى قرية أوخب من الخبوب أو سافر فإنه يرتب رفقته في دراسة القرآن حال السير، فإذا قربهم المكان فلا يمكنهم من كثرة الكلام بل يشغلهم بالقراءة، ولقد كان له حظ من قيام الليل ويحب الخلوة بربه في حنادس الظلام، ويعامل الله بالعبادة والطاعة، ويكثر الصلاة بالنهار، وإذا أصيب بمصيبة فإنه يستعين عليها بكثرة الصلاة، وقد يترك التدريس بين العشائين إذا أصيب بمصيبة ويفزع إلى الصلاة من المغرب إلى العشاء، وكثيرًا ما يفعل ذلك إذا مات له مولود.
وكان مولعًا بالحج والعمرة، ويكثر الطواف حتى يمل من يطوف معه فقد يشرع في الطواف من صلاة الغداة إلى ارتفاع الشمس، وقد يجمع أربعة وعشرين أسبوعًا في وقت واحد، ويداوم على الاعتكاف في العشر الآواخر من رمضان، وإذا اعتكف فإنه يفرّ عن مخالطة الناس بحيث لا يجالسه أحد ولا يكلم أحدًا، ويقول لمن يثق به إن بطن الأرض خير من ظهرها في هذا الزمان، وكثيرًا ما يقول إذا رأى التغييرات متأسفًا الله المستعان، وبكل حال فإنه يعتبر أعظم العباد في زمانه، وقد يبكي في أوقات الدراسة ويخضب لحيته بالدموع على خفية من الناس، ولا يحب الطنطنة، ولا ينافق، وأكثر جلوسه مستقبل القبلة، ويحب الطهارة والوضوء، وهذا والله نادر في الناس أن يكون عالم متصفًا بهذه الصفات، فما أقل جنسه في الخلق، بل ما أقله وإني لأعجب لوقته بحيث يتسع لأعماله غير أن الله تعالى بارك له في أوقاته.