الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر التتريب لا يصح من قبل إسناده، بل هو باطل لمخالفته ما ثبت عنه يقينا مرفوعا من التسبيع والتتريب، مع ثبوت ذلك عنه موقوفا، فهو الذي يجب الاعتماد عليه في هذه المسألة لا سيما وقد شهد له حديث عبد الله بن مغفل وحديث عبد الله بن عمر، وإن من عجائب الحنفية أيضا أنهم استجازوا معارضة كل هذه الطرق عن أبي هريرة، والشواهد المذكورة بطريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة وهي وحيدة استجازوا ذلك إحسانا منهم للظن به رضي الله عنه، وهو غير ثابت عنه!، وغفلوا عن أن ذلك يستلزم إساءة الظن به بالنظر إلى
الروايات الثابتة عنه بالتسبيع، وبمن وافقه من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين!!
1038
- " لكم (يعني الجن) كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم ".
أخرجه مسلم (2/36) وابن خزيمة في " صحيحه "(رقم 82) والبيهقي (1/108 - 109) من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن داود عن عامر قال:
سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أواغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل (حراء)، قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.
وسألوه الزاد، فقال: فذكره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم من الجن ".
قلت: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، ولكنه معلول بعلتين:
الأولى: إن قوله: " وسألوه الزاد
…
" إلخ مدرج في الحديث ليس من مسند ابن مسعود بل هو عن الشعبي قال: وسألوه الزاد إلخ، فهو مرسل، كما بينه البيهقي بقوله عقبه:
رواه مسلم في " الصحيح " هكذا، ورواه عن علي بن حجر عن إسماعيل بن إبراهيم عن داود بن أبي هند بهذا الإسناد إلى قوله: وآثار نيرانهم، قال الشعبي:
وسألوه الزاد، وكانوا من جن الجزيرة، إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلا من حديث عبد الله.
قلت: هكذا هو في " الصحيح " عقب رواية عبد الأعلى المتقدمة، وهكذا رواه الترمذي في " سننه " (4/183) قال: حدثنا علي بن حجر به، إلا أنه قال:
" كل عظم لم يذكر اسم الله عليه " كما يأتي بيانه في " العلة الأخرى " وكذلك رواه البيهقي بسندين له عن علي بن حجر به، إلا أنه لم يسق لفظه، وإنما أحال فيه على لفظ عبد الأعلى فكأنه عنده بلفظه: " كل عظم ذكر
…
". ثم قال:
ورواه محمد بن أبي عدي عن داود إلى قوله: " وآثار نيرانهم "، ثم قال: قال داود: ولا أدري في حديث علقمة أوفي حديث عامر أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة الزاد فذكره.
ثم ساق البيهقي إسناده إلى محمد بن أبي عدي به، ثم قال:
ورواه جماعة عن داود مدرجا في الحديث من غير شك.
ورواية إسماعيل بن علية قد أخرجها الإمام أحمد أيضا مقرونا مع رواية غيره من الثقات فقال: (4149) : حدثنا إسماعيل: أخبرنا داود وابن أبي زائدة - المعنى - قالا: حدثنا داود به مثل رواية إسماعيل عند مسلم.
وتابعهما يزيد بن زريع قال: حدثنا داود بن أبي هند به.
أخرجه أبو عوانة في " صحيحه "(1/219) ، وأخرجه الطيالسي أيضا في
" مسنده "(1/47) لكنه أدرجه في الحديث ولم يفصله عنه! وقد قرن بروايته وهيب بن خالد ثم أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن إدريس عن داود به إلى قوله: " وآثار نيرانهم "، ولم يذكر ما بعده إطلاقا.
وجملة القول: إن أصحاب داود بن أبي هند اختلفوا عليه في هذه الزيادة على وجوه: الأول: أنها من مسند ابن مسعود، كذلك رواه عبد الأعلى بن عبد الأعلى ووهيب ابن خالد، وكذا يزيد بن زريع وعبد الوهاب بن عطاء في إحدى الروايتين عنهما.
الثاني: أنها من مرسل الشعبي، وليس من مسند ابن مسعود، جزم بذلك عن داود إسماعيل بن علية وابن أبي زائدة، ويزيد بن زريع في الرواية الأخرى عنه.
ويمكن أن يلحق بهؤلاء عبد الله بن إدريس فإنه لم يذكرها أصلا كما سبق، ولو كانت عنده من مسند ابن مسعود لذكرها إن شاء الله تعالى.
الثالث: أن داود شك في كونها من مسند ابن مسعود، أومن مرسل الشعبي، كذلك رواه عنه محمد بن أبي عدي وعبد الوهاب بن عطاء في الرواية الأخرى عنه.
ولا يخفى على الخبير بهذا العلم الشريف أن هذا الاختلاف إنما يدل على أن المختلف عليه وهو داود بن أبي هند لم يضبط هذا الحديث ولم يحفظه جيدا، ولذلك اضطرب فيه على الوجوه الثلاثة التي بينتها، ولا يمكن أن يكون ذلك من الرواة عنه لأنهم جميعا ثقات، فكل روى ما سمع منه، وإذا كان كذلك فالاضطراب دليل على ضعف الحديث كما هو مقرر في علم مصطلح الحديث لأنه يشعر بأن راويه لم يحفظه.
هذا ما تحرر لدي أخيرا، وأما الدارقطني فقد أعله بالإرسال فقال كما في " شرح مسلم " للنووي:
انتهى حديث ابن مسعود عند قوله: " فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم "، وما بعده من قول الشعبي، كذا رواه أصحاب داود الراوي عن الشعبي: ابن علية وابن زريع، وابن أبي زائدة وابن إدريس وغيرهم. هكذا قال الدارقطني وغيره،
ومعنى قوله: إنه من كلام الشعبي أنه ليس مرويا عن ابن مسعود بهذا الحديث، وإلا فالشعبي لا يقول هذا الكلام إلا بتوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
قلت: قول الشعبي: " وسألوه الزاد
…
" صريح في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا داعي لقول النووي: " فالشعبي لا يقول
…
" إلخ. فإن مثل هذا إنما يقال فيما ظاهره الوقف كما لا يخفى.
العلة الأخرى: الاضطراب في متنه أيضا على داود، فعبد الأعلى يقول عنه:
كل عظم ذكر اسم الله عليه " وتابعه على ذلك إسماعيل بن علية وابن أبي زائدة عند أحمد وعبد الوهاب بن عطاء عند الطحاوي.
وخالف هؤلاء وهيب بن خالد ويزيد بن زريع عند الطيالسي وعند أبي عوانة عن يزيد وحده فقالا: " كل عظم لم يذكر اسم الله عليه ".
واختلفوا على إسماعيل بن علية فرواه أحمد عنه كما سبق، وتابعه علي بن حجر عن إسماعيل عند مسلم، وخالفه الترمذي فقال: حدثنا علي بن حجر به باللفظ الثاني: " لم يذكر.. ".
وهذا الاختلاف على داود في ضبط متن الحديث مما يؤكد ضعفه، وأن داود لم يكن قد حفظه.
ثم رجعت إلى ترجمته من " التهذيب " فوجدت بعض الأئمة قد صرحوا بهذا الذي ذكرته فيه، فقال ابن حبان:
كان من خيار أهل البصرة، من المتقنين في الروايات، إلا أنه كان يهم إذا حدث من حفظه.
وقال أحمد:
" كان كثير الاضطراب والخلاف ".
قلت: واضطراب داود في هذا الحديث من أقوى الأدلة على هذا الذي قاله فيه الإمام أحمد، فرحمه الله، وجزاه خيرا، ما كان أعلمه بأحوال الرجال!
وخلاصة الكلام في هذا الحديث أنه ضعيف للاضطراب في سنده ومتنه، ولم أجد له شاهدا نقويه به، بل هو مخالف بظاهره لحديث أبي هريرة: " أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال:
من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة فقال: ابغني أحجارا أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة " فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي، حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت معه، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين - ونعم الجن - فسألوني الزاد، فدعوت الله أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعما، وفي لفظ: طعاما ".
أخرجه البخاري (7/136) والطحاوي (1/74) والبيهقي (1/107 - 108) .
قلت: ووجه المخالفة أن ظاهره أن العظم والروثة زاد وطعام للجن أنفسهم، وليس شيء من ذلك لدوابهم، والتوفيق بينه وبين حديث ابن مسعود بحمل الطعام فيه على طعام الدواب كما فعل الحافظ في " الفتح " وتبعه الصنعاني في " سبل السلام "(1/123) ، لا بأس به لوثبت حديث ابن مسعود بإسناد آخر بلفظ يغاير بظاهره اللفظ السابق، وهو:
أولئك جن نصيبين سألوني المتاع - والمتاع الزاد - فمتعتهم بكل عظم حائل،
أو بعرة أو روثة، فقلت: يا رسول الله، وما يغني ذلك عنهم؟ قال: إنهم لن يجدوا عظما، إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت، فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة.
أخرجه ابن جرير في " تفسيره "(26/32 ـ طبع البابي الحلبي) عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال لابن مسعود: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن، قال: أجل، قال: فكيف كان؟
فذكر الحديث كله، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خط عليه خطا وقال: لا تبرح منها، فذكر أن مثل العجاجة السوداء غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذعر ثلاث مرات، حتى إذا كان قريبا من الصبح، أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنمت؟ قلت: لا والله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول: اجلسوا، قال: لوخرجت لم آمن أن يختطفك بعضهم، ثم قال: هل رأيت شيئا؟ قال: نعم رأيت رجالا سودا مستشعري ثياب بيض، قال: فذكره.
قلت: وهذا سند ضعيف، رجاله كلهم ثقات معروفون، غير عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي، أورده ابن أبي حاتم (2/2/117) وقال:
روى عن جابر بن عبد الله، روى عنه قتادة وأبو بشر جعفر بن إياس.
ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، ومثله يورده ابن حبان في " الثقات "، ولست بطائله الآن حتى أتأكد من أنه أورده أولا. وقد ذكر الحافظ في ترجمة أبيه من " التهذيب " أنه كان من كبار رجال معاوية، وكان أميرا له على البصرة.
ثم رأيته في " الثقات "(7/51) ، ذكره فيمن روى عن التابعين، فقال: يروي عن كعب، وعنه قتادة، وحقه أن يورده في التابعين لتصريحه في هذا الحديث أنه لقي ابن مسعود وسمع منه، وفيه أنه رواه عنه يحيى بن أبي كثير، فقد روى عنه ثلاثة من الثقات، فمثله يحسن بعضهم حديثه، ولا أقل من أن يستشهد به، فلعله لذلك لما ذكره ابن كثير في " تفسيره "(4/165) من طريق ابن جرير سكت عليه.
وذكره الزيلعي في " نصب الراية "(1/144 - 145) من رواية أبي نعيم في " دلائل النبوة " عن الطبراني بسنده إلى معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عمرو بن غيلان الثقفي قال:
أتيت عبد الله بن مسعود فقلت له: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن
…
الحديث، وعزاه الصنعاني في " السبل " وتبعه الشوكاني في " النيل "(1/85) لأبي عبد الله الحاكم في " دلائل النبوة " فإن عنى " دلائل النبوة " من " المستدرك " فليس فيه، والله أعلم.
ورواه الدارقطني في " سننه "(ص 29) من وجه آخر عن معاوية بن سلام به مختصرا إلا أنه قال: فلان بن غيلان وقال:
مجهول، قيل: اسمه عمرو، وقيل: عبد الله بن عمرو بن غيلان.
وبه أعله الزيلعي، فقال عقب رواية الطبراني:
وفي سنده رجل لم يسم، ولا يخفى أن هذا القول غير مستقيم بالنسبة لرواية الطبراني، فلوعزاه للدارقطني ثم ذكره عقبه لأصاب.
وللحديث طريق أخرى، يرويه أبو فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث المخزومي عن عبد الله بن مسعود به، نحوه وفيه:
قد زودتهم الرجعة، وما وجدوا من روث وجدوه شعيرا، وما وجدوه عظم وجدوه كاسيا، أخرجه أحمد (رقم 3481)، وأبو زيد هذا قال الذهبي:
لا يعرف، قال البخاري في " الضعفاء ": لا يصح حديثه - يعني هذا - وقال أبو أحمد الحاكم: رجل مجهول، قلت: ما له سوى حديث واحد.
قلت: يعني هذا، وهو مخرج في " ضعيف أبي داود "(رقم 10) زيادة على ما هنا
وقد جاء مختصرا من طريق عبد الله بن الديلمي عن ابن مسعود قال:
قدم وفد من الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! انه أمتك أن يستنجوا بعظم أوروثة أوحممة، فإن الله جعل لنا فيها رزقا، قال: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم.
أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح، وهو مخرج في " صحيح أبي داود " رقم (29) ومن طريق موسى بن علي بن رباح قال: سمعت أبي يقول: عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ليلة الجن ومعه عظم حائل، وبعرة، وفحمة، فقال:
" لا تستنجين بشيء من هذا إذا خرجت إلى الخلاء ".
أخرجه أحمد (1/457) والدارقطني (1/56/7) والبيهقي (1/109 - 110) وأعلاه بعدم ثبوت سماع علي من ابن مسعود، ورده عليه ابن التركماني في " الجوهر النقي " فراجعه.
ورواه عبد الله بن صالح: حدثني موسى بن علي به أتم منه.
أخرجه الطبراني في " الأوسط "(9158 - بترقيمي) وقال:
لم يروعلي بن رباح عن ابن مسعود حديثا غير هذا.
قلت: وهو ثقة كابنه، فإن كان سمعه من ابن مسعود فهو صحيح من الوجه الأول.
وأما عبد الله بن صالح، ففيه ضعف، وبه أعله الهيثمي في " مجمع الزوائد "(1/210) .
وبالجملة فالحديث مشهور عن ابن مسعود كما قال الحافظ في " التلخيص "(1/109) ، فهو صحيح عنه قطعا، لكن في بعض طرقه ما ليس في البعض الآخر، وقد تبين من مجموع ما أخرجنا منها أن رواية مسلم المتقدمة عن داود بن أبي هند صحيحة بتمامها إلا قوله في حديث الترجمة:" علف لدوابكم " وجملة: " اسم الله " على وجهيها، لخلوها عن شاهد، واضطراب داود في ذلك وصلا وإرسالا. ومن أجل ذلك خرجته هنا، والله سبحانه وتعالى أعلم.