الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخرج أبو البركات قولا بتعشير ثمن الخمر دون الخنزير، بناء والله أعلم على أنها مال لهم دون الخنزير، ولو كان في يد التاجر منهم جارية فادعى أنها أخته أو نحو ذلك، فهل يقبل قوله، لأن الأصل عدم الملك فيها، أو لا يقبل نظرا لليد؟ فيه روايتان، ولا يقبل مجرد قوله: إن عليه دينا، نظرا للأصل، فإن ثبت ذلك فقال أبو محمد: ظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع الأخذ منه إذا كان الدين بقدر ما عليه، أو ينقص به نصابه المعتبر، قياسا على الزكاة.
[حكم من نقض عهده من المشركين]
قال: ومن نقض العهد بمخالفته شيئا مما صولحوا عليه حل دمه وماله.
ش: ينبغي للإمام عند عقد الذمة أن يشترط عليهم شروطا، كما روي في السنة ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم، الذي رواه أبو داود في مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل نجران، فقال:«ما لم تحدثوا حدثا، أو تأكلوا الربا» ، والحدث: الشيء الذي ينكر فعله.
3494 -
وفي البخاري وسنن أبي داود: «عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة، وهي
السلاح، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر، حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي واسمه سعية -:«ما فعل مسك حيي الذي جاء به من بني النضير؟» فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال:«العهد قريب، والمال أكثر من ذلك» ، وقد كان حيي قتل قبل ذلك، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سعية إلى الزبير فمسه بعذاب، فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق، أحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا» ، وذكر الحديث إلى آخره.
3495 -
وروى سفيان الثوري عن مسروق، عن عبد الرحمن، قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرط فيها أن لا يحدثوا في مدينتهم، ولا ما حولها ديرا ولا كنيسة، ولا قلية ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزل بها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يأووا جاسوسا، ولا يكتموا غشا للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركا، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتسموا بأسماء المسلمين ولا يتكنوا بكناهم، ولا يركبوا سرجا ولا يتقلدوا سيفا، ولا يتخذوا شيئا من سلاح، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهروا صليبا، ولا شيئا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا مع أمواتهم أصواتهم، ولا يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين، فإن خالفوا ما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
ورواه
الخلال بنحو من هذا، وزاد عليه، وفيه قال: ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده.
إذا تقرر هذا فإذا شرط عليهم الإمام هذه الشروط ونحوها مما روي عن عمر رضي الله عنه كما هو مقرر في موضعه، فخالف بعضهم شيئا منها، فظاهر كلام الخرقي أن عهده ينتقض بذلك، هو مقتضى ما تقدم، إذ في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا» ، وفي قصة خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل وسبى، وأخذ المال بالنكث الذي نكثوا، وفي قصة عمر رضي الله عنه: ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده، وقال: فإن خالفوا ما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد تقدم.
وظاهر كلامه أيضا أن ما لم يصالحوا عليه لا ينتقض به عهدهم وإن لزمهم، لعدم دخولهم على ذلك، ولا يرد عليه بذل الجزية، والتزام أحكام الملة، لأن عقد الذمة عبارة عن هذين، فمتى زالا أو أحدهما زال عقد الذمة.
وأما حكم المذهب فملخصه أن ما لزم أهل الذمة بشرط أو غيره كما هو مقرر في موضعه ينقسم أربعة أقسام، (أحدها) : ما ينتقض به العهد بلا خلاف، وهو ما إذا امتنعوا من بذل الجزية، والتزام أحكام الملة لما تقدم، لكن قال أبو محمد في المغني: إذا حكم بها حاكم. ولم أر هذا الشرط لغيره، وكذلك قتال المسلمين، لأن إطلاق الأمان يقتضي ترك القتال، فإذا فعلوه نقضوا الأمان.
(الثاني) : ما لا ينتقض به إلا أن يشترط عليهم، كما يقوله الخرقي، وهو قذف المسلم أو إيذاؤه في تصرفاته بسحر، على المنصوص في رواية الجماعة.
3496 -
لما روى أنس رضي الله عنه «أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت: أردت أن أقتلك. قال: «ما كان الله ليسلطك على ذلك» قالوا: ألا نقتلها؟ قال: «لا» . فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم» . رواه أحمد، والأذى بالقذف
دون ذلك، وقيل ينتقض، وحكاه أبو محمد في المقنع رواية، ولعله أراد مخرجة مما سيأتي.
(والثالث) : ما ينتقض به على المنصوص والمختار للأصحاب، وإن لم يشترط عليهم، كما إذا فتن المسلم عن دينه أو قتله، أو قطع الطريق عليه، أو الزنا بمسلمة، أو التجسس للكفار، أو إيواء جاسوس، أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء، ذكر هذه الشيخان وغيرهما، وزاد أبو محمد وغيره ذكر دين الله بسوء، وزاد جماعة أصاب مسلمة بعقد نكاح، أو الاجتماع على قتال المسلمين، ثم إن أبا الخطاب في خلافة الصغير قيد القتل بأن يكون عمدا وهو حسن، وأطلقه غيره، وقد جاء في القتل قول عمر رضي الله عنه: ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده، وجاء في سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقدم في قتل سابه صلى الله عليه وسلم.
3497 -
وجاء في قتل من تجسس ما روي «عن فرات بن حيان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتله، وكان عينا لأبي سفيان، وحليفا لرجل من الأنصار، فمر بحليفه
من الأنصار، فقال: إني مسلم. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله إنه يقول: إنه مسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان» . رواه أحمد وأبو داود، وترجمه بحكم الجاسوس الذمي.
3498 -
وجاء في الزنا ما روي أن عمر رضي الله عنه رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم. وأمر به فصلب في بيت المقدس. وبقية الصور في معنى ذلك، وحكى كثير من أصحاب القاضي، وتبعهم أبو محمد رواية أخرى بعدم النقض بذلك ما لم يشترط عليهم، على رأي الخرقي، وقال أبو البركات: إنهم خرجوها من نصه في القذف، واختار هو التفرقة، وتقرير النصوص على بابها.
(الرابع) : ما عدا ذلك من عدم إظهار المنكر، وعدم رفع صوتهم بكتابهم، ونحو ذلك مما هو مذكور في أحكام الذمة، فهذا لا خلاف فيما أعلمه أنه إذا لم يشترط عليهم لا ينتقض به عهدهم، وأما إن شرط عليهم فقولان، اختار الخرقي النقض كما تقدم، واختيار الأكثرين عدمه.
وحيث لم ينتقض العهد فإنه يلزمه موجب ما فعله من حد أو قصاص وإلا يعزر، قال أبو محمد: وفعل به ما ينكف به أمثاله عن فعله، وحيث انتقض العهد به فإن كان بسب الرسول صلى الله عليه وسلم تعين قتله كما تقدم، وإن أسلم على المذهب، وإن كان بغير ذلك فظاهر كلام الخرقي تعين قتله، وهو المنصوص، وظاهر قصة فرات بن حيان، وقطع فيه أبو محمد بالتخيير كالأسير الحربي، وهو اختيار القاضي.
ومن انتقض عهده في نفسه انتقض عهده في ماله، على ما قاله الخرقي، وهو ظاهر كلام الإمام، واختيار أبي البركات فيكون فيئا، لأن المال لا حرمة له في نفسه، إنما هو تابع لمالكه حقيقة، وقد انتقض عهد المالك في نفسه، فكذلك في ماله. (وقال أبو بكر) : لا ينتقض العهد في ماله، كما لا ينتقض في نسائه وذريته، على ما تقدم، فعلى هذا يدفع إليه إن طلبه، وإن مات فهو لورثته، فإن لم يكن له وارث فهو فيء.
قال: ومن هرب إلى دار الحرب من ذمتنا ناقضا للعهد عاد حربا لنا.
ش: يعني أنه يصير حكمه حكم الحربي الأصلي، فيخير الإمام فيه إذا قدر عليه كالأسير الحربي، وينتقض عهد ماله إعمالا لحكم الدار، ولا خلاف فيما أعلمه في التخيير، أما انتقاض عهد ماله ففيه الخلاف، فإذا قيل بعدم النقض فيه فقد تقدم أنه يعطاه إن طلبه، وإن مات فهو لورثته، ولو لم يمت حتى أسر واسترق فقيل يوقف ماله، ثم إن عتق رد إليه وإن مات رقيقا ففي كونه فيئا أو لورثته لو كان حرا وجهان، واختار أبو البركات أنه يصير فيئا بمجرد استرقاقه، والله سبحانه وتعالى أعلم.