الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة إبراهيم
الخوف من الله مغاير للخوف من وعيده.
قال الله تعالى: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} ، أي: موقفي وهو موقف الحساب؛ لأنّ ذلك الموقف موقف الله الذي يوقف فيه عباده يوم القيامة ونظيره {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات، 40] وقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، وقيل:{ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} ، أي: خافني، فالمقام مُقحم مثل ما يقال: سلامٌ على المجلس العالي، والمراد السلام على فلان، {وَخَافَ وَعِيدِ} قال ابن عباس: ما أوعدت من العذاب
(1)
، وهذا يدلّ على أنّ الخوف من الله غير الخوف من وعيده؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة).
(2)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية بدلالة الاقتران: المغايرة بين خوف الله تعالى وخوف وعيده؛ لأنّ الله تعالى في هذه الآية عطف الخوف من جنابه سبحانه على الخوف من وعيده والعطف، يقتضي المغايرة.
ومعنى خاف مقامي: أي خافني، فلفظ (مقام) مُقحم للمبالغة في تعلق الفعل بمفعوله؛ فإذا قيل: خاف مقامي كان فيه من المبالغة ما ليس في (خافني)
(1)
ينظر: جامع البيان (16/ 543)
(2)
السراج المنير (2/ 192).
بحيث إن الخوف يتعلق بمكان المخوف منه
(1)
، وعطفَ جملة {وَخَافَ وَعِيدِ} على {خَافَ مَقَامِي} مع إعادة فعل (خاف) دون اكتفاء بعطف (وعيد) على (مقامي) لأن هذه الصلة وإن كان صريحها الثناء على المخاطبين فالمراد منها: التعريض بالكافرين بأنهم لا يخافون وعيد الله، ولولا ذلك لكانت جملة {خَافَ مَقَامِي} تغني عن هذه الجملة، فإن المشركين لم يعبئوا بوعيد الله وحسبوه عبثاً، وهذه الآية في ذكر إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين أرضهم، فكان المقام للفريقين، فجمع في جزاء المؤمنين بدمج التعريض بوعيد الكافرين، وفي الجمع بينهما دلالة على أن مِن حق المؤمن أن يخاف غضب ربه ويخاف وعيده.
(2)
قال ابن كثير في معنى هذه الآية: (هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة، وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41]، وقال:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]).
(3)
وممن استنبط هذه الدلالة: الرازي، والنيسابوري، وابن عاشور، وغيرهم.
(4)
والذي يظهر صحة دلالة هذه الآية على المغايرة بين الخوف من الله، والخوف من وعيده، وهذه فائدة عطف أحد الخوفين على الآخر. والله تعالى أعلم.
(1)
(مقام) يحتمل المصدر والمكان. قال الفراء: مقامي مصدر أضيف إلى الفاعل أي: قيامي عليه بالحفظ لأعماله، ومراقبتي إياه لقوله: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت. وقال الزجاج: مكان وقوفه بين يدي للحساب، وهو موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة كقوله تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، وعلى إقحام المقام أي لمن خافني. ينظر: معاني القرآن (2/ 71)، ومجاز القرآن لأبي عبيدة (1/ 337)
(2)
ينظر: التحرير والتنوير (13/ 208)
(3)
تفسير القرآن العظيم (4/ 484)
(4)
ينظر: التفسير الكبير (19/ 78)، وغرائب القرآن (4/ 182)، التحرير والتنوير (13/ 208)
الاستعانة بمنافع الدنيا على إقامة الطاعات.
قال الله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} يدلّ على أنّ المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرّغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات، فإنّ إبراهيم عليه السلام بيّن أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرّغوا لإقامة الطاعات وأداء الواجبات).
(1)
وجه الاستنباط:
الاقتداء بأفعال الأنبياء عليهم السلام، كما فعل إبراهيم عليه السلام في دعائه لذريته.
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة اللازم من الآية أنّ المقصود للعاقل من منافع الدنيا وغرضه منها أن يتفرّغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات، فإنّ إبراهيم عليه السلام بيّن علّة طلب تيسير المنافع على أولاده وهي أن يتفرّغوا للطاعة وأداء ما أوجب الله عليهم فقال {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} أي: ليكون ذلك عوناً لهم على طاعتك، لا لطلب رغد عيش أو بسط نعمة.
قال ابن عاشور: (ورجاء شُكرهم داخل في الدعاء؛ لأنه جعل ذلك تكملة له، تعرضاً للإجابة، وزيادةً في الدعاء لهم بأن يكونوا من الشاكرين، والمقصود:
(1)
السراج المنير (2/ 206).
توفر أسباب الانقطاع إلى العبادة وانتفاء ما يحول بينهم وبينها من فتنة الكدح للاكتساب).
(1)
وقال بهذا الاستنباط من المفسرين: الرازي، والخازن، والنيسابوري، وابن عاشور، وغيرهم.
(2)
قال الخازن: (فيه دليل على أن تحصيل منافع الدنيا، إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات).
(3)
وهذه فائدة لطيفة حسُن التنبيه عليها؛ لئلا يتعلق القلب بالاستكثار من الدعاء لأجل حظوظ النفس وبسط العيش فينسى العبد ذِكر المتفضل عليه بالنعم وشُكره، بل يستعين بنعم الله على طاعته، ويستكثر من الدعاء بطلب عون الله له على ذكره وشكره وحسن عبادته، والله تعالى أعلم.
(1)
التحرير والتنوير (13/ 242).
(2)
ينظر: التفسير الكبير (19/ 105)، ولباب التأويل (3/ 42)، وغرائب القرآن (4/ 200)، والتحرير والتنوير (13/ 242).
(3)
لباب التأويل (3/ 42).
أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40].
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (تنبيه: في الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنّ قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، يدل على أنّ ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله تعالى، وقوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} يدل على أنّ فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى، وذلك تصريح بأنّ إبراهيم عليه السلام كان مصراً على أنّ الكل من الله تعالى).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب رحمه الله بدلالة الجمع بين الآيات أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنّه تعالى قال عن إبراهيم عليه السلام {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] فطلب أن يجنبه ويبعده وذريته عن عبادة الأصنام، وهذا يدل على أنّه لا يحصل ترك المنهيات إلا من الله تعالى، ثم قال بعدها:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: 40] فدعا ربه أن يجعله مؤدياً للصلاة، محافظاً عليها، مقيماً لحدودها، وهذا يدل على أنّه لا يحصل فعل المأمورات إلا من الله تعالى، وذلك كما قال الخطيب تصريح بأنّ إبراهيم عليه السلام كان مُقراً أنّ الكل من الله تعالى.
(1)
السراج المنير (2/ 211).
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: القشيري، والرازي، وابن عادل، وغيرهم.
(1)
قال القشيري: (قوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} إشارة إلى أن أفعال العباد مخلوقة، فمعناه: اجعل صلاتى، والجعل والخلق بمعنى، فإذا جعله مقيم الصلاة، فمعناه أن يجعل له صلاة).
(2)
وهي دلالة صحيحة، ووجه استنباطها بدلالة الجمع بين الآيتين ملحظ لطيف.
وقد مضى الكلام عن خلق الله لأفعال العباد
(3)
، وأن خلقه تعالى أفعال العباد خيرها وشرها لا يخرجها عن كونها مقدورة للعبد، وأنه تعالى خلق القادر والقدرة والمقدور معاً، كما قال سبحانه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، وخلق فيهم اختيارهم كما أخبر تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
(4)
.
والقول بأن الله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد، وكل ذلك وفق مشيئته تعالى وإرادته، هو قول الجمهور من أهل السنة، والجهمية، والأشاعرة،
(1)
ينظر: لطائف الإشارات (2/ 258)، والتفسير الكبير (19/ 106)، واللباب في علوم الكتاب (11/ 403).
(2)
لطائف الإشارات (2/ 258)
(3)
ينظر: الاستنباط رقم (96) من سورة الأعراف.
(4)
ينظر: الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للبيهقي ص 143 - 144، والتوحيد للماتريدي ص 228، وشرح الطحاوية (1/ 438)، ولوامع الأنوار البهية (1/ 293)، وشرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين (1/ 325)
ومن وافقهم، والأدلة على ذلك كثيرة جداً
(1)
، وقد تقدمت، والله تعالى أجلُّ وأعلم.
(1)
ينظر: خلق أفعال العباد للبخاري ص 108، واعتقاد أئمة الحديث للجرجاني (1/ 60)، والإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة (1/ 161)، والفصل في الملل لابن حزم (3/ 32)، والانتصار في الرد على المعتزلة القدرية للعمراني (1/ 67)، ومجموع الفتاوى (8/ 449 (، وشفاء العليل (1/ 131 ومابعدها).