الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال في موضع آخر هو: (استخراج الشيء الثابت الخفي الذي لا يعثر عليه كل أحد)
(1)
وتعددت التعريفات فيه وتقاربت في كثير منها، والذي يضبطها في جملتها خفاء المستنبَط ودِقّة ملحظِه، كما هو الجامع له في المعنى اللغوي.
والذي يعنينا في هذا المقام هو خصوص الاستنباط من القرآن الكريم، ويمكن تعريفه بأنه:
استخراج ماخفي من النص القرآني من المعاني والأحكام والفوائد واللطائف بطريق صحيح.
(2)
وعليه فيمكن ضبط معنى الاستنباط في استعمال المفسرين بأنه: استخراج ما وراء ظواهر معاني الألفاظ من الآيات القرآنية.
(3)
ثانياً: نشأة الاستنباط وعلاقته بالتفسير:
ظهر الاستنباط من القرآن الكريم مواكباً لنزول القرآن متزامناً معه لم يتأخر عنه؛ إذ كان للصحابة رضوان الله عليهم استنباطاتهم الدقيقة التي فاقت كل استنباط وفهم، ومن لطيف استنباطاتهم:
- استنباط ابن عباس رضي الله عنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سورة النصر
(4)
(1)
مفتاح دار السعادة (2/ 104)، وينظر: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي للبخاري (1/ 20)
(2)
ينظر: منهج الاستنباط من القرآن للوهبي ص 44 بتصرف يسير، ومناهج الفقهاء في استنباط الأحكام للحبابي ص 7.
(3)
المراد بظواهر معاني الألفاظ: ما يتوقف فهم القرآن عليها من المعاني المباشرة. ينظر: معالم الاستنباط في التفسير ص 21
(4)
ينظر: جامع البيان للطبري (12/ 730)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (20/ 229)، وينظر دراسة هذا الاستنباط وبيان وجهه في هذا البحث برقم (202)، ومنهج الاستنباط من القرآن ص 303.
بدلالة الإشارة، حيث قال: هو أجل رسول الله أعلمه إياه، ووافقه عليه عمر رضي الله عنه فقال: والله لا أعلم منها إلا ما تعلم.
(1)
قال ابن القيم: (وهذا من أدق الفهم وألطفه، ولا يدركه كل أحد).
(2)
- ومنها: استنباط علي، وابن عباس- رضي الله عنهما بدلالة الجمع بين قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، وقوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، أن المرأة قد تلد لستة أشهر.
(3)
قال ابن كثير
(4)
رحمه الله: (وهو استنباط قوي وصحيح).
(5)
ولا غرو فإن بيان السلف لمعاني القرآن في الذروة من الإصابة والبيان، لذا كان استنباطهم أدق استنباطٍ وأصحه وألطفه، وهذا التميز في تفاسير السلف واستنباطاتهم جزءٌ من مقتضى خيريتِهم وتفضيلهم الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أن تميزهم في تناول هذا النوع الدقيق من البيان، لَيُبرِز حرصهم على توفيةِ الآيات حقَّها من المعاني، واستيعاب كُلِّ حق أشار إليه لفظ الآية، ودلَّ عليه معناها، وذاك هو
(1)
أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3428)، (3/ 1327)، وينظر: تفسير السمعاني (6/ 297)، ومعالم التنزيل للبغوي (5/ 325).
(2)
إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 266)
(3)
ينظر: جامع البيان للطبري (4/ 202)، والدر المنثور للسيوطي (1/ 688)
(4)
هو إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، الفقيه الشافعي، الحافظ عماد الدين، أبو الفداء، اشتغل بالحديث مطالعة في متونه ورجاله فجمع التفسير وجمع التاريخ الذي سماه (البداية والنهاية)، وله (طبقات الشافعية) وغيرها، توفي سنة 774 هـ. ينظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني (1/ 373)، وطبقات المفسرين للأدنه وي ص 260.
(5)
تفسير القرآن العظيم (6/ 623)
علم الاستنباط.
(1)
وعليه فالاستنباط ملازم لتفسير القرآن لم ينفصل عنه، فلا يكاد يوجد من كتب التفسير كتاب يخلو من استنباط، أو ملمحٍ من خفي معنى الآية، ولهذا كان الاستنباط من أوثق علوم القرآن ارتباطاً بعلم التفسير، ولا يتوصل إليه إلا بعد كمال التفسير وتمامه.
وكان هذا الارتباط من أول نشأة علم التفسير وظهوره، حتى توالت التفاسير على مر القرون ملازمةً للاستنباط، وممن اعتنى بهذا الجانب:
التستري
(2)
في تفسيره، وأبو عبد الرحمن السلمي
(3)
في (حقائق التفسير)، وأبو القاسم القشيري
(4)
في (لطائف الإشارات)، والرازي
(5)
في (التفسير
(1)
ينظر: معالم الاستنباط في التفسير ص 66
(2)
هوأبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى بن عبد الله بن رفيع التستري، الصوفي، الزاهد، أحد أئمة الصوفية، والمتكلمين في علوم الإخلاص والرياضيات، أصله من "تستر " أحد مدن محافظة خوزستان. سكن البصرة وعبادان مدة، وكان سبب سلوكه التصوف خاله محمد بن سوار. توفي سنة: 283 هـ. ينظر: طبقات الصوفية للسلمي (1/ 166)، ووفيات الأعيان (2/ 429)، وسير أعلام النبلاء (13/ 330)
(3)
هو محمد بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدي السلمي النيسابوري، أبو عبد الرحمن، الإمام، الحافظ، المحدث، شيخ خراسان، وكبير الصوفية، صاحب التصانيف. قال عنه الذهبي:(شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم، قيل: كان يضع الأحاديث للصوفية). بلغت تصانيفه مئة أو أكثر، منها (حقائق التفسير) مختصر، على طريقة أهل التصوف، و (طبقات الصوفية) وغيرها. توفي سنة 412 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 247)، وطبقات المفسرين للسيوطي ص 31، وشذرات الذهب لابن العماد (3/ 196)
(4)
هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة النيسابوري، القشيري، من بني قشير ابن كعب، أبو القاسم، زين الإسلام، شيخ خراسان في عصره، زهدا، وعلما بالدين، ولد سنة 376 هـ، من كتبه: التيسير في التفسير، ولطائف الإشارات، والرسالة القشيرية، توفي في نيسابور سنة 456 هـ. ينظر: طبقات المفسرين للسيوطي (1/ 61)، والأعلام للزركلي (4/ 57)
(5)
هو محمد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني الشافعي، أبو عبدالله، فخر الدين، المفسر المتكلم الأصولي، له تصانيف في علم الكلام والمعقولات، وله (التفسير الكبير)، و (المحصول في أصول الفقه)، و (شرح الأسماء الحسنى) وغيرها، توفي سنة 606 هـ. ينظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن قاضي شهبة (2/ 65)، وطبقات المفسرين للسيوطي ص 115، وطبقات المفسرين للداودي ص 444.
الكبير) بل يكاد يكون الاستنباط من الآيات هو غرضه من تفسيره لولا ما فيه من التفسير.
ثم نجِد من العلماء من أفرد علم الاستنباط في مصنَّفات مستقلة مثل: القصاب
(1)
في (نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام)، ونجم الدين الطوفي
(2)
في (الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية)، والسيوطي
(3)
في (الإكليل في استنباط التنزيل)، ومثلهم أيضاً في اعتماد الاستنباط وقصده: ابن العربي
(4)
في: (أنوار الفجر في مجالس الذكر)، والكرماني
(5)
في (غرائب
(1)
هو أبو أحمد، محمد بن علي بن محمد الفقيه، الكرجي، العالم، الحافظ، المعروف بالقصاب، له مؤلفات كثيرة منها: تأديب الأئمة، وثواب الأعمال، ونكت القرآن، وغيرها، توفي عام 360 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (16/ 213)، ومعجم المؤلفين لرضا كحالة (11/ 58).
(2)
هو أبو الربيع، نجم الدين عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الصرصري البغدادي، الحنبلي، له تصانيف كثيرة تربو على الأربعين، منها: إبطال الحيل، والآداب الشرعية، والإشارات الإلهية، توفي سنة 716 هـ. ينظر: مقدمة كتابه الإشارت الإلهية تحقيق حسن قطب (1/ 101? 153)، ومعجم المؤلفين (4/ 266)
(3)
هو عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي الشافعي، أبو الفضل جلال الدين، كان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه، صاحب المؤلفات النافعة الجامعة، من أشهرها (الدر المنثور) و (الإتقان) توفي سنة 911 هـ. ينظر: شذرات الذهب (8/ 87)، وطبقات المفسرين للأدنه وي ص 365.
(4)
هو: محمد بن عبدالله بن محمد ابن العربي المعافري الأندلسي، أبو بكر، أحد الأعلام الحفاظ، ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها، وكان من أهل التفنن في العلوم والجمع لها، أحد من بلغ مرتبة الاجتهاد، صنّف (أحكام القرآن) و (شرح الموطأ) وغيرها، توفي سنة 543 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (4/ 296)، وطبقات المفسرين للأدنه وي ص 180.
(5)
هو: محمد بن يوسف بن علي الكرماني الشافعي البغدادي، اشتغل بالعلم، فأخذ عن والده وجماعة ببلده، وكان متواضعاً باراً لأهل العلم، صنف شرحاً حافلاً على (المختصر)، وشرحاً مشهوراً على البخاري سماه (الكواكب الدراري)، توفي سنة 786 هـ.
ينظر: الدرر الكامنة (4/ 310)، وشذرات الذهب (7/ 38).
التفسير وعجائب التأويل) وابن مظفر الرازي
(1)
في (حُجَجُ القرآن)، وغيرهم.
كما اعتنى المتأخرون بموضوع الاستنباط كعناية أسلافهم، مثل: أحمد بن بدران
(2)
في (جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار) وغيرها من المصنفات على تنوعٍ في الموضوعات المستنبطة؛ ما بين عقيدة، وفقه، ولغة، وأصول، ورِقاق، وآداب، وغيرها.
(3)
وعلى هذا يمكن تلخيص علاقةُ علم الاستنباط بعلم التفسير، وأهم الفروق بينهما فيما يأتي:
(1)
هو أحمد بن محمد بن أحمد المظفر ابن المختار، أبو العباس، بدر الدين، الرازيّ، الحنفي، عالم بالتفسير والحديث عارف بالأدب، له نظم حسن. وكان يفسر القرآن على المنبر بجامع دمشق له (مباحث التفسير) و (ذخيرة الملوك في علم السلوك)، توفى: بعد 630 هـ. ينظر: طبقات المفسرين للداودي (1/ 86)، والأعلام للزركلي (1/ 217)
(2)
هو الفقيه، المفسر، عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بن بدران الدومي، ولد بدوما وعاش بدمشق، له مؤلفات كثيرة منها: جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار، وشرح سنن النسائي، وغيرها، توفي سنة 1346 هـ. ينظر: الأعلام (4/ 162)، ومعجم المؤلفين (5/ 283).
(3)
ينظر: معالم الاستنباط في التفسير ص 52.
أن الاستنباط من أوثق علوم القرآن ارتباطاً بعلم التفسير - كما تقدم - ولا يتوصل إليه إلا بعد كمال التفسير، إذ الاستنباط من علوم الآية التي تأتي بعد تمام التفسير - الذي هو بيان المعنى - ولكن لشدة ارتباط هذا العلم بعلم التفسير، أُلحِق به في بيان علم التفسير وموضوعاته، وربما توسع بعض العلماء فسمَّاه تفسيراً؛ وذلك حين يصل هذا المعنى المستنبَط الباطن في شدة قربه وظهوره من المعنى الظاهر، ومن هنا يتوجَّه تسميته تفسيراً؛ لارتباطه بمعنى الآية من هذا الجانب.
قال ابنُ عاشور
(1)
: (موضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه، وما يُستَنبَطُ منه)
(2)
، وقال يصف علم التفسير بأنه:(تفسير ألفاظٍ، أو استنباطُ معانٍ)
(3)
، فالاستنباط على هذا قسيمٌ لبيان المعاني؛ وذلك بالنظر إلى مجموع معلومات كتب التفسير التي يذكرها المفسر.
(4)
وإذا أردنا التفرقة بين علم الاستنباط والتفسير فإن علم الاستنباط يتفق مع التفسير في أنهما بيانٌ للمعنى، ثم يفترقان في ما يأتي:
أولاً: في المعنى المُبَيَّن في كلٍّ منهما؛ فللتفسير المعنى الظاهر المباشر اللازم لِلَّفظ، وللاستنباط ما وراءه من المعاني الزائدة، وكلاهما من أجلِّ علوم القرآن
(1)
هو: محمد الطاهر بن عاشور، رئيس المفتين المالكيين بتونس وشيخ جامع الزيتونة، له مصنفات مطبوعة من أشهرها:(مقاصد الشريعة الإسلامية)، و (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) وغيرها، توفي سنة 1393 هـ. ينظر: الأعلام للزركلي 6/ 174، وتراجم المؤلفين التونسيين لمحمد محفوظ (3/ 304).
(2)
التحرير والتنوير (1/ 12)
(3)
المرجع السابق
(4)
ينظر: معالم الاستنباط في التفسير ص 22
الكريم، وألصقها بألفاظه.
(1)
ثانياً: في كون الاستنباط مشروط بالخفاء فيما يُستنبط، بحيث لا يوجد ما يدل ظاهراً على ارتباط هذا المعنى بالآية قبل استنباطه، بخلاف التفسير فلا يشترط فيه ذلك.
ثالثاً: مرجع التفسير هو اللغة وكلام السلف، ومرجع الاستنباط هو التدبر والتأمل في الآيات.
رابعاً: التفسير مختص بمعرفة المعاني، والاستنباط مختص باستخراج ما وراء المعاني من الفوائد والأحكام الخفية.
خامساً: الاستنباط يحتاج إلى جهد وقوة ذهن، والتفسير قد يحتاج لذلك عند عدم وضوح المعنى وتطلب البحث عنه، أو عند اختيار أحد الأقوال المذكورة في الآية، وقد لا يحتاج.
قال ابن القيم: (والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه، ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به، فيفهم من اقترانه به قدراً زائداً على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به).
(2)
سادساً: الاستنباط مستمر لا ينقطع، وأما التفسير للألفاظ فقد استقر وعُلِم.
(3)
وعلى هذا فالاستنباط مغاير للتفسير رغم ما بينهما من ارتباط وثيق، إلا أنه لا يمكن القول بأنهما شيء واحد بل كل مصطلح منهما يدُل على مالا يدُل عليه الآخر كما هو ظاهر.
(1)
ينظر: معالم الاستنباط في التفسير ص 22
(2)
إعلام الموقعين (1/ 267).
(3)
ينظر: منهج الاستنباط من القرآن ص 58 - 59.