الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر بعضهم في الالتفات وجهاً ثالثاً وهو: أنه من أول السورة إلى قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ثناء، والثناء في الغيبة أولى، ومن قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى آخر السورة دعاء، والدعاء في الحضور أولى، أفاده الرازي، والألوسي.
(1)
ولعله مما يستأنس به في تأكيد هذا الوجه قول ابن كثير بعد أن ذكر وجه الالتفات في الآية قال: (وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى، وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك.)
ولا تعارض بين هذه الأوجه، إذ هي قريبة محتملة وإن كان الأول أظهرها، وبهذا يتبين صحة استنباط الخطيب لوجه الالتفات في الآية وقوته، وموافقته لكثير من المفسرين، والله تعالى أعلم.
سورة البقرة
تكذيب دعوى المرجئة والكرامية في مسألة الإيمان.
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]
(1)
وذكروا وجوهاً أُخر غيرها، بعضها فيها نظر. ينظر: التفسير الكبير (1/ 216)، وروح المعاني (1/ 92).
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (الآية تدل على أنّ من ادّعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمناً؛ لأنّ من تفوّه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمناً)
(1)
.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها بالنص (مفهوم الموافقة) على تكذيب دعوى المرجئة، والكرامية
(2)
، وغيرهم من الطوائف في مسألة الإيمان؛ حيث ذكر تعالى عن المنافقين أنهم كانوا يقولون بألسنتهم، ولم يكن لهم تصديق القلب، فأكذبهم الله ونفى عنهم الإيمان بقوله:{وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}
وهذا يدلّ على أن المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ليسوا بمؤمنين على الحقيقة، وإن كان الظاهر منهم هو صلاح الحال وإظهار الإيمان، وأن
(1)
السراج المنير (1/ 29).
(2)
هي طائفة منسوبة إلى أبي عبد الله محمد بن كرام، وهم طوائف بلغ عددهم اثنتي عشر فرقة. أصولها ستة، ومن أصولهم قولهم: أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب ودون سائر الأعمال، وفرقوا بين تسمية المؤمن مؤمناً فيما يرجع إلى أحكام الظاهروالتكليف، وفيما يرجع إلى أحكام الآخرة والجزاء، فالمنافق عندهم: مؤمن في الدنيا على الحقيقة مستحق للعقاب الأبدي في الآخرة، وقالوا: تثبت الإمامة بإجماع الأمة دون النص والتعيين كما قال أهل السنة إلا أنهم جوزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين وغرضهم إثبات إمامة معاوية في الشام، وإثبات أمير المؤمنين علي بالمدينة.
ينظر: الفرق بين الفرق (1/ 202)، والملل والنحل (1/ 110)، ومقالات الإسلاميين (1/ 141).
القول بغير تصديق القلب لا يكون إيماناً؛ لأن الإيمان الحقيقي هو ما تواطأ عليه القلب واللسان وعمل الجوارح، وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين.
ففي هذه الآية دلالة واضحة على رد معتقد تلك الطوائف، الذين من جملة أصولهم الباطلة أن الإيمان إقرار باللسان فقط، ولا يلزم معه إيمان القلب والجوارح والأركان.
وممن استنبط دلالة هذه الآية على هذا المعنى موافقاً الخطيب: الطبري، والسمرقندي، والسمعاني، وابن عطية، والرازي
(1)
، والقرطبي، والبيضاوي، وأبو حيان، وأبو السعود، والسعدي، وغيرهم.
(2)
قال الطبري (في هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية
(3)
من أن الإيمان هو التصديق بالقول دون سائر المعاني غيره)
(4)
(1)
قال الرازي: " نفى كونهم مؤمنين، ولو كان الإيمان بااللهّ عبارة عن التصديق اللساني لما صح هذا النفي". التفسير الكبير (2/ 301)
(2)
ينظر: جامع البيان (1/ 117)، وتفسير القرآن للسمرقندي (1/ 52)، وتفسير السمعاني (1/ 47)، والمحرر الوجيز (1/ 90)، والتفسير الكبير (2/ 301)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 193)، وأنوار التنزيل (1/ 162)، والبحر المحيط (1/ 184)، وإرشاد العقل السليم (1/ 40)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 42).
(3)
الجهمية: هم المعطلة نفاة الصفات، سموا بالجهمية، نسبة إلى جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي، وقد صار لقباً على معطلة الصفات عموماً، يقول جهم بالإرجاء في الإيمان حيث يجعله المعرفة فقط، والكفر هو الجهل بالله، كما زعم أن الجنة والنار تفنيان، وأن النعيم والألم ينقطع في الآخرة. ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 338)، والفرق بين الفرق، ص (211)، والملل والنحل (1/ 86 - 87).
(4)
جامع البيان (1/ 117).
وقال أبو السعود: (ومدلول الآية الكريمة أن من أظهر الإيمان واعتقاده بخلافه لا يكون مؤمنا، فلا حجة فيها على الكرامية القائلين بأن من تفوه بكلمتي الشهادة فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه مؤمن).
(1)
وقد أبطل شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
هذا المعتقد الفاسد وردّ على هذه الفِرق بنصوص القرآن والسنة.
(3)
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4] فقصر الإيمان على من اتصف بتلك الصفات والأفعال الشاملة لأعمال القلب واللسان والجوارح، بمعنى أن من ترك أحدها فهو غير مؤمن، وغيرها من الآيات كثير.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإيمان عند الأشاعرة هو التصديق القلبي فقط، لكن دلالة هذه الآية موافقة لمذهب أهل السنة والأشاعرة معاً في الرد على من
(1)
إرشاد العقل السليم (1/ 40).
(2)
هو أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني الحنبلي، أبو العباس، شيخ الإسلام، تقي الدين، اعتنى بالحديث وتفسير القرآن وأحكم أصول الفقه، والفرائض والحساب، ونظر في الكلام والفلسفة وغيرها من العلوم، أفتى ودرّس وصنّف وهو دون العشرين، توفي سنة 728 هـ. ينظر: البداية والنهاية لابن كثير (14/ 135)، وشذرات الذهب (6/ 241).
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 140)، والإيمان (1/ 174)، وينظر: إعانة المستفيد للشيخ صالح الفوزان (1/ 404)، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (3/ 529).
خالفهم، وأن الإيمان بغير تصديق القلب لا يكون إيماناً، فلا عجب أن يستدل بها الخطيب لأنها موافقة لمذهبهم كذلك، إلا أن الصحيح في باب الإيمان - كما سيأتي بيانه قريباً في دلالة أخرى من سورة البقرة - أنه تصديق القلب وإقرار اللسان وعمل الجوارح.
وقد بوَّب البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
في صحيحيهما أبواباً كثيرة تثبت أن الإيمان إقرار وتصديق وعمل، وبهذا يظهر صحة دلالة هذه الآية على استنباط الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
هو: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبدالله، الإمام حبر الإسلام، حافظ زمانه، صاحب (الصحيح) وهو أصح كتب الحديث على الإطلاق، توفي سنة 256 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (12/ 391)، وشذرات الذهب (2/ 279).
(2)
هو: مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، أبو الحسين، صاحب الصحيح، أحد الأئمة الحفاظ وأعلام المحدثين توفي سنة 261 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (5/ 194)، وسير أعلام النبلاء (12/ 557)، وشذرات الذهب (2/ 295).
تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله تعالى.
قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 2] 0
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فائدة هذه الجملة الشرطية إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه، وهو أنه تعالى أمهل المنافقين فيما هم فيه؛ ليتمادوا في الغيّ والفساد ليكون عذابهم أشدّ، وللتنبيه على أنّ تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله تعالى، وأنّ وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته تعالى.)
(1)
وجه الاستنباط:
أن الرعد والبرق وإن كانا في الظاهر سببين لذهاب السمع والبصر إلا أن تأثير الأسباب في مسبباتها بمشية الله تعالى، فإن قصف الرعد، ولمعان البرق سببان كافيان لأن يذهبا بسمع ذوى الصيب وأبصارهم لو شاء الله ذلك.
(2)
فدلَّ على أن وجود المسببات وهي ذهاب السمع والبصر مرتبط بأسبابها، لكن وقوعها بقدرته تعالى لا بالأسباب، لأنّ الأسباب غير مؤثرة بالذات عند الخطيب بل بإرادته تعالى.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على فائدة الشرط في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} وهي بيان المانع من ذهاب سمع المنافقين وأبصارهم مع وجود أسبابه من حصول الرعد والبرق، وهو أنه تعالى لم يشأ
(1)
السراج المنير (1/ 37)
(2)
ينظر: التفسير الوسيط لطنطاوي (1/ 68)
ذلك، بل شاء سبحانه إمهال المنافقين ليتمادوا في غيّهم وفسادهم ليكون عذابهم أشدّ، وفيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة، ليحذروا، فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم
(1)
، ولو أراد الله إذهاب قواهم أذهبها من غير سبب، فلا يغنيهم الاحتراز والخوف
(2)
، وعلى هذا ففي الآية إشارة، وتنبيه على أنّ تأثير الأسباب في مسبِّباتها مشروط بمشيئة الله تعالى، وأنّ وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته تعالى، فإن الرعد والبرق سببان لذهاب السمع والبصر، لكن تأثير الأسباب كلها في الحقيقة بمشية الله تعالى.
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: البيضاوي، والمظهري
(3)
، ومحمد رشيد رضا
(4)
، وطنطاوي
(5)
وغيرهم.
(6)
(1)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن (1/ 44)
(2)
ينظر: حاشيه الشهاب على تفسير البيضاوي (1/ 408)
(3)
هو محمد ثناء الله الهندي الفاني فتي، النقشبندى، الحنفي، العثماني، المظهري، من تلامذة الشاه ولي الله الدهلوي، كان الشاه عبد العزيز يسميه «بيهقي العصر» ، وألف كتبا كثيرة في التفسير والفقه وغيرها منها «تفسير المظهري» ، و «ما لا بد منه» في الفقه، و «منار الأحكام» ، توفي 1225 هـ. ينظر: معجم المؤلفين (9/ 144)
(4)
هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بَهاء الدين بن ملا علي خليفة القلموني، البغدادي الأصل، الحسيني النسب: صاحب مجلة (المنار) وأحد رجال الإصلاح الإسلامي. من الكتّاب، العلماء بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير. توفي سنة 1354 هـ ينظر: الأعلام (6/ 126)
(5)
هو طنطاوي بن جوهري المصري: فاضل، له اشتغال بالتفسير والعلوم الحديثة. وتعلم في الأزهر مدة، ثم في المدرسة الحكومية. ودرّس في بعض المدارس الابتدائية، ثم في مدرسة دار العلوم. وألقى محاضرات في الجامعة المصرية. وناصر الحركة الوطنية، فوضع كتابا في (نهضة الأمة وحياتها) وانقطع للتأليف، فصنف كتباً أشهرها (الجواهر في تفسير القرآن الكريم) و (جواهر العلوم)، توفي سنة 1358 هـ. ينظر: الأعلام (3/ 230)
(6)
ينظر: أنوار التنزيل (1/ 53)، والتفسير المظهري (1/ 31)، وتفسير المنار (1/ 150)، والتفسير الوسيط لطنطاوي (1/ 68)
وتعليق السبب بمشيئة الله تعالى صحيح وهو ما عليه أهل السنة والجماعة،
إلا أن ربط الخطيب
(1)
المسبِّبات عند وجود الأسباب لا بها هو على طريقة
الأشاعرة
(2)
- عفا الله عنا وعنهم- فهم يثبتون وجود تلازم عادي بين الأسباب والمسببات وينفون الاقتران الضروري بينهما، ويجعلون المسببات تحدث عند الأسباب لا بها، وعلى قولهم فالنار مثلاً إذا لاقت شيئاً قابلاً للاحتراق فاحترق، فإن الاحتراق لم يكن بسبب النار، فهي لم تؤثر شيئاً، وإنما المؤثر هو الله وحده! فالنار عند الأشاعرة لا تحرق، وهي أيضاً ليست سبباً في الإحراق، ولكن عند التقاء الخشب بالنار يخلق الله تعالى الاحتراق، فيقولون إن الخشب احترق عند النار لا بالنار!
(3)
(1)
صرَّح الخطيب بذلك في أكثر من موضع، قال عند تفسير قوله تعالى {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة: 102]: ({وَمَا هُمْ} أي: السحرة {بِضَارِّينَ بِهِ} أي: السحر {مِنْ أَحَدٍ} أي: أحداً، ومِن: صلة {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: إرادته؛ لأنّ الأسباب غير مؤثرة بالذات بل بإرادته تعالى). السراج المنير (1/ 83)
(2)
ينظر: تحفة المريد للبيجوري (98 - 99)، والإنصاف للباقلاني (1/ 45)، والمواقف للإيجي (1/ 311)، وشرح أم البراهين (1/ 80 وما بعدها)
(3)
وحجتهم في هذه الدعوى أمران:
الأول: أن إثبات تأثير الأسباب في مسبباتها يفضي إلى القول بوجود شريك مع الله يؤثر في الأفعال، والله عز وجل هو المؤثر وحده!
الثاني: إن إثبات التلازم بين الأسباب والمسببات يفضي إلى إنكار النبوات الثابتة بمعجزات الرسل، وهي خوارق مخالفة للعادة، فلو وجد التلازم بين الأسباب والمسببات لما صح تخلف هذا التلازم، وهذا يؤدي إلى إنكار النبوات.
والجواب عن هذه الشبهة: أن القرآن مليء بذكر الأسباب وربطها بمسبباتها، كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة، ومن ذلك قوله تعالى:{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104]، وقوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]، وقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على تأثير الأسباب في مسبباتها بأمر الله تعالى وتقديره، ومشيئته.
وأما الجواب عن الأمر الأول الذي ذكروه فإنه لا يلزم ذلك، لأن أهل السنة عندما قالوا ذلك، شرطوا وجود المعاون المشارك، وانتفاء الموانع، وربط ذلك بمشيئة الله، مع القول بأن الأسباب والمسببات مخلوقة لله تعالى فلا يتوجه إليهم هذا المحذور. وأما جواب الأمر الثاني، فإن أهل السنة ذكروا بأن الأسباب خلق لله تعالى تتعلق بها مشيئته وقدرته، فلو شاء ألا تؤثر ما أثرت، ولذلك فإن قول الأشاعرة: لو وجد التلازم بين الأسباب والمسببات لما صح تخلف هذا التلازم، قول ليس بلازم ولا صحيح، والأدلة كثيرة على وجود هذا التخلف إذا شاء الله، وإنه ليشاؤها عند إثبات النبوات وغير ذلك، فلا ينسد طريق إثبات النبوات.
ينظرقولهم في: تحفة المريد ص (98 - 99)، وينظر تفصيل دعواهم وأمثلته والرد عليها في: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف (1/ 344 وما بعدها)
والذي عليه أهل السنة أن النار تحرق، والسكين تقطع، والماء يروي، بما جعل الله فيها من الخصائص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (جمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة، وإن له قدرة حقيقة، واستطاعة حقيقة، ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية، بل يُقِرّون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء بالسحاب، وينبت النبات بالماء، ولا يقولون أن القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها، بل يقرون بأن لها أثر لفظاً ومعنى، لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها والله تعالى خالق السبب والمسبِّب، ومع أنه خالق السبب فلا بد للسبب من سبب آخر يشاركه، ولابد من معارض يمانعه، فلا يتم أثره إلا مع خلق الله له،
بأن يخلق الله السبب الآخر ويزيل الموانع، فالمسببات حينئذ يجب وجودها عند وجود أسبابها، بمعنى أن الله تعالى يحدثها حينئذ ويشاء وجودها
(1)
).
(2)
وقال الشيخ ابن عثيمين
(3)
: (الناس في الأسباب طرفان ووسط:
فالطرف الأول: نفاة أنكروا تأثير الأسباب وجعلوها مجرد علامات يحصل الشيء عندها لا بها، حتى قالوا: إن انكسار الزجاجة بالحجر إذا رميتها به حصل عند الإصابة لا بها. وهؤلاء خالفوا السمع، وكابروا الحس، وأنكروا حكمة الله تعالى في ربط المسببات بأسبابها.
(1)
منهاج السنة النبوية (3/ 13)، وينظر: الصفدية لابن تيمية (1/ 152)، والفتاوى الكبرى (6/ 641)، ومفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 243)، ورفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر لمرعي المقدسي (1/ 40)، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 312)
(2)
وقال في موضع آخر: (الذي عليه السلف وأتباعهم، وأئمة أهل السنة، وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر، المخالفون للمعتزلة: إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لا بد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها مع ذلك أضداد تمانعها، والسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بد من الإرادة الجازمة مع القدرة). ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 487)، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1346).
(3)
هو محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين المقبل الوهيبي التميمي، أبو عبدالله، علامة عصره، فقيه مفتي، تتلمذ على الشيخ السعدي وابن باز وغيرهما، كان عضواً في هيئة كبار العلماء، وعضواً في هيئة التدريس في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم، له (تسهيل الفرائض) و (القواعد المثلى في صفات أسماء الله الحسنى)، وغير ذلك، توفي سنة 1421 هـ. ينظر: معجم الكتاب والمؤلفين في المملكة العربية السعودية، ص 103، وابن عثيمين الإمام الزاهد للدكتور ناصر الزهراني، ص 27 - 35.
والطرف الثاني: غلاة أثبتوا تأثير الأسباب، لكنهم غلوا في ذلك وجعلوها مؤثرة بذاتها، وهؤلاء وقعوا في الشرك، حيث أثبتوا موجداً مع الله تعالى وخالفوا السمع والحس. فقد دل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أنه لا خالق إلا الله، كما أننا نعلم بالشاهد المحسوس أن الأسباب قد تتخلف عنها مسبباتها بإذن الله، كما في تخلف إحراق النار لإبراهيم الخليل حين ألقي فيها فقال الله تعالى:{يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. فكانت برداً وسلاماً عليه ولم يحترق بها.
وأما الوسط: فهم الذين هُدوا إلى الحق وتوسطوا بين الفريقين وأخذوا بما مع كل واحد منهما من الحق، فأثبتوا للأسباب تأثيراً في مسبباتها لكن لا بذاتها بل بما أودعه الله تعالى فيها من القوى الموجبة.)
(1)
فالله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون ومدبره، وضعه على سنن ثابتة، وربط الأسباب بالمسببات، ولو شاء تعالى تغيير هذه السنن أو سلب هذه الأسباب تأثيرها لفعل، فهو سبحانه القادر على كل شيء، لا راد لقضائه ولا مُعقب لحكمه، ولكنه جعل لهذا الكون نظاماً، وللأسباب تأثيراً، لحكمة أرادها سبحانه وتعالى، فلا تأثير لشيء في هذا الوجود إلا بأمره ولا يخرج شيء منه عن مشيئته وإرادته.
(2)
وبهذا يتبين عدم صحة دلالة هذه الآية على ما استنبطه الخطيب، والله تعالى أجلّ وأعلم.
(1)
تقريب التدمرية لابن عثيمين (1/ 98)
(2)
ينظر: الاستقامة لابن تيمية (1/ 144)، والصفدية (1/ 263)
النار مخلوقة مُعدَّة لأصحابها الآن.
قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({أُعِدَّتْ} أي: هيئت {لِلْكَافِرِينَ} وجعلت عدّة لعذابهم، وفي ذلك دليل على أنّ النار مخلوقة معدّة لهم الآن).
(1)
وجه الاستنباط:
أن المعدوم لا يقال له أُعد فهو معد.
(2)
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة اللازم من الآية أن النار مخلوقة موجودة الآن، لأنه تعالى قال:(أعدت) بصيغة الماضي، والماضي يدل على وجود الشيء، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة خلافاً للمعتزلة.
قال ابن أبي العز الحنفي
(3)
: (اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل أهل السنة على ذلك حتى نبغت نابغة من المعتزلة، والقدرية، فأنكرت ذلك).
(4)
(1)
السراج المنير 1/ 45.
(2)
ينظر: الإشارات الإلهية للطوفي (1/ 249).
(3)
هو علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي، قاضي القضاة بدمشق ثم بالديار المصرية ثم بدمشق، امتحن بسبب اعتراضه على قصيدة ابن أيبك الدمشقي. له كتب منها " شرح العقيدة الطحاوية" و " التنبيه على مشكلات الهداية " في الفقه، و " النور اللامع فيما يعمل به في الجامع " أي جامع بني أمية، توفي سنة 792 هـ. ينظر: الدرر الكامنة (4/ 103)، والأعلام (4/ 313).
(4)
شرح العقيدة الطحاوية 1/ 476، وينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 6/ 1256
وقد استنبط كثير من المفسرين هذه الدلالة من الآية، منهم: ابن عطية، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، وأبوحيان، وابن كثير، وأبو السعود، والألوسي، والسعدي. وغيرهم.
(1)
قال ابن عطية: (وجمهور العلماء عل أنهما قد خلقتا، وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} و {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] وغير ذلك، وهو نص في الأحاديث كحديث الإسراء
(2)
وغيره مما يقتضي أن ثم جنة قد خلقت)
(3)
وخالفت المعتزلة في هذه المسألة، وقالوا أن الجنة والنار يخلقهما الله يوم القيامة!
(1)
ينظر: المحرر الوجيز (1/ 509)، والتفسير الكبير (2/ 116)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 236)، وأنوار التنزيل (1/ 24)، والبحر المحيط (1/ 250 - 251)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 62 - 63)، وإرشاد العقل السليم (1/ 68)، وروح المعاني (1/ 199)، وتيسير الكريم الرحمن ص 46.
(2)
حديث الإسراء أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء 1/ 547، رقم (349). وأخرجه مسلم في صحيحه (1/ 145)، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (162).
(3)
المحرر الوجيز 1/ 509.
وقد رد عليهم كثير من أئمة أهل السنة وبينوا جهلهم بالآثار والسنن.
(1)
ومن الأدلة على خلقهما ووجودهما أنه تعالى قال عن الجنة: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران-133]، وقال عن النار:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران-131]
قال ابن كثير: (وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى: أُعِدَّتْ، أي أرصدت وهيئت).
(2)
وقال الطوفي (ولأنه قد ثبت أن آدم عليه السلام دخل الجنة ثم أخرج منها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجنة والنار ليلة الإسراء
(3)
، وأن أرواح الشهداء في حواصل طير في الجنة
(4)
).
(5)
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي
(6)
يجر قصبه في النار)
(7)
وغيرها من الأحاديث الكثيرة المتواترة في هذا المعنى.
(8)
وبهذا يظهر صحة دلالة هذه الآية، وموافقة الخطيب لما عليه أهل السنة والجماعة
(9)
في هذا الباب، وبطلان قول المعتزلة، والله تعالى أجلّ وأعلم.
(1)
ينظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للجويني (1/ 278)، وحجج القرآن لابن أبي المظفر (1/ 76)، والانتصار في الرد على المعتزلة والقدرية الأشرار لأبي الحسين العمراني (9/ 280).
(2)
تفسير القرآن العظيم (1/ 202)
(3)
حديث الإسراء تقدم تخريجه.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة باب: بيان أن أرواح الشهداء في الجنة 13/ 27 رقم 01887
(5)
الإشارات الإلهية (1/ 249)
(6)
هو عمرو بن لحيّى بن حارثة بن عمرو ابن عامر الأزدي، أبو ثمامة، من قحطان، ومن العلماء من يجزم بأنه مضريّ من عدنان، وفي نسبه خلاف شديد، وهو جدّ " خزاعة " عند كثير من النسَّابين، ومعظمهم يسميه " عمرو بن عامر بن لحيّ " وفيهم من يسميه " عمرو بن ربيعة " وهو الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب وبحر البحيرة وغير دين إبراهيم عليه السلام، ودعا العرب إلى عبادة الأصنام. ينظر: وفيات الأعيان (4/ 107)، والأعلام (5/ 84)
(7)
أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب قصة خزاعة برقم 3333، (3/ 1297)
(8)
فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الجنة قصراً لعمر، ورأى مناديل سعد، وسمع صوت خشخشة بلال في الجنة، وغير ذلك مما صح نقله وثبت في الأخبار.
(9)
ينظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للجويني (1/ 278)، وحجج القرآن لابن أبي المظفر (1/ 76)، والانتصار في الرد على المعتزلة والقدرية (9/ 280).
الصالحات خارجة عن مسمى الإيمان.
قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (عطف سبحانه وتعالى العمل على الإيمان مرتباً للحكم عليهما؛ إشعاراً بأنّ السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين، والجمع بين الوصفين، فإنّ الإيمان الذي هو عبارة عن التيقن والتصديق أُس، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا نفع تام بأُس لا بناء عليه، ولذلك قلَّما ذُكرا مفردين، وفي عطف العمل على الإيمان دليل على أنّ الصالحات خارجة عن مسمى الإيمان؛ إذ الأصل أنّ الشيء لا يعطف على نفسه ولا على ما هو داخل فيه.)
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية بدلالة الاقتران أن الإيمان غير الأعمال، لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان، والعطف يقتضي التغاير
(2)
، فدلّ على أن الإيمان غير الأعمال.
(3)
(1)
السراج المنير 1/ 46.
(2)
ينظر: البحر المحيط لأبي حيان (7/ 241) ومجموع الفتاوى (7/ 172) قال ابن تيمية: (وعطف الشيء على الشيء في القرآن وسائر الكلام يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم الذي ذكر لهما)، وينظر: معالم أصول الفقه للجيزاني (1/ 381).
(3)
ينظر: الإشارات الإلهية للطوفي (1/ 368)
وهذا الاستنباط مبني على القاعدة اللغوية (العطف يقتضي التغاير)، وقد أشار إلى هذا المعنى وربطه بهذه القاعدة بعض المفسرين كالرازي، والقرطبي، وأبي السعود، والألوسي، وغيرهم.
(1)
والحق أن هذا الاستنباط باطل غير صحيح، وهو على نهج الأشاعرة في باب الإيمان
(2)
، والذي عليه أهل السنة والجماعة أن العمل من الإيمان، وأنه إقرار وتصديق وعمل، وأدلتهم في هذا الباب كثيرة وواضحة.
(3)
قال ابن أبي العز: (وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة فلا يكون العمل داخلا في مسمى الإيمان، فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقاً عن العمل وعن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام، فالمطلق مستلزم للأعمال قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، وقال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]
أما إذا عطف عليه العمل الصالح فاعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب: أعلاها: أن يكونا متباينين ليس أحدهما هو الآخر ولا جزءاً
(1)
ينظر: التفسير الكبير (21/ 201)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 238)، وإرشاد العقل السليم (1/ 68)، وروح المعاني (1/ 201).
(2)
ينظر: الإنصاف للباقلاني (1/ 55)، والإرشاد للجويني (1/ 379)، والمواقف للإيجي (1/ 384)
(3)
ينظر قول أهل السنة والجماعة وأدلتهم في: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 1/ 373 ومابعدها.
منه، ولا بينهما تلازم كقوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وهذا هو الغالب.
ويليه: أن يكون بينهما تلازم كقوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]
الثالث: عطف بعض الشيء عليه كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وفي مثل هذا وجهان: أحدهما أن يكون داخلاً في الأول فيكون مذكوراً مرتين. والثاني: أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلاً فيه هنا وإن كان داخلاً فيه منفرداً، كما قيل مثل ذلك في لفظ: الفقراء والمساكين ونحوهما، تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران.
والرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين كقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3]، فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه نظرنا في كلام الشارع كيف ورد فيه الإيمان فوجدناه إذا أُطلق يراد به ما يراد بلفظ البر والتقوى والدين ودين الإسلام .. )
(1)
وبهذا يتبين عدم صحة هذه الدلالة، وأن الإيمان إقرار اللسان، وتصديق القلب، وعمل الجوارح، كما عليه أهل السنة. والله تعالى أعلم.
(1)
شرح العقيدة الطحاوية 1/ 387 (بتصرف يسير)، وينظر: الإيمان لابن تيمية (1/ 152 وما بعدها)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة 30]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فائدة قوله هذا للملائكة تعليم المشاورة، وتعظيم شأن المجعول بأن بشَّر تعالى بوجوده سكان ملكوته، ولقَّبه بالخليفة قبل خلقه، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وجوابه، وبيان أنّ الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره فإن ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثير إلى غير ذلك).
(1)
ذكر الخطيب في هذه الآية عدداً من الفوائد، والتي يمكن أن تُجمل في فائدتين:
الفائدة الأولى:
تعليم المشاورة:
وجه الاستنباط:
خطابه تعالى للملائكة عن جعله خليفة في الأرض قبل خلقه.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على فائدة قوله تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} قبل جعله خليفة في الأرض وهي: تعليمهم المشاورة، وذلك ليُعلِّم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يُقدموا عليها، وعرضِها على
(1)
السراج المنير (1/ 45)
ثقاتهم وأهل النصح فيهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته سبحانه غني عن المشاورة.
(1)
وممن نصَّ على هذه الفائدة من الآية موافقاً الخطيب: الزمخشري، والرازي، والبيضاوي، والنسفي
(2)
، وحقي، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي
(3)
، وغيرهم.
(4)
وقد يكون الغرض من إخبار الملائكة بذلك هو أن يسألوا ذلك السؤال، ويجابوا بما أُجيبوا به، فيعرفوا حكمته تعالى في استخلافهم قبل كونهم، حتى لايقع منهم الاعتراض في ذلك الوقت، أو ليستخرجَ ما عندهم ويُظهر مكنونات صدورهم وهو تعالى أعلم بذات الصدور، أفاده القاسمي.
(5)
قال الرازي: (فإن قيل ما الفائدة في أن قال الله تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} مع أنه مُنزّه عن الحاجة إلى المشورة، والجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى علِم أنهم إذا اطلَّعوا على ذلك السر أوردوا عليه ذلك السؤال، فكانت المصلحة تقتضي إحاطتهم بذلك الجواب فعرَّفهم هذه الواقعة لكي يوردوا
(1)
ينظر: روح البيان لحقي (1/ 94).
(2)
هو: عبدالله بن أحمد بن محمود النسفي، أبو البركات، كان إماماً في كثير من العلوم، ومصنفاته في الفقه والأصول أكثر من أن تحصى، له (مدارك التنزيل) في التفسير وغيره، توفي سنة 710 هـ.
ينظر: طبقات المفسرين للأدنه وي ص 263، والأعلام (4/ 67).
(3)
هو: جمال الدين محمد بن سعيد القاسمي، إمام الشام في عصره، إمام مجتهد، لا يقول بالتقليد، له مصنفات في التفسير والأدب، توفي سنة 1332 هـ. ينظر: الأعلام 2/ 135.
(4)
ينظر: الكشاف (1/ 124)، والتفسير الكبير (2/ 389)، وأنوار التنزيل (1/ 68)، ومدارك التنزيل (1/ 78)، وروح البيان (1/ 94)، وفتح القدير (1/ 74)، ومحاسن التأويل (1/ 285).
(5)
ينظر: محاسن التأويل للقاسمي (1/ 285)
ذلك السؤال ويسمعوا ذلك الجواب. الوجه الثاني: أنه تعالى علَّم عباده المشاورة).
(1)
ودلالة هذه الآية على تعليم المشاورة هي دلالة قريبة محتملة لكنها ليست بالظاهرة، وقد يكون ذلك على سبيل الإخبار والإعلام للملائكة دون انتظار جوابٍ منهم، ولله تعالى في خطابه وجميعِ أمره من الحكم ما لا يعلمها إلا هو، وهو تعالى أجلّ وأعلم.
الفائدة الثانية:
تعظيم شأن آدم عليه السلام، وبيان فضله، وحكمةإيجاده.
وجه الاستنباط:
أن الله تعالى بشَّر بوجوده، ولقَّبه بالخليفة قبل خلقه.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على عظم شأن آدم عليه السلام، وإظهار فضله؛ لأن الله تعالى بشَّر بوجوده ملائكته، ونوَّه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده، ولقَّبه بالخليفة، وهو المراد بالخليفة هنا في قول جمهور المفسرين.
(2)
والله تعالى خلق ما خلق ولم يقل في شيء منها ما قال في حق آدم عليه السلام فظاهر هذا الخطاب تنبيهٌ لشرف آدم وفضله؛ حيث خلق تعالى الجنان وما فيها، والعرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء وكمال الصورة، ولم يقل
(1)
التفسير الكبير (2/ 389)
(2)
ينظر: جامع البيان للطبري (1/ 452)، وأضواء البيان للشنقيطي (1/ 20).
سبحانه: إني خالق عرشاً أو جنةً أو ملَكاً، وإنما قال ذلك في حق آدم، تشريفاً وتخصيصاً له.
(1)
وممن وافق الخطيب في النصَّ على هذه الدلالة من الآية: البيضاوي، وأبو حيان، والألوسي، والقاسمي، والسعدي، وغيرهم.
(2)
وأيضاً فإن في قوله تعالى عن الملائكة {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} إظهار فضل استخلاف آدم في الأرض الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤال الملائكة وجوابه تعالى لهم، حيث قال {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم.
(3)
قال السعدي: (قال الله تعالى للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ} من هذا الخليفة {مَا لَا تَعْلَمُونَ} ؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم، وأنا عالم بالظواهر والسرائر، وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة، أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر، فلو لم يكن في ذلك إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين، ولتظهر آياته للخلق، ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة، كالجهاد وغيره، وليظهر ما كمُن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان، وليتبين عدوه من وليه، وحزبه من حربه، وليظهر ما
(1)
ينظر: البحر المحيط (1/ 228).
(2)
ينظر: أنوار التنزيل (1/ 68)، والبحر المحيط (1/ 228)، وروح البيان (1/ 94)، وروح المعاني (1/ 223)، ومحاسن التأويل (1/ 285)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 48).
(3)
ينظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 217).
كمُن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه واتصف به، فهذه حكم عظيمة، يكفي بعضها في ذلك).
(1)
فالحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره؛ لأن ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثيركما أفاده الخطيب، فالملائكة نظروا إلى جانب الشر وهو الإفساد والقتل، وهو شر قليل بالنسبة إلى ما يحصل منهم من الخيرات
(2)
، فأجابهم تعالى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وهذا جواب الحكيم سبحانه، وعليه فدلالة الآية على تشريف آدم وفضله دلالة قوية ظاهرة، والله تعالى أجلُّ وأعلم.
(1)
تيسير الكريم الرحمن (1/ 48).
(2)
ينظر: التفسير الكبير (2/ 426)، وأنوار التنزيل (1/ 68)، وغرائب القرآن (1/ 217)، وروح البيان (1/ 94).
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (هذه الآيات وهي آية {وَعَلَّمَ آدَمَ} وآية {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا} وآية {قَالَ يَاآدَمُ} تدل على مزيَّة العلم وفضله على العبادة، وإلا لأظهر فضل آدم بها
(1)
، وأنّ اللغات توقيفية، فإن الأسماء تدل على الألفاظ بخصوص أو عموم، وتعليمها ظاهر في إلقائها على المتعلم مبيناً له معانيها، وذلك يستدعي سابقة وضع، والأصل ينفي أن يكون ذلك الوضع ممن كان قبل آدم من الملائكة والجنّ، فيكون من الله، وأنّ مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم، لتغاير المتعاطفين وإلا لتكرر قوله:{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ، وأنّ آدم أفضل من هؤلاء الملائكة؛ لأنه أعلم منهم والأعلم أفضل لقوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وأن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلاً كما ذهب إليه أهل السنة).
(2)
(1)
أي لأظهر فضله بالعبادة دون العلم.
(2)
ينظر: السراج المنير (1/ 47) بتصرف يسير.
هذه الآيات جمع فيها الخطيب أكثر من دلالة:
الدلالة الأولى:
مزية العلم وفضله على العبادة.
وجه الاستنباط:
أن الملائكة كانت أكثر عبادة من آدم عليه السلام ومع ذلك لم تستحق الخلافة.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على شرف العلم وفضله على العبادة؛ لأن الملائكة كانت أكثر عبادة من آدم عليه السلام ومع ذلك لم تستحق الخلافة كما استحقها آدم، فالذي ظهرت به المزيَّة والفضيلة لآدم هو العلم، فلما أراد الله تعالى إظهار فضله لم يُظهره إلا بالعلم، ولو كان شيء أفضل من العلم لكان إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم.
(1)
قال تعالى لآدم: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} فأمره أن يُعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة، ليعلموا أنه أعلم منهم بما سألهم عنه، وذلك تنبيه على فضله وعلو شأنه، حيث قدَّمه عليهم، وخصَّه بالعلم، وأمرهم بالسجود له، لأجل فضلية العلم، فدلَّ على فضل العلم وأهله.
(1)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي (1/ 28)
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: أبو بكر الجصاص
(1)
، والقرطبي، والبيضاوي، وحقي، والسيوطي، وأبو السعود، والسعدي، وابن عاشور، وغيرهم.
(2)
ويشهد لصحة هذه الدلالة قوله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» .
(3)
وقوله عليه الصلاة والسلام: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»
(4)
وهذه الدلالة من الآية حسنة ظاهرة، وقد اتفق العلماء على أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصوم، والصلاة، والتسبيح، ونحو ذلك من نوافل العبادات كما أفاده النووي وغيره، قال: ( .. ومن دلائله أن نفع العلم يعم صاحبه والمسلمين، والنوافل مختصة به، ولأن العلم مُصحح فغيره من العبادات
(1)
هو: أحمد بن علي الرازي، أبو بكر الحنفي الجصاص، الفقيه الزاهد، إمام أصحاب أبي حنيفة في وقته، له من المصنفات:(أحكام القرآن) في التفسير، و (شرح مختصر الطحاوي)، وله كتاب مفيد في أصول الفقه وغيرها، توفي سنة 370 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (16/ 340)، وطبقات المفسرين للداودي ص 44، وطبقات المفسرين للأدنه وي ص 84.
(2)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 37)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 288)، وأنوار التنزيل (1/ 70)، وروح البيان (1/ 102)، والإكليل في استنباط التنزيل (1/ 28)، وإرشاد العقل السليم (1/ 86)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 49)، والتحرير والتنوير (1/ 419).
(3)
أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (88)، (1/ 289)، والهيثمي في الزواجر (1/ 69)، وقال: في هذا الحديث اختلاف كبير والجمهور على قبوله، وابن حجر في تخريج مشكاة المصابيح (1/ 151)، وقال: حديث حسن. وحسَّنه الألباني في: «التعليق الرغيب» (1/ 53).
(4)
أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، برقم (2685). وقال: حديث حسن. وصححه الألباني عن أبي أمامة في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 736).
مفتقر إليه، ولاينعكس، ولأن العلماء ورثة الأنبياء، ولا يوصف المتعبدون بذلك، ولأن العابد تابع للعالم مُقتدٍ به مُقلدٌ له في عبادته وغيرها، واجب عليه طاعته، ولا ينعكس، ولأن العلم تبقى فائدته وأثره بعد صاحبه، والنوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن العلم صفة لله تعالى، ولأن العلم فرض كفاية، فكان أفضل من النافلة).
(1)
وبهذا يظهر صحة هذا الاستنباط وقوته، والله تعالى أعلم.
(1)
المجموع شرح المهذب (1/ 21)، وينظر: فيض القدير للمناوي (4/ 385)
الدلالة الثانية:
أنّ اللغات توقيفية.
وجه الاستنباط:
أنه تعالى أخبر أنه علَّم آدم الأسماء باللام المستغرقة، وأكَّدها بلفظ «كل» وذلك يقتضي أنه وقَفَه عليها، ثم توارثت ذلك ذريته من بعده بالتلقِّي عنه، فلم يحتاجوا إلى اصطلاح آخر.
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أن اللغات توقيفية، وضعها الله بالوحي وعلَّمها آدم عليه السلام؛ لأنه تعالى قال:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} والأسماء تدل على الألفاظ بخصوص أو عموم، وتعليمها ظاهر في إلقائها على المتعلم مبيناً له معانيها كما هو ظاهر الآية، وذلك يستدعي سابقة وضع، والأصل ينفي أن يكون ذلك الوضع ممن كان قبل آدم من الملائكة والجنّ فيكون من الله تعالى.
(2)
قال ابن خويز منداد
(3)
: (في هذه الآية دليل على أن اللغة مأخوذة توقيفاً، وأن الله تعالى علمها آدم عليه السلام جملة وتفصيلاً.)
(4)
(1)
ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (1/ 474).
(2)
ينظر: أنوار التنزيل للبيضاوي (1/ 70)، والسراج المنير للخطيب (1/ 47)
(3)
هو محمد بن علي بن إسحاق بن خويز منداد، الفقيه المالكي البصري يكنى أبا عبد الله، صنف كتبا كثيرة منها كتابه الكبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وكتاب في أحكام القرآن، وعنده شواذ عن مالك، توفي في أواخر المائة الرابعة للهجرة. ينظر: لسان الميزان لابن حجر (5/ 291)
(4)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 282).
وكذلك قال ابن عباس: «علمه أسماء كل شي حتى القصعة، والمغرفة» .
(1)
وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية: القرطبي، والسيوطي، وابن كثير، وحقي، والقاسمي، وابن عثيمين، وغيرهم.
(2)
ويدل له قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] ووجهه: أنه تعالى ذمَّهم على تسمية بعض الأشياء بما سمَّوها به، ولولا أن تسمية غيرها من الله توقيف، لما صح هذا الذم، لكون الكل اصطلاح منهم.
(3)
وفي الصحيح في حديث الشفاعة: «فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس
…
وعلمك أسماء كل شيء .. الحديث»
(4)
فدلَّ هذا على أنه تعالى علَّمه أسماء جميع المخلوقات؛ وهو ظاهر قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقوله تعالى:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، فهذا كله يؤيد القول بأنها توقيفية.
وخالف في هذا ابن عاشور فقال: (وليس في هذه الآية دليل على أن اللغات توقيفية - أي لقَّنها الله تعالى البشر على لسان آدم- ولا على عدمه؛ لأن طريقة التعليم في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} مجملة، محتملة لكيفيات -كما
(1)
ينظر: التفسير الوسيط للواحدي (1/ 116)، وتفسير السمعاني (1/ 65)
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (1/ 282)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 223)، والإكليل (1/ 28)، وروح البيان (1/ 100)، ومحاسن التأويل (9/ 76)، وتفسير العثيمين: سورة البقرة (1/ 120)
(3)
ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي (1/ 250)
(4)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قول الله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا، رقم (4476)، (6/ 17)
قدمناه- والناس متفقون على أن القدرة عليها إلهام من الله، وذلك تعليم منه سواء لقَّن آدم لغة واحدة أو جميع لغات البشر، وأسماء كل شيء، أو ألهمه ذلك أو خلق له القوة الناطقة)
(1)
.
والظاهر خلاف قوله، وأنها تدل على توقيف اللغات – كما سيأتي بيانه –
وحاصل الخلاف في هذه المسألة
(2)
على أقوال:
الأول: أن اللغات توقيفية والواضع لها هو الله سبحانه.
(3)
والثاني: أنها اصطلاحية من وضع البشر.
(4)
والثالث: أن ابتداء اللغة وقع بالتعليم من الله سبحانه، والباقي بالاصطلاح.
والرابع: أن ابتداء اللغة وقع بالاصطلاح والباقي توقيف.
(5)
(1)
التحرير والتنوير (1/ 411).
(2)
ينظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/ 29)، والإحكام للآمدي (1/ 75)، وغاية الوصول في شرح لب الأصول للسنيكي (1/ 32)، وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (1/ 352)، وإرشاد الفحول للشوكاني (1/ 45)، والمهذب في علم أصول الفقه المقارن للدكتور عبدالكريم النملة (3/ 1039)
(3)
هذا ماعليه أبو الحسن الأشعري، وأتباعه، وابن فورك. ينظر: الإحكام للآمدي (1/ 74)، والبحر المحيط في أصول الفقه للزركشي (2/ 239)
(4)
وإليه ذهب أبو هاشم الجبائي ومن تابعه من المعتزلة. ينظر: المرجع السابق، ورفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب للسبكي (1/ 440).
(5)
به قال أبو إسحاق الإسفرائيني. ينظر: المرجع السابق، وحاشية العطار على جمع الجوامع (1/ 352).
والخامس: أنه يجوز كل واحد من هذه الأقوال، من غير جزم بأحدها، أي التوقف في القطع بأحدها.
(1)
واحتج أهل القول الخامس على ما ذهبوا إليه من الوقف: بأن هذه الأدلة التي استدل بها القائلون لا يفيد شيء منها القطع، بل لم ينهض شيء منها لمطلق الدلالة، فوجب عند ذلك الوقف؛ لأن ما عداه هو من التقول على الله بما لم يقل، وأنه باطل.
قال الشوكاني: (وهذا هو الحق).
(2)
ووافقه الرازي وغيره.
(3)
(1)
ينظر: المحصول للرازي (1/ 183)، وإرشاد الفحول للشوكاني (1/ 41).
(2)
إرشاد الفحول (1/ 41)
(3)
ينظر: المحصول للرازي (1/ 183)
وهذه المسألة قيل عنها: أنه لا ينبني على الخلاف فيها حكم، وأن ذِكرها في الأصول فضول، وأن الخلاف فيها طويل الذيل قليل النيل.
(1)
والذي يظهر - والله تعالى أعلم – وقال به جماعة من الصحابة والتابعين
(2)
، وجمع من أهل العلم أن اللغات مبدؤها توقيفي وباقيها مما اصطلح عليه الناس.
(3)
قال ابن عثيمين في معرض ذكره لفوائد هذه الآية:
(ومنها: أن اللغات توقيفية وليست تجريبية؛ «توقيفية» بمعنى أن الله هو الذي علَّم الناس إياها، ولولا تعليم الله الناسَ إياها ما فهموها، وقيل: إنها «تجريبية» بمعنى أن الناس كوَّنوا هذه الحروف والأصوات من التجارب، فصار الإنسان أولاً أبكم لا يدري ماذا يتكلم، لكن يسمع صوت الرعد، يسمع حفيف الأشجار، يسمع صوت الماء وهو يسيح على الأرض، وما أشبه ذلك؛ فاتخذ مما يسمع أصواتاً تدل على مراده؛ ولكن هذا غير صحيح؛ والصواب أن اللغات مبدؤها توقيفي؛ وكثير منها كسبي تجريبي يعرفه الناس من مجريات الأحداث؛
(1)
ينظر: حاشية العطار على جمع الجوامع (1/ 352)، والمستصفى للغزالي (1/ 181)
(2)
وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، ينظر: التفسير الوسيط للواحدي (1/ 116)، وتفسير السمعاني (1/ 65)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 223)
(3)
وهو مذهب أبي الحسن الأشعري وأتباعه، وابن فورك من الشافعية وابن الحاجب، وابن قدامة المقدسي الحنبلي، والظاهرية، واختاره الطوفي وغيره من الحنابلة. ينظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار (1/ 285)، وروضة الناظر لابن قدامة (1/ 487)، ومجموع الفتاوى لابن تيمة (12/ 447)، ومذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (1/ 206).
ولذلك تجد أن أشياء تحدث ليس لها أسماء من قبل، ثم يحدث الناس لها أسماء؛ إما من التجارب، أو غير ذلك من الأشياء).
(1)
وقال ابن كثير: (والصحيح أنه علَّمه أسماء الأشياء كلها: ذواتها وأفعالها؛ كما قال ابن عباس).
(2)
ويردُّ قول من قال: علَّمه بعضها، أو اصطلاحًا سابقًا، أو علَّمه حقيقه الشيء وصفته: بأن الأصل اتحاد العلم، وعدم اصطلاح سابق، وأنَّه تعالى علَّمه حقيقة اللفظ، وقد أكده بقوله:«كلها» .
(3)
وبهذا يظهر صحة هذا الاستنباط، والله تعالى أعلم.
(4)
الدلالة الثالثة:
أفضلية آدم عليه السلام – على الملائكة
وجه الاستنباط:
أنه تعالى فضَّله عليهم بالعلم، وأسجدهم له، وأمرهم بأن يتعلموا منه.
(1)
تفسير العثيمين: سورة البقرة (1/ 120)
(2)
تقدم تخريجه، ينظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 223)
(3)
ينظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار (1/ 285)، ومذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (1/ 206).
(4)
قال ابن حزم: (أكثر الناس في هذا والصحيح من ذلك أصل الكلام توقيف من الله عز وجل بحجة سمع وبرهان ضروري فأما السمع فقول الله عز وجل {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وأما الضروري بالبرهان فهو أن الكلام لو كان اصطلاحا لما جاز أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم وتدربت عقولهم وتمت علومهم ووقفوا على الأشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها واختلافها وطبائعها، وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الإنسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جدا يقتضي في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غيره إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته .. ). الإحكام في أصول الأحكام (1/ 29).
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أنّ آدم أفضل من الملائكة، لأنه أعلم منهم والأعلم أفضل لقوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، ولأمر الله تعالى للملائكة بالسجود له عليه السلام، والمسجود له أفضل من الساجد، فدلَّ على أفضليته عليهم، وهذا يدلُّ على أن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلاً كما ذهب إليه أهل السنة.
(1)
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: السمعاني، والبغوي، والخازن، والسيوطي، وأبو السعود، والقاسمي، وغيرهم.
(2)
قال البغوي: (أظهر الله تعالى فضله عليهم بالعلم، وفيه دليل على أن الأنبياء أفضل من الملائكة، وإن كانوا رسلاً كما ذهب إليه أهل السنة والجماعة).
(3)
واستدلَّ من فضَّلهم على الملائكة بهذه الآية، وبقوله تعالى:{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 85 - 86] لأن العالَم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه الملَك، فيقتضي أن الأنبياء أفضل من الملائكة.
ولقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] بالهمز، من برأ الله الخلق. وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن الملائكة لتضع
(1)
ينظر لوامع الأنوار البهية (2/ 398)، ومجموع الفتاوى (4/ 344)، والصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن القيم (3/ 1002)، وشرح الطحاوية لصالح آل الشيخ (1/ 105).
(2)
ينظر: تفسير السمعاني (1/ 65)، ومعالم التنزيل (1/ 103)، ولباب التأويل (1/ 36)، والإكليل في استنباط التنزيل (1/ 28)، وإرشاد العقل السليم (1/ 86)، ومحاسن التأويل (1/ 287).
(3)
معالم التنزيل (1/ 103).
أجنحتها رضىً لطالب العلم)
(1)
، وما جاء في الأحاديث في هذا المعنى ومنها: أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة
(2)
، ولا يباهي إلا بالأفضل، وغير ذلك مما يطول ذكره.
وهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم فقال بعضهم بتفضيل الملائكة
(3)
، وقال البعض بتفضيل بني آدم، وتوقف فيها البعض
(4)
ولكل قولٍ أدلته
(5)
، ومذهب أهل السنة وهو الراجح: أن الأنبياء وصالحي البشر أفضل من الملائكة
(6)
بدلالة هذه الآية وغيرها.
قال شيخ الإسلام: (وليس تفضيل بعض المخلوقات على بعض باعتبار ما خُلقت منه فقط، بل قد يخلق المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن .. وآدم خلَقه الله من طين فلما سوَّاه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وفضَّله عليهم
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (18089)، (30/ 9)، وأخرجه أبو داود في سننه برقم (3641)، (3/ 317). وابن ماجه في سننه برقم (223)، (1/ 81)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (88)، (1/ 289)، وابن حجر في تخريج مشكاة المصابيح (1/ 151)، وقال: حديث حسن. وحسنه الألباني في «التعليق الرغيب» (1/ 53).
(2)
أخرجه بهذا المعنى مسلم في صحيحه في كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة، برقم (436)(2/ 982)
(3)
وهو اختيار أبي بكر الباقلاني، وأبي عبد الله الحليمي. ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 48، 226)، والمواقف للإيجي (1/ 367).
(4)
ممن توقف في هذه المسألة، الكيا الهراسي. ينظر: الحبائك في أخبار الملائك لجلال الدين السيوطي (1/ 58)، وروي التوقف في هذه المسألة عن أبي حنيفة، والطحاوي. ينظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز (1/ 297).
(5)
ينظر: حجج القرآن لأحمد بن المظفر الرازي (1/ 81)، والفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي (1/ 153)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 289)، والحبائك في أخبار الملائك (1/ 207).
(6)
تقدم توثيقه
بتعليمه أسماء كل شيء، وبأنه خلقه بيده، وبغير ذلك، فهو وصالحوا ذريته أفضل من الملائكة وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين وهؤلاء مخلوقين من نور).
(1)
وقال ابن القيم: (فإن الله سبحانه يخلق من المادة المفضولة ما هو أفضل من المخلوق من غيرها، وهذا من كمال قدرته سبحانه ولهذا كان محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح والرسل أفضل من الملائكة، ومذهب أهل السنة أن صالحي البشر أفضل من الملائكة).
(2)
وعلَّل ذلك في موضع آخرفقال: (صالح البشر أفضل من الملائكة، لأن الملائكة عبادتهم بريئة عن شوائب دواعي النفس والشهوات البشرية، فهي صادرة عن غير معارضة ولا مانع ولا عائق، وهي كالنفَس للحي. وأما عبادات البشر فمع منازعات النفوس، وقمع الشهوات ومخالفة دواعي الطبع فكانت أكمل، ولهذا كان أكثر الناس على تفضيلهم على الملائكة لهذا المعنى ولغيره).
(3)
وفصَّل بعضهم في المسألة
(4)
، كالشيخ ابن عثيمين وغيره، فقد نصَّ على أن المفاضلة بين الملائكة وبين الصالحين من البشر محل خلاف بين أهل العلم، ثم قال: (والقول الراجح فيها أن الصالحين من البشر أفضل من الملائكة باعتبار النهاية، فإن الله سبحانه وتعالى يؤدي لهم من الثواب ما لا يحصل مثله للملائكة فيما نعلم، بل إن الملائكة في مقرهم- أي: في مقر الصالحين، وهو الجنة - يدخلون عليهم من كل باب يهنئونهم:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24].
(1)
مجموع الفتاوى (4/ 344)
(2)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (3/ 1002)، وبدائع الفوائد (4/ 142)
(3)
طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/ 227).
(4)
ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 343)، وينظر: بدائع الفوائد لابن القيم (3/ 163).
أما باعتبار البداية فإن الملائكة أفضل؛ لأنهم خُلقوا من نور، وجُبلوا على طاعة الله عز وجل والقوة عليها، كما قال الله تعالى في الملائكة ملائكة النار:{عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 28]، وقال عز وجل:{وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19 - 20] هذا هو القول الفصل في هذه المسألة. وبعدُ: فإن الخوض فيها، وطلب المفاضلة بين صالح البشر والملائكة، من فضول العلم الذي لا يضطر الإنسان إلى فهمه والعلم به).
(1)
وهذا التفصيل قال به شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله.
(2)
قال ابن القيم: (وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل وتتفق أدلة الفريقين ويصالح كل منهم على حقه).
(3)
والقول به أسلم، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: محموع فتاوى ابن عثيمين (1/ 281).
(2)
مجموع الفتاوى (4/ 343)، وينظر: بدائع الفوائد لابن القيم (3/ 163)
(3)
بدائع الفوائد (3/ 163).
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (الآية تدل على أنّ آدم أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له
(1)
، وأنّ إبليس كان من الملائكة، وإلا لم يتناوله أمرهم، ولم يصح استثناؤه منهم، ولا يرد على ذلك قوله تعالى:{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] لجواز أن يقال: كان من الجنّ فعلاً ومن الملائكة نوعاً).
(2)
هذه الآية جمع فيها الخطيب عدداً من الدلالات:
الدلالة الأولى:
كون إبليس من الملائكة.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أن إبليس كان من الملائكة بدليل أن الخطاب كان له مع الملائكة فهو داخل فيهم، ثم استثناه تعالى منهم
(3)
، فلو لم يكن إبليس من الملائكة لم يؤمر بالسجود، ولم يؤاخذ بالعصيان. والأصل أن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه، ولهذا قال:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [
(1)
تقدم الكلام عن هذه الدلالة في الاستنباط السابق.
(2)
السراج المنير (1/ 48).
(3)
ينظر: لباب التأويل للخازن (1/ 37)
الأعراف: 12]، وهو استثناء متصل
(1)
؛ لتوجه الأمر له مع الملائكة، فلو لم يكن منهم لما توجه الأمر إليه، ولم يقع عليه ذم لتركه فِعل ما لم يؤمر به.
(2)
وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية ورجَّح كونه من الملائكة: الطبري، والبغوي، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، والخازن، وأبوحيان، وابن عادل، وأبو السعود، والشوكاني، وغيرهم.
(3)
وقيل الاستثناء منقطع
(4)
لأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن، وهو قول الحسن البصري، وقتادة، ورواية عن ابن عباس
(5)
وقال به جمع من أهل العلم - كما سيأتي- واستدلوا بقوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] قالوا: وهذا نص صريح أنه كان من الجن، ولأنه خُلِق من نار والملائكة خلقوا من النور، وهذا يدل على اختلاف خلق الملائكة عن خلق إبليس، ولأنه أبى وعصى واستكبر، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما
(1)
الاستثناء المتصل هو: أن يكون المستثنى بعضاً مما قبله. ينظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (2/ 212).
(2)
ينظر: البحر المحيط لأبي حيان (1/ 248).
(3)
وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود، وابن المسيب، ينظر: جامع البيان (1/ 508)، وتفسير البغوي (1/ 104)، والمحرر الوجيز (1/ 124)، والتفسير الكبير (2/ 429)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 294)، وأنوار التنزيل (1/ 71)، ولباب التأويل (1/ 37)، والبحر المحيط (1/ 248)، واللباب في علوم الكتاب (1/ 543)، وإرشاد العقل السليم (1/ 87)، وفتح القدير (1/ 79).
(4)
الاستثناء المنقطع هو: ألا يكون المستثنى بعضاً مما قبله. ينظر: شرح ابن عقيل على الألفية (2/ 212).
(5)
ينظر: جامع البيان للطبري (1/ 504)، والنكت والعيون للماوردي (1/ 102)
يؤمرون، فلو كان إبليس ملَكاً ما عصى الله، ولأنه قال {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50] والملائكة لاذرية لهم.
(1)
قال الطبري: (وهذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها.) وردَّ هذه الحجج مرجِّحاً كونه من الملائكة.
(2)
قال البغوي: (قال ابن عباس وأكثر المفسرين: كان إبليس من الملائكة، وقال الحسن: كان من الجن ولم يكن من الملائكة، لقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]، فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة، والأول أصح لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، وقوله: كان من الجن، أي: من الملائكة الذين هم خزنة الجنة).
(3)
والذي عليه جماعة من المحققين من أهل العلم، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية، والزمخشري، وابن كثير، والسيوطي، والشنقيطي
(4)
، وابن عثيمين، وغيرهم
(5)
أنه من الجن؛ لأن قوله تعالى {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:
(1)
ينظر: مدارك التنزيل للنسفي (1/ 80)، والبحر المحيط لأبي حيان (1/ 248).
(2)
جامع البيان (1/ 508)
(3)
معالم التنزيل (1/ 104)
(4)
هو محمد الأمين بن محمد المختار بن عبدالقادر بن محمد بن أحمد، الجكني الشنقيطي، كان إماماً عابداً، عالماً بالتفسير، والفقه وأصوله، والنحو، والأدب، له (أضواء البيان) في التفسير، و (مذكرة في أصول الفقه) وغيرها، توفي سنة 1393 هـ. تنظر: ترجمته في أضواء البيان (10/ 18) لتلميذه الشيخ عطية سالم (وهي ملحقة في آخر الجزء العاشر)، وترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي لعبدالرحمن السديس، ص 9، وعلماء ومفكرون عرفتهم لمحمد المجذوب (1/ 171).
(5)
ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 346)، والكشاف (1/ 127)، وتفسير القرآن العظيم (5/ 167)، وتفسير الجلالين (1/ 388)، والحبائك في أخبار الملائك (1/ 254)، وأضواء البيان (3/ 291)، وتفسير سورة الكهف للعثيمين (1/ 91)، وأيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري (3/ 265)
50] نص صريح في محل النزاع، ولأن الملائكة رسُل الله سبحانه كما أخبر عنهم {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1]، ولا يجوز عليهم الكفر، وإبليس قد كفر.
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - هو التفصيل في هذه المسألة: وأن القولين في الحقيقة قول واحد؛ فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله. كان أصله من نار، وأصل الملائكة من نور. فالنافي كونه من الملائكة، والمثبت، لم يتواردا على محل واحد.
(1)
قال ابن تيمية: (والتحقيق: أنه كان منهم باعتبار صورته وليس منهم باعتبار أصله.)
(2)
، وذلك أن إبليس كان قد توسّم بأفعال الملائكة وتشبَّه بهم وتعبَّد وتنسَّك، فلهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة.
(3)
وقال ابن عثيمين: (فإذا قال قائل: إن ظاهر القرآن أن إبليس كان من الملائكة؟ فالجواب: لا، ليس ظاهر القرآن؛ لأنه قال:{إِلَّا إِبْلِيسَ} ثم ذكر أنه {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} ، نعم القرآن يدل على أن الأمر توجه إلى إبليس كما قد توجه إلى الملائكة، ولكن لماذا؟
قال العلماء إنه كان - أي: إبليس - يأتي إلى الملائكة ويجتمع إليهم فوجَّه الخطاب إلى هذا المجتمع من الملائكة الذين خُلقوا من النور ومن الشيطان الذي
(1)
ينظر: محاسن التأويل (1/ 291)
(2)
مجموع الفتاوى (4/ 346)
(3)
ينظر: تفسير القرآن العظيم (5/ 167)
خُلق من النار، فرجع الملائكة إلى أصلهم والشيطان إلى أصله، وهو الاستكبار والإباء والمجادلة بالباطل لأنه أبى واستكبر وجادل).
(1)
وعلى هذا التوجيه يظهر صحة دلالة الآية على كون إبليس من الملائكة باعتبار صورته دون أصله، والله تعالى أعلم.
(1)
تفسير العثيمين: سورة الكهف (1/ 91).
الدلالة الثانية من الآية:
قبح الاستكبار:
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (من فوائد الآية استقباح الاستكبار
(1)
وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر، وأن الأمر للوجوب، وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة؛ إذ العبرة بالخواتيم، وإن كان بحكم الوقت الحاضر مؤمناً).
(2)
وجه الاستنباط:
قوله تعالى عن إبليس {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} فبيَّن علة عدم سجوده، وما أودى به استعظامه لنفسه من الكفر.
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة النص من الآية (مفهوم الموافقة) ذم الكبر وقبحه، وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر؛ لأنه تعالى قال عن إبليس {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} فبيَّن علة عدم سجوده، وأنه لم يكن للتردد أو للتأمل بل إباءً واستكباراً، فامتنع عما أُمر به واستكبر أن يُعظّم آدم عليه السلام فكرِه السجود في حقه واستعظمه في حق
(1)
وهو غير التكبر، فالتكبر هو: أن يرى المرء نفسه أكبر من غيره، والاستكبار: طلب ذلك بالتشبع وهو التزين بأكثر ما عنده، والتكبر والكبرياء من الكِبر -بالكسر- وهو العظمة.
ويقال: كَبُر بالضم يَكْبُر: أي عَظُم فهو كبير. وقيل: الكِبْر: الإثم.
والاستكبار: التعظُّم، وهو استفعال من (كبُر) يشعر بالتكلّف؛ لأنها صفة غير أصيلة؛ لذا تثبُت في حق كل أحد سوى الله تعالى؛ ولذا لم يرد وصف الله بـ (المستكبر)، ووصف به غيره وسمى نفسه المتكبّر. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 244)، واللسان لابن منظور مادة (ك ب ر)(5/ 125)، وتاج العروس (1/ 3439).
(2)
ينظر: السراج المنير (1/ 49) بتصرف يسير.
آدم، وقد صرَّح - عياذاً بالله منه - بهذا المعنى فقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]، وقال:{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الاسراء: 61]، وقال:{لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 33] فكان ترك السجود منه تسفيهاً لأمر الله وحكمته، فكفَّره الله تعالى بذلك، وكل من سفَّه شيئاً من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فحكمُه كحكمِه، وهذا يدل على قبح الكِبر وعِظم جُرمه.
(1)
قال الرازي: (اعلم أن الله تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين فكان يجوز أن يُظن أنه كان معذوراً في ترك السجود، فبيَّن تعالى أنه لم يسجد مع القدرة وزوال العذر بقوله:{أَبَى} لأن الإباء هو الامتناع مع الاختيار
(2)
، أما من لم يكن قادراً على الفعل لا يقال له إنه {أَبَى} ، ثم قد كان يجوز أن يكون كذلك ولا ينضم إليه الكِبر، فبيَّن تعالى أن ذلك الإباء كان على وجه الاستكبار بقوله {وَاسْتَكْبَرَ} ثم كان يجوز أن يوجد الإباء والاستكبار مع عدم الكفر، فبيَّن تعالى أنه كفَر بقوله:{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ).
(3)
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: البيضاوي، وحقي، وغيرهما.
(4)
ويؤيد هذه الدلالة ماجاء في الكتاب والسنة من ذم الكِبر وأهله كما أخبر تعالى {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23]، وقال سبحانه: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ
(1)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 296)، وإرشاد العقل السليم لأبي السعود (1/ 89)
(2)
الإباء: هو امتناع باختيار، وأبى الشيء: لم يرضه، و (أبى) عليه: امتنع، وهو غير الاستكبار، وكل إباء: امتناع بلا عكس، فإن الإباء شدة الامتناع ويقال: أبى على فلان وتأبَّى عليه: إذا امتنع. ينظر: الكليات لأبي البقاء الكفوي (1/ 28)
(3)
التفسير الكبير (2/ 446)
(4)
ينظر: أنوار التنزيل (1/ 72)، وروح البيان (1/ 105)
الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] حتى أن الله تعالى يختم على قلبه كما قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]
والمتكبر محروم من دُخُول الجنة؛ كماجاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكِبر بطر الحق
(1)
وغمط الناس
(2)
».
(3)
بل إن الله تعالى يعامل المتكبر في الآخرة بنقيض قصده؛ قال صلى الله عليه وسلم: «يُساقون إلى سِجن في جهنم .. الحديث»
(4)
فدلَّ على عظم خطيئة الكبر، وأنها تودي بصاحبها إلى ترك الحق، وتفضي به إلى الكفر، وهو استنباط حسن قوي الظهور، والله تعالى أعلم.
(1)
بطر الحق: هو أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده وعبادته باطلاً، وقيل: هو أن يتحير عند الحق فلا يراه حقاً، وقيل: هو أن يتكبر من الحق ولا يقبله. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 135)، ولسان العرب مادة ب ط ر (4/ 69)
(2)
غمط الناس: الاحتقار لهم والازدراء بهم. ينظر: تهذيب اللغة (8/ 87)، ومختار الصحاح (1/ 230)
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه برقم (91)، (1/ 93).
(4)
أخرجه الترمذي في سننه برقم (2492)(4/ 655) وقال: حديث حسن، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 67) برقم (2911).
الدلالة الثالثة:
الكافر حقيقة هو الذي علم الله أنه يتوفى على الكفر.
وجه الاستنباط:
قوله {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ، حيث (كان) فعل ماضٍ؛ والمضي يدل على شيء سابق؛ أي: كان في سابق علم الله كافراً.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أن العبرة بالخواتيم، وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر حقاً؛ لأن الله تعالى أخبر عن إبليس أنه كان {مِنَ الْكَافِرِينَ} والمضي يدل على شيء سابق، أي كان في سابق علم الله تعالى أنه سيكفر كما عليه جمهور المفسرين
(1)
والمراد كفره في ذلك الوقت، وإن لم يكن قبله كافراً، وعطفُ (كان) على (واستكبر) يقويه؛ لأن الاستكبار عن السجود إنما حصل له وقت الأمر، فدلَّ على أن العبرة بالخواتيم وأنه وجبت له النار لسابق علم الله تعالى بشقاوته.
(2)
وللمفسرين في معنى {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} قولان: أحدهما: أن (كان) بمعنى صار
(3)
، كقوله تعالى:{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43]، والثاني: أنها بمعنى الماضي، أي: كان في سابق علم الله كافراً.
(4)
(1)
نسبه إلى الجمهور الواحدي، والبغوي، وابن عطية، والقرطبي، ينظر: الوسيط (1/ 120)، ومعالم التنزيل (1/ 104)، والمحرر الوجيز (1/ 126)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 297).
(2)
ينظر: البحر المحيط لأبي حيان (9/ 174)
(3)
وهو قول قتادة. ينظر: زاد المسير لابن الجوزي (1/ 54)، والنكت والعيون للماوردي (1/ 103)
(4)
وهو قول مقاتل وابن الأنباري، ينظر: زاد المسير (1/ 54)، والنكت والعيون (1/ 103)، وبعضهم قال بظاهر الآية كان كافراً في الأصل، وهذا قول أهل الجبر. ولا يخفى بطلانه. ينظر: تفسير القرآن للسمرقندي (1/ 43)
قال القرطبي: (قال ابن فورك
(1)
«كان» هنا بمعنى: صار، خطأ ترده الأصول.
(2)
وقال جمهور المتأولين: المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة. قلت: وهذا صحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري:«وإنما الأعمال بالخواتيم»
(3)
).
(4)
وممن نصَّ على دلالة (كان) على هذا المعنى: الواحدي، والبغوي، وابن عطية، والقرطبي، والخازن وأبو السعود، والألوسي، وغيرهم.
(5)
وهذا هو الظاهر أن (كان) على بابها في الدلالة على الماضي، والعبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه ربه في آخر حياته وأول منازل آخرته.
قال ابن أبي العز: (الإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، قالوا: والإيمان الذي
(1)
هو محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، أبو بكر: واعظ عالم بالاصول والكلام، من فقهاء الشافعية، سمع بالبصرة وبغداد، وحدث بنيسابور، وبنى فيها مدرسة، كان أشعريا، بلغت تصانيفه في أصول الدين وأصول الفقه ومعاني القرآن قريبا من المئة، روى عنه الحاكم حديثاً، توفي سنة 406 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (33/ 204)(والأعلام (6/ 83)
(2)
ينظر قول ابن فورك في: المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 125)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 79).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب القدر، باب: العمل بالخواتيم، برقم (6606)، (8/ 124)
(4)
الجامع لأحكام القرآن (1/ 297)
(5)
ينظر: الوسيط (1/ 120)، ومعالم التنزيل (1/ 104)، والمحرر الوجيز (1/ 126)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 297)، ولباب التأويل (1/ 37)، وإرشاد العقل (1/ 89)، وروح المعاني (1/ 233).
يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب).
(1)
ولبعض المفسرين وأهل العلم توجيه آخر للآية، فقال ابن عثمين:(زعم بعض العلماء أن المراد: كان من الكافرين في علم الله بناءً على أن (كان) فعل ماضٍ؛ والمضي يدل على شيء سابق؛ لكن هناك تخريجاً أحسن من هذا: أن نقول: إن «كان» تأتي أحياناً مسلوبة الزمان، ويراد بها تحقق اتصاف الموصوف بهذه الصفة؛ ومن ذلك قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96]، وقوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158]، وقوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]، وما أشبهها، هذه ليس المعنى أنه كان فيما مضى بل لا يزال؛ فتكون (كان) هنا مسلوبة الزمان، ويراد بها تحقيق اتصاف الموصوف بما دلت عليه الجملة؛ وهذا هو الأقرب، وليس فيه تأويل؛ ويُجرى الكلام على ظاهره).
(2)
وقال ابن عاشور: (والذي أراه أحسن الوجوه في معنى {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أن مقتضى الظاهر أن يقول (وكفر) كما قال: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} فعدل عن مقتضى الظاهر إلى و {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} لدلالة (كان) في مثل هذا الاستعمال على رسوخ معنى الخبر في اسمها، والمعنى أبى واستكبر وكفر كفراً عميقاً في نفسه، وهذا كقوله تعالى:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف: 83]، وكقوله تعالى:{نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 41] دون أن يقول أم لا تهتدي؛ لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد كانت راسخة في الاتصاف بعدم
(1)
شرح الطحاوية (2/ 495)، وينظر: الإيمان لابن تيمية (1/ 335)، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/ 48)، ولوامع الأنوار البهية (1/ 432).
(2)
تفسير العثيمين: سورة البقرة (1/ 125).
الاهتداء، وأما الإتيان بخبر كان {مِنَ الْكَافِرِينَ} دون أن يقول (وكان كافراً) فلأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان كون الموصوف واحداً من جماعة تثبت لهم ذلك الوصف أدل على شدة تمكن الوصف منه مما لو أثبت له الوصف وحده.
(1)
وعلى هذا التخريج، فلا دلالة في الآية على مسألة الموافاة، وهو تخريج حسن، يتضمن قول من قال أنها بمعنى (صار)، لكن القول إن كان بمعنى (صار) تقريب للمعنى، وهذا يفيد قوة الاتصاف بالصفة، وكأنها قديمة راسخة وليست مجرد تحول جديد بل هو تحول تام كأنه من قديم، فهي تدل على أن إبليس بإبائه واستكباره صار من الكافرين مع الدلالة على رسوخ الصفة وكونه كفراً شديداً قوياً في بابه، ويضاف إلى هذا أنه قال {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ولم يقل (كان كافراً)، والأول أبلغ وأدل على أنه من جملة المعروفين المتصفين بهذه الصفة.
(2)
وإن كان قول الجمهور أن (كان) على بابها من المضي كما قال به الخطيب، لا يخلو من وجاهة وقوة، والله تعالى أعلم.
(1)
التحرير والتنوير (1/ 426)
(2)
ينظر في الترجيح: ملتقى أهل التفسيرعلى الشبكة.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (في هذه الآيات دلالة على أنّ الجنة مخلوقة وأنها في جهة عالية، وأن عذاب النار دائم، وأن الكافر فيه مخلد، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}).
(1)
في هذه الآيات جمع الشربيني عدداً من الاستنباطات
(2)
، أولها:
الجنة مخلوقة.
وجه الاستنباط:
حيث أمر الله تعالى آدم وزوجه بسكنى الجنة والأكل منها، ولولا أنها كانت موجودة إذ ذاك لما أمرهم بسكناها.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أن الجنة مخلوقة، لأنه تعالى قال لآدم {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} ولولا أنها كانت موجودة لما أمرهم بسكناها والأكل منها، وهذا هو ما عليه أهل السنة والجماعة من خلق
(1)
ينظر: السراج المنير (1/ 61) بتصرف.
(2)
نقلها نصاً من تفسير البيضاوي، ينظر: أنوار التنزيل (1/ 75)
الجنة والنار كذلك.
(1)
قال ابن أبي العز: (اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل أهل السنة على ذلك حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية فأنكرت ذلك)
(2)
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: البيضاوي، والسيوطي، وغيرهما.
(3)
قال السيوطي: (قوله تعالى {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} إلى آخر القصة فيها دلالة على أن الجنة مخلوقة الآن).
(4)
وجمهور العلماء على أنهما قد خُلقتا وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} و {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران 131] وغيرها من الآيات
(5)
وهو نص في الأحاديث كحديث الإسراء وغيره.
(6)
قال الطوفي: (لأنه قد ثبت أن آدم عليه السلام دخل الجنة ثم أُخرج منها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجنة والنار ليلة الإسراء، وأن أرواح الشهداء في حواصل طير في الجنة)
(7)
.
(8)
(1)
ينظر: شرح العقيدة الطحاوية (1/ 476)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللا لكائي (6/ 1256)، والانتصار في الرد على المعتزلة والقدرية لأبي الحسين العمراني (9/ 280).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية (1/ 476)
(3)
ينظر: أنوار التنزيل (1/ 75)، والإكليل في استنباط التنزيل (1/ 28)
(4)
الإكليل (1/ 28)
(5)
ينظر: المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 509)
(6)
حديث الإسراء تقدم تخريجه في الصحيح.
(7)
أخرجه مسلم في صحيحه، وقد تقدم تخريجه.
(8)
الإشارات الإلهية (1/ 249)
وقد تقدم الكلام عن قريب من هذه الدلالة في استنباط خلق النار
(1)
، والرد على المعتزلة المخالفين في هذا الباب، وبيان الأدلة عليه بما يغني عن إعادته، والله أعلم.
(1)
ينظر الاستنباط رقم: (7)
الدلالة الثانية:
الجنة في جهة عالية:
وجه الاستنباط:
أن الله تعالى قال: {اهْبِطُوا مِنْهَا} ، والهبوط هو النزول من علو إلى سُفل.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أن الجنة في جهة عالية بدلالة لفظ: {اهْبِطُوا مِنْهَا} ، والهبوط هو النزول من علو إلى سُفل.
فدلَّ بهذا اللفظ على علو الجنة، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة أن الجنة فوق السماء السابعة وتحت عرش الرحمن، كما قال تعالى:{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15]، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة»
(1)
، فثبت بهذا الحديث أن الجنة تحت عرش الرحمن.
وفي قصة الإسراء في صحيح مسلم من رواية أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيها: « .. في السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى .. الحديث»
(2)
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، برقم (7423)، (9/ 125)
(2)
حديث الإسراء تقدم تخريجه.
فثبت بهذا الحديث أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة، وعليه فالجنة - والله تعالى أعلم - فوق السماء السابعة وتحت عرش الرحمن كما دل عليه هذين الحديثين.
وفي صحيح مسلم أن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش.
(1)
وجاء في تفسير قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18].
قال ابن عباس: «الجنة، وقيل: عليون في السماء السابعة تحت العرش» .
(2)
وروي عن ابن مسعود أنه قال: «الجنة في السماء السابعة العليا» .
(3)
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: البيضاوي، والقرطبي، وابن القيم، وحقي، وابن عثيمين، وغيرهم.
(4)
قال القرطبي: (فيه دليل على أن الجنة في السماء السابعة، كما دل عليه حديث الإسراء).
(5)
(1)
تقدم تخريج.
(2)
ينظر: جامع البيان (24/ 291)، وتفسير القرآن العظيم (8/ 352)، وفتح القدير 5/ 490.
(3)
ينظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (7/ 651).
(4)
أنوار التنزيل (1/ 75)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 327)، وحادي الأرواح (1/ 28)، وروح البيان (1/ 116)، وتفسير سورة البقرة للعثيمين (1/ 133).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (1/ 327)
وبهذا يظهر صحة هذه الدلالة على ما استنبطه الخطيب، والعلم عند الله تعالى.
الدلالة الثالثة:
دوام عذاب النار، وخلود الكافر فيها.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (في هذه الآيات دلالة على أنّ الجنة مخلوقة، وأنها في جهة عالية، وأن عذاب النار دائم، وأن الكافر فيه مخلد، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المجادلة: 17]).
(1)
وجه الاستنباط:
في قوله تعالى {أَصْحَابُ النَّارِ} لأن المصاحبة تقتضي الملازمة، وقوله {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يفيد الحصر
(2)
، فدلَّ بمفهومه على خلود الكافرين في النار.
(3)
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة اللازم من الآية أن عذاب النار دائم، لأنه تعالى قال {أَصْحَابُ النَّارِ} أي الملازمون لها ملازمة الصاحب للصاحب والغريم لغريمه.
(4)
قال الشيخ ابن عثيمين: ({أَصْحَابُ النَّارِ} أي الملازمون لها؛ ولهذا لا تأتي «أصحاب النار» إلا في الكفار؛ لا تأتي في المؤمنين أبداً؛ لأن المراد الذين هم مصاحبون لها؛ والمصاحَبُ لابد أن يلازَم من صاحبه؛ وقوله {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي ماكثون، والمراد بذلك المكث الدائم الأبدي؛ ودليل ذلك ثلاث آيات في كتاب الله؛ آية في النساء، وآية في الأحزاب، وآية في الجن؛ أما آية النساء فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ
(1)
السراج المنير (1/ 61)
(2)
الحصر هنا بأسلوب تقديم ماحقه التأخير (قصر الصفة على الموصوف).
(3)
ينظر: روح البيان لحقي (1/ 116)
(4)
ينظر: جامع البيان للطبري (1/ 248)
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 168 - 169]؛ وأما آية الأحزاب فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب: 64 - 65]؛ وأما آية الجن فقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]
ثم قال: (ومن فوائد الآية: أن الذين جمعوا بين هذين الوصفين الكفر، والتكذيب. هم أصحاب النار مخلدون فيها أبداً - كما سبق- فإن اتصفوا بأحدهما فقد دلَّ الدليل على أن المكذب خالد في النار، وأما الكافر فمن كان كُفره مخرجاً عن الملة فهو خالد في النار؛ ومن كان كفره لا يخرج من الملة فإنه غير مخلد في النار.)
(1)
فالآيةأفادت أيضاً أن الكافر مخلد في النار، وغيره غير مخلد، بدلالة مفهوم المخالفة في قوله تعالى {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} حيث حصرالخلود في النار لأولئك الكفار المكذبين، فدلَّ على أن غيرهم من العصاة لا يخلدون فيها، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة.
(2)
قال الطحاوي
(3)
: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته
(1)
تفسير العثيمين: سورة البقرة (1/ 141).
(2)
ينظر: الانتصار في الرد على المعتزلة للعمراني (3/ 688)، والعين والأثر في عقائد أهل الأثر لعبد الباقي البعلي ابن فَقِيه فُصَّة (1/ 41)، ورفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار للصنعاني (1/ 46).
(3)
هو: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك الأزدي الطحاوي، الفقيه الحنفي؛ انتهت إليه رياسة أصحاب أبي حنيفة بمصر، وكان شافعي المذهب، صاحب التصانيف منها:(اختلاف العلماء) و (أحكام القرآن)، توفي سنة 321 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (15/ 27)، والوافي بالوفيات (8/ 8)
وحكمه، إن شاء غفر لهم، وعفا عنهم بفضله، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته، وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته.)
(1)
وقال ابن القيم في فصل الخلاف في أبدية النار وعذابها: (سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان السبب عارضاً كمعاصي الموحدين، أما إذا كان لازماً كالكفر والشرك فإن أثره لا يزول كما لا يزول السبب، وقد أشار سبحانه إلى هذه المعنى بعينه في مواضع من كتابه منها قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، فهذا إخبار بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقتضي غير الكفر والشرك، وإنها غير قابلة للإيمان أصلاً، .. ومنها قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، وهذا يدل على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة ولو كان فيهم خير لما ضيع عليهم أثره.)
(2)
وهذه الدلالة من الآية نصَّ عليها من المفسرين: البيضاوي، وحقي، وابن عثيمين، وغيرهم.
(3)
وهي فائدة حسنة، فالخلود في النار سببه الكفر، والحُكم يَدور مع سببه وعِلَّته وجودًا وعَدمًا، فالكفار مخلدون لأنَّ صفة الكفر ملازمة لهم؛ فبِدَيمومة السبب الذي هو الكفر؛ دام المسبب الذي هو العذاب.
(4)
(1)
ينظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز (1/ 359)، والقول السديد شرح كتاب التوحيد لابن سعدي (1/ 9).
(2)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (1/ 368)
(3)
ينظر: أنوار التنزيل (1/ 75)، وروح البيان (1/ 116)، وتفسير العثيمين: سورة البقرة (1/ 141)
(4)
ينظر: معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشنقيطي، ص 258.
والأدلة من الكتاب والسنة على أن النار لا تفنى، وعلى تخليد الكافرين فيها، وأنهم لا يخرجون منها كثيرة، قال تعالى:{ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثية: 35]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح. . . إلى أن قال: فيُؤمر به فيُذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت. . . الحديث»
(1)
فخلود الجنة والنار وأبديتهما، وخلود المؤمنين في الجنة، والكافرين في النار ثابت في الكتاب والسنة، بما لا يدع مجالا للشك في حقيقته، ولا لتأويل النصوص الصريحة فيه.
(2)
وهو من عدل الله تعالى؛ إذ الكفر اعتداءٌ على حقِّ الله في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون .. (2849)، (4/ 2188)، وأخرجه بنحوه البخاري في كتاب التفسير باب قوله {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم: 39] (4730)(6/ 93).
(2)
خالف مذهب أهل السنة في هذه المسألة: الجهمية فقالوا بفناء النار وفناء الجنة أيضاً، وقالت الخوارج بخلود كل من يدخل النار، ولو كانوا من أهل التوحيد، لأنهم يكفرون المسلمين بالذنوب، أما المعتزلة فيجعلون مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، ليس بمؤمن ولا كافر، ويجرون عليه أحكام الإسلام في الدنيا، ولكنه في الآخرة مخلد في نار جهنم.
ينظر الرد عليهم في: الانتصار في الرد على المعتزلة للعمراني (3/ 688)، والعين والأثر في عقائد أهل الأثر لابن فَقِيه فُصَّة (1/ 41)، ورفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار للصنعاني (1/ 46)
التعريض بأن اتباع الكتب الإلهية لا ينافي الإيمان بالقرآن بل يوجبه.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (وفي ذلك تنبيه على أن اتباع تلك الكتب الإلهية لا ينافي الإيمان بالقرآن بل يوجبه، ولذلك عرّض بقوله: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي: بالقرآن بل يجب أن تكونوا أوّل مؤمن به؛ لأنكم أهل نظر في معجزاته والعلم بشأنه).
(1)
وجه الاستنباط:
أنه لما كان أهل الكتاب أعلم الناس بكتابهم وأعرفهم بحكمه وأحكامه، نهاهم أن يكونوا أول كافر بالقرآن؛ لعلمهم بما في كتابهم مما يبشر به ويصدقه.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أن اتّباع الكتب الإلهية لا ينافي الإيمان بالقرآن بل يوجبه. فقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} يوهم أن أهل الكتاب هم أول من كفر بالقرآن، وقَدْ سبقهم إلى الكفر به مشركوا العرب، وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان محمد صلى الله عليه وسلم.
(1)
السراج المنير 1/ 63.
وممن أشار إلى هذا التنبيه من المفسرين: الزمخشري، والرازي، والبيضاوي، والنسفي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن عادل، وأبو السعود، والقاسمي، وغيرهم.
(1)
قال أبو السعود في معنى هذه الآية: (أي لاتسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به، لما أنكم تعرفون شأنه، وحقِّيته، بطريق التلقي مما معكم من الكتب الإلهية كما تعرِفون أبناءكم، وقد كنتم تستفتحون به وتبشرون بزمانه .. فلا تضعوا موضع ما يُتوقع منكم ويجب عليكم مالا يتوهم صدوره عنكم من كونكم أول كافر به.)
(2)
وقال القاسمي: ({وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} يعني من جنسكم أهل الكتاب، بعد سماعكم بمبعثه، فالأولية نسبية، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، أو هو تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته).
(3)
فلما بُعث كان أمرهم على العكس، لقوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [الْبَقَرَةِ: 89]، وبهذا يظهر صحة هذا الاستنباط، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: الكشاف (1/ 131)، والتفسير الكبير (3/ 483)، وأنوار التنزيل 1/ 76، والجامع لأحكام القرآن (1/ 333)، والبحر المحيط (1/ 287)، واللباب في علوم الكتاب (2/ 16)، وإرشاد العقل السليم /95، ومحاسن التأويل 1/ 299.
(2)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 95)
(3)
محاسن التأويل (1/ 299)
الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أي: الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها، {وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي: أدوا زكاة أموالكم المفروضة. أمرَهم بفروع الإسلام بعدما أمرهم بأصوله، وفيه دليل على أنّ الكفار مخاطبون
بها).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، بدليل خطاب اليهود في هذه الآية، وأمرِهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، بعد أمرِهم بالإيمان والتصديق، ونهيهم عن سائر المذكورات في الآيات المتقدمة، فدلَّ على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة كماهم مخاطبون بأصولها.
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: ابن الجوزي، والبيضاوي، وأبو حيان، وابن عادل، والنيسابوري، والبقاعي، وغيرهم.
(2)
قال أبو حيان: (هو خطاب لليهود، فدلّ ذلك على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.)
(3)
(1)
السراج المنير 1/ 63.
(2)
ينظر: زاد المسير (1/ 61)، وأنوار التنزيل 1/ 77، والبحر المحيط 1/ 292، اللباب في علوم الكتاب (2/ 26)، وغرائب القرآن (1/ 275)، ونظم الدرر (21/ 186).
(3)
البحر المحيط 1/ 292
وخطاب الكفار بفروع الإسلام مختلف فيه
(1)
، والصواب أنهم مكلفون بالفروع؛ لدلالة النصوص على ذلك، ومن الأدلة عليه قوله تعالى:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 42 - 44]. ففي الآية التصريح بأن من الأسباب التي سلكتهم في سقر عدم إطعام المسكين، وهو فرع من الفروع، ونظيره قوله تعالى:{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 30 - 32] ثم بيّن السبب بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 33 - 34] الآية.
(2)
والحاصل أن خطاب الكفار بفروع الشريعة كخطابهم بالأصول، وهي دلالة صحيحة كما نصّ عليها الخطيب وغيره، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: روضة الناظر لابن قدامة 1/ 160، والإحكام للآمدي 1/ 145، والقواعد والفوائد الأصولية وما يتبعها من الأحكام الفرعية لأبي الحسن بن اللحام الحنبلي 1/ 76.
(2)
ينظر: لطائف الإشارات (3/ 652)، ومذكرة في أصول الفقه للشنقيطي 1/ 40.
الابتلاء والاختبار بما يصيب العبد من خير أو شرّ.
قال الله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله تعالى: {عَظِيمٌ} صفة بلاء، وفي الآية تنبيه على أنّ ما يصيب العبد من خير أو شرّ اختبار من الله تعالى، فعليه أن يشكر عند مسارّه، ويصبر على مضاره ليكون من خير المختبرين).
(1)
وجه الاستنباط:
حيث البلاء يأتي بمعنى الاختبار بالخير والشر.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أنّ ما يصيب العبد من خير أو شرّ اختبار من الله تعالى للعبد، عليه أن يعرف حقه فيه؛ لأنه تعالى قال مخاطباً بتي إسرائيل {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} والبلاء: المحنة، أي: في سومهم إياكم سوء العذاب محنة عظيمة، وقيل: البلاء: النعمة، أي: في إنجائي إياكم منهم نعمة عظيمة
(2)
، فالبلاء يكون بمعنى النعمة وبمعنى الشدة، والله تعالى يختبر على النعمة بالشكر، وعلى الشدة بالصبر
(3)
، فجاء تنبيه الآية على هذا المعنى، كما قال
(1)
السراج المنير (1/ 66)
(2)
ينظر: الدر المنثور للسيوطي (1/ 166)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 98)
(3)
ينظر: معالم التنزيل للبغوي (1/ 114).
تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وقال عز وجل: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال: 17].
قال الطبري: (وأصل «البلاء» في كلام العرب: الاختبار والامتحان، ثم يستعمل في الخير والشر؛ لأن الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشر، كما قال ربنا جل ثناؤه:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، يقول: اختبرناهم، وكما قال جل ذكره:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. ثم تسمي العرب الخير «بلاء» والشر «بلاء» ، غير أن الأكثر في الشر أن يقال:«بلوته أبلوه بلاء» ، وفي الخير:«أبليته أبليه إبلاء وبلاء»
(1)
، ومن ذلك قول أحدهم:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
…
وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
(2)
فجمع بين اللغتين، لأنه أراد: فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده).
(3)
وفي مرجع الإشارة في قوله {ذَلِكُمْ} خلاف، فرجَّح الجمهور: عود الإشارة إلى صنع فرعون
(4)
، ورجَّح بعض المفسرين عوده إلى النعمة.
(5)
(1)
ينظر: معاني القرآن للفراء (2/ 69)، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (1/ 259).
(2)
البيت من الطويل، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص 109، وتهذيب اللغة (15/ 390)، ومقاييس اللغة 1/ 294، وديوان الأدب (4/ 109).
(3)
جامع البيان (2/ 49)
(4)
نسبه للجمهور القرطبي والشوكاني، ينظر: الجامع لأحكام القرآن (1/ 387)، وفتح القدير (1/ 98)
(5)
قال الرازي: وحمله على النعمة أولى لأنها هي التي صدرت من الرب تعالى، ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم. التفسير الكبير (3/ 507)، وينظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (1/ 52)، وتفسير سورة البقرة للعثيمين (1/ 176) ولعل الأقرب أن المراد بالبلاء هنا المصيبة – كما عليه الجمهور- بدليل قوله (عظيم). ينظر: المرجع السابق
قال ابن عثيمين: (قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي: وفي إنجائكم من آل فرعون ابتلاء من الله عز وجل عظيم. أي اختبار عظيم؛ ليعلم من يشكر منكم، ومن لا يشكر).
(1)
وقال أبو السعود: ({عَظِيمٌ} صفة لبلاء وتنكيرهما للتفخيم، وفي الآية الكريمة تنبيه على أن ما يصيب العبد من السراء والضراء من قبيل الاختبار فعليه الشكر في المسار، والصبر على المضار).
(2)
وممن أشار إلى هذا التنبيه من الآية: البغوي، والبيضاوي، والقرطبي، وأبو السعود، والألوسي، وابن عثيمين، وغيرهم.
(3)
وهي إشارة حسنة وتنبيه لطيف، فالله عز وجل يبلو عباده بالنعم ليمتحن شكرهم ويبلوهم بالمصائب ليمتحن صبرهم، ولاشك أن نزول البلاء بالمؤمن كله له خير، وبه تُرفع درجاته وتكفر سيئاته
(4)
كما أخبر صلى الله عليه وسلم «عجباً لأمر المؤمن، إن
(1)
تفسير العثيمين: سورة البقرة (1/ 176).
(2)
إرشاد العقل السليم (1/ 100)
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (1/ 387)، وأنوار التنزيل (1/ 79)، وروح البيان (1/ 130)، وإرشاد العقل السليم (1/ 100)، وروح المعاني (1/ 255)، وتفسير سورة البقرة للعثيمين (1/ 176).
(4)
قال الفضل بن سهل: إن في العلل لنعَماً لا ينبغي للعاقل أن يجهلها، فهي تمحيص للذنوب، وتعرّض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وتذكير بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للتوبة، وحضّ على الصدقة. ينظر: الفرج بعد الشدة للتنوخي (1/ 169)، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي (14/ 298)، وينظر: زاد المعاد لابن القيم (4/ 190).
أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيراً له»
(1)
وكل خير يتفضل به الله على عبد من عباده هو اختبار له ليظهر شكره، ورعايته للنعم فيما يرضيه سبحانه، فإن شَكر فاز وأفلح واستحق المزيد.
فكانت دلالة هذه الآية تنبيه للمسلم أن يحذر ويستشعر هذا الابتلاء والاختبار في سرائه وضرائه، والله تعالى أعلم.
الخلف في خبر الله تعالى محال.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله تعالى {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} جواب شرط مقدر أي: إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده، وفيه دليل على أن الخلف في خبر الله تعالى محال).
(2)
وجه الاستنباط:
أن قوله تعالى: {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} يدل على أنه سبحانه وتعالى منزه عن الكذب، وعده ووعيده؛ لأن الكذب صفة نقص، والنقص على الله محال.
(3)
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم (2999)، (4/ 2295).
(2)
السراج المنير (1/ 83).
(3)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (3/ 567)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها بالنص (مفهوم الموافقة) على أن الخلف في خبر الله تعالى محال؛ إذ العهد في قوله تعالى: {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} يجري مجرى الوعد والخبر، وإنما سمي خبره سبحانه عهدًا؛ لأن خبره أوكد من العهود المؤكدة، أفاده الرازي، ونقله عنه الشوكاني.
(1)
وممن استنبط هذا الدلالة من الآية على هذا المعنى: الرازي، والبيضاوي، وأبو حيان، وغيرهم.
(2)
ويشهد لهذه الدلالة قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]. فالله يحقّق وعده لأنه لا أصدق من الله، وقد يتخلف وعيده سبحانه ولا يحقّقه في الآخرة، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة، بدلالة قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فإن أهل السنة يقولون إن إخلاف الوعد صفة ذم، والله عز وجل يتنزه عنها، بخلاف الوعيد فإنه يعتبر من باب التفضل والتكرم وإسقاط حقه تعالى، فإخلافه عفو وهبة، وإسقاط ذلك كرم منه وجود وإحسان، كما يفعل أهل الشرف بعبيدهم حين يتوعدونهم، ثم يعفون عنهم ويخلفون ما توعدوهم به من العقاب؛ فإخلاف الوعيد كرم ويمدح به بخلاف الوعد.
(3)
(1)
ينظر: المرجع السابق، وفتح القدير للشوكاني (1/ 124).
(2)
ينظر: التفسير الكبير (3/ 567)، وأنوار التنزيل (1/ 90)، والبحر المحيط (1/ 449).
(3)
ينظر: الأسئلة والأجوبة على الواسطية ص 84. وينظر: لوامع الأنوار البهية (1/ 370).
وذهب المعتزلة إلى منع إخلاف الوعيد وزعموا أنه من الكذب، وهذا تحكم على الله عز وجل وسوء ظن به سبحانه، فالله تعالى يفعل ما يشاء، وقد قام الدليل على ذكر الموانع من إنفاذ الوعيد، بعضها بالإجماع، وبعضها بالنص، فالتوبة مانعة بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة، والحسنات العظيمة الماحية، والمصائب المكفرة، وإقامة الحدود في الدنيا كلها مانعة بالنص، فلا تعطل هذه النصوص.
(1)
وكيف لا يحسن من الله العفو عن الذنب وقد أمرنا به وحظَّ عليه ومدح فاعله. قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109]، وقال تعالى:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، وأخبر عن نفسه بالعفو فقال {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] ولا يمكن تقبيح العفو من أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، عن أحد من الموحدين.
(2)
وعلى هذا فيجوز على الله تعالى إخلاف الوعيد لا إخلاف الوعد، لأن الوعيد حقه، والوعد أوجبه تعالى على نفسه بوعده، والله تعالى منزه عن الكذب، والله لا يخلف الميعاد، وبهذا يظهر صحة استحالة الخلف في خبر الله تعالى كما أفاده الخطيب وأنها مقيدة بالوعد دون الوعيد كما عليه أهل السنة، والله تعالى أجل وأعلم.
(1)
قال ابن تيمية: (وأحاديث الوعيد يذكر فيها السبب وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك إما بتوبة مقبولة وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بشفاعة شفيع مطاع وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته فإنه {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]). مجموع الفتاوى (24/ 375)
(2)
ينظر: الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية (3/ 676)، وإيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى مذهب الحق من أصول التوحيد لابن المرتضى اليمني (1/ 227)، ولوامع الأنوار البهية (1/ 368).
جواز النسخ
قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله تعالى {أَوْ مِثْلِهَا} في التكليف والثواب والمنفعة، وتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على النسخ
(1)
، والإتيان بمثل المنسوخ وبما هو خير، والآية دلَّت على جواز النسخ وتأخير الإنزال؛ إذ الأصل اختصاص أن وما يتضمنها بالأمور المحتملة، وذلك لأنّ الأحكام شُرعت والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم، فضلاً من الله ورحمة، وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كأسباب المعاش، فإن النافع في عصر قد يضرّ في غيره)
(2)
.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها بالنص (مفهوم الموافقة) على جواز النسخ خلافاً لمن أنكره
(3)
، لأنه تعالى قال {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
(1)
النسخ في اللغة مشتق من أحد شيئين، الأول: الرفع والإزالة، والآخر من: نسخت الكتاب إذا نقلته من نسخة، وعلى هذا الناسخ والمنسوخ. وفي اصطلاح العلماء هو: عبارة عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه، ينظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (1/ 57)
(2)
السراج المنير (1/ 96)، وهو استنباط في علوم القرآن، ويدخل في مسائل أصول الفقه دخولاً أولياً.
(3)
النسخ جائز عقلاً وواقع سمعاً خلافا لليهود، فإن منهم من ينكره عقلاً لكنه منعه سمعاً، وشذت طائفة قليلة من المسلمين فأنكرت النسخ منهم أبو مسلم الأصفهاني، والذي انتهى إليه المحققون أن خلافه مع الجمهور لفظي، وأنه لا ينكر النسخ كما هو مشهور عنه، بل يسميه تخصيصًا لا نسخاً. ينظر: شرح جمع الجوامع للسبكي (2/ 88)، والمحصول لابن العربي (1/ 144) وينظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (1/ 62)، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (1/ 8)، والناسخ والمنسوخ لقتادة (1/ 7).
مِثْلِهَا} فدلَّ على وقوع النسخ في كتاب الله، والوقوع دليل الجواز.
(1)
وقد اتفق علماء الإسلام على جواز النسخ ووقوعه
(2)
قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ وبما هو خير منه، فبيَّن تعالى في هذه الآية جواز النسخ، رداً على اليهود.
(3)
قال ابن جزي: (قوله تعالى {قَدِيرٌ} استدلال على جواز النسخ لأنه من المقدورات، خلافاً لليهود لعنهم الله فإنهم أحالوه على الله، وهو جائز عقلاً، وواقع شرعاً فكما نسخت شريعتهم ما قبلها، نسخها ما بعدها).
(4)
ونصَّ على هذه الدلالة غير ابن جزي: الرازي، والبيضاوي، والخازن، وابن كثير، والنيسابوري، وأبو السعود، والألوسي، وابن عاشور، وابن عثيمين، وغيرهم.
(5)
(1)
ينظر: روضة الناظر لابن قدامة (1/ 229)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (1/ 662)
(2)
ينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/ 30)، ومناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/ 187) وينظر في كتب الأصول: الفصول في الأصول للجصاص (2/ 217)، والعدة في أصول الفقه لأبي يعلى (3/ 808)، والتبصرة في أصول الفقه الشيرازي (1/ 252)، وأصول السرخسي (2/ 54)، والمحصول لابن العربي (1/ 144)، وروضة الناظر لابن قدامة (1/ 227)، والإحكام للآمدي (3/ 115).
(3)
ينظر: جامع البيان (2/ 471)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 179).
(4)
التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 93)
(5)
ينظر: التفسير الكبير (3/ 637)، وأنوار التنزيل (1/ 99)، ولباب التأويل (1/ 68)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 379)، وغرائب القرآن (1/ 356)، وإرشاد العقل السليم (1/ 143)، وروح المعاني (1/ 352)، والتحرير والتنوير (1/ 662)، وتفسير سورة البقرة للعثيمين (1/ 348).
أما جواز النسخ عقلاً: فلا يمتنع أن يكون الشيء مصلحة في زمان دون زمان، ولا يبعُد أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في أمرهم بأمر مطلق حتى يستعدوا له فيثابوا، ويمتنعوا بسبب العزم عليه عن معاص وشهوات، ثم يخففه عنهم.
(1)
وأما دليله شرعًا: فهذه الآية – محل الدراسة كما تقدم – وقوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، قال ابن عباس وغيره: معناه يمحو ما يشاء من أحكام كتابه، فينسخه ببدل أو بغير بدل، ويثبت ما يشاء فلا يمحوه ولا ينسخه، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قال ابن عباس: معناه عنده ما ينسخ ويبدل من الآية والأحكام، وعنده ما لا ينسخ ولا يبدل، كلٌ في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ.
(2)
فهذا يدل على جواز النسخ بنص القرآن، وقوله تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] وهذا نص قاطع على جواز النسخ، ويدل على جوازه أيضاً قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 42] ومعلوم أن شريعة كل نبي قد نسخت شريعة من قبله.
(1)
ينظر: روضة الناظر (1/ 228)، وينظر تفصيل أدلة جوازه عقلاً في: مناهل العرفان (2/ 187).
(2)
وبمثل هذا المعنى قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم. ينظر: زاد المسير (2/ 500)، وتفسير القرآن العظيم (4/ 471)، وينظر: قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن لمرعي الكرمي (1/ 23).
واحتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه بأن الدلائل قد دلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ونبوته لا تصح إلا مع القول بالنسخ، وهو نسخ شرع من قبله فوجب القطع بالنسخ.
(1)
ويدلُّ له أيضا الواقع: كتحويل القبلة، وتغيير مدة العدة وغيرهما مما ثبت شرعاً، وبهذا يظهر صحة استنباط الخطيب، وأن القول بعدم وجود النسخ باطل
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (3/ 637)
(2)
ينظر: أصول السرخسي (2/ 54)، وروضة الناظر لابن قدامة (1/ 228)
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({كَذَلِكَ} أي: كما قال هؤلاء: {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من كفار الأمم الماضية لأنبيائهم (مثل قولهم) من التعنت وطلب الآيات فقالوا: أرنا الله جهرة، وهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء، {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: قلوب هؤلاء ومن قبلهم في الكفر والعناد، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم،
{قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} الحقائق، ولا يعتريهم شبهة ولا عناد. وفيه إشارة إلى أنهم قالوا ذلك لا لخفاء في الآيات أو لطلب مزيد يقين وإنما قالوه عتوّاً وعناداً).
(1)
هذه الآية فيها دلالتان:
الدلالة الأولى:
تسلية النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}
وجه الاستنباط:
أن هذا القول الذي قيل له قد قيل لمن قبله.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على فائدة قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وهي تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كما
(1)
السراج المنير (1/ 100).
تعنت عليه قومه تعنت من قبله كذلك، فهذا ديدن كل كافر برسل الله منذ قديم الزمان، ولهذا قال سبحانه:{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: في مثل هذا القول تشابهت قلوبهم فكانت مخاطبتهم للرسل مخاطبة واحدة، وهي إنكارهم على الرسل اختصاصهم بالوحي والرسالة دونهم، فطلبوا منهم تلك الآيات بقصد التعنت والإلجاء؛ لأن الطغيان قد ساوى بينهم، حتى كأنهم تواصوا فيما يقولون، قال سبحانه عنهم {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53]، فالكفر ملة واحدة، والتشابه كله في مكابرة الحق.
(1)
وممن استنبط هذه الفائدة من الآية: السيوطي، والقاسمي، وابن عثيمين، وغيرهم.
(2)
قال ابن عثيمين: (ومنها - أي من فوائد الآية - تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان المصاب إذا رأى أن غيره أصيب فإنه يتسلى بذلك، وتخف عليه المصيبة، كما قال تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39]؛ فالله تعالى يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم بأن هذا القول الذي قيل له قد قيل لمن قبله).
(3)
وهي فائدة لطيفة، تكرر مثلها كثيراً في سياق القصص القرآني، بغرض تثبيت قلبه، ومواساته صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: تفسير المنار (1/ 363).
(2)
ينظر: تفسير الجلالين (1/ 25)، ومحاسن التأويل (1/ 386)، وتفسير سورة البقرة للعثيمين (2/ 25)
(3)
تفسير سورة البقرة للعثيمين (2/ 25)
الدلالة الثانية:
عتوّ الكفرة وعنادهم.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على عتوّ الكفرة وعنادهم بقوله {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، حيث قالوا ذلك لا لخفاء الآيات، أو طلب مزيد يقين، وإنما قالوه عتوّاً وعناداً؛ فاقتراح آية مع تقدم مجيء آيات واضحات إنما هو على سبيل التعنت، وهذا مع كونها آيات مبينات لا لبس فيها ولا شبهة، لكن لا يظهر كونها آيات إلا لمن كان موقناً، أما من ارتاب، أو شك أو تغافل أو جهل فلا ينفع فيه الآيات ولو كانت في غاية الوضوح.
(1)
ولهذا قال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فكل موقن قد عرف من آيات الله وبراهينه الظاهرة ما حصل له به اليقين، واندفع عنه كل شك وريب.
(2)
وممن نصَّ على هذه الإشارة من الآية: أبوحيان، وابن كثير، والسيوطي، وابن عاشور، والسعدي، وغيرهم.
(3)
ويدل له أنه ما من نبي من الأنبياء إلا وقد جاء بآية أو آيات، وكان قومه مع هذا يصفونه بالسحر أو الجنون، ثم يقترحون عليه آيات سواها، فهذا دأبهم مع رسلهم، يطلبون آيات التعنت، لا آيات الاسترشاد، ولم يكن قصدهم تبين الحق، فإن الرسل قد جاءوا من الآيات بما يؤمن بمثله البشر، ولهذا ختم سبحانه حكاية
(1)
ينظر:: البحر المحيط لأبي حيان (1/ 588)
(2)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن (1/ 64)
(3)
ينظر: البحر المحيط (1/ 588)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 400)، وتفسير الجلالين (1/ 25)، والتحرير والتنوير (1/ 690)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 64).
هؤلاء الذين لا يعلمون والذين من قبلهم تشابهت قلوبهم بقوله: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فليسوا أهلا للجواب لأنهم ليسوا بقوم يوقنون بل ديدنهم المكابرة
(1)
، وهي إشارة حسنة، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: التحرير والتنوير (1/ 690).
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي: أولادي اجعل أئمة يقتدى بهم في الخير {قَالَ} الله تعالى: {لَا يَنَالُ} أي: لا يصيب {عَهْدِي} بالإمامة {الظَّالِمِينَ} منهم ففي ذلك إجابة إلى مطلوبه، وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة وإنهم لا ينالون الإمامة، لأنها إمامة من الله تعالى وعهد، والظالم لا يصلح لها وإنما ينالها البررة والأتقياء منهم، وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوّة، وأنّ الفاسق لا يصلح للإمامة، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره ولا يقدّم للصلاة؟).
(1)
هذه الآية فيها أكثر من دلالة:
الدلالة الأولى:
التنبيه من الله تعالى لإبراهيم عليه السلام أنه سيكون من ذريته ظلمة، وأنهم لا ينالون الإمامة.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أنه سيكون من ذرية إبراهيم عليه السلام ظلمة، وأنهم لا ينالون الإمامة، بدلالة هذه الآية فهي- وإن كانت ظاهرة في الخبر - أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالماً. إلا أن فيها التنبيه لإبراهيم
(1)
ينظر: السراج المنير (1/ 102).
عليه السلام أن من ولده من يشرك به ويجور عن قصد السبيل، ويظلم نفسه وعباد الله، وأنهم لا ينالهم عهد الله ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم.
(1)
وممن أشار إلى هذا التنبيه من الآية: الطبري، والسمرقندي، والرازي، والبيضاوي، وأبو حيان، وابن كثير، والشنقيطي، وغيرهم.
(2)
قال الشنقيطي: (يفهم من هذه الآية أن الله علم أن من ذرية إبراهيم ظالمين، وقد صرّح تعالى في مواضع أخر بأن منهم ظالماً وغير ظالم كقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113]).
(3)
وهي دلالة صحيحة، وإشارة لطيفة المأخذ، من لطائف الإشارات عند الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: جامع البيان 2/ 24، وتفسير القرآن العظيم 1/ 412.
(2)
ينظر جامع البيان 2/ 24، وتفسير القرآن للسمرقندي 1/ 91، والتفسير الكبير 4/ 31، وأنوار التنزيل 1/ 104، والبحر المحيط 1/ 604، وتفسير القرآن العظيم 1/ 412، وأضواء البيان 1/ 43.
(3)
أضواء البيان 1/ 43.
الدلالة الثانية:
عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوّة.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية بدلالة مفهوم المخالفة (مفهوم الصفة) عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر قبل النبوّة، وذلك أنه لما أخبر سبحانه أنه لا ينال عهده الظالمين، دل بمفهومه على أنه ينال عهده من ليس بظالم، فكان ذلك دليلاً لمن يقول بعصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوة
(1)
.
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: الرازي، والبيضاوي، وأبو السعود، وغيرهم
(2)
قال أبو السعود: (فيه دليل على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر على الإطلاق
(3)
، وعدم صلاحية الظالم للإمامة).
(4)
وقد اتفقت الأمة على أن الرسل معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل من تبليغ الرسالة
(5)
، وأنهم معصومون من الكبائر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف
…
وهو أيضاً قول أكثر
(1)
وهذه الدلالة على معنى أن العهد هو النبوة كما هو أحد الأقوال في تفسيره. ينظر: النكت والعيون للماوردي (1/ 185)
(2)
ينظر: التفسير الكبير 4/ 31، وأنوار التنزيل 1/ 104، وإرشاد العقل السليم 1/ 156.، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 65).
(3)
أي قبل النبوة وبعدها.
(4)
إرشاد العقل السليم (1/ 156).
(5)
ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 319)،، وينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 194)
أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم يُنقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول
(1)
).
(2)
وثبتت عصمتهم قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته، والتشكيك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار بتبرئتهم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، وأنهم نشأوا على التوحيد والإيمان.
(3)
وذهبت المعتزلة إلى أنه لا يمتنع عليهم المعصية كبيرة كانت أو صغيرة، بل ولا يمتنع عقلاً إرسال من أسلم وآمن بعد كفره؛ وذهب الروافض إلى امتناع ذلك كله منهم قبل النبوة ; لأن ذلك مما يوجب احتقارهم، والنفرة عن اتباعهم، وهو خلاف مقتضى الحكمة من بعثة الرسل.
(4)
والذي يظهر ضعف دلالة هذه الآية على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوة مع أنها دلالة في نفسها صحيحة؛ إذ دلالتها بمفهوم المخالفة على أنه ينال عهده تعالى من ليس بظالم، لا يلزم منها ضرورةً عصمة الأنبياء، كما أن تأويل
(1)
ينظر: المحصول للرازي (3/ 225)، والمستصفى للغزالي (1/ 274)، والمحصول لابن العربي (1/ 109)، والإحكام للآمدي (1/ 169)، والموافقات للشاطبي (4/ 13).
(2)
مجموع الفتاوى (4/ 319)
(3)
اختاره القاضي عياض وابن الحاجب، والسبكي، ينظر: البحر المحيط للزركشي (6/ 13)، والإحكام للآمدي (1/ 169)، ولوامع الأنوار البهية (2/ 305)، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد لصالح الفوزان (1/ 188 وما بعدها).
(4)
ينظر: المواقف للإيجي (3/ 416)، والمستصفى للغزالي (1/ 274)، وشرح المقاصد للتفتازاني (2/ 142)، وإرشاد الفحول للشوكاني (1/ 161).
العهد هنا بالإمامة في قول كثير من المفسرين
(1)
كما هو ظاهرالسياق، يُبعد تعلقها بالنبوة، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: تفسير السمعاني (1/ 136)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 410)، وروح البيان (1/ 228)، وفتح القدير (1/ 160)
الدلالة الثالثة:
عدم صلاحية الفاسق للإمامة.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أن الفاسق لا يصلح للإمامة، وإنما ينالها البر التقي وذلك أنه تعالى أخبر أنه لا ينال عهده الظالمين ولو كان الظالم والفاسق أهلاً لها لما نفى تعالى عنهم ذلك.
فقوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} جواب لقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} ، التي طلب فيها إبراهيم الإمامة التي ذكرها الله تعالى بقوله {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، وعلى هذا فالمراد بالعهد هو الإمامة
(1)
، والمعنى: لا ينال الإمامة الظالمين، فدلّت الآية على أن من ذريته ظلمة، وأنهم لا يصلحون للإمامة، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه.
(2)
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: الزمخشري، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، وابن عادل، وأبو السعود، والشهاب الخفاجي
(3)
، والشوكاني، وغيرهم.
(4)
(1)
في هذا العهد، سبعة أقوال: أحدها: أنه النبوة، قاله السدي. والثاني قول مجاهد: أنه الإمامة، وهو أظهرها لدلالة السياق عليه، والثالث: أنه الإيمان، قاله قتادة. والرابع: أنه الرحمة، وهو قول عطاء. والخامس: أنه دين الله قاله الضحاك. والسادس: أنه الجزاء والثواب. والسابع: أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه، وهو قول ابن عباس. ينظر: جامع البيان (2/ 20)، والنكت والعيون (1/ 185).
(2)
ينظر التفسير الكبير للرازي 4/ 38.
(3)
هو: شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر، الخفاجي المصري، قاضي القضاة، نسبته إلى قبيلة خفاجة، ولد ونشأ بمصر، ورحل إلى بلاد الروم، من أشهر كتبه: شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل، وخبايا الزوايا بما في الرجال من البقايا، وحاشية على تفسير البيضاوي، توفي عام 1069 هـ. ينظر: الأعلام (1/ 238)
(4)
ينظر: الكشاف (1/ 184)، والتفسير الكبير (4/ 39)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 108 ومابعدها)، وأنوار التنزيل (1/ 104)، واللباب في علوم الكتاب (2/ 457)، وإرشاد العقل السليم (1/ 156)، حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي (2/ 234)، وفتح القدير (1/ 161).
قال الطبري في معنى هذه الآية: (هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماماً يقتدي به أهل الخير. وهو من الله جل ثناؤه جواب لما يتوهم في مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة مثله. فأخبر أنه فاعل ذلك، إلا بمن كان من أهل الظلم منهم، فإنه غير مُصيّره كذلك، ولا جاعله في محل أوليائه عنده، بالتكرمة بالإمامة، لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته، دون أعدائه والكافرين به.)
(1)
وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع، لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالماً.
(2)
قال الرازي: (واحتج الجمهور على أن الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية، ووجه الاستدلال بها من وجهين. الأول: ما بينا أن قوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} جواب لقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} ، وقوله تعالى:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} طلب للإمامة التي ذكرها الله تعالى، فوجب أن يكون المراد بهذا العهد هو الإمامة، ليكون الجواب مطابقا للسؤال، فتصير الآية كأنه تعالى قال: لا ينال الإمامة الظالمين، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه، فكانت الآية دالة على ما قلناه، - إلى أن
(1)
جامع البيان (2/ 20).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 108 ومابعدها)، وأنوار التنزيل (1/ 104)، واللباب في علوم الكتاب (2/ 457)، وإرشاد العقل السليم (1/ 156)، وفتح القدير (1/ 161).
قال-: الوجه الثاني: أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر، قال الله تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا} [يس: 60] يعني ألم آمركم بهذا، وقال الله تعالى:{قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} [آل عمران: 183] يعني أمرنا، ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم، إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول: لا يخلو قوله {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين، وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله تعالى، ولما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين على أن أوامر الله تعالى لازمة للظالمين كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر، وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها فلا يكونون أئمة في الدين، فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق).
(1)
وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة، وأطال الزمخشري في إثبات ذلك وأكثر من الشواهد في تقريره، وأجازوا الخروج على الإمام تبعاً لذلك.
(2)
والصحيح من أقوال أهل العلم أن هذه الآية تصلح دليلاً لمنع عقد الإمامة للفاسق، أما إذا طرأ عليه الفسق حال إمامته فالذي عليه أكثر العلماء
(3)
أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه.
(4)
(1)
التفسير الكبير (4/ 38 - 39)
(2)
ينظر: الكشاف (1/ 184 ومابعدها)
(3)
ينظر: حاشية ابن عابدين (1/ 38)، وحاشية الدسوقي (4/ 299)، ومواهب الجليل (6/ 277)، وروضة الطالبين (10/ 50)، والأحكام السلطانية للماوردي ص 17، والأحكام السلطانية لأبي يعلي ص 14.
(4)
لأن في الخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض. قال الدسوقي: يحرم الخروج على الإمام الجائر لأنه لا يعزل السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته، وإنما يجب وعظه وعدم الخروج عليه، إنما هو لتقديم أخف المفسدتين. حاشية الدسوقي (4/ 299).
قال ابن خويز منداد: (وكل من كان ظالما لم يكن نبياً ولا خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام).
(1)
والظاهر في هذه المسألة هو ما عليه الجمهور
(2)
، كما هو ظاهرهذه الآية واستنبطه الخطيب، أن العدالة شرط لصحة الإمامة، فلا تجوز إمامة الفاسق إلا عند فقد العدل.
أما على تفسير الظلم في الآية بالشرك كما رواه ابن كثير وغيره
(3)
، فلا دلالة في الآية على معنى عدم صلاحية الفاسق للإمامة، والله تعالى أعلم.
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 109)، وينظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص 17.
(2)
أما الحنفية فليست العدالة عندهم شرطا لصحة الولاية، فيصح تقليد الفاسق الإمامة مع الكراهة. ينظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(1/ 549)، و (4/ 305)، والأحكام السلطانية للماوردي ص 6، وجواهر الإكليل (2/ 221)، وشرح الروض المربع (4/ 108)، ومغني المحتاج للخطيب الشربيني (4/ 130).
(3)
عن سعيد بن جبير في قوله {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال: المراد به المشرك، يقول: لا يكون إمام مشرك. ينظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 410)، والتفسير الوسيط للواحدي (1/ 203) ونسب هذا القول للفراء.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (هذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة ومستنبطة، وتدل على امتناع أخذ الأجرة على ذلك).
(1)
هذه الآية فيها دلالتان، الأولى:
وجوب إظهار علوم الدين.
(2)
وجه الاستنباط:
ترتيب اللعن على كتمان البينات والهدى.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على وجوب إظهار علوم الدين وتبيينها للناس، لأن الله تعالى أخبر أن الذي يكتم ما أنزل سبحانه من البينات والهدى ملعون، فدلَّ على عظم كتم العلم، وأنه من كبائر الذنوب؛ ومنه يلزم وجوب إظهار العلم وتبيينه وتحريم كتمانه.
قال الرازي: (هذه الآية تدل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يُكتم، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته، ونظيره هذه الآية قوله تعالى: {
(1)
السراج المنير (1/ 120)
(2)
وهو استنباط أصولي، واستنبط بعض العلماء من الآية دلالتها على وجوب قبول خبر الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله. ولأنه تعالى قال بعدها:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} فحَكَم بوقوع البيان بخبرهم. ينظر: روح المعاني (1/ 426)، والإكليل للسيوطي (1/ 35).
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وقريب منهما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 174]، فهذه الآيات كلها موجبة لإظهار علوم الدين تنبيهاً للناس وزاجرة عن كتمانها).
(1)
وممن قال بهذا الاستنباط موافقاً الخطيب: الجصاص، والكيا الهراسي
(2)
، وابن العربي، وابن الجوزي، والرازي، والقرطبي، والنيسابوري، والسيوطي، والألوسي، وابن عثيمين، وغيرهم.
(3)
قال الكيا الهراسي: (قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} مع أمثاله في القرآن: يدل على وجوب إظهار علوم الدين وتبيينها للناس، وعمَّ ذلك المنصوص عليه والمستنبط لشمول اسم الهدى للجميع.)
(4)
وقال ابن عثيمين: (من فوائد الآية: وجوب نشر العلم؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ}، ويتأكد وجوب نشره إذا دعت الحاجة إليه بالسؤال عنه؛ إما بلسان الحال؛ وإما بلسان المقال.)
(5)
(1)
التفسير الكبير (4/ 140)
(2)
هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري، الملقب بعماد الدين، المعروف بالكيا الهراسي، الفقيه، الشافعي، توفي سنة 504 هـ. ينظر: وفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 289).
(3)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 125)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 25)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 72)، وزاد المسير (1/ 127)، والتفسير الكبير (4/ 140)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 185)، وغرائب القرآن (1/ 447)، والإكليل (1/ 35)، وروح المعاني (1/ 426)، وتفسير سورة البقرة للعثيمين (2/ 262)
(4)
أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 25)
(5)
قال رحمه الله: (ولسان الحال: أن ترى إنساناً يعمل عملاً ليس على الوجه المرضي؛ فهذا لسان حاله يدعو إلى أن تبين له الحق؛ ولسان المقال: أن يسألك سائل عن علم وأنت تعلمه؛ فيجب عليك أن تبلغه ما دمت تعلم). تفسير العثيمين: سورة البقرة (2/ 262).
وهذ فائدة جليلة من الآية حسُن التنبيه عليها، والتحقيق: أن العالِم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأما من سُئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية
(1)
، ولما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من سُئل عن علم فكتمه، ألجمه يوم القيامة بلجام من نار» .
(2)
ويُحْمَل العلم في هذا الحديث على علوم الشريعة.
(3)
قال الألوسي: (استُدل بهذه الآية على وجوب إظهار علم الشريعة وحرمة كتمانه).
(4)
وقد روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: إنكم تقولون أَكثر أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأيم الله لولا آية في كتاب الله ما حدّثت أحداً بشيء أبداً، وتلا
(1)
أهل الفقه على أن إظهار العلم فرض على الكفاية لا على التعيين. ينظر: الأصول من علم الأصول لابن عثيمين (1/ 84)، وفيض القدير للمناوي (4/ 391) وتحفة الأحوذي للمباركفوري (7/ 341). وينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 72)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 185)
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (14/ 214) برقم (8533)، والترمذي في سننه برقم (2649)، (5/ 29) وقال: حديث حسن، وأبو داود في سننه (3/ 321) برقم (3658). وصححه الألباني في: مشكاة المصابيح (1/ 77) برقم (223).
(3)
قال في عون المعبود: (وهو علم يحتاج إليه السائل في أمر دينه)، ينظر: عون المعبود على سنن أبي داود لأبي عبدالرحمن آبادي (10/ 91). وقال الخطابي: (المراد علم الدين المفترض طلبه على كافة المسلمين دون غيره؛ فإن الجهل بالدين مهلك والعلم طريق نجاته). ينظر: فيض القدير للمناوي (4/ 391)، والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 392
(4)
روح المعاني (1/ 426)
(1)
أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب حفظ العلم، برقم (118)، (1/ 35)
الدلالة الثانية:
امتناع أخذ الأجرة على العلم.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على امتناع أخذ الأجرة على العلم، حيث أفادت لزوم إظهار العلم وترك كتمانه؛ فلما دلَّت على وجوب ذلك التعليم، كان أخذ الأجرة عليه أخذاً للأجرة على أداء الواجب، وهو غير جائز، كما أنه لا يصح استحقاق الأجر على الصلاة والحج وغيرها مما يجب على العبد فعله.
(1)
ويدل على ذلك من جهة أخرى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 174]، فظاهر ذلك المنع من أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعاً؛ لأن قوله تعالى {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} يمنع أخذ البدل عليه من سائر الوجوه.
(2)
وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية: الجصاص، وابن الجوزي، والرازي، والقرطبي، والنيسابوري، والسيوطي، وغيرهم.
(3)
قال النيسابوري: (واستُدل بالآية أيضاً على عدم جواز أخذ الأجرة على التعليم لأنها دلت على وجوب التعليم ولا أجرة على أداء الواجب).
(4)
(1)
ينظر: زاد المسير لابن الجوزي (1/ 127)، والتفسير الكبير (4/ 141).
(2)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 125)
(3)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 125)، وزاد المسير (1/ 127)، والتفسير الكبير (4/ 141)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 185)، وغرائب القرآن (1/ 448)، والإكليل (1/ 37).
(4)
غرائب القرآن (1/ 448)
وهذا الحكم محل خلاف بين الفقهاء، فذهب أبو حنيفة
(1)
، وأحمد بن
حنبل
(2)
إلى عدم جواز أخذ الأجرة على القربات والعبادات، لأن الأصل أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها، ولا يستحق الأجرة على فعلها.
(3)
وذهب مالك
(4)
، والشافعي
(5)
إلى جواز أخذ الاجرة على تعليم القرآن والعلم؛ لأنه استئجار لعمل معلوم ببذل معلوم، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّج رجلاً بما معه من القرآن، وجعل ذلك يقوم مقام المهر، فجاز جعل القرآن عوضاً.
(6)
(1)
هو: النعمان بن ثابت التيمي، أبو حنيفة الكوفي، فقيه أهل العراق، وإمام أصحاب الرأي، كان عالماً عاملاً عابداً زاهداً، عرض عليه القضاء مراراً فأبى، توفي سنة 150 هـ. ينظر: وفيات الأعيان 5/ 405، وتهذيب الكمال 7/ 339، وشذرات الذهب 1/ 372.
(2)
هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، أبو عبدالله المروزي، إمام المحدثين، من كبار الحفاظ الأئمة ومن أحبار هذه الأمة، صنف كتابه (المسند) وجمع فيه من الحديث ما لم يتفق لغيره، توفي سنة 241 هـ.
ينظر: تهذيب الكمال 1/ 68، وسير أعلام النبلاء 11/ 177، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص 208.
(3)
ينظر: بدائع الصنائع للكاساني (4/ 191)، واللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي (2/ 533)، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي (5/ 124)، والمغني لابن قدامة (8/ 138)، وكشاف القناع للبهوتي (4/ 12)، والروض المربع للبهوتي (5/ 321)
(4)
هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو عبدالله المدني، الفقيه إمام دار الهجرة، صاحب (الموطأ)، روى عن نافع ومحمد بن المنكدر وغيرهما، وروى عنه الشافعي وخلائق، وله نحو ألف حديث، توفي سنة 179 هـ. ينظر: تهذيب الكمال (7/ 6)، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص 104.
(5)
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان الإمام الشافعي، أبو عبدالله، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، له كتاب (الرسالة) و (الأم) و (أحكام القرآن) وغيرها، توفي سنة 204 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (4/ 163)، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص 171 وما بعدها.
(6)
ينظر: الذخيرة للقرافي (2/ 66)، وحاشية الدسوقي لابن عرفة (4/ 18)، والأم للشافعي (2/ 140)، ونهاية المطلب في دراية المذهب لأبي المعالي الجويني (15/ 501)، والتحقيق في مسائل الخلاف لابن الجوزي (2/ 218)، والأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 469)، قال ابن حزم:" والإجارة جائزة على تعليم القرآن وعلى تعليم العلم مشاهرة وجملة، كل ذلك جائز وعلى الرقية وعلى نسخ المصاحف ونسخ كتب العلم لأنه لم يأت في النهي عن ذلك نص، بل قد جاءت الإباحة ". ينظر: المحلى (9/ 22).
وقد سئل شيخ الإسلام عن جواز أخذ الأجرة على تعليم العلم النافع؟
فأجاب: (الحمد لله، أما تعليم القرآن والعلم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، .. والصحابة والتابعون وتابعو التابعين وغيرهم من العلماء المشهورين عند الأمة بالقرآن والحديث والفقه إنما كانوا يُعلمون بغير أجرة. ولم يكن فيهم من يُعلم بأجرة أصلاً - إلى أن قال-: وتعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك بغير أجرة لم يتنازع العلماء في أنه عمل صالح فضلاً عن أن يكون جائزاً؛ بل هو من فروض الكفاية، وإنما تنازع العلماء في جواز الاستئجار على تعليم القرآن والحديث والفقه على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد. إحداهما - وهو مذهب أبي حنيفة وغيره - أنه لا يجوز الاستئجار على ذلك، والثانية - وهو قول الشافعي - أنه يجوز الاستئجار، وفيها قول ثالث في مذهب أحمد أنه يجوز مع الحاجة؛ دون الغنى
(1)
.).
(2)
(1)
ينظر: المبسوط (16/ 37)، وبدائع الصنائع للكاساني (4/ 191 - 194)، وتبيين الحقائق (5/ 124)، والذخيرة للقرافي (2/ 66)، والأم للشافعي (2/ 140)، ونهاية المطلب في دراية المذهب لأبي المعالي الجويني (15/ 501)، والمغني لابن قدامة (8/ 138)، والفروع لابن مفلح (4/ 435)، والإنصاف في مسائل الخلاف للمرداوي (6/ 46)، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (30/ 204).
(2)
مجموع الفتاوى (30/ 204) بتصرف يسير.
هذا نص الفقهاء قديماً على أن الأجرة المأخوذة فيما يشبه عمل الطاعات حرام على الآخذ، لكن المتأخرين منهم استثنوا من هذا الأصل تعليم القرآن والعلوم الشرعية، فأفتوا بجواز أخذ الأجرة عليه استحساناً، دفعاً للحرج والمشقة؛ لأنهم يحتاجون إلى ما به قوام حياتهم هم ومن يعولون، وفي اشتغالهم بالحصول عليه من زراعة أو تجارة إضاعة للقرآن الكريم والشرع بانقراض حملته، فجاز إعطاؤهم أجراً على هذا التعليم
(1)
لأنها من المصالح، وليس بعوض بل رزق للإعانة على الطاعة، ولا يخرجه ذلك عن كونه قربة ولا يقدح في الإخلاص.
(2)
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن المعلم إذا لم تدعه الحاجة الضرورية فالأولى له ألا يأخذ عوضاً على تعليم القرآن، والعقائد، والحلال، والحرام، وإن دعته الحاجة أخذ بقدر الضرورة من بيت مال المسلمين ; لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم لا من قبيل الأجرة، والأولى لمن أغناه الله أن يتعفف عنه.
(3)
وعليه فدلالة الآية على امتناع أخذ الأجرة على العلم ليست على إطلاقها، بل هي مقيدة بالحاجة إلى الأجرة، وما يؤخذ من بيت مال المسلمين هو على سبيل الإعانة، لا على سبيل العوض والإجارة وحكمه الجواز
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
قال صاحب كنز الدقائق الحنفي: (والفتوى اليوم على جواز الاستئجار لتعليم القرآن) وهو مذهب المتأخرين من مشايخ بلخ. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي (5/ 124).
(2)
ينظر: فقه السنة لسيد سابق (3/ 185).
(3)
ينظر: أضواء البيان للشنقيطي (2/ 182)، والشرح الممتع لابن عثيمين (2/ 48).
(4)
ينظر: المغني لابن قدامة (8/ 138)، والفتاوى الكبرى (30/ 206)، والتاج والإكليل للمواق (2/ 117)، ومواهب الجليل للحطَّاب المالكي (1/ 456)، وفتاوى اللجنة الدائمة (15/ 96)، وأحكام التصرف في المنافع لفهد العمري (135).
نفي الوصال.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (في الآية دليل على نفي الوصال؛ لأنه تعالى جعل الليل غاية الصوم وغاية الشيء منتهاه، وما بعدها يخالف ما قبلها).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على نفي الوصال؛ فإنه سبحانه قد حدّ الصوم بأن آخر وقته إقبال الليل، كما حدّ الإفطار وإباحة الأكل والشرب والجماع بمجيء أول النهار وأول إدبار آخر الليل، فقوله تعالى:{أَتِمُّوا} أمر يقتضي الوجوب، و «إلى» غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه، كقول القائل: اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة- والمبيع شجر- فإن الشجرة داخلة في المبيع، بخلاف قوله: اشتريت الفدّان إلى الدار، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليست من جنسه، فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار
(2)
، فدلّ ذلك على أنه لا صوم بالليل، كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم، وعلى أن المواصل مجوع نفسه في غير طاعة ربه.
(3)
(1)
السراج المنير 1/ 141.
(2)
ينظر: المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 259)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 327).
(3)
ينظر: جامع البيان للطبري (3/ 532).
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصيام
(1)
، كما جاء عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل? قال: «وأيكم مثلي? إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» . فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال:«لو تأخر الهلال لزدتكم» كالمنكّل لهم حين أبوا أن ينتهوا.
(2)
متفق عليه.
وممن استنبط دلالة هذه الآية على هذا الحكم: الطبري، وابن عطية، والقرطبي، والنسفي، وابن عاشور، وغيرهم.
(3)
قال ابن عاشور: (قوله تعالى {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} بيان لنهاية وقت الصيام ولذلك قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا} ولم يقل (ثم صوموا) لأنهم صائمون من قبل، و {إِلَى اللَّيْلِ} غاية اختير لها {إِلَى} للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس؛ لأن {إِلَى} لا تمتد معها الغاية بخلاف {حَتَّى} ، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل).
(4)
والذي يظهر صحة دلالة هذه الآية على نفي الوصال كما نصَّ عليه الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: المغني لابن قدامة 3/ 175، وبلوغ المرام من أدلة الأحكام لابن حجر 1/ 172، وحاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع لعبد الرحمن بن قاسم الحنبلي 3/ 432.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: الحدود، باب (كم التعزير والأدب)، برقم (6851)(8/ 174)، وأخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، برقم (1103)، (2/ 774)
(3)
ينظر: جامع البيان (3/ 532)، والمحرر الوجيز (1/ 259)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 327)، ومدارك التنزيل (1/ 162)، التحرير والتنوير (2/ 184).
(4)
التحرير والتنوير (2/ 184).
الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد ولا يختص بمسجد معين.
قال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة: 187)
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فيه دليل على أنّ الاعتكاف لا يختص بمسجد دون مسجد، وأن يكون في المسجد لا في غيره؛ إذ ذكرُ المساجد لا جائز أن يكون لجعلها شرطاً في منع مباشرة المعتكف لمنعه منها وإن كان خارج المسجد ويمنع غيره أيضاً منها فيها، فتعين كونها شرطاً لصحة الاعتكاف).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية بدلالة النصّ حكماً فقهياً، وهو أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد؛ لأنه قيَّد الاعتكاف بالمساجد، فجعل من شرط الاعتكاف كونه في المسجد، وهذا دليل على أنه لا يصح إلا في المسجد؛ إذ لو جاز شرعاً في غيره لجاز في البيت، وهو باطل بالإجماع
(2)
، فهذه الآية أصل في هذا الشرط؛ حيث دلَّت على مشروعية الاعتكاف، وأنه لا يصح إلا في المسجد.
ووافق الخطيب في استنباط هذه الدلالة من الآية جمهور المفسرين كالجصاص، والزمخشري، وابن العربي، والقرطبي، والبيضاوي، والنسفي،
(1)
السراج المنير (1/ 141)
(2)
ينظر: روح المعاني للألوسي (1/ 465)، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري للغيتابي (11/ 141).
والسيوطي، وأبو السعود، وحقي، والألوسي، والقاسمي، وابن عاشور، والسعدي، وابن عثيمين، وغيرهم.
(1)
والظاهر من قوله: {فِي الْمَسَاجِدِ} أنه لا يختص الاعتكاف بمسجد دون مسجد، بل كل مسجد هو محل للاعتكاف
(2)
، وذلك لتعريف لفظ المساجد، الذي يفيد أنها المساجد المعروفة عندهم، وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس
(3)
، نصَّ على ذلك ابن عثيمين فقال:«أل» في {الْمَسَاجِدِ} للعهد الذهني؛ فتكون دالة على أن المراد بـ {الْمَسَاجِدِ} المساجد المعهودة التي تقام فيها الجماعة.
(4)
وقيل: أنه لا اعتكاف إلا في مسجد جامع.
(5)
وقال بعضهم: لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة.
(6)
(1)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 301)، والكشاف (1/ 232)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 135)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 333)، وأنوار التنزيل (1/ 126)، ومدارك التنزيل (1/ 163)، والإكليل (1/ 43)، وإرشاد العقل السليم (1/ 202)، وروح البيان (1/ 301)، وروح المعاني (1/ 465)، ومحاسن التأويل (2/ 48)، والتحرير والتنوير (2/ 185)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 87)، وتفسير سورة البقرة للعثيمين (2/ 358).
(2)
وبه قال سعيد بن جبير، وأبو قلابة، وابن عيينة، وداود، والطبري، وابن المنذر، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، وأحد قولي مالك، ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني (2/ 108) والكافي في فقه أهل المدينة لأبي عمر القرطبي (1/ 353)، والمهذب في فقة الإمام الشافعي للشيرازي (1/ 350).
(3)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (1/ 87)
(4)
تفسير سورة البقرة للعثيمين (2/ 358)
(5)
وبه قال عبد الله، وعائشة، وإبراهيم، وابن جبير، وعروة. ينظر: الكافي في فقه أهل المدينة للقرطبي (1/ 353)، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (3/ 364).
(6)
وهو مروي عن عبدالله بن مسعود وحذيفة. ينظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 302)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 333)، وروح المعاني (1/ 465).
والراجح أنه لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، ولا يشترط فيه الجمعة
(1)
، ولا يختص بالمساجد الثلاثة على الصحيح
(2)
.
وقد خالف أبو حيان في ذلك وضعَّف دلالة هذه الآية على اشتراط المسجد فقال: وظاهر قوله: {عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أنه ليس من شرط الاعتكاف كونه في المساجد، لأن النهي عن الشيء مقيد بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطاً في وقوعها، ونظير ذلك: لا تضرب زيداً وأنت راكب فرساً، ولا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلا فرساً، فتبين من هذا أن الاستدلال بهذه الآية على اشتراط المسجد في الاعتكاف ضعيف، فذِكرُ: المساجد، إنما هو لأن الاعتكاف غالباً لا يكون إلا فيها، لا أن ذلك شرط في الاعتكاف.
(3)
ولا يظهر قوله كل الظهور، والذي عليه الجمهور أن المسجد شرط لصحة الاعتكاف بدلالة هذه الآية وهي أصل فيه.
(4)
(1)
ينظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين (6/ 509)، وينظر: مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للمباركفوري (7/ 166)، والمبسوط للسرخسي (3/ 115)، والمهذب للشيرازي (1/ 350)
(2)
ينظر: مرعاة المفاتيح للمباركفوري (7/ 166)، وتفسير سورة البقرة للعثيمين (2/ 358)
(3)
البحر المحيط في التفسير (2/ 221).
(4)
ينظر: المبسوط للسرخسي (3/ 115)، وبدائع الصنائع للكاساني (2/ 108)، والمدونة للإمام مالك (1/ 298)، والكافي في فقه أهل المدينة للقرطبي (1/ 353)، والمهذب للشيرازي (1/ 350)، والمجموع للنووي (6/ 480)، والإنصاف للمرداوي (3/ 364)، والشرح الممتع لابن عثيمين (6/ 509).
قال الجصاص: (وأما شرط كونه في المسجد في الاعتكاف، فالأصل فيه قوله عز وجل {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فجعل من شرط الاعتكاف الكون في المسجد).
(1)
وبهذه الآية احتج الشافعي وغيره بأن قوله تعالى {عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} عام يتناول كل المساجد
(2)
، وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن، وبهذا يظهر صحة استنباط الخطيب، والله تعالى أعلم.
وجوب الحج والعمرة.
قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أي: أدوهما بحقوقهما. وفي الآية حينئذٍ دليل على وجوبهما؛ إذ الأصل في الأمر الوجوب، وما روي عن جابر أنه قال:«يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج فقال: لا»
(3)
، مُعارض بما روي أن رجلاً قال لعمر رضي الله عنه: إني وجدت، أي: علِمت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعاً، فقال: «
(1)
أحكام القرآن للجصاص (1/ 301).
(2)
ينظر: المهذب للشيرازي (1/ 350)، وحلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء (3/ 181)، وينظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 333)، وروح المعاني (1/ 465)
(3)
أخرجه الترمذي في كتاب الحج باب ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا؟ (931)، (3/ 261) عن جابر، وأخرجه الطبراني من طريق آخر عن جابر في المعجم الأوسط برقم (6572)(6/ 341)، والمعجم الصغير برقم (1015)(2/ 193)، والدارقطني في سننه برقم (2725)(3/ 349)، وهو حديث ضعيف، ضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي (1/ 108) رقم (85)، وقال النووي في «المجموع» (7/ 6): اتفق الحفاظ على أنه ضعيف.
هُديت لسنة نبيك»
(1)
، ولا يقال إنه فسَّر وجدانهما مكتوبين بقوله: أهللت بهما؛ لأنه رتَّب الإهلال بهما على الوجدان، وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس).
(2)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها بالنصّ على وجوب الحج، ودلت بالاقتران بين الحج والعمرة على وجوب العمرة أيضاً؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب
(3)
، والله تعالى يقول:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ومعنى (أتموا) أقيموا الحج والعمرة لله، كقوله تعالى {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 96] أي: فأتموا الصلاة، ومقتضى الأمر الوجوب، ويدل له ما روى الشافعي عن ابن عباس أنه قال: والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
(4)
وما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت، قلت: يارسول الله على النساء جهاد، قال:«نعم عليهن جهاد لاقتال فيه الحج والعمرة»
(5)
(1)
أخرجه أبو داود في سننه برقم (1798)، (2/ 158)، وأخرجه أحمد في المسند برقم (169)، (1/ 304) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (6/ 55) برقم (1578).
(2)
السراج المنير (1/ 147).
(3)
ينظر: الإحكام للآمدي (2/ 146)، وإرشاد الفحول للشوكاني (1/ 249)، والمهذب في علم أصول الفقه المقارن لعبد الكريم النملة (3/ 1334)
(4)
رواه الشافعي في الأم (2/ 145)، وأخرجه البخاري في كتاب العمرة في أول باب وجوب العمرة وفضلها، (3/ 2)
(5)
رواه ابن ماجه في سننه، كتاب المناسك، باب: الحج جهاد النساء برقم 2901. (2/ 968)، والإمام أحمد في المسند برقم (25322)، (42/ 198)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (2/ 777)، (2534)، وقال النووي: إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم. اهـ. المجموع شرح المهذب (7/ 4)
فقوله: «عليهن» ظاهر في الوجوب، ثم قرَن الحج والعمرة فدلَّ على وجوب العمرة.
وفي حكم العمرة خلاف بين أهل العلم على قولين: الأول: وهو قول الحنفية
(1)
والمالكية
(2)
، أن العمرة سنة مؤكدة وليست واجبة.
والقول الثاني: قول الشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، أنها واجبة.
(5)
والذي يظهر والله تعالى أعلم أنها واجبة مع القدرة عليها في العمر مرة واحدة على الصحيح من أقوال أهل العلم
(6)
، وهو الأظهر عند الشافعية والمذهب عند الحنابلة.
قال النووي: (الحج هو فرض، وكذا العمرة في الأظهر).
(7)
وقد بوَّب البخاري فقال: (باب وجوب العمرة وفضلها).
(8)
(1)
ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 266)، وتبيين الحقائق للزيلعي (5/ 128)
(2)
ينظر: الفواكه الدواني (4/ 276)، ومواهب الجليل (6/ 495)
(3)
ينظر: الأم (2/ 144)
(4)
ينظر: المغني (6/ 271)، والإنصاف للمرداوي (6/ 68)
(5)
وبه قال عمر، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وطاوس، ومجاهد، وعطاء، وابن المسيب، وسعيد ابن جبير، والحسن البصري، والشعبي، والثوري، وأحمد، وإسحاق. ينظر: المغني (6/ 271)، والمجموع (7/ 7)
(6)
ينظر: المغني (5/ 13)، والمجموع (7/ 4)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (26/ 5)، والشرح الممتع لابن عثيمين (7/ 9)، وفتاوى اللجنة الدائمة (11/ 317)
(7)
منهاج الطالبين وعمدة المفتين في الفقه (1/ 82)
(8)
ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/ 433)، وفتح الباري لابن حجر (3/ 597).
وقال ابن باز
(1)
: (الصواب أن العمرة واجبة مرة في العمر كالحج).
(2)
وقال ابن عثيمين: (اختلف العلماء في العمرة، هل هي واجبة أو سنة؟ والذي يظهر أنها واجبة).
(3)
وممن استنبط دلالة هذه الآية على الوجوب موافقاً الخطيب: ابن الفرس
(4)
، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، والسعدي، وغيرهم.
(5)
قال القرطبي: (في هذه الآية دليل على وجوب العمرة، لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج).
(6)
(1)
هو عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن باز، علامة عصره، مفتي المملكة العربية السعودية، عُين رئيساً للجامعة الإسلامية، ورئيساً للمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي، وهيئة كبار العلماء، كان عف اللسان، متواضعاً، زاهداً في الدنيا، له:(الفوائد الجلية في المباحث الفرضية)، و (التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة) وغير ذلك، توفي سنة 1420 هـ. ينظر: الإيجاز في سيرة ومؤلفات ابن باز، لصالح الهويمل ص 14 وما بعدها، ومعجم الكتاب والمؤلفين في المملكة ص 13.
(2)
مجموع فتاوى ابن باز (16/ 355).
(3)
الشرح الممتع (7/ 9).
(4)
هو أبو محمد، عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم بن أحمد الأنصاري الخزرجي، ابن الفرس، برع في الفقه، والأصول، وبلغ الغاية فيه، له كتاب في أحكام القرآن، توفي سنة 597 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (21/ 364)
(5)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 234)، والتفسير الكبير (5/ 296)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 368)، وأنوار التنزيل (1/ 129)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 90).
(6)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 368)
وخالف بعض المفسرين في هذا، وقالوا بضعف دلالة هذه الآية على الوجوب كالجصاص، والزمخشري، وابن العربي، وابن جزي، وأبو السعود، والألوسي، وغيرهم.
(1)
قال ابن العربي: (وليس في هذه الآية حجة للوجوب؛ لأن الله سبحانه إنما قرنها بالحج في وجوب الإتمام لا في الابتداء، فإنه ابتدأ إيجاب الصلاة والزكاة، فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وابتدأ بإيجاب الحج فقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها، فلو حج عشر حِجج أو اعتمر عشر عُمَر لزمه الإتمام في جميعها، وإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء).
(2)
وقال الألوسي: (لا دلالة في الآية على أكثر من وجوب الإتمام بعد الشروع فيهما، وهو متفق عليه بين الحنفية والشافعية؛ فإن إفساد الحج والعمرة مطلقاً يوجب المضي في بقية الأفعال والقضاء، ولا تدل على وجوب الأصل، والقول بالدلالة بناء على أن الأمر بالإتمام مطلقاً يستلزم الأمر بالأداء، لما تقرر من أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب ليس بشيء).
(3)
(1)
أحكام القرآن للجصاص (1/ 329)، والكشاف (1/ 238)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 169)، والتسهيل لعلوم التنزيل (1/ 113)، وإرشاد العقل السليم (1/ 205)، وروح المعاني (1/ 475).
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 169).
(3)
قال: لأن الأمر بالإتمام يقتضي سابقية الشروع فيكون الأمر بالإتمام مقيداً بالشروع، وادعاء أن المعنى ائتوا بهما حال كونهما تامين مستجمعي الشرائط والأركان، وهذا يدل على وجوبهما لأن الأمر ظاهر فيه، ليس بسديد. «أما أولا» فلأنه خلاف الظاهر وبتقدير قبوله في مقام الاستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجهاً إلى القيد- أعني تامين- لا إلى أصل الإتيان، «وأما ثانياً» فلأن الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازي المشترك بين الواجب والمندوب- أعني طلب الفعل- والقرينة على ذلك الأحاديث الدالة على استحباب العمرة. ينظر: روح المعاني (1/ 475) بتصرف.
والذي يظهر والله تعالى أعلم ضعف دلالة هذه الآية على وجوب العمرة كما استنبطه الخطيب؛ فإن الأمر بإتمام فعل من الأفعال ليس أمراً بأصله، ولا مستلزماً له أصلاً، فليس فيه دليل على وجوب العمرة، وإن كان القول بوجوبها في العمر مرة هو الصحيح -كما تقدم - وعليه فالقول بأن الأمر في الآية بإتمامهما أمرٌ بإنشائهما تامين، وأن الأمر للوجوب ما لم يدل على خلافه دليل، قول ضعيف؛ كما أن الآية نزلت في أهل الحديبية وهم خرجوا محرمين بالعمرة، ثم حُصروا، فأوجب عليهم إتمام العمرة.
(1)
وكلام الشيخ بن عثيمين يؤيده حيث قال: (قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أي ائتوا بهما تامتين؛ وهذا يشمل كمال الأفعال في الزمن المحدد، وكذلك صفة الحج والعمرة أن تكون موافقة تمام الموافقة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم به)
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: إرشاد العقل السليم لأبي السعود (1/ 205)
(2)
تفسير العثيمين: سورة البقرة (2/ 392)
من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه.
قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فيه دليل على أنّ من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه بالحج، وهو قول ابن عباس وجماعة من الصحابة
(1)
، وإليه ذهب الأوزاعي
(2)
، والشافعيّ، وقال: ينعقد إحرامه عمرة
(3)
؛ لأنّ الله تعالى خصَّ هذه الأشهر بفرض الحج فيها، فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص فائدة، كما أنه تعالى علَّق الصلاة بالمواقيت، ثم من أحرم بفرض الصلاة قبل دخول وقته لم ينعقد إحرامه عن الفرض، وإنما انعقد عمرة لأنّ الإحرام شديد التعلق).
(4)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية استنباطاً فقهياً بدلالة مفهوم المخالفة وهو أنّ من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه؛ لأن الله تعالى خصَّ هذه الأشهر بفريضة الحج فيها، فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص وجه؛ فجعل تعالى
(1)
قاله ابن عباس، وجابر، وعطاء، وطاوس ومجاهد، وإليه ذهب الأوزاعي، والشافعي. ينظر: معالم التنزيل للبغوي (1/ 251)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 230).
(2)
هو عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي أبو عمرو، مشهور باسمه وكنيته، إمام أهل الشام في وقته، كان ثقة مأموناً كثير الحديث والعلم والفقه، توفي سنة 157 هـ. ينظر: طبقات الحفاظ للسيوطي ص 93، وشذرات الذهب 1/ 393.
(3)
ينظر: المهذب (1/ 367)، والمجموع (7/ 140)، وفتح العزيز بشرح الوجيز للرافعي (7/ 77).
(4)
السراج المنير (1/ 147).
ترتيب أحكام الإحرام في هذه الآية على من فرضه في أشهر الحج، فدلَّ على أن أحكام الإحرام لا تترتب على من فرضه في غير أشهره، وإذا لم تترتب الأحكام فمعنى ذلك أنه لم يصح الإحرام
(1)
; ويدل له أيضاً أن الإحرام نسك من مناسك الحج، فكان مؤقتاً، كالوقوف والطواف.
(2)
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: البغوي، والقرطبي، والخازن، والشوكاني، والشنقيطي، وابن عثيمين، وغيرهم.
(3)
وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء، فذهب الشافعي وغيره أن من أحرم بالحج قبل أشهره لم يُجزه ذلك ويكون عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة.
(4)
واستدلوا بأن آية الأهلة مجملة، وآية أشهر الحج مبينة لأشهر الحج فيحمل المجمل على المبين، وبما ورد من آثار صحيحة عن الصحابة
(5)
تدل بمجموعها على أن أشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، أو العشرة الأوائل منه، على الخلاف المشهور، وأن الإحرام قبل ميقاته الزمني خلاف السنة، وإلا فما الفائدة من تحديد أشهر للحج؟
(1)
ينظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين (21/ 382)
(2)
ينظر: المهذب للشيرازي (1/ 367).
(3)
ينظر: معالم التنزيل (1/ 251)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 406)، ولباب التأويل (1/ 129)، وفتح القدير (1/ 230)، وأضواء البيان (4/ 498)، وتفسير العثيمين: سورة البقرة (2/ 417).
(4)
تقدم توثيقه وهي رواية عن أحمد.
(5)
ينظر: جامع البيان للطبري (4/ 120)، والنكت والعيون للماوردي (1/ 259).
كما استدلوا أيضاً بأن الأصل هو إيقاع العبادات في وقتها، فإذا أوقعت العبادة في غير وقتها فكأنها لم تقع، لأنها مبنية على التوقيف حتى لا يعبد الله إلا بما شرع، كإيقاع الصلاة المكتوبة في غير وقتها فإنه لا يصح ولا تجزئ عن الواجب.
وذهب أبو حنيفة، ومالك
(1)
، وأحمد بن حنبل
(2)
أنه يصح الإحرام بالحج وينعقد قبل أشهر الحج، لكن مع الكراهة. ومن جملة ما استدلوا به قوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، ووجه الدلالة: أن معنى الآية: الحج (حج) أشهر معلومات، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها، وقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] قالوا: كما صح الإحرام للعمرة في جميع السنة، كذلك يجوز للحج.
قال القرطبي مُرجحاً قول الشافعي وأصحابه: (وما ذهب إليه الشافعي أصح، لأن تلك عامة، وهذه الآية خاصة).
(3)
وكما هو معلوم أن الخاص يقدم على العام، وقد اختار الشوكاني مذهب الشافعي، ورجَّحه لموافقته ظاهر النص.
(4)
(1)
ينظر: البحر الرائق لابن نجيم (2/ 343)، وحاشية ابن عابدين (2/ 535)، وينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني لابن مازه (2/ 460)، والذخيرة للقرافي (3/ 204)، ومواهب الجليل للرعيني (3/ 20)
(2)
ينظر: الإنصاف للمرداوي (3/ 305)، وكشاف القناع للبهوتي (2/ 405)، وشرح عمدة الفقه لابن تيمية (2/ 388)، وهو اختيار الشيخ ابن باز رحمه الله. ينظر: اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية لخالد آل حامد (2/ 946).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 406).
(4)
ينظر: فتح القدير (1/ 230).
واستدلوا كذلك بأن التوقيت ضربان: توقيت مكان وزمان، وقد ثبت أنه لو تقدم إحرامه على ميقات المكان صح، فكذا لو تقدم على ميقات الزمان.
وأنكر الشنقيطي أدلتهم قائلاً: (ومن العجيب عندي أن يُستدل بمثل هذه الأدلة التي هي في غاية السقوط كما ترى ; لأن آية: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ليس معناها: أن كل شهر منها ميقات للحج، ولكن أشهر الحج إنما تُعلم بحساب جميع الأشهر؛ لأنه هو الذي يتميز به وقت الحج من غيره، ولأن هذه الأدلة التي لا يُعول عليها في مقابلة آية محكمة من كتاب الله، صريحة في توقيت الحج بأشهر معلومات، هي قوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، فتجاهل هذا النص القرآني، ومعارضته بما رأيت، من الغريب كما ترى.
والتحقيق الذي يدل عليه القرآن هو قول من قال: إن الحج لا ينعقد في غير زمنه، كما أن الصلاة المكتوبة لا ينعقد إحرامها قبل وقتها، وانقلاب إحرامه عمرة له وجه من النظر، ويستأنس له بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه المحرمين بالحج الذين لم يسوقوا هديا أن يقلبوا حجهم الذي أحرموا به عمرة، وبأن من فاته الحج تحلّل من إحرامه للحج بعمرة، والعلم عند الله تعالى).
(1)
والراجح - والله تعالى أعلم- أنه لا ينعقد الإحرام بالحج قبل أشهره بدلالة هذه الآية وينعقد عمرة مجزئة، وهو ماذهب إليه الشافعي ومن وافقه؛ لوجاهة أدلتهم وضعف أدلة المخالفين؛ ولأنه إذا لم ينعقد حجاً ولا سبيل إلى بطلان الإحرام انعقد عمرة، كمن أحرم بالفرض قبل وقته، فإنه ينعقد نفلاً. ولأن العمرة هي الحج الأصغر، فإذا لم ينعقد الحج الأكبر لكونه قبل وقته، انعقد الحج
(1)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 499)
الأصغر لكونه وقتاً له، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبَّك بين أصابعه» .
(1)
وهذا الذي رجحه القرطبي، والشوكاني، والشنقيطي، وابن عثيمين وغيرهم.
(2)
قال الشيخ ابن عثيمين موافقاً الخطيب في هذا الاستنباط: (ومذهب الشافعي أقرب إلى ظاهر الآية الكريمة: أنه إذا أحرم بالحج قبل أشهره لا ينعقد حجاً.)
(3)
، والله تعالى أعلم
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم برقم (1218)، (2/ 888)
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 406)، وفتح القدير (1/ 230)، وأضواء البيان (4/ 498)، وتفسير سورة البقرة للعثيمين (2/ 417)
(3)
تفسير العثيمين (2/ 417)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (21/ 382)
وجوب الوقوف بعرفة.
قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (في الآية دليل على وجوب الوقوف بعرفة؛ لأنّ «إذا» تدل على أنّ المذكور بعدها محقق لا بدّ منه، فكأنه قيل: بعد إفاضتكم من عرفات التي لا بدّ منها اذكروا الله، والإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف بها، فوجب أن يكون الوقوف بها واجباً).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب حكم الوقوف بعرفات وأنه واجب بدلالة النصّ في الآية، لأن الإفاضة لا تكون إلا بعد وقوف
(2)
؛ حيث دلَّت الآية على ذكر الله عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات، والإفاضة من عرفات لا تتصور إلا بعد الحصول بعرفات، وهي مأمور بها بقوله تعالى {ثُمَّ أَفِيضُوا} ، موقوفة على الوقوف بعرفات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
(3)
، فيكون الوقوف واجباً.
(4)
قال تعالى بعدها {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] والناس كانوا يفيضون من عرفات، وإفاضتهم منها لا تكون إلا بعد حصولهم فيها، فكان
(1)
السراج المنير (1/ 151)
(2)
ينظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 272)
(3)
ينظر: العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى (2/ 419)، وروضة الناظر لابن قدامة (1/ 118)
(4)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (5/ 328)، وروح البيان لحقي (1/ 317)
الأمر بالإفاضة منها أمراً بالوقوف بها ضرورة.
(1)
وممن وافق الخطيب في استنباط هذه الدلالة من الآية: الزجاج، والزمخشري، والرازي، والبيضاوي، والنسفي، والنيسابوري، وأبو السعود، وحقي، والشوكاني، والسعدي، وابن عثيمين، وغيرهم.
(2)
قال الزجاج: (دلَّ بهذا اللفظ أن الوقوف بها واجب؛ لأن الإفاضة لا تكون إلا بعد وقوف).
(3)
وذكر السعدي هذه الدلالة من جملة استنباطاته من هذه الآية فقال: (في قوله:
{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} دلالة على أمور: أحدها: الوقوف بعرفة، وأنه كان معروفاً أنه ركن من أركان الحج، فالإفاضة من عرفات، لا تكون إلا بعد الوقوف).
(4)
وخالف أبو حيان فضعَّف دلالة هذه الآية على الوجوب وقال: (قيل: فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة، لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده. انتهى هذا القول، ولا يظهر من هذا الشرط الوجوب، إنما يعلم منه الحصول في عرفة،
(1)
ينظر: بدائع الصنائع للكاساني (2/ 125)
(2)
ينظر: معاني القرآن وإعرابه (1/ 272)، والكشاف (1/ 246)، والتفسير الكبير (5/ 328)، وأنوار التنزيل (1/ 131)، ومدارك التنزيل (1/ 170)، وغرائب القرآن (1/ 561)، وإرشاد العقل السليم (1/ 208)، وروح البيان (1/ 317)، وفتح القدير (1/ 232)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 92)، وتفسير العثيمين (2/ 425)
(3)
معاني القرآن وإعرابه (1/ 272)
(4)
تيسير الكريم الرحمن (1/ 92).
والوقوف بها، فهل ذلك على سبيل الوجوب أو الندب؟ لا دليل في الآية على ذلك، لكن السنة الثابتة والإجماع يدلان على ذلك).
(1)
والذي يظهر - والله تعالى أعلم- أن الإفاضة لا تكون إلا بعد وقوف يستلزمه هذا الشرط {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} ، وهو على الأظهر يدل على الوجوب.
قال الرازي رداً على قول المخالف: (الصحيح أن الآية تدل على أن الحصول بعرفة واجب في الحج، وذلك أن الآية دالة على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام عند الإفاضة من عرفات، والإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب، فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج، فإذا لم يأت به فلم يكن آتياً بالحج المأمور به).
(2)
والذي عليه جمهور أهل العلم وجوب الوقوف بعرفة وأنه ركنٌ من أركان الحج، لا يصح الحج إلا به، فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
البحر المحيط (2/ 294).
(2)
التفسير الكبير (5/ 328)
(3)
ينظر: المبسوط للسرخسي (4/ 19)، وبدائع الصنائع للكاساني (2/ 125)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 112)، وعمدة الفقه لابن قدامة (1/ 50)، والشرح الممتع لابن عثيمين (7/ 382).
وحكى الإجماع على كون الوقوف ركناً في الحج ابن عبد البر، وابن قدامة، وابن المنذر. ينظر: الإجماع لابن عبد البر ص 168، والمغني (3/ 368)، والإجماع لابن المنذر (1/ 57)
الزوجة لا تطلق بعد مضيّ المدّة ما لم يطلقها زوجها.
قال الله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} أي: صَمّموا عليه بأن لم يفيئوا فليوقعوه، {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لقولهم {عَلِيمٌ} بعزمهم أي: ليس لهم بعد تربص ما ذُكر إلا الفيئة أو الطلاق، ففيه دليل على أنها لا تطلق بعد مضيّ المدّة ما لم يطلقها زوجها؛ لأنه شرط فيه العزم وقال: فإنّ الله سميع، فدلَّ على أنه يقتضي مسموعا).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية بدلالة مفهوم المخالفة (مفهوم الشرط) أن الزوجة لا تطلق بعد مضيّ المدّة ما لم يطلقها زوجها، ولو وقع بمضي المدة لم يحتج إلى عزم عليه؛ لأنه شرط فيه العزم بقوله:{عَزَمُوا الطَّلَاقَ} ، والعزم على فعل الشيء ليس فعلاً للشيء، ويدل له: قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، حيث دلَّ على أنه يقتضي وقوع الطلاق على وجه يُسمع، وهو وقوعه باللفظ لا بانقضاء المدة، فدلَّ على أن الفُرقة لا تقع بمضي الأربعة الأشهر من غير قول
(2)
، وأن عزيمة الطلاق بما هو مسموع، وذلك بإيقاع الطلاق أو تفريق القاضي.
(3)
(1)
السراج المنير (1/ 168)
(2)
ينظر: البحر المحيط لأبي حيان (2/ 450).
(3)
ينظر: المبسوط للسرخسي (7/ 20)، وبداية المجتهد لابن رشد (3/ 119).
وممن استنبط هذا الحكم بدلالة هذه الآية موافقاً الخطيب: البغوي، وابن العربي، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، وابن عاشور، وغيرهم.
(1)
(2)
وهنا مسألة شديدة الوثوق بعزيمة الطلاق كما دلت عليها الآية وهي:
هل تطلق الزوجة بانقضاء المدة؟ أم يقفه القاضي، فإما فاء أو طلَّق؟
فذهب الجمهور
(3)
إلى أنه يقفه بعد انقضاء الأربعة الأشهر فإما فاء وإما طلَّق، ولا تطلق زوجته بنفس مضي المدة.
(4)
(1)
ينظر: معالم التنزيل (1/ 298)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 247)، والتفسير الكبير (6/ 431)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 111)، والبحر المحيط في التفسير (2/ 450):، وتفسير القرآن العظيم (1/ 605)، وفتح القدير (1/ 267)، والتحرير والتنوير (2/ 387).
(2)
البحر المحيط في التفسير (2/ 450).
(3)
وهم المالكية والشافعية والحنابلة، ينظر قولهم وتفصيل أدلتهم في: بداية المجتهد (3/ 118)، والأم (5/ 282)، والمغني (7/ 553)
(4)
وبه قال ابن عمر وعائشة، وسعيد بن المسيب وعروة ومجاهد وطاووس، وروي عن أبي الدرداء، وقال سهيل بن أبي صالح:(سألت اثني عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يقول: ليس عليه شيء حتى يمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلاطلق). ينظر: الجامع لأحكام القرآن (3/ 111).
وذهب الحنفية إلى أن الطلاق يقع بعد مضي المدة من غير فيء؛ لأنه بالإيلاء عزَم على منع نفسه من إيفاء حقها في الجماع في المدة، وأكَّد العزم باليمين، فإذا مضت المدة، ولم يفيء إليها مع القدرة على الفيء، فقد حقق العزم المؤكد باليمين بالفعل، فتأكد الظلم في حقها، فتبِين منه عقوبة له جزاء على ظلمه ومرحمة عليها، ولا يوقف.
(1)
والراجح أنه لا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة، وهو ما عليه الجمهور بدلالة هذه الآية، لأن الإيلاء ليس بطلاق، فإذا تمت المدة ولم تحصل المراجعة فيها، يُلزمه القاضي بالطلاق إذا أبى المراجعة.
قال ابن قدامة
(2)
مؤيداً قول الجمهور: (قال تعالى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ولو وقع بمضي المدة، لم يحتج إلى عزم عليه، وقوله {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقتضي أن الطلاق مسموع، ولا يكون المسموع إلا كلاماً، ولأنها مدة ضُربت له تأجيلاً، فلم يستحق المطالبة فيها، كسائر الآجال).
(3)
(1)
ينظر: المبسوط (7/ 20)، وبدائع الصنائع (3/ 176)
(2)
هو عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي، موفق الدين المقدسي، أبو محمد، أحد الأئمة الأعلام، صاحب التصانيف، انتهى إليه معرفة المذهب الحنبلي وأصوله، كان زاهداً ورعاً كثير الحياء، من أشهر مصنفاته:(المغني) في الفقه، و (الروضة) في أصول الفقه وغيرها، توفي سنة 620 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (22/ 165)، وشذرات الذهب (5/ 179).
(3)
المغني (7/ 553).
وقال القرطبي: (في قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} دليل على أنها لا تطلق بمضي مدة أربعة أشهر، كما قال مالك، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضا فإنه قال:
…
«سميع» ، و «سميع» يقتضي مسموعاً بعد المضي، وقال أبو حنيفة:«سميع» لإيلائه، «عليم» بعزمه الذي دلَّ عليه مضي أربعة أشهر).
(1)
وخالف في دلالة هذه الآية الألوسي فقال: ( .. {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} حيث اكتفى بمجرد العزم بخلاف ما قالته الشافعية من أنه يحتاج إلى الطلاق بعد مضي المدة فإنه يحتاج إلى التقدير، وبعده لا يحتاج إلى {عَزَمُوا} أو يحتاج إلى جعل «عزم الطلاق» كناية عنه، فما قيل من أن الآية بصريحها مع الشافعي ليس في محله .. ).
(2)
والذي يظهر هو ما عليه الجمهور كما نصًّ عله الخطيب، وأن دلالة هذه الآية معتبرة في عزم الطلاق، وأن مضي المدة لا يوقع فُرقة؛ إذ لا بد من مراعاة قصده واعتبار عزمه. والله تعالى أعلم.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 111).
(2)
روح المعاني (1/ 523).
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (ظاهر الآية يدلّ على أنّ الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق، ولا بجميع ما ساق الزوج إليها فضلاً عن الزائد، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه البيهقيّ
(1)
: «أيّما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأس، أي: ضرر
فحرام عليها رائحة الجنة»
(2)
، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لجميلة
(3)
(4)
).
(5)
هذه الآية فيها دلالتان، الأولى:
(1)
هو أحمد بن الحسين بن علي الخراساني البيهقي، أبو بكر، الحافظ العلامة، صاحب التصانيف، له (السنن الكبرى والصغرى)، و (شعب الإيمان)، و (دلائل النبوة) وغيرها، توفي سنة 458 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (1/ 75)، وسير أعلام النبلاء (18/ 163)، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص 452.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (5/ 277)، برقم (22738)، وأبو داود في سننه، كتاب الطلاق، باب: في الخلع، برقم (2226)، (2/ 268)، والترمذي في كتاب الطلاق واللعان، باب: ما جاء في المختلعات، برقم (1187)، (3/ 485)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (14860)، (7/ 517)، والحاكم في المستدرك (2/ 200) قال: حديث صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/ 17).
(3)
هي جميلة بنت أُبي الخزرجية، أخت عبد اللَّه بن أبيّ ابن سلول، زوجة ثابت بن قيس بن شماس، روى عنها ابن عبّاس، وعبد اللَّه بن رباح. ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 66)، والثقات لابن حبان (3/ 66)
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الطلاق باب الخلع وكيف الطلاق فيه برقم (5273)، (7/ 46).
(5)
السراج المنير (1/ 168).
عدم جواز الخلع من غير كراهة وشقاق.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية بدلالة النَّص أنّ الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق، لأن الله تعالى نفى الحل بقوله:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229]، وهذا صريح في التحريم إذا لم يخافا ألا يقيما حدود الله؛ إذ نفي الحل الذي هو حكم العقد في جميع الأحوال إلا حال الشقاق يدل على فساد العقد وعدم جوازه
(1)
.
ويؤكده قوله تعالى بعدها: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فدلَّ بمفهومه على أن الجناح لاحق بهما إذا افتدت من غير خوف، ثم غلَّظ بالوعيد فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» - وقد تقدم - وهذا يدل على تحريم المخالعة لغير حاجة؛ لأنه إضرار بها وبزوجها، وإزالة لمصالح النكاح من غير حاجة.
(2)
وممن استنبط عدم جواز الخلع من غير كراهة مستدلاً بالآية: الرازي، والبيضاوي، وأبو حيان، والسيوطي، والألوسي، وابن عاشور، وابن عثيمين، وغيرهم.
(3)
(1)
ينظر: روح المعاني للألوسي (1/ 534)
(2)
ينظر: المغني لابن قدامة (7/ 326)
(3)
ينظر: التفسير الكبير (6/ 445)، وأنوار التنزيل (1/ 142)، والبحر المحيط (2/ 474)، والإكليل (1/ 56)، وروح المعاني (1/ 534)، والتحرير والتنوير (2/ 411)، وتفسير العثيمين (3/ 112).
والخلاف في هذه الآية، يرجع إلى الاستثناء في قوله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَخَافَا} هل هو استثناء متصل أو منقطع، وفائدة هذا الخلاف تظهر في هذه المسألة الفقهية وهي جواز الخلع في حال الغضب أو عدمه، فالجمهور على جواز الخلع في غير حالة الخوف والغضب
(1)
، وقال بعضهم بعدم جوازه إلا عند الغضب، والخوف من أن لا يقيما حدود الله
(2)
، فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد.
وضعّف القرطبي دلالة هذه الآية مخالفاً الخطيب وغيره فقال: (والذي عليه الجمهور من الفقهاء أنه يجوز الخلع من غير اشتكاء ضرر، كما دل عليه حديث البخاري وغيره
(3)
. وأما الآية فلا حجة فيها، لأن الله عز وجل لم يذكرها على جهة الشرط، وإنما ذكرها لأنه الغالب من أحوال الخلع، فخرج القول على الغالب، والذي يقطع العذر ويوجب العلم قوله تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]).
(4)
(1)
وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية ينظر: العناية شرح الهداية للبابرتي الحنفي (4/ 217) وحاشية الصاوي على الشرح الصغير (2/ 517)، والحاوي الكبير للماوردي (10/ 7)، والبيان في مذهب الإمام الشافعي لأبي حسين العمراني (10/ 8)، وينظر: تفسير السمعاني (1/ 233).
(2)
وهو قول الزهري والنخعي وداود. ينظر: جامع البيان (4/ 564) والنكت والعيون (1/ 295)
(3)
أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم:«أتردين عليه حديقته، قالت نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» .
(4)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 140)
فالجمهور على خلاف دلالة الآية كما استنبطها الخطيب، قالوا بجواز الخلع من غير نشوز ولا غضب، غير أنه يُكره لما فيه من قطع الصلة بلا سبب، وذهب الإمام أحمد وغيره إلى كراهية الخلع من غير نشوز وأنه لا يجوز.
(1)
ورجَّح دلالة هذه الآية ابن عاشور مخالفاً القرطبي والجمهور فقال: (والحق أن الآية صريحة في تحريم أخذ العوض عن الطلاق إلا إذا خيف فساد المعاشرة بألا تحب المرأة زوجها .. - ثم قال-: وأجاب الجمهور بأن الآية لم تذكر قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} على وجه الشرط بل لأنه الغالب من أحوال الخلع، ألا يرى قوله تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] هكذا أجاب المالكية كما في «أحكام ابن العربي» ، و «تفسير القرطبي»
(2)
. وعندي أنه جواب باطل، ومُتمسك بلا طائل، أما إنكار كون الوارد في هاته الآية شرطاً، فهو تعسف وصرف للكلام عن وجهه، كيف وقد دلَّ بثلاثة منطوقات وبمفهومين وذلك قوله:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} فهذا نكرة في سياق النفي، أي لا يحل أخذ أقل شيء، وقوله:{إِلَّا أَنْ يَخَافَا} ففيه منطوق ومفهوم، وقوله:{فَإِنْ خِفْتُمْ} ففيه كذلك، ثم إن المفهوم الذي يجيء مجيء الغالب هو مفهوم القيود التوابع كالصفة والحال والغاية، دون ما لا يقع في الكلام إلا لقصد الاحتراز، كالاستثناء والشرط. وأما الاحتجاج للجواز بقوله:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} ، فمورده في عفو المرأة عن بعض الصداق، فإن ضمير {مِنْهُ} عائد إلى الصدقات، لأن أول الآية {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ} [النساء: 4] الآية، فهو إرشاد لما يعرض في حال العصمة مما يزيد الألفة، فلا تعارض بين الآيتين، ولو سلَّمنا التعارض لكان يجب على الناظر
(1)
ينظر: المغني (7/ 326) وهو اختيار ابن المنذر.
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 263) الجامع لأحكام القرآن (3/ 140).
سلوك الجمع بين الآيتين أو الترجيح.
(1)
ولعل الراجح والله تعالى أعلم هو أن الأصل في الخُلْع الكراهة وأنه لا يجوز، إلا أن يخافا ألا يقيما حدودَ الله كما هي دلالة الآية ونصَّ عليها الخطيب، أما القول بجوازه على الإطلاق متى ما شاءت الزوجة، ودونما إثم، فالقول به ينافي مقصد الإسلام من النكاح، ويجعله عُرضةً للأهواء والرغبات العارضة، إذ أن نفي الجناح لم يرِد في هذه الآية بإطلاق، وإنما ورَد مقيَّدًا بالخوف ألا يقيما حدود الله، وعليه فمتى كان الخوف من إضاعة حدود الله، أو التقصير فيها جاز الخلع
(2)
، والله تعالى أعلم.
الدلالة الثانية:
لا يجوز الخلع بجميع الصداق فضلاً عن الزائد.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أن الخلع لا يجوز بجميع ما ساق الزوج فضلاً عن الزائد، لأن «مِن» في قوله {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} تبعيضية فيكون مفاد الاستثناء في:{إِلَّا أَنْ يَخَافَا} حِل أخذ شيء مما آتيتموهن حين الخوف، ولأنه تعالى قال:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} ثم قال بعد ذلك: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فوجب أن يكون هذا راجعاً إلى ما آتاها، وإذا كان كذلك لم يدخل في إباحة الله إلا قدر ما آتاها من المهر لا أكثر.
(3)
(1)
التحرير والتنوير (2/ 411).
(2)
ينظر: الشرح الكبير على متن المقنع (8/ 176)، ومختصر الإنصاف والشرح الكبير للشيخ محمد بن عبد الوهاب (1/ 684).
(3)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (6/ 446)
وقد نصَّ على عدم الجواز مؤيداً قول الخطيب: البيضاوي، والألوسي، وابن عاشور، وغيرهم.
(1)
واستدل أصحاب هذا القول
(2)
بأن جميلة لما طُلب منها أن ترد على زوجها حديقته، فقالت وأزيده، فقال صلى الله عليه وسلم:«أما الزيادة فلا»
(3)
، ولو كان الخلع بالزائد جائزاً لما منعها صلى الله عليه وسلم منه.
وجمهور العلماء على خلاف هذا، وأنه يجوز أن تفتدي منه بما تراضيا عليه، كان أقل مما أعطاها أو أكثر منه، بدلالة عموم قوله تعالى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقالوا: الخلع عقد معاوضة، فوجب أن لا يتقيد بمقدار معين، لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج، وبغضه، وكراهته، ويتأكد هذا بما روي أن عمر رضي الله عنه رفعت إليه امرأة ناشز أمرها، فأخذها عمر وحبسها في بيت الزبل
(4)
ليلتين، ثم قال لها: كيف حالك؟ فقالت: ما بت أطيب من هاتين الليلتين، فقال عمر: اخلعها
ولو بقرطها
(5)
.
(6)
(1)
أنوار التنزيل (1/ 142)، وروح المعاني (1/ 534)، والتحرير والتنوير (2/ 412).
(2)
وهو قول علي والشعبي وعطاء وطاووس وسعيد بن المسيب والأوزاعي، ورواية عن الإمام أحمد وإسحاق. ينظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه (4/ 1971)، والمغني (7/ 325)، والإنصاف للمرداوي (8/ 393)، والعدة شرح العمدة لبهاء الدين المقدسي (1/ 437).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
الزِبْلُ بالكسر: السِرْجينُ، وموضعه: مَزْبَلَةٌ ومَزْبِلةٌ أيضاً. ينظر: تهذيب اللغة (13/ 148)، والصحاح (4/ 1715) مادة (زبل).
(5)
الأثر أخرجه الطبري عن قتادة، عن حميد بن عبد الرحمن. ينظر: جامع البيان (4/ 576)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 617).
(6)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (6/ 446)
وهذا ما ذهب إليه المالكية والشافعية
(1)
، وذهب الحنابلة إلى أن الزوج لا يستحب له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، بل يحرم عليه الأخذ إن عضلها ليضطرها إلى الفداء.
(2)
وفصَّل الحنفية القول في ذلك فقالوا: إن كان النشوز من جهة الزوج كُره له كراهة تحريم أخذ شيء منها، لقوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، وإن كان النشوز من قبل المرأة لا يكره له الأخذ، ويتناول القليل والكثير، وإن كان أكثر مما أعطاها.
(3)
قال مالك: لم أزل أسمع إجازة الفداء بأكثر من الصداق.
(4)
والذي يظهر والله تعالى أعلم ضعف دلالة هذه الآية على عدم جواز الفداء بأكثر من الصداق، والراجح قول جمهور أهل العلم بجواز الخلع على الكثير والقليل لعموم هذه الآية، فكل ما تم الاتفاق عليه قلَّ أو كثر جائز أن يكون عوضاً في الخلع.
قال الشنقيطي موافقاً قول الجمهور: (ظاهر هذه الآية الكريمة أن الخلع يجوز بأكثر من الصداق ; وذلك لأنه تعالى عبَّر بما الموصولة في قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
(1)
ينظر: الشرح الكبير للدردير (3/ 230)، والتمهيد لابن عبد البر (1/ 198)، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي (5/ 64)
(2)
ينظر: المغني (7/ 325)، والإنصاف للمرداوي (8/ 393)، والعدة شرح العمدة للمقدسي (1/ 437)
(3)
ينظر: المبسوط للسرخسيي (1/ 793)، والهداية شرح البداية (1/ 395)
(4)
ينظر: التمهيد لابن عبد البر (1/ 198).
افْتَدَتْ بِهِ} وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم
(1)
; لأنها تعم كل ما تشمله صلاتها).
(2)
ونصُّ الحديث في قصة جميلة جاء بروايات فيها الزيادة
(3)
، وهذا يدل على جواز الخلع بجميع ما أعطاها، وعموم القرآن يدل على جوازه بأكثر من ذلك، فكل ما كان
(1)
ينظر: البحر المحيط للزركشي (4/ 112)، وإرشاد الفحول للشوكاني (1/ 305).
(2)
أضواء البيان (1/ 143)، وينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 265).
(3)
روى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري في مخالعة الأنصاري لأخته: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «تردين عليه حديقته ويطلقك؟ قالت: نعم، وأزيده. قال: ردي عليه حديقته وزيديه.» . ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 265)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 141).
فداء فجائز على الإطلاق
(1)
، والله تعالى أعلم.
عدم صحة تزويج المرأة نفسها.
قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (في الآية دليل على أنّ المرأة لا تزوّج نفسها، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الوليّ فائدة، ولا يعارض ذلك بإسناد النكاح إليهنّ؛ لأنه إنما أُسند إليهن لتوقف النكاح على إذنهنّ).
(2)
وجه الاستنباط:
قوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} يدل على أنه لا بد من الولي في النكاح، لأنه نهى الأولياء عن العضل، ولا ينهاهم إلا عن أمر، هو تحت تدبيرهم ولهم فيه حق.
(3)
الدراسة:
استنبط الخطيب من إشارة الآية دلالتها باللازم على اعتبار الولاية للمرأة في النكاح، وأنها لا تلي عقد النكاح بنفسها، إذ لو كانت تملك ذلك لم يكن هناك عضل، ولا لنهي الولي عن العضل معنى
(4)
، وهذا هو مذهب أحمد والشافعي
(1)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 265)، وينظر: فتاوى هيئة كبار العلماء (1/ 652).
(2)
السراج المنير 1/ 172.
(3)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي 1/ 104.
(4)
ينظر: معالم التنزيل (1/ 312)، والتحرير والتنوير (2/ 427).
ومالك وجمهور فقهاء الإسلام
(1)
، وشذَّ أبو حنيفة في المشهور عنه فلم يشترط الولاية في النكاح.
(2)
ووجه الدلالة في هذه الآية على أن الخطاب للأولياء
(3)
، وهذا الذي عليه أكثر المفسرين
(4)
، لأنه لو كان للمرأة أن تتزوج بنفسها أو توكل من يزوجها لما كان الولي قادراً على عضلها من النكاح، ولو لم يقدر الولي على هذا العضل لما نهاه الله عز وجل عنه، فيكون دليلاً على أن المرأة لا تزوج نفسها، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولي معنى.
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: البغوي، وابن عطية، والقرطبي، والبيضاوي، وابن عاشور، والسعدي، وغيرهم.
(5)
وقد تمسَّك الإمام الشافعي بهذه الآية في بيان أن النكاح بغير ولي لا يجوز، فقال:(وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقا، وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح بالمعروف).
(6)
(1)
ينظر: المغني (7/ 7)، والكافي في فقه الإمام أحمد (3/ 9)، والأم (5/ 13)، والمدونة (2/ 106).
(2)
ينظر المبسوط للسرخسي 5/ 11، وبدائع الصنائع للكاساني (2/ 247).
(3)
قال بعض المفسرين: الخطاب من أول الآيات هو مع الأزواج، ولم يجر للأولياء ذكر. ينظر: التفسير الكبير للرازي (6/ 455)، والبحر المحيط لأبي حيان (2/ 493)
(4)
ينظر: معالم التنزيل (1/ 312)، والمحرر الوجيز (1/ 310)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 159)، وأنوار التنزيل (1/ 144)، والتحرير والتنوير (2/ 427)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 104).
(5)
المرجع السابق.
(6)
الأم (5/ 154).
وقال: (فإن شُبِّه على أحد أن مبتدأ الآية على ذكر الأزواج، ففي الآية دلالة على أنه إنما نهى عن العضل الأولياء؛ لأن الزوج إذا طلّق فبلغت المرأة الأجل، فهو أبعد الناس منها فكيف يعضلها من لا سبيل ولا شرك له في أن يعضلها في بعضها؟ فإن قال قائل قد تحتمل إذا قاربن بلوغ أجلهن؛ لأن الله عز وجل يقول للأزواج {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، فالآية تدل على أنه لم يُرد بها هذا المعنى وأنها لا تحتمله؛ لأنها إذا قاربت بلوغ أجلها، أو لم تبلغه فقد حظر الله تعالى عليها أن تنكح، لقول الله عز وجل {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، فلا يأمر بأن لا يمنع من النكاح من قد منعها منه، إنما يأمر بأن لا يمتنع مما أباح لها من هو سبب من منعها.)
(1)
وقد جاءت السنة بمثل ما جاء في القرآن، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها الصداق بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له»
(2)
قال ابن عطية: (هذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في إنكاح وليته، وأن النكاح يفتقر إلى ولي، خلاف قول أبي حنيفة: إن الولي ليس من شروط النكاح.)
(3)
وبهذا يظهر صحة دلالة هذه الآية على ما استنبطه الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
الأم (5/ 13)
(2)
أخرجه الترمذي في سننه برقم (1102)، (3/ 399)، وقال:«هذا حديث حسن» وصححه الحاكم في المستدرك، كتاب النكاح، برقم (2706)، قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. (2/ 182)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير عن عائشة (2/ 983).
(3)
المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 310)
وجوب الصلاة حال المقاتلة.
قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (في الآية دليل على وجوب الصلاة حال المقاتلة، وإليه ذهب الشافعيّ
(1)
، وقال أبو حنيفة: لا يصلي حال المشي والمقاتلة ما لم يمكن الوقوف
(2)
).
(3)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها بالنَّص على وجوب الصلاة حال المقاتلة؛ لأنها نصَّت على الأمر بالصلاة في حال الخوف حيث عُطفت على قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فذكر تعالى وجوب الصلاة بشروطها وحدودها، ثم زادها تأكيداً بقوله تعالى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمر فيها بالقيام والدوام على الخشوع والسكون، ثم بيَّن حكم هذه الصلوات المكتوبات في حال الخوف فقال تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} ، فأرخص في جواز ترك بعض الشروط، تعظيماً لأمرها، وتأكيداً لوجوبها؛ فأمر بفعلها في هذه الحال، ولم يعذر أحداً من المكلفين في تركها فدلَّ على وجوبها حال القتال.
(4)
(1)
ينظر: الأم (1/ 117)، ومختصر المزني (8/ 123)، والبيان في مذهب الإمام الشافعي لأبي الحسين العمراني (2/ 527).
(2)
ينظر: المبسوط للسرخسي (1/ 123).
(3)
السراج المنير (1/ 178).
(4)
ينظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 218).
وممن نصًّ على الوجوب بدلالة الآية: الكيا الهراسي، وابن العربي، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، والخازن، وأبو حيان، والسيوطي، والنيسابوري، والسعدي، وغيرهم.
(1)
وقال أبو حنيفة: لا يصلي الماشي ما لم يمكنه الوقوف، بل يؤخر الصلاة ويقضيها
(2)
؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر الصلاة يوم الخندق فصلَّى الظهر والعصر والمغرب بعد ما غربت الشمس فيُقتدى به.
(3)
واحتج الشافعي بهذه الآية من وجهين الأول: قول ابن عمر: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} يعني مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها.
(4)
والوجه الثاني: أن الخوف الذي تجوز معه الصلاة مع الترجل والمشي ومع الركوب والركض لا يمكن معه المحافظة على الاستقبال، فصار قوله:{فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} يدل على الترخص في ترك التوجه، وأيضا يدل على الترخص في ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لأنه مع الخوف الشديد من العدو لا يأمن الرجل على نفسه، وإن وقف في مكانه لا يتمكن من الركوع والسجود.
(5)
(1)
أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 219)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 622)، والتفسير الكبير (6/ 489)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 224)، وأنوار التنزيل (1/ 148)، وحاشية زاده على البيضاوي (2/ 589)، ولباب التأويل (1/ 174)، والبحر المحيط (2/ 550)، والإكليل (1/ 59)، وغرائب القرآن (1/ 657)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 106).
(2)
ينظر: المبسوط للسرخسي (1/ 123)
(3)
ينظر: لباب التأويل للخازن (1/ 174)
(4)
قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه عن ابن عمر: البخاري في كتاب التفسير باب ماجاء في قوله {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} برقم (4535)(6/ 31).
(5)
ينظر: التفسير الكبير (6/ 489).
قال القرطبي: (قال أبو حنيفة: إن القتال يفسد الصلاة، وحديث ابن عمر يردُّ عليه
(1)
، وظاهر الآية أقوى دليل عليه، قال الشافعي: لما رخَّص تبارك وتعالى في جواز ترك بعض الشروط، دلَّ ذلك على أن القتال في الصلاة لا يفسدها
(2)
).
(3)
وعلى هذا فظاهر قوله: {فَرِجَالًا} أنهم يصلون في حال المشي، ويصلون على كل حال، والراكب يوميء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة.
(4)
قال الشَّافعي: (ولا يجوز في صلاة مكتوبة، استقبال غير القبلة إلا عند إطلال العدو على المسلمين، وذلك عند المسايفة
(5)
وما أشبهها، ودنو الزحف من الزحف
(6)
).
(7)
ويعضده ما أخرجه ابن جرير وغيره عن جابر بن عبد الله قال: إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه حيث كان وجهه، فذلك قوله:{فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} .
(8)
(1)
تقدم تخريجه، وينظر: مصنف عبد الرزاق (2/ 515)، وتفسير ابن أبي حاتم (2/ 450)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 656).
(2)
ينظر: الأم (1/ 117)، ومختصر المزني (8/ 123)
(3)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 224) بتصرف يسير.
(4)
ينظر: البحر المحيط (2/ 550)، والحاشية رقم (2)
(5)
(المسايفة) المجالدة و (تسايفوا) تضاربوا بالسيف. فالسيف جمعه (أسياف) و (سيوف) ورجل (سائف) أي ذو سيف و (سياف) أي صاحب سيف. ينظر: مختار الصحاح للرازي مادة س ي ف: (1/ 159)، والمعجم الوسيط (1/ 468).
(6)
ينظر: شرح صحيح البخارى لابن بطال (2/ 537) وفتح الباري لابن رجب (8/ 392)، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري للغيتابي (6/ 260).
(7)
تفسير الإمام الشافعي (1/ 417).
(8)
ينظر: مصنف عبد الرزاق (2/ 515)، وجامع البيان (5/ 244)، وتفسير ابن أبي حاتم (2/ 450)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 656).
فهذا يدلُّ على وجوب الصلاة حال المسايفة والقتال كما عليه أكثر العلماء
(1)
، وأنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها ولو في هذه الحالة الشديدة، فصلاتها على تلك الصورة أفضل بل أوجب من صلاتها مطمئناً خارج الوقت.
(2)
وأجيب عن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم الخندق بأنه لم يكن نزل حكم صلاة الخوف وإنما نزل بعد، فلما نزلت صلاة الخوف لم يؤخر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك صلاة قط.
(3)
قال ابن العربي مستدلاً بهذه الآية: (وما قلناه أرجح؛ لأنا نحن أسقطنا صفة من صفات الصلاة للضرورة، وهو أسقط - أي أبا حنيفة - أصل الصلاة، فهذا أرجح)
(4)
وبهذا يظهر صحة دلالة هذه الآية على ما استنبطه الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
قال شيخ الإسلام: (وقد جوز بعض العلماء تأخير الصلاة في بعض الأوقات كحال المسايفة، كقول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين. والذي عليه أكثر العلماء أنه لا يجوز تأخير الصلاة بحال، وهو قول مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه لكن يجوز الجمع بين الصلاتين لعذر عند أكثر العلماء). مجموع الفتاوى (21/ 432).
وينظر: المبسوط (1/ 123)، والذخيرة للقرافي (2/ 441)، والفواكه الدواني للنفراوي (1/ 269)، والأم (1/ 117)، ومختصر المزني (8/ 123)، ومسائل الإمام أحمد (2/ 748)، والمغني (2/ 309).
(2)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن (1/ 106).
(3)
ينظر: زاد المعاد لابن القيم (3/ 226).
(4)
أحكام القرآن (1/ 623).
الفائدة من حكاية خبر الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت.
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فائدة هذه القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وحثُّهم على التوكل والاستسلام للقضاء فإنّ الموت إذا لم يكن منه بُد، ولم ينفع منه مفرّ، فأولى أن يكون في سبيل الله تعالى).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على فائدة ذكر هذه القصة، وأن المقصود منها موعظة المسلمين بترك الجُبن، وتشجيعهم على الجهاد، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء؛ لأن الخوف من الموت لا يدفع الموت، فهؤلاء الذين ضُرِب بهم هذا المثل خرجوا من ديارهم خائفين من الموت
(2)
، فلم يُغن خوفهم عنهم شيئاً، وأراهم الله الموت ثم أحياهم، ومحل العبرة من القصة هو: أنهم ذاقوا
(1)
السراج المنير (1/ 182)، وهو استنباط تربوي، وذكر بعض المفسرين فوائد أخرى من الآية منها: دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عمن قبله ولم يكن قرأ الكتب، فظهر ذلك عند اليهود والنصارى وعرفوا أنه حق. ومنها إبطال قول من يقول: إن الإحياء بعد الموت لا يجوز، وينكر عذاب القبر لأن الله تعالى يخبر أنه قد أماتهم ثم أحياهم. ينظر: تفسير القرآن للسمرقندي (1/ 159)، والإكليل (1/ 60)، وتفسير العثيمين (3/ 198)
(2)
قوله تعالى {حَذَرَ الْمَوْتِ} فيه قولان: أحدهما: أنهم فرّوا من الطاعون، وهذا قول الحسن، والقول الثاني: أنهم فروا من الجهاد، وهذا قول عكرمة والضحاك. ينظر: جامع البيان (5/ 277)، والنكت والعيون (1/ 312).
الموت الذي فرُّوا منه، ليعلموا أن الفرار لا يغني عنهم شيئاً، ويعلموا أن الموت والحياة بيد الله، كما قال تعالى:{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: 16].
ففي هذه الآية دليل على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فالموت إذا لم يكن منه بد ومفرّ، فأولى أن يكون في سبيل الله تعالى، فإن كان قد حان الأجل فموت في سبيله تعالى خير سبيل، وإلا فنصرٌ وثواب.
(1)
قال الطبري مؤيداً هذه الدلالة: (وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية، على المواظبة على الجهاد في سبيله، والصبر على قتال أعداء دينه، وشجَّعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه دون خلقه، وأن الفرار من القتال، والهرب من الجهاد، ولقاء الأعداءإلى التحصن في الحصون، والاختباء في المنازل والدور، غير منجٍ أحداً من قضائه إذا حلَّ بساحته).
(2)
وممن وافق الخطيب في استنباط هذه الدلالة: الطبري، والزجاج، والزمخشري، والرازي، والبيضاوي، والنسفي، وأبو حيان، والنيسابوري، وأبو السعود، وحقي، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي، وغيرهم.
(3)
قال الشنقيطي مبيناً غرض الآية: (المقصود من هذه الآية الكريمة، تشجيع المؤمنين على القتال بإعلامهم بأن الفرار من الموت لا ينجي، فإذا علم الإنسان أن
(1)
ينظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 661)، والتحرير والتنوير (2/ 480).
(2)
جامع البيان (5/ 278).
(3)
ينظر: جامع البيان (5/ 278)، ومعاني القرآن وإعرابه (1/ 323)، والكشاف (1/ 290)، والتفسير الكبير (6/ 498)، وأنوار التنزيل (1/ 149)، ومدارك التنزيل (1/ 202)، والبحر المحيط (2/ 563)، وغرائب القرآن (1/ 661)، وإرشاد العقل السليم (1/ 238)، وروح البيان (1/ 378)، وفتح القدير (1/ 300)، ومحاسن التأويل (2/ 175)، وأضواء البيان (1/ 152).
فراره من الموت أو القتل لا ينجيه، هانت عليه مبارزة الأقران، والتقدم في الميدان. .. ، وهذه أعظم آية في التشجيع على القتال ; لأنها تبين أن الفرار من القتل لا ينجي منه، ولو فُرِض نجاته منه فهو ميت عن قريب
(1)
، وهذا هو المراد بالآيات المذكورة).
(2)
فكان ذكر هذه القصة التي هي من عظيم آياته حث على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان، وتحذير لسائر الناس من مثل هذا الفعل، وهي إشارة حسنة، من لطائف الاستنباط عند الخطيب، والله تعالى أعلم.
(3)
(1)
روى الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: «لما حضرت خالداً الوفاة بكى، ثم قال: لقد حضرت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء» . ينظر: البداية والنهاية لابن كثير (7/ 114).
(2)
أضواء البيان (1/ 152).
(3)
ينظر: المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 328)، وروح المعاني (1/ 554).
تفاوت الأنبياء عليهم السلام وجواز تفضيل بعضهم على بعض.
قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [لبقرة: 253]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (الآية دليل على أنّ الأنبياء متفاوتة الأقدام، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بنصّ؛ لأنّ اعتبار الظنّ فيما يتعلق بالعمل لا بالاعتقاد).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها بالنصِّ على مسألة عقدية، وهي أن الرسل يتفاضلون، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض، وذلك في الجملة دون تعيين مفضول؛ حيث نصَّ تعالى على تفضيل بعض رسله على بعض فقال {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} فدلَّ على جواز المفاضلة بينهم لكن بنصّ قاطع من غير ظن؛ لأنّ اعتبار الظنّ فيما يتعلق بالعمل لا بالاعتقاد؛ إذ لابد من اعتقاد التفاضل بين الأنبياء، واعتقاد فضل الرسل على الأنبياء، وفضل أولي العزم على بقية الرسل، وفضل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل والأنبياء، لقيام الأدلة الصحيحة على ذلك.
وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية موافقاً الخطيب: ابن عطية، والبيضاوي، وأبو حيان، وابن عاشور، وابن عثيمين وغيرهم.
(2)
(1)
السراج المنير (1/ 191)
(2)
ينظر: المحرر الوجيز (1/ 338)، وأنوار التنزيل (1/ 153)، والبحر المحيط (2/ 600)، والتحرير والتنوير (3/ 7)، وتفسير العثيمين (3/ 238).
قال ابن عثيمين: (من فوائد الآية: أن الرسل عليهم السلام يتفاضلون؛ لقوله تعالى: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}).
(1)
وأما ما ثبت في السنة من النهي عن تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض، ونهيه عن تفضيله صلى الله عليه وسلم خاصة على بعض الأنبياء، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا «لا تفضلوا بين الأنبياء»
(2)
، وقال:«لا تخيروني على موسى»
(3)
، وفي هذا يظهر إشكال بين الآية والأحاديث، وقد خرَّج بعض العلماء وجوهاً من القول في توجيهه
(4)
منها: أن هذا كان له سبب، فإنه كان قد قال يهودي: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فلطمه مسلم، وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا
(5)
، لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموماً، فإن الله حرَّم الفخر، وقد قال تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]، وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ
(1)
تفسير العثيمين (3/ 238).
(2)
أخرجه بنحوه البخاري في كتاب التفسير باب قوله (وإن يونس لمن المرسلين) برقم (3414)(4/ 159)، ومسلم في باب: من فضائل موسى عليه الصلاة والسلام (4/ 1843)، رقم (2373).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الخصومات باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهود برقم (2411)، (3/ 120)
(4)
ينظر: لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/ 298)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (3/ 144)، وشرح النووي على صحيح مسلم (15/ 129)، وفتح الباري لابن حجر (6/ 519)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 671).
(5)
تقدم توثيقه.
اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] فعُلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر، أو على وجه الانتقاص بالمفضول.
(1)
قال الخطابي
(2)
: (معنى هذا ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء ببعضهم، فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم، والإخلال بالواجب من حقوقهم، وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم فإن الله سبحانه قد أخبر أنه قد فاضل بينهم فقال عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]).
(3)
وذكر القرطبي أقوالاً أخرى في توجيه ذلك، ثم قال:(وأحسن من ذلك قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل، وأولو عزم، ومنهم من اتُخذ خليلاً .. ثم قال: وهذا قول حسن؛ فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غيرنسخ).
(4)
(1)
ينظر: شرح الطحاوية (1/ 120)، ومختصر معارج القبول لهشام آل عقدة (1/ 366).
(2)
هو: حمد بن محمد بن خطاب البستي الخطابي، أبو سليمان، الإمام العلاّمة الحافظ اللغوي، صاحب التصانيف، توفي سنة 388 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 23)، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص 420، وشذرات الذهب (3/ 256).
(3)
معالم السنن (4/ 309)، وينظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (3/ 144)، وعون المعبود شرح سنن أبي داود لمحمد آبادي (12/ 277).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 249).
ونفى الشوكاني المعارضة بين القرآن والسنة وتكلف الجمع بينهما، بعد أن عدَّ كلاماً لأهل العلم في وجه الجمع قال:(وفي جميع هذه الأقوال ضعف، وعندي أنه لا تعارض بين القرآن والسنة، فإن القرآن دلَّ على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله لا تخفى عليه منها خافية، وليست بمعلومة عند البشر، فقد يجهل أتباع نبي من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلا عن مزايا غيره، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلاً وهذا مفضولاً - إلى أن قال-: فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضَّل بعض أنبيائه على بعض، لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك؟ وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضَّل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه، فمن تعرض للجمع بينهما زاعماً أنهما متعارضان فقد غلط غلطاً بيناً).
(1)
والذي يظهر من كلام أهل العلم والله تعالى أعلم هوجواز التفضيل إجمالاً، ومنع التفضيل على وجه الخصوص، فلا يجوزُ المفاضلة بين نبيٍّ ونبي على وجه التخصيص (فاضل ومفضول)، وهذا صريحُ نص السنة الصحيحة التي وردت بالنهي «لا تفضلوا بين الأنبياء» ، يعني به النهي عن التفضيل التفصيلي، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال
(2)
، وهو ما تُحمل عليه دلالة الآية كما وجهه الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
فتح القدير (1/ 308).
(2)
كقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» ، ولم يُعين. ينظر: المحرر الوجيز (1/ 338)، والبحر المحيط (2/ 600)، والتحرير والتنوير (3/ 7)، والجموع البهية للعقيدة السلفية التي ذكرها الشنقيطي في تفسيره لأبي المنذر المنياوي (2/ 443)، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للفوزان (1/ 179).
إباحة الكسب وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({مِنْ طَيِّبَاتِ} أي: جياد {مَا كَسَبْتُمْ} من المال والتجارة والصناعة، وفيه دلالة على إباحة الكسب، وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها بالنَّص على إباحة الكسب، وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث؛ لأنه تعالى أمر بالإنفاق وخصصَّه بالطيبات من الكسب، فدلَّ على جوازه، ودلَّ تخصيص الطيبات منه على انقسامه إلى طيب وخبيث.
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: الجصاص، والبغوي، والخازن، وحقي، وغيرهم.
(2)
قال الجصاص: (فيه إباحة المكاسب وإخبار أن فيها طيباً).
(3)
(1)
السراج المنير (1/ 206)
(2)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 174)، ومعالم التنزيل (1/ 364)، ولباب التأويل (1/ 202)، وروح البيان (1/ 430).
(3)
أحكام القرآن (2/ 174).
والمذهب عند الفقهاء من السلف والخلف أن كسب المرء لنفسه مباح على الإطلاق بل هو فرضٌ عند الحاجة.
(1)
وقال قوم من جهال أهل التقشف والتصوف: إن الكسب حرام لا يحل إلا عند الضرورة، واستدلوا بأقوال باطلة وحجج واهية.
(2)
قال الشاطبي
(3)
منكراً عليهم: (ولا يظن العاقل أن القعود عن الكسب ولزوم الربط مباح أو مندوب إليه أو أفضل من غيره، إذ ليس ذلك بصحيح، ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها.)
(4)
(1)
ينظر: المبسوط (30/ 247)، والمحيط البرهاني (5/ 356)، ومختصر منهاج القاصدين لابن قدامة (1/ 86).
(2)
منها قولهم: إن الكسب ينافي التوكل على الله تعالى أو ينقص منه، وقد أُمرنا بالتوكل، فما يتضمن نفي ما أُمرنا به يكون حراماً، والدليل على أنه ينفي التوكل قوله صلى الله عليه وسلم «لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقتم، كما يرزق الطير يغدو خماصاً ويروح بطاناً» ، وقال تعالى {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، وهذا حث على ترك الاشتغال بالكسب وبيان أن ما قدر من الموعود آتٍ لا محالة. قالوا: وفي الاشتغال بالكسب ترك ما خُلق المرء لأجله وأمر به من عبادة ربه، وما في القرآن من ذكر البيع والشراء في بعض الآيات ليس المراد به التصرف في المال والكسب، بل المراد تجارة العبد مع ربه ببذل النفس في طاعته والاشتغال بعبادته فذلك يسمى تجارة، كما قال تعالى {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف: 10] الآية، ودعواهم أن الكبار من الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يكتسبون
…
الخ مزاعمهم مما لا يخفى بطلانه من أصله.
ينظر: المبسوط (30/ 247)، والتعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي (1/ 85)، وتنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء لأبي الحسن السبتي (1/ 133).
(3)
هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي: أصولي حافظ. من أهل غرناطة. كان من أئمة المالكية. من كتبه (الموافقات)، و (الاعتصام) في أصول الفقه، و (أصول النحو)، و (شرح الألفية). توفي سنة 790 هـ. ينظر: الأعلام (1/ 75)، ومعجم المؤلفين (1/ 118).
(4)
الاعتصام (1/ 263)
ويُردُّ عليهم بدلالة هذه الآية وغيرها، وما ثبت في السنة مما يدل على إثبات الكسب شرعاً، وأنه لا يقدح في التوكل، كما أن الاكتساب طريق المرسلين، والأنبياء في هذا ليسوا كغيرهم، فقد بُعثوا لدعوة الناس، فكانوا مشغولين بما بعثوا لأجله، ولم يشتغلوا عامة أوقاتهم بالكسب لهذا، وقد اكتسبوا في بعض الأوقات ليُبينوا للناس أن ذلك مما ينبغي أن يشتغل به المرء، وأنه لا ينفي التوكل على الله، كما ظنه هؤلاء الجهال، فلا منافرة بَين التوكل والكسب، ولو ترك النَّاس الْكسْب بالجملة لهلكت الأَرْض وَمن عليها، فلا يخفى ضرورته وفضله من الشغل بالأمر المباح عن البطالة واللهو، والتعفف عن ذلة السؤال والحاجة إلى الغير
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي (1/ 85)، وتنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء لأبي الحسن السبتي (1/ 133)
الإشارة إلى كمال عظمة الله، وعجز العبد.
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} لما وقع منكم من تقصير، وفيه إشعار بأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره، لما له من الإحاطة بصفات الكمال، ولما جبل عليه الإنسان من النقص).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من إشارة الآية دلالتها باللازم على مناسبة ختمها بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وذلك للإشعار بكمال ذاته تعالى وصفاته، وتقصير الإنسان وعجزه، حيث وعد تعالى عباده بالمغفرة، وهذا دليل كمال في جانب الله، وعجز وتقصير في جانب العبد، وأنه لا يقدر أحد مهما بلغ، أن يقدر الله حق قدره، لجلاله وكمال صفاته، فله المحامد والفضائل كلها، التي لا يبلغها ولا يجزي بها أحد، يشهد له قوله سبحانه {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67].
وممن أشار إلى هذه الدلالة من الآية: البقاعي، وغيره.
(2)
وهي إشارة حسنة؛ إذ جاء وعد الرحمن عباده بالمغفرة في مقابلة وعد الشيطان لهم بالفقر، إشعاراً بكماله تعالى وعظمة سلطانه، وحاجة عباده وفاقتهم دائماً وأبداً إلى العفو والمغفرة مهما بلغ بهم من الطاعة، فإن المرء محل الضعف
(1)
السراج المنير (1/ 180)
(2)
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (4/ 92)
والغفلة والتقصير، وغلبة الهوى مهما بلغ وإن اجتهد في الطاعة، فلا يخلو من التفريط، ولا يسعه إلا رحمة الله وعفوه، ولهذا وعد عباده بالمغفرة ووعده تعالى الحق
(1)
، والله تعالى أجل وأعلم.
جواز النيابة في الإقرار.
قال الله تعالى: {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} أي: متولي أمره من والد ووصيّ، وقيم، ووكيل، ومترجم {بِالْعَدْلِ} وفي هذا دليل على جريان النيابة في الإقرار. قال البيضاوي: ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل
(2)
، أي: دون المترجم ودونهما فيما لم يتعاطياه).
(3)
وجه الاستنباط:
أمرُ الولي بالإملال
(4)
، فلو لم يُقبل إقراره لما كان لإملاله معنى.
(5)
الدراسة:
(1)
ينظر: صيد الخاطر لابن الجوزي ص 71.
(2)
أنوار التنزيل (1/ 164)
(3)
السراج المنير (1/ 215)
(4)
الإملال والإملاء لغتان فصيحتان من لغة العرب معناهما واحد جاء بهما القرآن، وهي هنا لغة الحجاز، والإملاء تميم. ينظر: السراج المنير (1/ 295).
(5)
ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي للزيلعي (5/ 3).
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على استنباط حكم فقهي وهو جواز النيابة في الإقرار؛ حيث أمر الله تعالى ولي الذي عليه الحق بالإملال، فلو لم يقبل إقراره لما كان لإملاله معنى، فدلَّ على أن إقرار الوصي جائز على يتيمه؛ لأنه إذا أملى فقد نفذ قوله فيما أملاه
(1)
؛ ولأن الشهادة إنما تكون بحسب إقراره
(2)
، وقد نهاه الله تعالى أيضاً عن كتمان الحق بقوله {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] فصار نظير أمره بأداء الشهادة ونهيه عن كتمانها، وقوله تعالى {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] أي شاهد كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما
(3)
وقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] والمراد به الإقرار
(4)
.
وممن وافق الخطيب في استنباط هذه الحكم من الآية: ابن العربي، والبيضاوي، والسيوطي، والألوسي، وغيرهم.
(5)
قال السيوطي: (فيه أن السفية يحجر عليه، وتُلغى أقواله وتصرفاته وإقراره، وأنه لابد له من ولي أمره، وأن الولي يُقبل إقراره عليه).
(6)
وقال ابن العربي: (وهذا يدل على أن إقرار الوصي جائز على يتيمه؛ لأنه إذا أملى فقد نفذ قوله فيما أملاه).
(7)
(1)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 332).
(2)
ينظر: المحرر الوجيز (1/ 380).
(3)
ينظر: تفسير عبد الرزاق (3/ 368)، وجامع البيان للطبري (24/ 63)
(4)
ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (5/ 3)
(5)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 332)، وأنوار التنزيل (1/ 164)، والإكليل (1/ 64)، وروح المعاني (2/ 56).
(6)
الإكليل (1/ 64).
(7)
أحكام القرآن (1/ 332)
والمراد بالولي في قوله تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} أي متولي أمره، وهو الذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم إن كان صبياً أو مختل العقل، أو وكيل أو مترجم إن كان غير مستطيع
(1)
، والإقرار عن الغير في مثل هذه الصورة مقبول، وفرق بينه وبين الإقرار على الغير.
(2)
قال ابن عطية: (أمَر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون بحسب إقراره).
(3)
وشهادة الوصي على من في حجره مقبولة عند المالكية والشافعية والحنابلة على الصحيح من المذهب، وعند الحنفية وأحمد في رواية عنه لا تقبل
(4)
، فإذا شهد الوصي على من هو موصى عليهم، قُبلت شهادته، وإن شهد لهم لم تقبل إذا كانوا في حجره، لأنه قد صار بالنيابة عن ذي الحق متهماً.
(5)
قال ابن قدامة في تحقيق ذلك: (أما شهادته عليهم فمقبولة، لا نعلم فيه خلافاً، فإنه لا يُتهم عليهم، ولا يجُرُّ بشهادته عليهم نفعاً، ولا يدفع عنهم بها
(1)
ينظر: أنوار التنزيل للبيضاوي (1/ 164)، والأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 463)، والقواعد والفوائد الأصولية (1/ 66).
(2)
ينظر: روح المعاني للألوسي (2/ 56)
(3)
ينظر: المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 380)
(4)
ينظر: المبسوط (28/ 82)، والجوهرة النيرة على مختصر القدوري للزبيدي (1/ 309)، ومواهب الجليل للرعيني (6/ 402) وروضة الطالبين للنووي (6/ 322)، ومسائل الإمام أحمد (8/ 4143).
(5)
ينظر: الحاوي الكبير للماوردي (17/ 160).
ضرراً، وأما شهادته لهم إذا كانوا في حجره، فغير مقبولة، وهذا قول أكثر أهل العلم
(1)
).
(2)
وذلك لأنه قد قام مقامهم في النيابة عنهم، كما هو ظاهر الآية الكريمة، وبهذا يتبين جواز النيابة في الإقرار كما استنبطه الخطيب، والله تعالى أعلم.
جواز التكليف بما لا يطاق.
قال الله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ} أي: قوّة، {لَنَا بِهِ} من البلاء والعقوبة ومن التكاليف التي لا تفي بها الطاقة البشرية، وهو يدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سُئل التخلص منه).
(3)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية بدلالة مفهوم المخالفة استنباطاً أصولياً، وهو جواز التكليف بما لا يطاق؛ إذ لو لم يكن جائزاً لما حسُن طلب تخفيفه بالدعاء من الله تعالى.
(1)
منهم الشعبي، والثوري، ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وابن أبي ليلى، ينظر: المبسوط (28/ 82)، والدر المختار وحاشية ابن عابدين (5/ 462)، وروضة الطالبين (6/ 322)، والشرح الكبير على متن المقنع (12/ 77)، وعمدة الفقه لابن قدامة (1/ 152).
(2)
المغني (10/ 240).
(3)
السراج المنير (1/ 218).
قال ابن جزي مؤيداً هذه الدلالة: (هذا الدعاء دليل على جواز تكليف ما لا يطاق؛ لأنه لا يُدعى برفع ما لا يجوز أن يقع، ثم إن الشرع دفعَ وقوعه).
(1)
وممن نصَّ على هذه الدلالة موافقاً الخطيب: الرازي، والبيضاوي، وابن جزي، والخازن، والنيسابوري، والشهاب الخفاجي، وغيرهم.
(2)
والقول بجواز تكليف ما لا يطاق عقلاً هو قول الأشاعرة
(3)
، وهي من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الفِرق وذلك تبعاً للخلاف الواقع في الاستطاعة والتحسين والتقبيح
(4)
، وقد بنى الأشاعرة قولهم في هذه المسألة على أصلهم في منع التعليل في أفعال الله عز وجل ومنع التحسين والتقبيح العقليين، ووجه استدلالهم بهذه الآية قولهم: لولا حسُن وقوع التكليف بما لايطاق ما سألوا دفعه، فلفظ «حُسن» هو على طريقة المعتزلة في التحسين والتقبيح، والأشاعرة
(1)
التسهيل (1/ 143)
(2)
التفسير الكبير (7/ 122): أنوار التنزيل (1/ 166)، التسهيل (1/ 143)، لباب التأويل (1/ 221)، غرائب القرآن (2/ 94)، وحاشية الشهاب علي تفسير البيضاوي (2/ 354).
(3)
نسبه لهم الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (2/ 182) وابن أبي العز في شرح الطحاوية (1/ 298)، والقرطبي قال:«قال أبو الحسن الاشعري وجماعة من المتكلمين: تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، ولا يخرم ذلك شيئا من عقائد الشرع» . الجامع لأحكام القرآن (3/ 430)
(4)
قالت الجهمية بجواز تكليف ما لا يطاق مطلقاً، وقالت المعتزلة بعدم جواز تكليف ما لا يطاق لأنه قبيح والله تعالى منزه عن فعل القبيح فلا يجوز صدوره منه.
وقالت الأشاعرة بجواز تكليف ما لا يطاق عقلاً وإن لم يقع في الشرع، وأجازوه عقلاً بناء على نفيهم الحسن والقبيح العقليين. وأما الماتريدية فقد وافقوا المعتزلة فقالوا بعدم جواز تكليف ما لا يطاق لأنه فاسد عقلاً ولعدم وجود القدرة التي هي مقتضى التكليف.
ينظر: التوحيد للماتريدي (1/ 263)، ومجوع الفتاوى (8/ 279)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 96)، والانتصار في الرد على المعتزلة القدرية (2/ 463)، والمستصفى للغزالي (1/ 98)، والمطالب العالية للرازي (9/ 267)، وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي ص 133.
تقول بأن أصل أفعال العباد كلها ليست بقدرتهم، ومن ثَمَّ فكل تكاليف الشريعة من تكليف ما لا يطاق، ولهذا قالوا بجوازه.
وهذا الاستدلال بالآية غير صحيح؛ إذ المراد بقوله تعالى {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ليس المستحيل، وإنما المراد به ما يكون شاقاً على العباد مع قدرتهم عليه
(1)
، كما قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] أي الذي يشق عليهم مع أنهم يقدرون عليه.
والصواب في هذه المسألة هو التفصيل كما نصَّ على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
، وابن أبي العز في شرح الطحاوية
(3)
، وغيرهم، وذلك بأن يُقال: إن تكليف ما لا يطاق ينقسم قسمين: أحدهما: ما لا يُطاق للعجز عنه، كتكليف الزمن السير، وتكليف الإنسان الطيران، ونحو ذلك فهذا غير واقع في الشريعة عند جماهير أهل السنة المثبتين للقدَر.
والثاني: ما لا يُطاق للاشتغال بضده، كاشتغال الكافر بالكفر، فإنه هو الذي صدَّه عن الإيمان، وكالقاعد في حال قعوده، فإن اشتغاله بالقعود يمنعه أن يكون قائماً، والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنافي إرادة الضد الآخر، وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب.
ومثل هذا ليس بقبيح عقلاً عند أحد من العقلاء، بل العقلاء متفقون على أمر الإنسان ونهيه بما لا يقدر عليه حال الأمر والنهي؛ لاشتغاله بضده إذا أمكن أن يترك الضد ويفعل الضد المأمور به، وهذا لا يدخل فيما لا يطاق، فإنه لا يقال
(1)
ينظر: جامع البيان (6/ 139)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 738)
(2)
ينظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 65)، ومجموع الفتاوى (8/ 469).
(3)
ينظر: شرح الطحاوية (1/ 298).
للمستطيع المأمور بالحج إذا لم يحج إنه كُلِّف بما لا يطيق، ولا يقال لمن أُمر بالطهارة والصلاة فتَرك ذلك كسَلا أنه كُلِّف ما لا يُطيق.
وهذا هو الحق في هذه المسألة
(1)
، أما إطلاق القول فيها فهو من البدع المحدثة، المخالفة للآيات الدالة على رفع الحرج وعدم التكليف بما لا يطاق، ويكفي في ردِّه أنه قول مبتدع لم يقل به أحدٌ من السلف بل هو من بدع المتكلمين المبنية على أصولهم الفاسدة، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: منهاج السنة لابن تيمية (3/ 104)، وشرح الطحاوية لأبن أبي العز (1/ 298)، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبدالرحمن المحمود (1/ 431).