المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة فصلت استشعار مراقبة الله تعالى في جميع أحوال العبد. قال الله - الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره السراج المنير

[أسماء بنت محمد الناصر]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌مجال البحث وحدوده:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌فأما الدراسات التي عنيت بتفسير الخطيب الشربيني فهي:

- ‌وأما دراسة موضوع الاستنباط لذاته أو عند المفسرين فقد سجل في رسائل علمية نوقش بعضها، والبعض لا يزال قيد الإعداد والمناقشة، وهي:

- ‌خطة البحث:

- ‌منهج البحث:

- ‌التمهيد

- ‌أولاً: - تعريف الاستنباط، ونشأته، وعلاقته بالتفسير. - أهميته، وطرق التوصل إليه

- ‌أولاً: تعريف الاستنباط:

- ‌ثانياً: نشأة الاستنباط وعلاقته بالتفسير:

- ‌ثالثاً: أهمية علم الاستنباط:

- ‌طريق الوصول إلى الاستنباط:

- ‌ثانياً: التعريف بالخطيب الشربيني رحمه الله

- ‌اسمه ونشأته:

- ‌شيوخه:

- ‌مكانته العلمية وآثاره:

- ‌مؤلفاته:

- ‌عقيدته ومذهبه:

- ‌أولاً: التوحيد:

- ‌ثانياً: الإيمان:

- ‌ثالثاً: القرآن:

- ‌رابعاً: النبوات:

- ‌خامساً: القدر:

- ‌سادساً: السببية وأفعال المخلوقات:

- ‌سابعاً: التحسين والتقبيح:

- ‌وفاته

- ‌ثالثاً: التعريف بتفسير"السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير

- ‌القيمة العلمية لتفسير السراج المنير، ومنهجه فيه:

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌الباب الأول:منهج الخطيب الشربيني في الاستنباطمن خلال تفسيره "السراج المنير

- ‌الفصل الأول:أقسام الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌المبحث الأول:الاستنباط باعتبار موضوع المعنى المستنبط

- ‌المطلب الأول: الاستنباطات في علوم القرآن

- ‌ومن الأمثلة على استنباطاته في علوم القرآن:

- ‌أولاً: في مناسبات الألفاظ:

- ‌ثانياً: في أسرار التقديم والتأخير في القرآن

- ‌ثالثاً: في فوائد التكرار في القرآن الكريم:

- ‌رابعاً: في جواز وقوع النسخ في القرآن:

- ‌خامساً: في قصص القرآن:

- ‌سادساً: في المنطوق والمفهوم:

- ‌سابعاً: في الخصوص والعموم:

- ‌المطلب الثاني: الاستنباطات العقدية:

- ‌القسم الأول: استنباطات فيها تقرير مباشر لمسائل العقيدة، وهي على نوعين:

- ‌النوع الأول: تقرير مسائل على عقيدته الأشعرية:

- ‌النوع الثاني: تقرير مسائل على عقيدة أهل السنة والجماعة:

- ‌القسم الثاني: استنباطات فيها تقرير لمسائل عقدية على مذهب أهل السنة والجماعة والرد على مخالفيهم

- ‌المطلب الثالث: الاستنباطات الأصولية

- ‌المطلب الرابع: الاستنباطات الفقهية:

- ‌القسم الأول: استنباطات فقهية كلية، وهي ما يعرف بالقواعد الفقهية

- ‌حجية سد الذرائع:

- ‌الأصل في الأشياء الإباحة:

- ‌القسم الثاني: استنباطات لمسائل فقهية فرعية متنوعة، وهذا هو الأغلب في استنباطات الخطيب الفقهية

- ‌المطلب الخامس: الاستنباطات اللغوية

- ‌المطلب السادس: الاستنباطات التربوية السلوكية

- ‌المبحث الثاني:الاستنباط باعتبار ظهور النص المستنبط منه وخفائه

- ‌المطلب الأول: الاستنباط من ظاهر النص

- ‌المطلب الثاني: الاستنباط من نص غير ظاهر المعنى

- ‌المبحث الثالث:الاستنباط باعتبار الإفراد والتركيب

- ‌المطلب الأول: الاستنباط من الآية الواحدة

- ‌المطلب الثاني: الاستنباط بالربط بين آيتين أو أكثر

- ‌الفصل الثاني:دلالات وطرق الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌المبحث الأول:الاستنباط بدلالة النص (مفهوم الموافقة)

- ‌المبحث الثاني:الاستنباط بدلالة المفهوم (مفهوم المخالفة)

- ‌المبحث الثالث:الاستنباط بدلالة الالتزام

- ‌المبحث الرابع:الاستنباط بدلالة التضمن

- ‌المبحث الخامس:الاستنباط بدلالة الاقتران

- ‌المبحث السادس:الاستنباط بدلالة الجمع بين النصوص

- ‌الفصل الثالث:أساليب الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره، ومميزاته

- ‌المبحث الأول:أساليب الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌المبحث الثاني:مميزات الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌الفصل الرابع:مصادر الاستنباط عند الخطيب الشربيني:

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول:المصادر الأصلية، وهي التي يعتمد عليها غالباً

- ‌أولاً: الرازي:

- ‌ثانياً: البيضاوي:

- ‌ثالثاً: الزمخشري:

- ‌رابعاً: القرطبي:

- ‌خامساً: البغوي:

- ‌المبحث الثاني:المصادر الفرعية، وهي التي لا يعتمد عليها إلا قليلاً أو نادراً

- ‌أولا: الخازن

- ‌ثانياً: أبو حيان

- ‌ثالثاً: ابن عادل الحنبلي

- ‌رابعاً: البقاعي

- ‌الباب الثاني:جمع ودراسة الاستنباطات عند الخطيب الشربينيفي تفسيره من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة الأنفال

- ‌سورة التوبة

- ‌سورة يونس

- ‌سورة هود

- ‌سورة يوسف

- ‌سورة الرعد

- ‌سورة إبراهيم

- ‌سورة الحجر

- ‌سورة النحل

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة مريم

- ‌سورة طه

- ‌سورة الحج

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌سورة النمل

- ‌سورة القصص

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة لقمان

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة سبأ

- ‌سورة فاطر

- ‌سورة يس

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة ص

- ‌سورة الزمر

- ‌سورة غافر

- ‌سورة فصلت

- ‌سورة الشورى

- ‌سورة الزخرف

- ‌سورة الجاثية

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة محمد

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة الذاريات

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة الملك

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة البينة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة قريش

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الناس

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ ‌سورة فصلت استشعار مراقبة الله تعالى في جميع أحوال العبد. قال الله

‌سورة فصلت

استشعار مراقبة الله تعالى في جميع أحوال العبد.

قال الله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23].

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أي: أهلككم، وفي هذا تنبيه على أن من حق المؤمن أن لا يذهب عنه، ولا يزول عن ذهنه، أن عليه من الله تعالى عيناً كالئة، ورقيباً مهيمناً، حتى يكون في أوقاته وخلواته من ربه أهيب وأحسن احتشاماً، وأوفر تحفظاً وتصوراً منه مع الملأ، ولا يتبسَّط في سِره، مراقبة من التشبه بهؤلاء الظانين).

(1)

الدراسة:

استنبط الخطيب من قوله تعالى: {الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} دلالتها باللازم على فائدة تربوية وهي: أن المؤمن ينبغي أن يستشعر في أحواله كلها رقابة الله تعالى عليه حتى يكون أخشى لربه من جميع خلقه، ويحذر من التشبه بحال هؤلاء الظانين.

وفي هذا تنبيه على خطر سوء الظن بالله تعالى، وتحذير من عاقبته، وحث على مراقبته تعالى في السر والعلانية، واستشعار هذه المراقبة في سائر أحوال المرء، وخاصة في خلواته.

وممن استنبط هذه الفائدة من الآية: الزمخشري، والنيسابوري، وغيرهما.

(2)

(1)

السراج المنير (3/ 612)

(2)

ينظر: الكشاف (4/ 196)، وغرائب القرآن (6/ 54).

ص: 697

قال النيسابوري في معنى هذه الآية: (ولكنكم استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم. وفيه رد على بعض الجهلة الذين يستخفون من الناس ولا يمكنهم الاستخفاء من الله، وفيه تنبيه على أن المؤمن يجب عليه أن يكون في أوقات خلواته أهيب لربه وأوفر احتشاماً ومراقبة).

(1)

ويؤيد هذا الاستنباط قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 107 - 108]، فوصفهم تعالى بالخيانة لأنهم يستترون من الناس خوفًا من اطلاعهم على سوء أعمالهم، ولا يستترون من الله تعالى ولا يستحيون منه.

وهذه فائدة لطيفة من الآية حسن التنبيه عليها، والتأكيد بدلالة هذه الآية على أثر سوء الظن بالله، وأن الظن الفاسد هو الذي أهلك من قبلنا وأرداهم عند ربهم، وعلى النقيض منه حسن الظن به تعالى وما يورثه في القلب من الطمأنينة والثقة بما عند الله.

كما أن مراقبة الله تعالى في السر والعلن، مراقبة من يحبه ويخشاه، ويرجو ثوابه ويخاف عقابه، هي من الإحسان، وهي فائدة حسنة، والله تعالى أعلم.

إرادة الله تعالى كفر الكافرين.

قال الله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25]

(1)

غرائب القرآن (6/ 54) وينظر: جامع البيان (21/ 456)، وتفسير القرآن العظيم (7/ 172)

ص: 698

ذكر الخطيب الشربيني رحمه الله – هنا تنبيهاً فقال: (في الآية دلالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافرين، لأنه تعالى قيض لهم قرناء سوء فزينوا لهم الباطل، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر، ولكن لا يرضاه، كما قال تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7].)

(1)

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على إرادة الله تعالى الكفر من الكافرين؛ لأنه تعالى قيض لهم قرناء سوء، فزينوا لهم الباطل حتى أضلوهم، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر.

وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: الرازي، وغيره.

(2)

قال الرازي: (احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر، فقالوا إنه تعالى ذكر أنه قيض لهم أولئك القرناء، وكان عالماً بأنه متى قيض لهم أولئك القرناء فإنهم يزينوا الباطل لهم، وكل من فعل فعلاً وعلم أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر لا محالة، فإن فاعل ذلك الفعل لا بد وأن يكون مريداً لذلك الأثر، فثبت أنه تعالى لما قيض لهم قرناء فقد أراد منهم ذلك الكفر).

(3)

ولاشك أن الله تعالى أراد الكفر من الكافرين، وأنه لا يخرج شيء في الكون عن مشيئته تعالى وإرادته، وفي هذه الآية ومثيلاتها رد على المعتزلة، والقدرية، ومن تبعهم من الأشاعرة.

(1)

السراج المنير (3/ 515)

(2)

التفسير الكبير (27/ 557)

(3)

التفسير الكبير (27/ 557).

ص: 699

قال ابن أبي العز: (والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد. - إلى أن قال رحمه الله: وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً، ولا يرضاه ديناً.

وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا: أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فروا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذّبه عليه! ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار! فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه! فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه - على قولهم - والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل).

(1)

والحق في ذلك أن الله سبحانه موصوف بالإرادة، وأن إرادته تعالى الواردة في القرآن على نوعين:

النوع الأول: الإرادة الكونية القدرية: وهي بمعنى المشيئة، لا يخرج عنها شيء من أفعال العباد، سواء كان طاعة أو معصية، خيراً أو شراً، وهي متعلقة بتقديره تعالى وخلقه، وهي دليل كمال ربوبيته وسيادته، ولا تستلزم الحب والرضا، فقد تكون مما يحب الله ويرضى، كالطاعات الواقعة من عباد الله الصالحين، وقد تكون مما لا يحب ولا يرضىـ بل يسخط ويكره كالمعاصي والكفر ونحوها الواقعة من العباد، ومن هذا النوع قوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}

(1)

شرح الطحاوية (1/ 321).

ص: 700

[الأنعام: 125]، وقوله تعالى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، وقوله:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16].

والنوع الثاني: الإرادة الدينية الشرعية، وهي المتعلقة بألوهيته تعالى وشرعه، وهي مستلزمة لأمره، والأمر دليل عليها وهي المتعلقة بحبه ورضاه.

والدليل عليها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27].

(1)

فعلى هذا ما كان من أفعال العباد وهو طاعة لله، فإنه متعلق بنوعي الإرادة الكونية القدرية والدينية الشرعية، وما كان من أفعال العباد وهو معصية، وكفر، وفسق، فهو متعلق بالإرادة الكونية القدرية، وليس متعلقاً بالإرادة الدينية الشرعية المستلزمة لأمره وحبه ورضاه، فإن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، ولا يحب الخائنين.

(2)

وقد التبس على كثير من الفِرق مفهوم الإرادة، وحصل لهم بسبب عدم تفريقهم بين الإرادتين، لبس عظيم ووقعوا في أمور منكرة، فالأشاعرة مثلاً لما

(1)

قال ابن عثيمين عن هذا النوع من الإرادة: (القسم الثاني: إرادة شرعية: وهي مرادفة للمحبة، فـ (أراد) فيها بمعنى (أحب)، فهي:

أولاً: تختص بما يحبه الله، فلا يريد الله الكفر بالإرادة الشرعية ولا الفسق.

ثانياً: أنه لا يلزم فيها وقوع المراد، بمعنى: أن الله يريد شيئاً ولا يقع، فهو سبحانه يريد من الخلق أن يعبدوه، ولا يلزم وقوع هذا المراد، قد يعبدونه وقد لا يعبدونه، بخلاف الإرادة الكونية). شرح العقيدة الواسطية (1/ 223)

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 475)، وشفاء العليل ص 280، وشرح العقيدة الطحاوية (1/ 115 - 116)، ولوامع الأنوار البهية (1/ 338)

ص: 701

أسندوا جميع الحوادث إلى الله، ولم يفرقوا بين الإرادتين أدَّاهم إلى القول بأن الله يريد الكفر والفساد، بل صرَّح بعضهم أنه يحبه.

(1)

قال ابن عثيمين: (فإذا قال قائل: كيف يريد الله تعالى كوناً ما لا يحبه، بمعنى: كيف يريد الكفر أو الفسق أو العصيان وهو لا يحبه؟!

فالجواب: أن هذا محبوب إلى الله من وجه مكروه إليه من وجه آخر، فهو محبوب إليه لما يتضمنه من المصالح العظيمة، مكروه إليه لأنه معصية، ولا مانع من أن يكون الشيء محبوباً مكروها باعتبارين)

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

قال ابن تيمية: " قالت المعتزلة: هو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان فلا يشاؤه فقالوا: إنه يكون بلا مشيئة، وقالت الجهمية بل هو يشاء ذلك؛ فهو يحبه ويرضاه، وأبو الحسن الأشعري وأكثر أصحابه وافقوا هؤلاء؛ فذكر أبو المعالي الجويني: أن أبا الحسن أول من خالف السلف في هذه المسألة، ولم يفرق به بين المشيئة والمحبة والرضا. وأما سلف الأمة وأئمتها وأكابر أهل الفقه والحديث والتصوف وكثير من طوائف النظار: كالكلابية والكرامية؛ وغيرهم فيفرقون بين هذا وهذا؛ ويقولون: إن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ويرضى به، كما لا يأمر ولا يرضى بالكفر والفسوق والعصيان ولا يحبه؛ كما لا يأمر به وإن كان قد شاءه؛ ثم قال: والمقصود هنا جواب هذه المسألة؛ فإن هذه الإشكالات المذكورة إنما ترد على قول جهم ومن وافقه من المتأخرين من أصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم، وطائفة من متأخري أصحاب مالك والشافعي وأحمد". ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 475) و (8/ 341)، وينظر: الإبانة لأبي الحسن الأشعري (1/ 126)، والمواقف للأيجي (1/ 320)، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة للشيخ عبد الرحمن المحمود (3/ 1330).

(2)

شرح العقيدة الواسطية (1/ 223).

ص: 702

فضيحة الكفار في خوفهم من سماع القرآن.

قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (وهذا يدل على أنهم عارفون بأن من يسمعه مال إليه، وأقبل بكُلِّيته عليه، وقد فضحوا أنفسهم بهذا فضيحة لا مثل لها).

(1)

وجه الاستنباط:

نهي الكفار غيرهم عن السماع، وترغيبهم في اللغو عنده إشارة ضعف وخوف.

الدراسة:

استنبط الخطيب بدلالة اللازم من الآية فضيحة الكفار في خوفهم من تأثير سماع القرآن على قومهم، ويقينهم بأن من سمعه مال إليه، وأقبل عليه، بدلالة قوله تعالى {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}

(2)

فكان بعضهم يوصي

(1)

السراج المنير (3/ 613)

(2)

{وَالْغَوْا فِيهِ} : أي: تكلموا فيه بالرد. يقال: لغا يلغو لغوا، ولغى يلغي لغا: إذا خلط الكلام.

وقيل: لغى تكلم فقط، واللّغة [محذوفة اللام]«فعلة» منه، ينظر: معاني القرآن للزجاج: (4/ 384)، والمفردات للراغب ص 451، ولسان العرب (15/ 251)(لغا).

ص: 703

بعضاً: إذا رأيتم محمداً يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر، وأكثروا الكلام حتى يتخلَّط عليه ما يقول.

(1)

والمقصود أنهم علموا أن القرآن كلام كامل لفظاً ومعنى، وكل من سمعه ووقف على معانيه وأنصف، حكم بأنه واجب القبول، فدَّبروا هذا التدبير الفاسد، وهو قول بعضهم لبعض: لا تسمعوا لهذا القرآن إذا قريء، وتشاغلوا عن قراءته برفع الصوت بالصفير والهذيان والرجز، لعلكم تغلبون محمداً على قراءته، فلا يحصل غرضه من التفهيم والإرشاد، وقد فضحوا أنفسهم بذلك أعظم فضيحة.

(2)

وممن نصَّ على هذه الإشارة من الآية موافقاً الخطيب: الرازي، والنيسابوري، وابن عاشور، وغيرهم.

(3)

قال ابن عاشور: (وهذا مُشعر بأنهم كانوا يجدون القرآن غالبهم؛ إذ كان الذين يسمعونه يُداخل قلوبهم فيؤمنون).

(4)

بل بلغ من فضيحتهم أنه كان يجذب رؤساء هؤلاء المعاندين ليلاً لاستماع تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، على ما كان من نهيهم عن سماعه وتواصيهم بذلك.

(5)

(1)

قال السدي: (نزلت في أبي جهل بن هشام كان يقول لأصحابه: إذا سمعتم قراءة محمد؛ فارفعوا أصواتكم بالأشعار حتى تلتبس على محمد قراءته). ينظر: تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين (4/ 151)، وينظر: جامع البيان (21/ 460)، ومعالم التنزيل للبغوي (4/ 131).

(2)

ينظر: غرائب القرآن للنيسابوري (6/ 57)

(3)

ينظر: التفسير الكبير (27/ 558)، غرائب القرآن (6/ 57)، والتحرير والتنوير (24/ 278)

(4)

التحرير والتنوير (24/ 278)

(5)

كما روي عن أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق. ينظر: الدر المنثور للسيوطي (5/ 299).

ص: 704