الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة التوبة
تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيلهما وتنفذ فيهما الأحكام.
قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (في هذه الآية دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلّى سبيله؛ لأنه إن كان جاحداً لوجوبهما فهو مرتدّ، وإلا قُتل بترك الصلاة، وأُخذت منه الزكاة قهراً، وقوتل على ذلك).
(1)
الدراسة:
هذا الاستنباط مبني على القول بمفهوم الشرط حيث لم يكتف تعالى في تخلية السبيل بالتوبة من الشرك حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فدلَّ بمفهوم المخالفة على أن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مدخلاً في تخلية سبيلهم، كما أن للتوبة مدخلاً في ذلك، وأنهم إن لم يقيموا الصلاة ومنعوا الزكاة لم يخلَّ سبيلهم، فاستُدل به على قتل تارك الصلاة وقتال مانع الزكاة، واستَدل به من قال بتكفيرهما.
(2)
وممن نصّ على هذه الدلالة من المفسرين موافقاً الخطيب: الكيا الهراسي، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، والنيسابوري، وابن كثير، والسيوطي، وحقي، والشهاب الخفاجي، والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي وغيرهم.
(3)
(1)
السراج المنير (1/ 675)
(2)
ينظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (4/ 180)، والإكليل للسيوطي (1/ 138).
(3)
ينظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (4/ 180)، والتفسير الكبير (15/ 528)، والجامع لأحكام القرآن (8/ 74)، وأنوار التنزيل (3/ 72)، وغرائب القرآن (3/ 432)، وتفسير القرآن العظيم (4/ 111)، والإكليل (1/ 138)، وروح البيان (3/ 387)، وحاشية الشهاب (4/ 301)، وروح المعاني (5/ 246)، ومحاسن التأويل (5/ 33)، وأضواء البيان (3/ 449)
أما تارك الصلاة فإن كان جاحداً لوجوبها فهو كافر بالإجماع، وإن تركها عمداً تهاوناً وتكاسلاً مع اعترافه بوجوبها، فاختُلف في حكمه فذهب بعض أهل العلم إلى أنه كافر مرتد يستتاب، فإن تاب فذلك، وإن لم يتب قُتِل كفراً، وهذا مذهب أحمد في أصح الروايتين عنه.
(1)
وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه غير كافر، ويُقتل حداً - كالزاني المحصن - لا كفراً، وهو مذهب مالك وأصحابه
(2)
، ومذهب الشافعي وجمهور أصحابه.
(3)
ومن أدلتهم على أنه يقتل: هذه الآية، بدلالة مفهوم المخالفة -كما تقدم- وأيضاً استدلوا بما رواه الشيخان عن ابن عمر- رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا
(1)
وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبه قال ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وهو رواية ضعيفة عن مالك. ينظر: المغني (2/ 329)، وفتح الباري لابن رجب (5/ 461)، وفتح الباري لابن حجر (12/ 203)، والإنصاف للمرداوي (1/ 404).
(2)
ينظر: البيان والتحصيل لابن رشد (1/ 475)، والذخيرة للقرافي (2/ 482).
(3)
ينظر: الأم 1/ 291، ونهاية المطلب للجويني (2/ 651)، وخلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام للنووي (1/ 244).
بحقها»
(1)
فهذا الحديث الصحيح يدلّ على أنهم لا تُعصم دماؤهم ولا أموالهم إلا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
وذهب أبو حنيفة وبعض أهل العلم إلى أنه لا يُكفّر ولا يقتل بل يُعزّر ويحبس حتى يصلي
(2)
واحتجوا لعدم قتله بأدلة منها حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»
(3)
، قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه، صرّح فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث، ولم يذكر منها ترك الصلاة، فدلّ ذلك على أنه غير موجب للقتل.
(4)
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) رقم (25)(1/ 95)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)(22)(1/ 53)
(2)
المقرر في أصول الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يعتبر المفهوم المعروف بدليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة، وعليه فإنه لا يعترف بدلالة هذه الأحاديث على قتله ; لأنها إنما دلت عليه بمفهوم مخالفتها.
ينظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي (1/ 155)، وحاشية ابن عابدين (1/ 235)
(3)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] برقم (6878)(9/ 5)، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص، باب ما يباح به دم المسلم برقم (25)(3/ 1302)
(4)
قال ابن القيم: (وأما حديث ابن مسعود- لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث- فهو حجة لنا في قتل تارك الصلاة، فإنه جعل منهم التارك لدينه، والصلاة ركن الدين الأعظم، ولا سيما إن قلنا بأنه كافر، فقد ترك الدين بالكلية، وأنه إن لم يكفر فقد ترك عمود الدين.). الصلاة وأحكام تاركها (1/ 33)، وقال ابن تيمية:(وأيضا فإن حقيقة الدين هو الطاعة والانقياد، وذلك إنما يتم بالفعل لا بالقول فقط، فمن لم يفعل لله شيئاً فما دان لله ديناً ومن لا دين له فهو كافر). شرح العمدة (2/ 86).
قال الخطيب الشربيني في «الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع» في الكلام عن تارك الصلاة: «(فإن تاب) بأن امتثل الأمر (وصلّى) خُلّي سبيله من غير قتل
…
(وإلا) أي وإن لم يتب (قُتِل بالسيف) إن لم يُبد عذراً (حداً) لا كفراً.»
(1)
، وهو موافق لمذهبه الشافعي.
والذي يظهر أن تارك الصلاة بلا عذر كافرٌ، كفراً مخرجاً من الملة بمقتضى الأدلة التي تشهد بذلك
(2)
، كما هي دلالة هذه الآية، وهو ما ذهب إليه أحمد، وأحد قولي الشافعي
(3)
، ويؤيد صحة هذه الدلالة قوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، فمفهوم الآية: أنهم إن لم يقيموا الصلاة لم يكونوا من إخوان المؤمنين، ومن انتفت عنه أُخوة المؤمنين فهو من الكافرين؛ لأن الله تعالى يقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]
(4)
وأما دلالة السنة على كفر تارك الصلاة فقوله صلى الله عليه وسلم: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» .
(5)
والمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة فصلاً
(1)
الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (4/ 247)
(2)
ينظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (2/ 26)، ورسالة في حكم تارك الصلاة للعثيمين ص 19، وفتاوى اللجنة الدائمة (10/ 143)
(3)
ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59]، وذكر ابن القيم في كتاب الصلاة أنه أحد الوجهين في مذهب الشافعي، وأن الطحاوي نقله عن الشافعي نفسه، ينظر: الصلاة وأحكام تاركها (1/ 42) وعلى هذا قول جمهور الصحابة.
(4)
ينظر: أضواء البيان للشنقيطي (3/ 447)
(5)
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم (134)(1/ 88)
بين المؤمنين والكافرين، ومعلوم أن ملة الكفر غير ملة الإسلام، فمن لم يأت بهذا العهد فهو من الكافرين.
(1)
أما الزكاة فقد صحَّ أن أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة، لا من جحَد وجوب الزكاة فقط، بل من قال: لا أؤديها إليك، وبهذه الآية وفِعل أبي بكر رضي الله عنه استدلّ العلماء على قتال مانعي الزكاة، لأن الله تعالى شرط أمورا ثلاثة في ترك القتال وتخلية سبيلهم، فذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما، بل لا بد من وجودها جميعاً، وقال صلى الله عليه وسلم:«فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»
(2)
فلم تثبت العصمة بمجرد الإسلام، وذكر أن الزكاة من حقها
(3)
، وبهذا يظهر صحة دلالة هذه الآية على ما استنبطه الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
ذكر شيخ الإسلام في أكثر من موضع أن تكفير تارك الصلاة هو قول جماهير السلف، ينظر: شرح العمدة (4/ 73)، ومجموع الفتاوى (20/ 97)، وينظر: الشرح الممتع (2/ 26)، ورسالة في حكم تارك الصلاة ص 19.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
قال الشيخ ابن عثيمين في حق الزكاة: (هي فرض بإجماع المسلمين، فمن أنكر وجوبها فقد كفر، إلا أن يكون حديث عهد بإسلام، أو ناشئاً في بادية بعيدة عن العلم وأهله فيعذر، ولكنه يُعَلَّم، وإن أصرّ بعد علمه فقد كفر مرتداً، وأما من منعها بخلاً وتهاوناً ففيه خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إنه يكفر، وهو إحدى روايتين عن الإمام أحمد، ومنهم من قال: إنه لا يكفر، وهذا هو الصحيح، ولكنه قد أتى كبيرة عظيمة). مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (14/ 18)، وينظر: المغني (2/ 228)
طعن أهل الذمة في دين الإسلام ينقض عهدهم.
قال الله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12].
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فيه دليل على أنّ الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده).
(1)
وجه الاستنباط:
أن الله أمر بقتال من نكث يمينه وجعل ذلك علّة قتاله، وعطَف الطعن في الدين على نكث العهد، وخصَّه بالذكر؛ لبيان أنه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال.
(2)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية بدلالة النص أن الذمي إذا طعن في دين الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله، لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة.
(3)
(1)
السراج المنير (1/ 676)
(2)
ينظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 14)، وأحكام أهل الذمة لابن القيم (3/ 1383)
(3)
وهذا مذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: يستتاب، ومجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النكث، ينظر: الكافي في فقه أهل المدينة للقرطبي (2/ 1092)، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (2/ 318)، والمهذب للشيرازي (3/ 318)، والمجموع للنووي (19/ 427)، والكافي في فقه الإمام أحمد (4/ 184)، والإنصاف للمرداوي (4/ 253)، والروض المربع شرح زاد المستقنع للبهوتي (1/ 303)، ومنار السبيل في شرح الدليل لابن ضويان (1/ 305)
وينظر خلاف أبي حنيفة في: أحكام القرآن للجصاص (4/ 275)، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم (5/ 124)، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي للزيلعي (3/ 281).
قال ابن تيمية: (والدلائل على انتقاض عهد الذمي بسبّ الله أو كتابه أو دينه أو رسوله، ووجوب قتله وقتل المسلم إذا أتى ذلك: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والاعتبار، أما الكتاب فيستنبط ذلك منه من مواضع - ذَكَر منها موضع هذه الآية - فقال: وهذه الآية تدلّ من وجوه:
أحدها: أن مجرد نكث الأيمان مقتضٍ للمقاتلة وإنما ذَكَر الطعن في الدين وأفرده بالذكر تخصيصاً له بالذكر وبياناً؛ لأنه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال، ولهذا يُغلّظ على الطاعن في الدين من العقوبة ما لا يغلظ على غيره من الناقضين -إلى أن قال رحمه الله: ذَكَر الطعن في الدين لأنه أوجب القتال في هذه الآية بقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} وبقوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} فيفيد ذلك أن من لم يصدر منه إلا مجرد نكث اليمين جاز أن يُؤمَّن ويُعاهد، وأما من طعن في الدين فإنه يتعين قتاله، وهذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين وإن أمسك عن غيره
(1)
، وإذا كان نقض العهد وحده موجباً للقتال وإن تجرد عن الطعن، عُلِم أن الطعن في الدين إما سبب آخر، أو سبب
(1)
كما في قصة كعب بن الأشرف اليهودي، وهي في الصحيحين. أخرجها البخاري في كتاب المغازي باب قتل كعب بن ا? شرف (4037)، ومسلم في الجهاد والسير (2359)، وشواهد غيرها كثيرة.
مستلزم لنقض العهد فإنه لابد أن يكون له تأثير في وجوب المقاتلة وإلا كان ذكره ضائعاً).
(1)
وممن نصّ على هذه الدلالة من المفسرين موافقاً الخطيب: الزجاج، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، وابن العربي، والزمخشري، وابن الجوزي، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، والخازن، وأبوحيان، والنسفي، والنيسابوري، وحقي، والشوكاني، والقاسمي، وغيرهم.
(2)
قال الزجاج: (هذه الآية توجب قتل الذمي إذا طعن في الإسلام؛ لأن العهد معقود عليه ألا يطعن فإن طعن فقد نكث).
(3)
وقال السمعاني: (قوله تعالى: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} هذا دليل على أن الذمي إذا طعن في دين الإسلام ظاهراً لا يبقى له عهد، ويجوز قتله).
(4)
ولا خلاف بين المسلمين أن الذمي إذا سبّ الله والرسول، أو عاب الإسلام علانية، عوقب على ذلك بما يردعه، فعُلم أنه لم يعاهدنا عليه؛ إذ لو كان معاهداً
(1)
الصارم المسلول (1/ 11) وقد أجاد رحمه الله في تفصيل أوجه الدلالة من الآية، والرد على المخالف ينظر ص 11 ومابعدها.
(2)
ينظر: معاني القرآن وإعرابه (2/ 434)، والتفسير الوسيط (2/ 480)، وتفسير السمعاني (2/ 292)، ومعالم التنزيل (2/ 321)، وأحكام القرآن لابن العربي (2/ 460)، والكشاف (2/ 251)، وزاد المسير (2/ 240)، والتفسير الكبير (15/ 535)، والجامع لأحكام القرآن (8/ 83)، وأنوار التنزيل (3/ 73)، ولباب التأويل (2/ 339)، والبحر المحيط (5/ 380)، ومدارك التنزيل (1/ 667)، وغرائب القرآن (3/ 436)، وروح البيان (3/ 393)، وفتح القدير (2/ 389)، ومحاسن التأويل (5/ 359).
(3)
معاني القرآن وإعرابه (2/ 434).
(4)
تفسير السمعاني (2/ 292)
عليه لم تجز عقوبته عليه كما لا يعاقب على شرب الخمر وأكل الخنزير ونحو ذلك، وإذا كنا عاهدناه على ألا يطعن في ديننا ثم طعن فقد نكث يمينه من بعد عهده، فيجب قتله بنص الآية.
(1)
قال شيخ الإسلام: وهذه دلالة قوية حسنة.
(2)
والمعاهد له أن يُظهر في داره ما شاء من أمر دينه الذي لا يؤذينا، والذمِّي ليس له أن يظهر في دار الإسلام شيئاً من دينه الباطل وإن لم يؤذِنا فحاله أشد، وأهل مكة الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا معاهدين لا أهل ذمة فلو فُرض أن مجرد طعنهم ليس نقضا للعهد -كما يقول المخالف - لم يكن الذمي كذلك.
(3)
، وبهذا يتبين صحة هذه الدلالة وقوتها، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: الصارم المسلول (1/ 11)، وينظر: الكافي في فقه أهل المدينة للقرطبي (2/ 1092)، وحاشية العدوي (2/ 318)، والمهذب للشيرازي (3/ 318)، والمجموع للنووي (19/ 427)، والكافي في فقه الإمام أحمد (4/ 184).
(2)
الصارم المسلول (1/ 16).
(3)
ينظر: الصارم المسلول لابن تيمية (1/ 14)، وأحكام أهل الذمة لابن القيم (3/ 1383).
ترجيح مصالح الدين على الدنيا.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله، ومن المجاهدة في سبيل الله {فَتَرَبَّصُوا} أي: انتظروا متربصين وهو تهديد بليغ .. وفي هذا دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا).
(1)
وجه الاستنباط:
الوعيد الشديد لمن قدَّم محبَّة أحد هذه المذكورات على محبة الله ورسوله وطاعتهما، وآثر مصلحة نفسه على مصلحة دينه.
الدراسة:
أمر الله تعالى بمباينة الكفار وإن كانوا آباء أو أبناء، ونهى عن موالاتهم إذا اختاروا الكفرعلى الإيمان، وتوعد على ذلك الوعيد الشديد
(2)
، ومنه استنبط الخطيب دلالة هذه الآية باللازم على أنه لابد من تقديم محبة الله ورسوله على كل محبوب.
(1)
السراج المنير (1/ 683).
(2)
ينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 121).
قال ابن القيم: (فكل من قدّم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه، على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قاله بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه).
(1)
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)
(2)
قال السعدي مؤكداً صحة هذه الدلالة: (وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله، وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد، على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من الله ورسوله، وجهاد في سبيله. وعلامة ذلك أنه إذا عرض عليه أمران، أحدهما يحبه الله ورسوله، وليس لنفسه فيه هوى، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه، ولكنه يفوت عليه محبوباً لله ورسوله، أو ينقصه، فإنه إن قدّم ما تهواه نفسه، على ما يحبه الله، دلّ ذلك على أنه ظالم، تارك لما يجب عليه).
(3)
وممن استنبط إشارة هذه الآية إلى أن مصالح الدين مقدّمة على مصالح الدنيا والمعاش: الرازي، والقرطبي، والخازن، وابن القيم، وأبو حيان، وابن عادل،
(1)
تفسير القرآن الكريم لابن القيم (1/ 94)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 120)، وينظر: تحقيق التجريد في شرح كتاب التوحيد للعجيلي (1/ 116)
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، برقم (14)(1/ 12).
(3)
تيسير الكريم الرحمن (1/ 332)
والنيسابوري، وحقي، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور، والمراغي
(1)
، وغيرهم.
(2)
قال ابن عاشور: (فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين وبين ما تجُرّ إليه تلك العلائق وجب على المؤمن دحضها وإرضاء ربه).
(3)
والمقرر في الأصول أنه إذا تعارضت مصلحتان وازدحتما بحيث لم يمكن الجمع بينهما وكان لا بد من ترك واحدة منهما للإتيان بالأخرى؛ فالمتعين فعل ما مصلحته أرجح وترك ما مصلحته أقل.
(4)
ولا أعظم من مصالح الدين لأن المقصود إنما هو العبادة، فيقدم ما هو الأهم في نظر الشرع.
قال الشاطبي: (المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق)
(5)
، وبهذا يظهر صحة هذه الدلالة على ما استنبطه الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
محمد مصطفى بن محمد بن عبد المنعم المراغي، عالم أزهري مفسر، فقيه، وقاض شرعي مصري، شغل منصب شيخ الأزهر، وكان أحد أهم أعلام مصرفي وقته، كان على قدر من العلم والثقافة، حفظ القرآن، توفي سنة 1364 هـ. ينظر: معجم المؤلفين (12/ 34)
(2)
ينظر: التفسير الكبير (16/ 17)، والجامع لأحكام القرآن (8/ 95)، ولباب التأويل (2/ 344)، وتفسير القرآن الكريم لابن القيم (1/ 94) والبحر المحيط (5/ 391)، واللباب في علوم الكتاب (10/ 55)، وغرائب القرآن (3/ 446)، وروح البيان (3/ 403)، ومحاسن التأويل (5/ 367)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 332)، والتحرير والتنوير (10/ 152)، وتفسير المراغي (10/ 82)
(3)
التحرير والتنوير (10/ 152)
(4)
وذلك بالنظر في قيمة المصلحة وترتيبها: وأعلى المقاصد هو حفظ الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم النسل، ثم المال وهي المصالح الضرورية التي تعرف بالكليات الخمس، كما رتبها أهل التحقيق.
ينظر: المستصفى للغزالي 1/ 417، وشفاء الغليل للغزالي ص 169، والمحصول للرازي 5/ 159، والإبهاج للسبكي 3/ 55.، والموافقات للشاطبي (2/ 22)
(5)
الموافقات (3/ 94)، وينظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام (1/ 91)، وعلم المقاصد الشرعية للخادمي (1/ 43)
وجوب الجهاد في كل حال.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (في الآية دليل على وجوب الجهاد في كل حال وفي كل وقت؛ لأنّ الله تعالى نصَّ على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، فلو لم يكن الجهاد واجباً لما عاتبهم الله على التثاقل، ويؤكد هذا الوعيد المذكور في قوله تعالى:{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39].
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية بدلالة النَّص وجوب الجهاد في كل حال؛ لأن قوله تعالى {اثَّاقَلْتُمْ} : توبيخ من الله على ترك الجهاد، وعتاب في التقاعد عن المبادرة إلى الخروج
(2)
، فلو لم يكن النفير للجهاد واجباً لما عاتبهم الله على التثاقل، ويدل له قوله تعالى في الآية التي تليها متوعداً بالعذاب الأليم:{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39].
(1)
السراج المنير (1/ 650)
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 510)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/ 140).
وظاهر كلام الخطيب
(1)
في وجوب النفير للجهاد حال الاستنفار؛ إذ لا خلاف في وجوب الجهاد وفرضيته، فإن ظاهر الآية في وجوب النفير على من يُستنفر وقال في آية أخرى بعدها {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، فأوجب النفير مطلقاً غير مقيد بشرط الاستنفار، وهذا يقتضي وجوب الجهاد على كل مستطيع له.
(2)
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: الجصاص، والكيا الهراسي، والرازي، والخازن، والنيسابوري، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور، وغيرهم.
(3)
وفي وجوب هذا النفير خلاف بين أهل العلم: فقال بعضهم بوجوب النفور إلى الإمام أو نائبه إذا دعا إلى الجهاد وأمر به، وهو الأصح
(4)
. وقال آخرون: إن المراد به عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم.
(5)
قال القرطبي: (وظاهر الآية يدل على أن ذلك على وجه الاستدعاء، فعلى هذا لا يتجه حملها على وقت ظهور المشركين، فإن وجوب ذلك لا يختص
(1)
قال رحمه الله في مغني المحتاج (6/ 22): «(الثاني) من حالي الكفار (يدخلون بلدة لنا) أو ينزلون على جزائر، أو جبل في دار الإسلام ولو بعيداً عن البلد (فيلزم أهلها الدفع بالممكن) منهم، ويكون الجهاد حينئذ فرض عين، وقيل كفاية، واعتمده البلقيني، وقال: إن نص الشافعي يشهد له» .
(2)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص (4/ 309).
(3)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص (4/ 309)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (4/ 203)، والتفسير الكبير (16/ 47)، ولباب التأويل (2/ 360)، وغرائب القرآن (3/ 470)، ومحاسن التأويل (5/ 418)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 337)، والتحرير والتنوير (10/ 195).
(4)
ينظر: المرجع السابق
(5)
ينظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (4/ 203)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/ 140).
بالاستدعاء، وإذا ثبت ذلك، فالاستدعاء والاستبقاء يبعُد أن يكون مُوجباً شيئاً لم يجب من قبل، إلا أن الإمام إذا عيَّن قوماً وندبهم إلى الجهاد، لم يكن لهم أن يتثاقلوا عنه، وله ولاية التعيين، ويصير بعينه فرضاً على من عيَّنه لا لمكان الجهاد، ولكن لطاعة الإمام)
(1)
. فإن عدم النفير في حال الاستنفار من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب.
(2)
والجهاد فرض كفاية على الراجح من أقوال أهل العلم، وقد يصير فرض عين على كل مسلم إذا استنفرهم الإمام، وهو ما يعرف بالنفير العام
(3)
، فإذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير معه وتعيَّن عليهم
(4)
، وعلى ذلك الجمهور
(5)
، ومن جملة أدلتهم هذه الآية كما نصَّ عليها الخطيب وما بعدها؛ وهي دلالة ظاهرة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا»
(6)
، وذلك لأن أمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك.
(7)
والله تعالى أعلم.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (8/ 142).
(2)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن (1/ 337)
(3)
ينظر: المبسوط (10/ 3)
(4)
قال شيخ الإسلام: (وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب؛ إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا). ينظر: الاختيارات الفقهية (1/ 609)، والفتاوى الكبرى (5/ 539)
(5)
ينظر: حاشية الدسوقي لابن عرفة (2/ 175)، وجواهر الإكليل (1/ 252)، والرسالة للشافعي (1/ 363)، والأم (4/ 170)، وحاشية تحفة المحتاج على المنهاج للنووي (9/ 212) والمغني (9/ 197)، والروض المربع للبهوتي (1/ 295).
(6)
تقدم تخريجه في الصحيح.
(7)
ينظر: حاشية الدسوقي (2/ 175)، وجواهر الإكليل (1/ 252)، والمغني (8/ 352)، والمحلى لابن حزم (7/ 291).
تفضيل أبي بكر رضي الله عنه.
قال الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
ذكر الخطيب الشربيني رحمه الله عند هذه الآية تنبيهاً فقال:
(دلَّت هذه الآية على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه من وجوه:
منها: أنّ الهجرة كانت بإذن الله تعالى، وكان في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة
من المخلصين، وكانوا في النسبة إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب من أبي بكر
رضي الله عنه، فلولا أنّ الله تعالى أمره بأن يستصحبه في تلك الواقعة الصعبة الهائلة وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة، وتخصيص الله تعالى له بهذا التشريف دال على منصب عال له في الدين.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم «لا تحزن إنّ الله معنا» ولا شك أنّ المراد من هذه المعية، المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة، وقد شرَّك صلى الله عليه وسلم بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية وكفى بها شرفاً.
ومنها: أن قوله: (لا تحزن) نهى عن الحزن مطلقاً، والنهي يوجب الدوام والتكرار، وذلك يقتضي أنه لا يحزن أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك البتة، قبل الموت وعند الموت وبعد الموت.
ومنها: إطباق الكل على أنّ أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر
(1)
، وأسماء بنت
أبي بكر
(2)
هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام).
(3)
الدراسة:
استنبط الخطيب وكثير من المفسرين فضيلة أبي بكر رضي الله عنه على غيره بدلالة اللازم من هذه الآية من وجوه اتفقوا في أغلبها
(4)
، ومن هذه
(1)
هوعبد الرحمن بن أبي بكر: عبدالله بن أبي قحافة بن عثمان الصديق، شقيق أم المؤمنين عائشة. حضر بدراً مع المشركين؛ ثم أسلم وحسن إسلامه، وهاجر قبيل الفتح، كان أسنّ أولاد الصديق، ومن الرماة الشجعان، قتل يوم اليمامة سنة 53 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (3/ 69)، وسير أعلام النبلاء (2/ 471)
(2)
هي أسماء بنت أبي بكر: عبد الله بن عثمان، القرشية، التيمية، زوج الزبير بن العوام، وهي أم عبد الله بن الزبير، وعروة، والمنذر، وهي ذات النطاقين، وكانت أسنّ من عائشة وهي أختها لأبيها، هاجرت إلى المدينة، وتوفيت سنة 73 هـ. ينظر: أسد الغابة (7/ 7).
(3)
السراج المنير (1/ 698)
(4)
وزاد بعضهم وجوهاً لم يذكرها الشربيني رحمه الله منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اصطحب أبا بكر معه إلى الغار كان موقناً بصدق أبي بكر الصديق وموافقة باطنه ظاهره، وإلا لم يعتمد عليه في مثل تلك الحالة خوفاً من أن يدل أعداءه عليه، أو أن يُقدم على قتله.
ومنها: أنه تعالى سمّاه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} فجعله ثاني محمد عليه الصلاة السلام حال كونهما في الغار، وأثبت العلماء أنه رضي الله عنه كان ثاني محمد في أكثر أحواله، فكان ثاني اثنين في الدعوة إلى الله، وكان لا يفارقه في الغزوات، وأداء الجماعات، وفي المجالس والمحافل، وفي المشاهد كلها إلى أن مات، وحجَّ بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي، وقد أقامه في مرضه مقامه في الإمامة، وكان خليفتة من بعده، ولما توفي دفن بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثاني اثنين من أول أمره إلى آخره.
ومنها: أن الله عاتب أهل الأرض بقوله {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} سوى أبي بكر الصديق وهذا دليل على فضله. إلى غير ذلك من فضائله رضي الله عنه وأرضاه -. ينظر: التفسير الكبير (16/ 50) ولباب التأويل (2/ 365)، وغرائب القرآن (3/ 471)، وروح المعاني (5/ 291).
الوجوه: أنّ الله تعالى أذِن لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة، ولولا أنّه تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك الواقعة الحاسمة، وإلا لم يخصّه بهذه الصحبة من بين أهله وقرابته، فتخصيص الله تعالى له بهذا تشريف له.
والحق أن الفضيلة والشرف حصل لأبي بكر من وجوه أخرى كثيرة غير هذا الوجه؛ إذ لم يثبت أن الله تعالى أمره بذلك، وحاصل الروايات في هذا كما في صحيح البخاري وغيره، أن أبا بكر سأل النبي صلى الله عليه وسلم الصحبة، فقال عليه الصلاة والسلام: نعم.
(1)
أما قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} ففيه النص على صحبته رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سواه، فحقق الله تعالى له وصف الصحبة في كتابه متلواً إلى يوم القيامة.
(2)
قال السعدي: (وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصِّيصَة لم تكن لغيره من هذه الأمة، وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة، والصحبة الجميلة، وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الآية الكريمة، ولهذا عدّوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم كافراً، لأنه منكر للقرآن الذي صرّح بها
(3)
).
(4)
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة برقم (3905)، (5/ 59)
(2)
ينظر: روح المعاني للألوسي (5/ 291)
(3)
قاله الحسين بن فضيل البجلي، ينظر: التفسير الكبير (16/ 50)، والجامع لأحكام القرآن (8/ 146)، وغرائب القرآن (3/ 471).
(4)
تيسير الكريم الرحمن (1/ 338)
وممن استنبط فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من هذا الوجه: ابن العربي، والرازي، والقرطبي، والخازن، والنيسابوري، وأبو السعود، والألوسي، والقاسمي، والسعدي، وغيرهم.
(1)
كما تضمنت هذه الآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر بقوله: {لَا تَحْزَنْ} ، وتعليل ذلك بمعيّة الله سبحانه الخاصة المستفادة من قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، فالرسول صلى الله عليه وسلم شرَّك بينه وبين أبي بكر في هذه المعيّة، فدلَّ على أن أبا بكر كان الله معه، وكل من كان الله معه فإنه من المتقين المحسنين، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، ولم يثبت مثل ذلك في غيره، بل لم يُثبِت نبيٌ معية الله سبحانه له ولآخر من أصحابه، وكأن في ذلك إشارة إلى أنه ليس فيهم كأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
(2)
وممن نصَّ على هذا الوجه من المفسرين: ابن العربي، والرازي، والنيسابوري، وأبو السعود، والألوسي، والقاسمي، وغيرهم.
(3)
أما قوله {لَا تَحْزَنْ} فنهاه عن الحزن مطلقاً، والنهي يقتضي الدوام والتكرار
(4)
فدلّ - والعلم عند الله تعالى - على أنه لا يحزن أبداً قبل الموت وبعده، وهذا من فضل الله تعالى على عبده.
(1)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 512)، والتفسير الكبير (16/ 50)، والجامع لأحكام القرآن (8/ 146)، ولباب التأويل (2/ 365)، وغرائب القرآن (3/ 471)، وإرشاد العقل السليم (4/ 66)، وروح المعاني (5/ 291)، ومحاسن التأويل (5/ 420)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 338).
(2)
ينظر: غرائب القرآن للنيسابوري (3/ 471)، وروح المعاني للألوسي (5/ 291).
(3)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 512)، والتفسير الكبير (16/ 52)، وغرائب القرآن (3/ 471)، وإرشاد العقل السليم (4/ 66)، روح المعاني (5/ 290)، ومحاسن التأويل (5/ 420)
(4)
ينظر: تيسير التحرير لابن الهمام (1/ 376)، ونهاية السول للأسنوي 2 (/63)، والقواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام (ص 191)، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (3/ 96)
وممن استنبط هذه الإشارة: الرازي، والنيسابوري، والألوسي، وغيرهم.
(1)
وأيضاً من أوجه دلالة هذه الآية على فضيلته: إجماع الكل على أنّ أبا بكرهو الذي اشترى الراحلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كمافي الصحيح وغيره، وعلى أنّ ابنه عبد الرحمن وابنته أسماء هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام
(2)
، وهذا دليل أيضاً على شرف هذا البيت، فليس في الصحابة مَن أسلم أبوه وأمُّه، وأولاده وأولاد أولاده، وأدركوا النبي صلى الله عليه وسلم سواه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فهم أهل بيت إيمان، ليس فيهم منافق، ولا يُعرف هذا لغير بيت أبي بكر، وكان يقال: للإيمان بيوت، وللنفاق بيوت، وبيت أبي بكر من بيوت الإيمان.)
(3)
وممن نصّ على هذا الوجه من المفسرين: الرازي، والنيسابوري وغيرهما.
(4)
وفي الجملة ففي الآية فضائل عدّة مختصّة به رضي الله عنه لم تكن لغيره، وقد دلّ على أنه أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب والسنة وإجماع المسلمين
(5)
،
(1)
ينظر: التفسير الكبير (16/ 52)، وغرائب القرآن (3/ 471)، وروح المعاني (5/ 290)
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة برقم (3905)، (5/ 59) وفيه بلفظ ابنه عبدالله.
(3)
منهاج السنة النبوية (8/ 332)
(4)
ينظر: التفسير الكبير (16/ 52)، وغرائب القرآن (3/ 471)
(5)
ينظر: الإصابة لابن حجر 2/ 335، وتاريخ الخلفاء للسيوطي 1/ 48، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 10/ 154، وشرح كتاب الفقه الأكبر لملا علي القاري 1/ 101.
قال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس من الناس أحد أمنَّ علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خُلة الإسلام أفضل، سُدّوا عني كل خوخة
(1)
في هذا المسجد، غير خوخة أبي بكر»
(2)
ولما سُئِل عليه الصلاة والسلام «أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» ، قيل: من الرجال؟ فقال: «أبوها»
(3)
قال شيخ الإسلام: (هذه الخصائص لم يشركه فيها أحد).
(4)
وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة في تفضيل أبي بكر رضي الله عنه، ومن فضَّل عمر أو غيره من الصحابة على أبي بكر الصديق فقد أخطأ، وابتدع ما لم يرد عليه دليل من كتاب ولا سنة.
(5)
والله تعالى أجلّ وأعلم.
(1)
الخوخة - بفتح الخاءين - باب صغير كالنافذة الكبيرة، وتكون بين بيتين ينصبُ عليها باب. ينظر: النهاية لابن الأثير 2/ 86.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد (1/ 100) برقم (467)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر الصديق 4/ 1854 برقم (2382)
(3)
أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا خليلا» ، برقم (3662)(5/ 5).
(4)
فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (13/ 1232)
(5)
ينظر: الفصل في الملل والنحل 4/ 212، والشيعة الإمامية الإثنى عشرية ص 120.
مناسبة ختم الآية بقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (وقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} في موضع ما عليهم لبيان إحسانهم بنصحهم مع عذرهم {مِنْ سَبِيلٍ} أي: طريق إلى ذمهم أو لومهم، والمعنى أنه سدّ بإحسانه طريق العتاب، ومن أعظم الإحسان من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، مخلصاً من قلبه فإن ما عليه من سبيل في نفسه وماله؛ لإباحة الشرع بدليل منفصل؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمحسن هو الآتي بالإحسان ورأس أبواب الإحسان ورئيسها هو قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله و (غفور) أي: محاء للذنوب، (رحيم) أي: بجميع عباده، وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير وإن اجتهد فلا يسعه إلا العفو).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على مناسبة ختم الآية بقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إشارة إلى عجز الإنسان وتقصيره، وإن اجتهد في الطاعة؛ فإنه لا يسعه إلا رحمة الله وعفوه، فهو تذييل مؤيد لمضمون قوله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} أي لا إثم عليهم بسبب القعود عن الجهاد، ثم أشارإلى
(1)
السراج المنير (1/ 734)
حاجتهم إلى المغفرة، وإن كان تخلفهم عن الجهاد بعذر، فقال {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فلا يسعهم إلا عفوه سبحانه وتعالى ومغفرته.
(1)
وممن أشار إلى هذه الدلالة من الآية: حقي، وأبو السعود، والقاسمي، وغيرهم.
(2)
قال القاسمي مؤكداً هذه الدلالة: (قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل مؤيد لمضمون ما ذُكر، مشير إلى أن بهم حاجة إلى المغفرة، وإن كان تخلفهم بعذر- أفاده أبو السعود
(3)
- أي لأن المرء لا يخلو من تفريطٍ ما، فلا يقال إنه نفى عنهم الإثم أولاً، فما الاحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب؟).
(4)
ولهذا حسُن ختم الآية بقوله {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إشعاراً بحاجة العبد وفاقته دائماً إلى العفو والمغفرة، مهما بلغ به من الطاعة وزال عنه العذر، فإن المرء محل الضعف والتفريط، وغلبة الهوى مهما بلغ، فهو في حاجة رحمة الله وعفوه، والتي من دلائلها هنا أن عفا عن العاجزين، وأثابهم بنيتهم الجازمة ثواب القادرين الفاعلين.
(5)
والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: روح البيان (3/ 485)
(2)
ينظر: روح البيان (3/ 485)، وإرشاد العقل السليم (4/ 92)، ومحاسن التأويل (5/ 477).
(3)
ينظر: المرجع السابق.
(4)
محاسن التأويل (5/ 477)
(5)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن (1/ 348)، ونظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي في غير موضع الآية لكن نصَّ على هذه الدلالة نفسها (21/ 37).
الغافل غير مكلف.
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله تعالى {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} أي: ما يجب اتقاؤه للنهي، أمّا قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم، وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه
(1)
، وقيل: إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر وغير ذلك، وفي الجملة دليل على أنّ الغافل غير مكلف).
(2)
وجه الاستنباط: قوله تعالى {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} حيث دلّ على استصحاب البراءة الأصلية، وأنه لا مؤاخذة قبل العلم والبيان.
(3)
الدراسة:
استنبط الخطيب أن الغافل غير مكلف
(4)
بدلالة اللازم من هذه الآية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا استغفر لعمه أبي طالب، واستغفر المسلمون لموتاهم من المشركين،
(1)
وهو قول أكثر المفسرين بدلالة سياق الآية، ينظر: جامع البيان (14/ 536)، والمحرر الوجيز (3/ 92)، والتسهيل لعلوم التنزيل (1/ 349)، والبحر المحيط (5/ 515)، وتفسير القرآن العظيم (4/ 227)، وفتح القدير (2/ 469)
(2)
السراج المنير (1/ 745)
(3)
ينظر: التفسير القيم لابن القيم (1/ 45)، وأضواء البيان (7/ 498)، ومذكرة في أصول الفقه (1/ 190).
(4)
تكليف الغافل غير جائز للنص والمعقول، أما النص فقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاث .. الحديث" وقوله «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ، وأما المعقول فهو أن فعل الشئ مشروط بالعلم به. ينظر: المحصول للرازي (2/ 260)، ونهاية السول للأسنوي (1/ 65)، والموافقات للشاطبي (2/ 379).
وأنزل الله عتابه لهم بقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الآية [التوبة: 113] ندموا على استغفارهم للمشركين، فبيّنت الآية أن استغفارهم لهم قبل التحريم على البراءة الأصلية لا إثم عليهم فيه، ولا حرج حتى يبين لهم ما يتقون.
(1)
قال الطبري في معنى هذه الآية: (وما كان الله ليقضي عليكم، في استغفاركم لموتاكم المشركين، بالضلال، بعد إذ رزقكم الهداية، ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدَّم إليكم بالنهي عنه، فتتركوا الانتهاء عنه. فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي، فأما من لم يؤمر ولم ينه، فغير كائن مطيعاً أو عاصياً فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه).
(2)
وممن وافق الخطيب في استنباط هذه الدلالة من الآية: الرازي، والبيضاوي، وأبو السعود، وحقي، وغيرهم.
(3)
(1)
ينظر: شرح الكوكب المنير (4/ 404)، ومذكرة في أصول الفقه (1/ 190)، ومعالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (1/ 210)
(2)
جامع البيان (14/ 536)
(3)
ينظر: التفسير الكبير (16/ 160)، وأنوار التنزيل (3/ 100)، وإرشاد العقل السليم (4/ 108)، وروح البيان (3/ 523).
وهي دلالة صحيحة ظاهرة، فالإتيان بالفعل على سبيل القصد والامتثال يتوقف على العلم به وهو ضروري، وعليه يمتنع تكليف الغافل كالنائم والناسي لمضادة هذه الأمور الفهم، فينتفي شرط صحة التكليف.
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: البرهان في أصول الفقه للجويني (1/ 107)، والمحصول للرازي (2/ 260)، وروضة الناظر لابن قدامة (1/ 112)، والفروق للقرافي (1/ 178)، وشرح مختصر الروضة للصرصري (1/ 320)، والبحر المحيط للزركشي (2/ 64)، والقواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام (1/ 87).
الآثار المترتبة على أفعال العباد تُكتب لهم لأن أفعالهم كانت سبباً فيها.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (في هذه الآية دلالة على أنّ من قصد طاعة الله تعالى كان قيامه وقعوده، ومشيه وحركته وسكونه، كلها حسنات مكتوبة عند الله تعالى، وكذا القول في طرف المعصية؛ فإنّ حركته فيها كلها سيئات، فما أعظم بركة الطاعة، وما أكبر ذل المعصية إلا أن يغفرها الله تعالى
(1)
).
(2)
وجه الاستنباط:
إذا كان ما أصاب أهل المدينة في سبيل الله من الظمأ والمخمصة والنصب يُكتب لهم، دلّ على أن الآثار المترتبة على أفعال العباد كلها مكتوبة؛ لأن أفعالهم كانت سبباً فيها.
(3)
(1)
وهذا الاستنباط قال به عطية العوفي، كمانسبه إليه الواحدي في تفسيره الوسيط (2/ 534) قال:«قال عطية العوفي: في الآية من الفقه أن من قصد طاعة، كان قيامه وقعوده، ونصبه ومشيه، وحركاته كلها حسنات مكتوبة له وكذلك في المعصية، فما أعظم بركة الطاعة، وما أعظم شؤم المعصية» ، وهو استنباط صحيح المعنى، وإن كان عطية العوفي ضعيف عند جمهور المحدثين. ينظر: التاريخ الكبير (5/ 360) والصغير للبخاري (1/ 267)، والضعفاء للعقيلي (3/ 359).
(2)
السراج المنير (1/ 747)
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/ 522)
الدراسة:
في هذه الآيات أشدّ ترغيب وتشويق للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل الله، والاحتساب لما يصيبهم فيه من المشقة، وأنها لهم رفعة في الدرجات، إذ دلّت الآية بالنصّ على أن الآثار المترتبة على عمل العبد له فيها أجر كبير، إذا أخلص فيها، ونصح فيها لله، كما نصَّ عليه الخطيب، وهي دلالة حسنة قوية الظهور.
(1)
قال ابن تيمية في بيان وجه اختلاف هذه الآية عن التي تليها: (والإنفاق والسير هو نفس أعمالهم القائمة بهم، فقال فيها: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} ولم يقل {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} فإنها نفسها عمل، فنفس كتابتها يحصل به المقصود، بخلاف الظمأ والنصب والجوع الحاصل بغير الجهاد، وبخلاف غيظ الكفار بما نيل منهم؛ فإن هذه ليست نفس أفعالهم، وإنما هي حادثة عن أسباب منها: أفعالُهم؛ فلهذا قال تعالى: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}. فتبيّن أن ما يحدث من الآثار عن أفعال العباد لهم بها عمل؛ لأن أفعالهم كانت سبباً فيها).
(2)
وقال في موضع آخر: (فالإنفاق وقطع الوادي نفس عملهم، فكُتِب، وما تقدّم أثر عملهم الصالح، فكُتِب لهم به عمل صالح، كدعاء الولد فإنه أثر عمل الوالد، وإن كان الوالد لم يقصد دعاءه، كما لم يقصد هؤلاء ما حصل من الظمأ والمخمصة والنصب).
(3)
(1)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن (1/ 355)، والقواعد الحسان لتفسير القرآن (1/ 138)
(2)
مجموع الفتاوى (8/ 522)، وينظر: عدة الصابرين لابن القيم (1/ 86)، ومفتاح دار السعادة (1/ 175).
(3)
جامع المسائل لابن تيمية (4/ 268) وينظر: الزهد والورع والعبادة (1/ 153).
وممن نصّ أيضاً على هذه الدلالة من الآية: الواحدي، والزمخشري، والرازي، والنسفي، والخازن، والنيسابوري، والألوسي، والسعدي، وغيرهم.
(1)
وهذا من سعة رحمة الله تعالى بعباده ومن بركة الطاعة؛ فإن من قصد بعمله وعلمه وجه الله بارك الله له، وضاعف له الحسنات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. أما العاصي فلا يجد في حياته بركة ولا نفعاً، ولا يرى بعد رحيله عن الدنيا أثراً، وذلك هو شؤم المعصية وفقدان بركة الطاعة والإيمان، والله تعالى وأعلم.
فضل الجهاد والإنفاق فيه.
قال الله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} الآية [التوبة: 121]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَلَا يُنْفِقُونَ} في سبيل الله {نَفَقَةً صَغِيرَةً} تمرة فما دونها {وَلَا كَبِيرَةً} أي: أكثر منها مثل ما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة {وَلَا يَقْطَعُونَ} أي: يجاوزون {وَادِيًا} أي: أرضا في سيرهم مقبلين أو مدبرين {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} ذلك من الإنفاق وقطع الوادي، ثم قال:
تنبيه: في الآية دليل على فضل الجهاد والإنفاق فيه، ويدل عليه أشياء:
منها: ما روي عن ابن مسعود
(2)
، قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله،
(1)
ينظر: التفسير الوسيط (2/ 534)، والكشاف (2/ 321)، والتفسير الكبير (16/ 169)، ومدارك التنزيل (1/ 716)، ولباب التأويل (2/ 420)، وغرائب القرآن (3/ 546)، وروح المعاني (6/ 44)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 355)، والقواعد الحسان لتفسير القرآن (1/ 138).
(2)
الصحيح أنه أبو مسعود الأنصاري كما في صحيح مسلم وغيره.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك بها يوم القيامة سبع مائة ناقة كلها مخطومة»
(1)
، ومنها ما روي عن زيد بن خالد
(2)
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في سبيل الله فقد غزا»
(3)
).
(4)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية بدلالة مفهوم الموافقة فضل الجهاد في سبيل الله والإنفاق فيه، حيث نصَّ تعالى في هذه الآية على أنهم لا ينفقون نفقة، والمقصود بها هنا النفقة في الجهاد، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، قليلة أو كثيرة، بل حتى ولا يقطعون وادياً من الأودية مقبلين إلى العدو، أو مدبرين إلا كتب لهم ثوابها؛ ليجزيهم الله بأعمالهم، وأحسن منها، لأنه تعالى يعطي بالحسنة الواحدة عشرة حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما لا يدرك حسابه.
(5)
وهذا يدل على فضيلة الجهاد، والنفقة فيه سبيل الله، ويدل له ماجاء في القرآن في آيات كثيرة في الحض على الجهاد ويبان فضله، كما أخبر سبحانه في سورة
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها برقم (132)، (3/ 1505).
(2)
هو زيد بن خالد الجهني يكنى أبا عبد الرحمن، وقيل: أبو زرعة، أو أبو طلحة. سكن المدينة، وشهد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معه لواء جهينة يوم الفتح. توفي سنة 78 هـ. ينظر: أسد الغابة (2/ 355)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (3/ 410).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب فضل من جهز غازياً أو خلفه بخير، برقم (2843)، (4/ 27).
(4)
السراج المنير (1/ 656).
(5)
تفسير السمرقندي (2/ 97)
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في الحث على الجهاد، وفضله، والإنفاق فيه أحاديث كثيرة نصَّ على بعضها الخطيب كما تقدم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها» .
(1)
وقال صلى الله عليه وسلم «من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في سبيل الله فقد غزا» .
(2)
وهذه دلالة قوية ظاهرة من الآية، نصَّ عليها غير الخطيب: الخازن، وحقي، والألوسي، وغيرهم.
(3)
كما نصَّ على فضيلة الجهاد والنفقة فيه، غيرهم من المفسرين في غير موضع هذه الآية.
(4)
ولا شك أن الجهاد بالمال نوع من أنواع الجهاد المأمور به، وفضله عظيم فهو بمثابة التجارة الرابحة مع الله، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله برقم (2892)، (4/ 35).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
ينظر: لباب التأويل (2/ 420)، روح البيان (3/ 534)، وروح المعاني (6/ 46).
(4)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (8/ 96)، ولباب التأويل (1/ 320)، وغرائب القرآن (2/ 477)، والتحرير والتنوير (27/ 356)
} [الصف: 10 - 11].
وقدَّم تعالى ذكر الأموال على الأنفس في كثير من الآيات كقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41]
قال الشوكاني في بيان علة ذلك: (لأنها هي التي يُبدأ بها في الإنفاق والتجهز إلى الجهاد).
(1)
وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية وجوب الجهاد بالمال لمن عجز عن الجهاد ببدنه لمن كان من الموسرين
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
فتح القدير (5/ 265).
(2)
ينظر: الاختيارات الفقهية لابن تيمية (1/ 607).
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله تعالى {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فيه دليل على أنّ التفقه والتذكير من فروض الكفاية
(1)
، وأنه ينبغي أن يكون غرض المتكلم فيه أن يستقيم ويقيم، لا الترفع على الناس وصرف وجوههم إليه، والتبسط في البلاد، ليدخل في قوله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"
(2)
، وفي قوله صلى الله عليه وسلم "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم")
(3)
.
(4)
استنبط الخطيب من هذه الآية دلالتان، الدلالة الأولى:
التفقه والتذكير من فروض الكفاية.
وجه الاستنباط:
ما تضمَّنته الآية من الأمر بنفير طائفة من كل فِرقة للتفقُّه، وأمر الباقين بالقعود.
(1)
وفي الآية استنباطات أخرى ذكرها بعض المفسرين، قال السيوطي:(في الآية أن الجهاد فرض كفاية، وأن التفقه في الدين ونشر العلم وتعليم الجاهلين كذلك. وفيها الرحلة في طلب العلم، واستدلّ بها قوم على قبول خبر الواحد، لأن الطائفة نفر يسير، بل قال مجاهد: إنها تطلق على الواحد). الإكليل (1/ 145)
(2)
أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين برقم (71)(1/ 25)
(3)
تقدم تخريجه
(4)
السراج المنير (1/ 747)
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة النص من هذه الآية أن الفقه في الدين من فروض الكفاية؛ حيث دلّت على أنه لا يسع المؤمنين كلهم الخروج للجهاد؛ إذ لو اشتغل الكل بالتفقه فى الدين لتعطل عليهم المعاش، فجُعل ذلك فرضاً على الكفاية.
(1)
ولأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الغزو والجهاد وقهر الكفار، وكانت التكاليف أيضاً تحدث، والشرائع تنزل، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يقيم مع الرسول صلى الله عليه وسلم فيتعلم تلك الشرائع، ويحفظ تلك التكاليف ويبلّغها إلى الغائبين. فكان الواجب انقسام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قسمين، أحدهما: ينفر إلى الغزو والجهاد، والثاني: يقيم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فالطائفة النافرة إلى الغزو تنوب عن المقيمين في الغزو، والطائفة المقيمة تنوب عن النافرين في التفقه، وبهذا يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين.
(2)
وهذه من القواعد الجليلة ومن السياسة الشرعية الحكيمة، فإن كثيراً من المصالح العامة الكلية لا يمكن اشتغال الناس كلهم بها، ولا يمكن تفويتها، فالطريق إلى حصولها ما أرشد الله عباده إليه، أن يقوم بالجهاد طائفة كافية، وبالعلم طائفة أخرى، وأن الطائفة القائمة بالجهاد تستدرك ما فاتها من العلم إذا رجعت.
(3)
(1)
ينظر: لطائف الإشارات للقشيري (2/ 73)
(2)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (16/ 170)، والبحر المحيط لأبي حيان (5/ 526)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (11/ 59)
(3)
القواعد الحسان لتفسير القرآن للسعدي (1/ 139)
وقد وافق جمهورالمفسرين الخطيب في استنباط هذه الدلالة من الآية منهم: الشافعي، والجصّاص، والكيا الهراسي، والقشيري، والقرطبي، والبيضاوي، وابن جزي، والنيسابوري، والسيوطي، وأبو السعود، وحقي، وابن عاشور، والسعدي، وغيرهم.
(1)
قال القرطبي: (هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم، لأن المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبي صلى الله عليه وسلم مقيم لا ينفر فيتركوه وحده .. ، ثم قال: وفي هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة، وأنه على الكفاية دون الأعيان).
(2)
وقد يكون طلب العلم فرض عين على المسلم إذا كان يتوقف عليه معرفة عبادة تلزمه
(3)
، أما ما عدا ذلك من العلم فهو فرض كفاية. وبهذا يظهر صحة استنباط الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: تفسير الإمام الشافعي (2/ 962)، وأحكام القرآن للجصاص (4/ 373)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (4/ 221)، ولطائف الإشارات للقشيري (2/ 73)، والجامع لأحكام القرآن (8/ 293)، وأنوار التنزيل (3/ 102)، والتسهيل (1/ 350)، وغرائب القرآن (3/ 548)، والإكليل (1/ 145)، وإرشاد العقل السليم (4/ 112)، وروح البيان (3/ 535)، والتحرير والتنوير (11/ 61)، والقواعد الحسان لتفسير القرآن للسعدي (1/ 139).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (8/ 293).
(3)
ينظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/ 56)، وينظر: فتاوى الشيخ العثيمين، كتاب العلم، ص 23.
الدلالة الثانية:
الغرض من التفقه في الدين الاستقامة والإرشاد.
وجه الاستنباط:
قوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} حيث بيّن تعالى الغاية من التفقه في الدين وهي النذارة.
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة اللازم من الآية أن الغرض المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق، وإرشادهم إلى الطريق المستقيم، لأنه تعالى بيّن غاية العلم مشيراً إلى أن من جعل له غاية غيرها فقد ضلّ الطريق، فأمر سبحانه بالتفقه في الدين؛ لأجل أنهم إذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بالدين الحق، وكل من تفقّه
وتعلّم لهذا الغرض كان على المنهج القويم، ومن عَدَل عنه وطلب الدنيا بالدين فقد ضل سعيُه في الحياة الدنيا وخاب وخسِر.
(1)
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: الزمخشري، والرازي، والبيضاوي، والنسفي، والخازن، والنيسابوري، والبقاعي، وأبو السعود، وحقي، ومحمد رشيد رضا، وغيرهم.
(2)
قال الزمخشري: ({وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} أي وليجعلوا غرضهم ومرمى همّتهم في التفقه: إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لا ما ينتحيه بعض الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمونها من المقاصد الركيكة، من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد، والتّشبه بالظلمة في ملابسهم، ومراكبهم، ومنافسة بعضهم بعضاً، وفُشوّ داء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق
(3)
أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر، أو شِرذمة جثوا بين يديه، وتهالُكَه على أن يكون موطأ العقِب دون الناس كلّهم، فما أبعد هؤلاء من قوله عز وجل:{لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} )
(4)
.
(1)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (16/ 172)
(2)
ينظر: الكشاف (2/ 323)، والتفسير الكبير (16/ 172)، وأنوار التنزيل (3/ 102)، ومدارك التنزيل (1/ 717)، ولباب التأويل (2/ 422)، وغرائب القرآن (3/ 548)، ونظم الدرر للبقاعي (9/ 48)، وإرشاد العقل السليم (4/ 112)، وروح البيان (3/ 535)، وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا (11/ 63)
(3)
الحماليق هي: بياض العين أجمع ما خلا السواد، واحدها حملاق. وقال أبو عبيدة: عين محملقة وهي التي حول مقلتها بياض لم يخالط السواد. قال: والحملاق ما ولي المقلة من جلد الجفن. وحملق الرجل: إذا انقلب حملاق عينه من الفزع، ينظر: جمهرة اللغة للأزدي (2/ 1143)، وتهذيب اللغة للأزهري (5/ 196).
(4)
الكشاف (2/ 323).
وعلى هذا فالواجب أن تكون غاية المتعلم رضى الله والدار الآخرة، وأن يطلب بعلمه إزالة الجهل عن نفسه وعن غيره، وإحياء الدين، فمن فهِم هذه الغاية من العلم دلّه العلم على كل خير، وهي فائدة حسنة، والله تعالى أعلم.