الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسراء وغيره، وقد تقدم الكلام عن هذه الدلالة، وبيان الأدلة عليها
(1)
، والله تعالى أعلم.
سورة الجن
استماع الجن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم رؤيته لهم.
قال الله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولا قرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم عند قراءته).
(2)
وجه الاستنباط:
ظاهر الآية أنه سماع واستماع فقط، كماسيأتي.
الدراسة:
استنبط الخطيب رحمه الله من الآية بدلالة النصَّ أنه صلى الله عليه وسلم ما رآى الجن يوم استماعهم له ولا قرأ عليهم، بل اتفق حضورهم عند قراءته في صلاة الفجر كما في الصحيح
(3)
يدل له ظاهر السياق حيث قال تعالى: {اسْتَمَعَ} ، وقال تعالى:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29].
قال الشوكاني: (واختُلِف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يرهم؟ فظاهر القرآن أنه لم يرهم، لأن المعنى: قل يا محمد لأمتك أوحي إلي على لسان جبريل أنه استمع نفر من الجن، ومثله قوله:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} ، ويؤيد هذا
(1)
ينظر الاستنباط رقم: (7)
(2)
السراج المنير (4/ 440).
(3)
سيأتي ذكره وتخريجه.
ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن، وما رآهم)
(1)
.
(2)
وقيل في شرح حديث ابن عباس هذا: معناه: أنه لم يقصدهم بالقراءة بل لمَّا تفرقوا يطلبون الخبر الذي حال بينهم وبين استراق السمع، صادف هؤلاء النفر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، وعلى هذا فهو صلى الله عليه وسلم لم يعلم باستماعهم ولم يكلمهم وإنما أعلمه الله عز وجل بما أوحي إليه من قوله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وأما حديث ابن مسعود فقضية أخرى وجن آخرون.
(3)
وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية: القرطبي، والبيضاوي، والخازن، وأبو حيان، وابن كثير، والقاسمي، والشنقيطي، وغيرهم.
(4)
والمشهور أن هذا الاستماع هو المذكور في سورة الأحقاف في قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} ، وهي قصة واحدة، وقيل: قصتان، ولم تتعرض الآية، لا هنا ولا في سورة الأحقاف، إلى أنه رآهم وكلمهم عليه الصلاة والسلام.
ويظهر أن ذلك كان مرتين: إحداهما: في مبدأ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
،
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن برقم (449)، (1/ 331)
(2)
ينظر: فتح القدير للشوكاني (5/ 363).
(3)
ينظر: تفسير القرآن العظيم (7/ 291)، والصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (4/ 546)، وينظر: لباب التأويل (4/ 349).
(4)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (19/ 1)، وأنوار التنزيل (5/ 251)، ولباب التأويل (4/ 349)، والبحر المحيط (10/ 293)، وتفسير القرآن العظيم (7/ 291)، ومحاسن التأويل (9/ 329)، وأضواء البيان (7/ 235).
(5)
قال ابن رجب: (هذه القصة في أول البعثة وهدا الحديث مما أرسله ابن عباس، ولم يُسمِّ من حدَّثه به من الصحابة، ويحتمل أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم يحكي عن نفسه. والله أعلم). تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 499).
وهو في الوقت الذي أخبر فيه عبد الله بن مسعود أنه لم يكن معه ليلة الجن، والمرة الأخرى: كان معه ابن مسعود، وقد استندب صلى الله عليه وسلم من يقوم معه إلى أن يتلو القرآن على الجن، فلم يقم أحد غير عبد الله بن مسعود
(1)
، فهذا يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في المرة الأولى وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه تِباعاً قوما بعد قوم، وفوجاً بعد فوج.
(2)
ويؤيده ماحكاه الشنقيطي وغيره قال: (وقد دلَّ القرآن العظيم أن استماع هؤلاء النفر من الجن، وقولهم ما قالوا عن القرآن كُله وقع ولم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أوحى الله ذلك إليه، كما قال تعالى في القصة بعينها مع بيانها وبسطها، بتفصيل الأقوال التي قالتها الجن، بعد استماعهم القرآن العظيم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1 - 2]، إلى آخر الآيات).
(3)
وعليه فالذي يظهر أنه عليه الصلاة والسلام، ما شعر بأمر الجن حتى أنزل الله عليه خبرهم. كما هي رواية ابن عباس رضي الله عنه ودلَّت عليه هذه الآية، كما استنبطه الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: البحر المحيط (10/ 293).
(2)
ينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (7/ 291)، قال رحمه الله:(قال الحافظ البيهقي: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم، ولم يرهم. ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن، فقرأ، عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله عز وجل كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه. ينظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/ 225).
(3)
أضواء البيان (7/ 235).
الجنّ الذين استمعوا له صلى الله عليه وسلم كانوا مشركين.
قال الله تعالى: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 2].
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} أي: لا نرجع إلى إبليس، ولا نطيعه، ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنّ أولئك الجنّ كانوا مشركين).
(1)
وجه الاستنباط:
نفيهم للشرك في المستقبل، يدل على تقدمه منهم.
الدراسة:
استنبط الخطيب رحمه الله من الآية دلالتها بالنصِّ على أنّ أولئك الجنّ الذين استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا مشركين؛ لأنهم قالوا: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} أي: صدَّقنا بأنه من عند الله ولن نشرك بربنا أحداً من خلقه، ولا نتخذ معه إلهاً آخر لأنه المتفرد بالربوبية، فلن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به في طاعة الشيطان، فنفوا عن أنفسهم الشرك في المستقبل فدلَّ على أنهم كانوا مشركين.
وممن استنبط هذه الدلالة من معنى الآية: الرازي، وابن عاشور، وغيرهما.
(2)
قال ابن عاشور: (قولهم: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} أي ينتفي ذلك في المستقبل، وهذا يقتضي أنهم كانوا مشركين، ولذلك أكدوا نفي الإشراك بحرف التأبيد، فكما أكَّد
(1)
السراج المنير (4/ 440).
(2)
ينظر: التفسير الكبير (30/ 666)، والتحرير والتنوير (29/ 221).
خبرهم عن القرآن والثناء عليه بـ «إن» أكَّد خبرهم عن إقلاعهم عن الإشراك بـ «لن» ).
(1)
وهذا هو الظاهر من سياق الآيات، ويدل له قوله تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} [الجن: 4] أي: جاهلنا وهو إبليس، وقيل هو المشرك منهم
(2)
، كذباً وعدواناً على الله، وهو وصفه تعالى بالشريك والولد، وكذلك قوله تعالى {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} أي: ظن المشركون من الجن {كَمَا ظَنَنْتُمْ} ، وهو خطاب للمشركين من الإنس
(3)
، فدلَّ على سبق الشرك منهم، كما أفاده الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
التحرير والتنوير (29/ 221).
(2)
ينظر: جامع البيان للطبري (23/ 653)، والنكت والعيون للماوردي (6/ 110).
(3)
ينظر: لباب التأويل للخازن (4/ 349).