الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه دلالة لطيفة، وإشارة صحيحة إلى معنى ربط الإحسان بالصلاة والصبر، والله تعالى أعلم.
سورة يوسف
الاجتهاد في نفي التهم عن النفس.
قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50].
قال الخطيب الشربيني رحمه الله في هذه الآية عن يوسف عليه السلام: (قدّم سؤال النسوة وفحص حالهنّ، لتظهر براءة ساحته؛ لأنه لو خرج في الحال لربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثر، فلما التمس من الملك أن يفحص عن حال تلك الواقعة، دلّ ذلك على براءته من تلك التهمة، فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة، وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي للشخص أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أهمية الاجتهاد في نفي التهم عن النفس، كما فعل يوسف – عليه السلام – وهذا من باب الاقتداء بأفعال الأنبياء عليهم السلام؛ فإنه لو خرج في الحال فقد لا يزال في قلب الملك من تلك التهمة أثرها، فلمّا طلب أن يبحث الملك عن تلك الواقعة وحاله مع النسوة، دلّ
(1)
السراج المنير (2/ 127).
ذلك على براءته، فلا يقدر أحد بعد خروجه أن يُعَيّره بتلك الرذيلة، وأن يجعلها وسيلة للطعن فيه.
ويشهد لصحة هذه الدلالة وقوتها، ما جاء في السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجلين من الأنصار مرَّا عليه في مُعتكفه وعنده بعض نسائه:(على رِسلكما إنما هي صفية بنت حيي) - اتقاءً للتهمة - فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكبُر عليهما! فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً).
(1)
وعليه فإن تبرئة العرض من التهم الباطلة مقصد شرعي، كما فعل نبينا صلى الله عليه وسلم وقبله فِعلُ يوسف عليه السلام.
وقد جاء في السُنّة مدح يوسف على صبره على السجن، وحرصه على إبراء ساحته.
(2)
(1)
أخرجه البخاري في كتاب: الاعتكاف، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، برقم (2035)، (3/ 49)، وأخرجه مسلم في كتاب السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رئي خالياً بامراة وكانت زوجته، أو محرماً له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به، برقم (2175)، (4/ 1712)
(2)
قال ابن كثير: (وقد وردت السُنة بمدحه على ذلك، والتنبيه على فضله وشرفه، وعلو قدره وصبره، صلوات الله عليه، ففي المسند والصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي"). تفسير القرآن العظيم (4/ 393)، والحديث أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر: 52]، برقم (3372)، (4/ 147).
وممن استنبط دلالة هذه الآية على نفي التهمة عن النفس: الزمخشري، والبيضاوي، والنسفي، وأبوحيان، والقاسمي، وابن عاشور، والسعدي، وغيرهم.
(1)
والذي يظهر أن معنى الآية يحتمل هذه الدلالة، كما يحتمل أن يكون غرضه عليه السلام من ذلك أن لا يبقى في قلبه التفات إلى رد الملك وقبوله، وكان هذا الفِعل منه جارياً مجرى التلافي لما صدر منه من التوسل لصاحبه في السجن بقوله:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} فبقي في السجن بضع سنين، ولما طلبه الملك لم يلتفت إليه ولم يُقِم لطلبه وزناً، واشتغل بإظهار براءته عن التهمة
(2)
، وإن كانت الدلالة الأولى أظهر في القوة والمعنى، والله تعالى أعلم.
رعاية الأسباب أولاً، وعدم الاعتماد عليها بل على التوحيد.
قال الله تعالى: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (واعلم أنّ الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم بأن يجزم بأنه لا يحصل إلا ما قدَّره الله تعالى، وأن الحذر لا يدفع القدر، فالإنسان مأمور بأن يحذر الأشياء المهلكة والأغذية الضارة، ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضارّ بقدر الإمكان، ومع ذلك يكون جازماً بأنه لا يصل إليه إلا ما قدّره الله تعالى، ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله تعالى،
(1)
ينظر: الكشاف (2/ 477)، وأنوار التنزيل (3/ 166)، ومدارك التنزيل (2/ 116)، والبحر المحيط (6/ 287)، ومحاسن التأويل (6/ 184)، والتحرير والتنوير (12/ 288)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 410).
(2)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (18/ 466).
فقوله عليه السلام: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم، وقوله:{وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب بل إلى التوحيد المحض، والبراءة من كل شيء سوى الله تعالى).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على استنباط عقدي وفائدة جليلة وهي أن الحذر لا يرد القدر، وأنه لابد مع ذلك من ملاحظة الأسباب وإن كان كل شيء ماضٍ بقضاء الله وقدره؛ حيث قال يعقوب لأبنائه:{لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} لأنه خاف عليهم العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، وكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب، ثم بيّن لهم أن ما وصَّاهم به ليس إلا تدبيراً في الجملة، وإنما التأثير وترتيب المنفعة عليه من الله تعالى فقال {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} .
(2)
وأراد يعقوب عليه السلام بقوله هذا تعليم أبنائه الاعتماد على توفيق الله ولطفه مع الأخذ بالأسباب، إذ المُقدّر لا بد أن يكون، ولهذا قال {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت على الله، لا على ما وصيتكم به من السبب.
(1)
السراج المنير (2/ 136)
(2)
ينظر: إرشاد العقل السليم (4/ 292)
وممن أشار إلى هذه الفائدة من الآية: الرازي، والنيسابوري، والسيوطي، وأبو السعود، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور، والشنقيطي، وغيرهم.
(1)
قال الشنقيطي: (أمرَهم في هذا الكلام بتعاطي السبب، وتسبّب في ذلك بالأمر به; لأنه يخاف عليهم أن تصيبهم الناس بالعين لأنهم أحد عشر رجلاً أبناء رجل واحد، وهم أهل جمال وكمال وبسطة في الأجسام، فدخولهم من باب واحد مظنة لأن تصيبهم العين، فأمرهم بالتفرق والدخول من أبواب متفرقة، تعاطياً للسبب في السلامة من إصابة العين، كما قال غير واحد من علماء السلف
(2)
، ومع هذا التسبب فقد قال الله عنه:{وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]، فانظر كيف جمع بين التسبّب في قوله:{لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} وبين التوكل على الله في قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} وهذا أمر معلوم لا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته).
(3)
وهذا معنى الإيمان بالقدر كما أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم «اعملوا فكل ميسر لما خُلق له»
(4)
، وفي هذا رد صريح على الجبرية المتواكلة؛ فإن العبد ينال ما قُدِّر له
(1)
ينظر: التفسير الكبير (18/ 483)، وغرائب القرآن (4/ 106)، والإكليل (1/ 155)، وإرشاد العقل السليم (4/ 292)، ومحاسن التأويل (6/ 198)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 402) والتحرير والتنوير (13/ 21)، وأضواء البيان (3/ 398)
(2)
ينظر: جامع البيان (16/ 165)، وتفسير القرآن العظيم (4/ 400).
(3)
أضواء البيان (3/ 398).
(4)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب قول الله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)[القمر: 17](9/ 159) برقم (7551) بنحوه، وأخرجه مسلم في كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله، وعمله وشقاوته، وسعادته (4/ 2036)، برقم (2647)
بالسبب الذي أُقدر عليه ومُكِّن منه وهُيئ له، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أُمّ الكتاب، وكلما زاد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه.
(1)
قال الإمام الطحاوي: (الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع).
(2)
وهي دلالة صحيحة، قوية الظهور، والله تعالى أعلم.
(1)
شفاء العليل لابن القيم (1/ 25)، وينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/ 69)، والانتصار في الرد على المعتزلة القدرية للعمراني (1/ 45).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/ 680). وينظر: تقريب التدمرية لابن عثيمين (1/ 98).
قال الله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (ولما كان يوسف عليه السلام إنما تمكَّن من ذلك بعلو درجته وتمكنه، ورفعته بعدما كان فيه عندهم من الصغار، كان ذلك محل عجب فقال تعالى التفاتاً إلى مقام التكلم:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} أي: بالعلم كما رفعنا درجته، وكان الأصل درجاته، ولكنه عمّم؛ لأنه أدلّ على العظمة فكان أليق بمظهرها، وفي هذه الآية دليل على أنّ العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات؛ لأنّ الله تعالى لما هدى يوسف عليه السلام إلى هذه الحيلة مدحه لأجل ذلك، ورفع درجته على إخوته، ووصف إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] عندما حكى عنه دلائل التوحيد والبراءة عن إلهية الشمس والقمر والكواكب.
ثم قال رحمه الله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال ابن عباس: فوق كل عالمٍ عالمٌ إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فوق كل عالم
(1)
؛ لأنه هو الغني بعلمه عن التعلم، وفي الآية دليل على أنّ إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء، وكان يوسف أعلم منهم).
(2)
هذه الآية فيها دلالتان:
الدلالة الأولى:
(1)
وهو قول عكرمة وقتادة وغيرهما. ينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 402)، والدر المنثور في التفسير بالمأثورللسيوطي (4/ 562)
(2)
السراج المنير (2/ 142)
شرف العلم وفضل أهله، وأنه أعلى الدرجات وأرفع الرُتب.
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة اللازم من هذه الآية شرف العلم، ورفعة أهله، وعلو منزلتهم في الدنيا والآخرة؛ لأنّ الله تعالى لما هدى يوسف عليه السلام إلى هذه الحيلة مدحه لأجلها، فقال:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي: مثل ذلك الكيد كدنا ليوسف خاصة؛ بأنّ علمناه إياه جزاء لهم على كيدهم بيوسف عليه السلام في بداية أمره، والمراد من هذا الكيد هو: أنّ الله تعالى ألقى في قلب إخوته أن حكَموا أنّ جزاء السارق هو أن يُسترقّ، فلما ظهر الصاع في رحله حكموا عليه بالاسترقاق، فحكموا على أنفسهم هذا الحكم الذي هو المقصود ليوسف، وصار سبباً لتمكن يوسف عليه السلام من إمساك أخيه عنده، ولو أجرى عليه حكم ملك مصر لكان له حكم آخر مختلف، ولكن الله تعالى يسَّر له ما أراد.
(1)
فرفع الله درجة يوسف على إخوته بالعلم، وكان هذا العلم هو أعظم سبب في خروجه من السجن، وتقريب الملك له، وتمكينه من الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.
قال السعدي في استنباطاته لفوائد من قصة يوسف: (وفي تضاعيف القصة فضيلة العلم من وجوه كثيرة، وبيان أنه سبب الرفعة في الدنيا والآخرة، وسبب صلاح الدين والدنيا:
فيوسف صلى الله عليه وسلم لم ينل ما نال إلا بالعلم، ولهذا قال له أبوه:{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6]، وامتنَّ عليه وقت مُكثه عند عزيز مصر
(1)
ينظر: السراج المنير (2/ 142).
بالتجرد للعلم، وحاز مقام الإحسان بالعلم، وخرج من السجن في حال العز والكرامة بالعلم، وتمكن عند ملك مصر واستخلصه لنفسه حين كلمه وعرف ما عنده من العلم، ودبّر أحوال الخلق في الممالك المصرية بإصلاح دنياهم وحسن تدبيره في حفظ خزائن الأرض وتصريفها وتوزيعها بالعلم، وعند نهاية أمره توسل إلى ربه أن يتولاه في الدنيا بالعلم، حيث قال: {
…
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}
…
[يوسف: 101]، ففضائل العلم وثمراته الجليلة العاجلة، والآجلة لا تعد ولا تحصى.).
(1)
وحكى هذا الاستنباط غيره من المفسرين كالرازي، والخازن، وغيرهما.
(2)
ولاشك في صحة هذه الدلالة وملامستها للواقع؛ فشرف العلم ورفعته لأهله في الدنيا قبل الآخرة ثابت مشاهد، وقد وصلت الحال بيوسف إلى أن يكون معظماً حتى عند أبويه وإخوته، حين دخل أبوه وأمه وإخوته مصر، ورفع أبويه على العرش خرَّ الجميع له سجداً لعظمته، وهذه الغاية تستدعي وسائل ومقدمات لا تحصل إلا بها، وهو العلم الكثير العظيم، والعمل الصالح، والإخلاص، والاجتباء من الله، والقيام بحق الله وحقوق خلقه، وهذا مقتضى حكمة الله أن المراتب العاليات لا تنال إلا بالوسائل الجليلة
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
فوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي ص 16.
(2)
ينظر: التفسير الكبير (18/ 489)، ولباب التأويل (2/ 545)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف ص 16.
(3)
ينظر: فوائد مستنبطة من قصة يوسف ص 2 - 16.
الدلالة الثانية:
إخوة يوسف كانوا من أهل العلم.
وجه الاستنباط: أن الله تعالى أخبر في ثنايا حديثه سبحانه عن كيد يوسف بإخوته أن فوق كل عالم من هو أعلم منه، فدلّ على أنهم كانوا من أهل العلم.
الدراسة:
استنبط الخطيب من قوله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} دلالتها باللازم على أن إخوة يوسف كانوا علماء، لأن الله تعالى أخبر أن فوق كل عالم من هو أعلم منه، فدلّ على أنهم كانوا من أهل العلم.
قال الطبري في معنى هذه الآية: ( .. وفوق كل عالم من هو أعلم منه، حتى ينتهي ذلك إلى الله، وإنما عنى بذلك أن يوسف أعلم إخوته، وأن فوق يوسف من هو أعلم من يوسف، حتى ينتهي ذلك إلى الله).
(1)
فالمراد أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء فضلاء، إلا أن يوسف كان زائداً عليهم في العلم.
ويؤيد صحة هذه الدلالة ماروي عن ابن جريج
(2)
وغيره في معنى قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} ، قال ابن جريج:«يوسف وإخوته، أوتوا علماً، فرفعنا يوسف فوقهم في العلم» .
(3)
(1)
جامع البيان (16/ 191)
(2)
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الإمام، العلامة، الحافظ شيخ الحرم، أبو خالد، وأبو الوليد القرشي الأموي، المكي، صاحب التصانيف، وأول من دوَّن العلم بمكة، حدث عن عطاء بن أبي رباح فأكثر وجوَّد، توفي سنة 149 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (6/ 326)
(3)
ينظر: جامع البيان (16/ 191)، والدر المنثور للسيوطي (4/ 562)
وممن نصَّ على هذا المعنى المستنبط من الآية: الطبري، والرازي، والخازن، وابن عادل، وأبو السعود، والألوسي، والمراغي، والسعدي، وغيرهم.
(1)
وقد قيل عن إخوة يوسف إن الله جعلهم أنبياء
(2)
، وقيل بل كانوا قوماً صالحين وهو الظاهر
(3)
، ولهذا في رؤيا يوسف رآهم بمنزلة الكواكب في إشراقها وعلوها، وهذه صفة أهل العلم والإيمان
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: جامع البيان (16/ 191)، والتفسير الكبير (18/ 489)، ولباب التأويل (2/ 545)، واللباب في علوم الكتاب لابن عادل (11/ 172)، وإرشاد العقل السليم (4/ 298)، وروح المعاني (7/ 29)، وتفسير المراغي (13/ 22)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف ص 8.
(2)
ضعَّف شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره هذا القول فقال: (الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف ليسوا بأنبياء.) أ. هـ وأورد شواهد كثيرة تدل على ذلك. ينظر: جامع المسائل لابن تيمية لعزيز شمس (3/ 297)
(3)
لأن الصحيح في المراد بالأسباط أنهم قبائل بني إسرائيل، وهو اسم لعموم القبيلة لأولاد يعقوب الاثني عشر، فهم آباء الأسباط وهم من الأسباط. وقد غلط من عدّهم أنبياء. ينظر: جامع البيان (2/ 121)، وتفسير السمعاني (1/ 145)، وتفسير القرآن العظيم (4/ 372).
(4)
فوائد مستنبطة من قصة يوسف ص 9.
علم يعقوب بحياة يوسف عليهما السلام.
قال الله تعالى: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86].
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ} أي: الملك الأعلى من اللطف بنا أهل البيت {مَا لَا تَعْلَمُونَ} فيأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب، وفي ذلك إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف، ويتوقع رجوعه إليه).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على علم يعقوب بحياة يوسف، وأنه كان يتوقع رجوعه إليه، بدلالة الإشارة في قوله تعالى:{وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ففيها إيماء إلى علمه بحياة يوسف وبقائه حياً ما لا يعلمون، وقيل: أعلم من تحقيق رؤيا يوسف ما لا تعلمون- حين رأى في المنام أحد عشر كوكباً- أن ذلك سيكون وسيسجدون له.
(2)
وممن استنبط هذه الإشارة من الآية موافقاً الخطيب: السمرقندي، والرازي، والبيضاوي، والخازن، وأبو السعود، وغيرهم.
(3)
قال الرازي مؤكداً إشارة الآية إلى هذا المعنى: (أي أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون، وهو أنه تعالى يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب، فهو إشارة إلى أنه كان يتوقع وصول يوسف إليه. وذكروا لسبب هذا التوقع أموراً: أحدها: أن ملك
(1)
السراج المنير (2/ 147)
(2)
ينظر: تفسير القرآن العظيم (4/ 406)، وفتح القدير (3/ 59)
(3)
ينظر: تفسير القرآن للسمرقندي (2/ 207)، والتفسير الكبير (18/ 500)، وأنوار التنزيل (3/ 176)، ولباب التأويل (2/ 555)، وإرشاد العقل السليم (4/ 302).
الموت أتاه فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال لا يا نبي الله ثم أشار إلى جانب مصر، وقال: اطلبه هاهنا.
(1)
وثانيها: أنه عَلِم أن رؤيا يوسف صادقة، لأن أمارات الرشد والكمال كانت ظاهرة في حق يوسف، ورؤيا مثله عليه السلام لا تخطئ، وثالثها: لعلَّه تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه، ولكنه تعالى ما عيَّن الوقت فلهذا بقي في القلق، ورابعها: قال السدي
(2)
: لما أخبره بنُوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله، طمع أن يكون هو يوسف، وقال: يبعُد أن يظهر في الكفار مثله
(3)
).
(4)
وقال أبو السعود في معناها: (أعلم من لطفه ورحمته، فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب رجائي، أو أعلم وحياً أو إلهاماً من جهته ما لا تعلمون من حياة يوسف).
(5)
ويؤيد هذا الاستنباط قوله تعالى بعدها {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ} [يوسف: 87] لما جاءه ملك الموت - كما تقدم إن صحّ - فسأله عن قبض روح
(1)
ينظر: التفسير الوسيط للواحدي (2/ 629)، وزاد المسير لابن الجوزي (2/ 466)
(2)
هو إسماعيل بن عبدالرحمن بن أبي كريمة الهاشمي السدي، أبو محمد الحجازي الكوفي الإمام المفسر، صاحب التفسير، روى عن ابن عباس وأنس وطائفة، مات سنة 127 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 5/ 264، وطبقات المفسرين للداودي ص 79.
(3)
أخرج الطبري عن السدي قال: (لما أخبروه بدعاء الملك، أحسَّت نفس يعقوب وقال: ما يكون في الأرض صِدّيق إلا نبي! فطمع قال: لعله يوسف). جامع البيان (16/ 227) رقم الأثر (19716)، وينظر: زاد المسير (2/ 466)
(4)
التفسير الكبير (18/ 500)
(5)
إرشاد العقل السليم (4/ 302)
يوسف؟ قال: لا، ثم أشار إلى جانب مِصر وقال: اطلبه من ههنا، ولذلك قال:{اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ} أي من أخبار يوسف وأخيه.
والظاهر أن قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} يحتمل غير ذلك من المعاني، فيحتمل أنه أشار إلى حسن ظنه بالله وجميل عادة الله عنده، ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة فكلها قريبة محتملة، وإن كان أظهرها ما عليه أكثر المفسرين
(1)
وهو علمه بحياة يوسف، والله تعالى أعلم.
(1)
تقدم توثيقه، وينظر: تفسير السمعاني (3/ 58)، وفتح القدير للشوكاني (3/ 59).