الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الكهف
إفراد الجنة في قول الله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} لإرادة الجنس.
قال الله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف: 35]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} بصاحبه يطوف به فيها ويُفاخره بها، وأفرد الجنة لإرادة الجنس، ودلالة ما أفاده الكلام من أنهما لاتصالهما كالجنة الواحدة، وإشارة إلى أنه لا جنة له غيرها، لأنه لا حظّ له في الآخرة).
(1)
وجه الاستنباط:
أن الإضافة في قوله {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} للاستغراق والعموم، فتفيد ما أفادته التثنية مع زيادة، وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير هذه.
(2)
الدراسة:
استنبط الخطيب رحمه الله من الآية دلالتها باللازم على فائدة إفراد الجنة بعد التثنية في قوله {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير هذه الجنة، وأنه لا نصيب له في الآخرة، فالجنة ذُكرت بلفظ الإفراد مع أنه قال:{جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} وقال {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ} فإما أن يراد بالمفرد الجنس، وإما أن يراد إحدى الجنتين، وتكون العظمى هي التي دخلها.
(3)
(1)
السراج المنير (2/ 416)
(2)
ينظر: غرائب القرآن للنيسابوري (4/ 430)
(3)
ينظر: تفسير سورة الكهف لابن عثيمين (1/ 69)
قال الزمخشري: (فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها، يعنى أنه لا نصيب له في الجنة التي وُعِد المؤمنون، فما ملَكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما).
(1)
ونصَّ على هذه الدلالة غيرالزمخشري: الرازي، والبقاعي، والألوسي، وغيرهم.
(2)
وخالف فيها أبو حيان، والنيسابوري، والشوكاني، وقالوا بضعف دلالة الآية على هذا المعنى المستنبط.
(3)
قال الشوكاني: (وإفراد الجنة هنا يحتمل أن وجهه كونه لم يُدخِل أخاه إلا واحدة منهما، أو لكونهما لما اتصلا كانا كواحدة، أو لأنه أدخله في واحدة ثم واحدة، أو لعدم تعلق الغرض بذكرهما، وما أبعد ما قاله صاحب الكشاف أنه وحَّد الجنة للدلالة على أنه لا نصيب له في الجنة التي وُعِد المؤمنون.)
(4)
والذي يظهر ضعف دلالة الآية على ما استنبطه الخطيب وغيره، لأنه لا يبعُد أن يكون قد دخل مع أخيه جنة واحدة منهما، أو جعل مجموع الجنتين في حكم جنة
(1)
الكشاف (2/ 721)، وضعَّف قوله أبوحيان قال:(ولا يُتصور ما قال لأن قوله "ودخل جنته" إخبار من الله تعالى بدخول ذلك الكافر جنته، فلا بد أن قصد في الإخبار أنه دخل إحدى جنتيه، إذ لا يمكن أن يدخلهما معاً في وقت واحد، والمعنى ودخل جنته يري صاحبه ما هي عليه من البهجة والنضارة والحسن). البحر المحيط (7/ 176).
(2)
ينظر: الكشاف (2/ 721)، والتفسير الكبير (21/ 463)، ونظم الدرر (12/ 59)، وروح المعاني (8/ 262)
(3)
ينظر: البحر المحيط (7/ 176)، وغرائب القرآن (4/ 430)، وفتح القدير (3/ 339).
(4)
فتح القدير (3/ 339)، وينظر: محاسن التأويل للقاسمي (7/ 33).
واحدة منهما، يؤيده توحيد الضمير على أكثر القراءات
(1)
في قوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا} ولم يقل (منهما).
(2)
والله تعالى أعلم.
عصمة الملائكة من الذنوب
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]
قال الخطيب رحمه الله: ({فَفَسَقَ} أي: خرج بتركه السجود {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي: سيده ومالكه المحسن إليه، والفاء للسببية، وفيه دليل على أنّ الملك لا يعصي البتة، وإنما عصى إبليس لأنه كان خبيثاً في أصله).
(3)
وجه الاستنباط:
أنَّ الفاء للسببية فكونه من الجن سبب فسقه، ولو كان ملكاً لم يفسق عن أمر ربه لأن الملك معصوم دون الجن والإنس.
(4)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية بدلالة مفهوم المخالفة أنّ الملك لا يعصي البتة لأنه تعالى ذكر علَّة عصيان إبليس كون أصله من الجن، فقال سبحانه {فَسَجَدُوا إِلَّا
(1)
وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائى، ينظر: السبعة في القراءات لابن مجاهد البغدادي (1/ 390)، والنشر لابن الجزري (2/ 311)، وإتحاف فضلاء البشر للبنَّا الدمياطي (1/ 366).
(2)
ينظر: غرائب القرآن للنيسابوري (4/ 430).
(3)
السراج المنير (2/ 425)
(4)
ينظر: روح البيان لحقي (5/ 255)
إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أي: خانه أصله؛ فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور،
فعند الحاجة خانه الطبع، وذلك أنه كان قد توسَّم بأفعال الملائكة وتشبَّه بهم، وتعبَّد وتنسَّك، فلهذا دخل في خطابهم، وعصى بالمخالفة.
(1)
فدلَّ ذلك على أن الملائكة لا تعصي مطلقاً، والفاء للسببية، فكونه
من الجن سبب فسقه، ولو كان ملكاً
(2)
لم يفسق عن أمر ربه لأن
الملك معصوم.
(3)
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: البيضاوي، وحقي، وغيرهما.
(4)
والذي يظهر أن الملائكة معصومون خُلقوا للطاعة - كما تقدم -
(5)
بدلالة هذه الآية، ودلالة قوله تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6]؛ وقوله: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]. ولأن الملائكة رسل الله لقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1]، والرسل معصومون، وهي دلالة صحيحة، واستنباطها من الآية يشهد لكون إبليس من الجن كما تقدَّم، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (5/ 167)
(2)
قال الحسن البصري: (ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن كما أن آدم، عليه السلام، أصل البشر). ينظر: جامع البيان (1/ 506)، والنكت والعيون (3/ 313)، وتفسير القرآن العظيم (5/ 167).
(3)
اختلف في إبليس هل هو من الجن أم من الملائكة على قولين، والذي عليه جماعة من أهل العلم أنه كان من الجن، وليس من الملائكة. وذكر شيخ الإسلام وتبعه ابن القيم أن الصواب هو التفصيل في هذه المسألة، وأن القولين في الحقيقة قول وحد. فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله. لأنه كان أصله من نار، وأصل الملائكة من نور. فالنافي كونه من الملائكة، والمثبت، لم يتواردا على محل واحد. ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 346)، وينظر الاستنباط رقم:(14).
(4)
ينظر: أنوار التنزيل (3/ 284)، وروح البيان (5/ 255)
(5)
تقدم الحديث عن عصمة الملائكة في استنباط سابق في سورة النحل وأحلت علية خشية التطويل والتكرار. ينظر الاستنباط رقم: (136)، وينظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/ 127)، ومجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (1/ 233).
أدب العالم والمتعلم.
قال الله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} (الكهف: 66 - 69)
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (دلّت هذه الآية الكريمة على أنّ موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، منها أنه جعل نفسه تبعاً له بقوله:{هَلْ أَتَّبِعُكَ} .
ومنها: أنه استأذن في إثبات هذه التبعية، كأنه قال: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك؟ وهذه مبالغة عظيمة في التواضع.
ومنها: قوله عليه السلام {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} وهذا إقرار منه على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم، ومنها: قوله {مِمَّا عُلِّمْتَ} وصيغة «من» للتبعيض، وطلب منه تعليم بعض ما علِم، وهذا أيضاً إقرار بالتواضع كأنه يقول: لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً لك في العلم بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء ما علِمت.
ومنها: أن قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ} اعتراف منه بأن الله تعالى علّمه ذلك العلم.
ومنها قوله: {رُشْدًا} طلب منه الإرشاد والهداية.
ومنها قوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} ، ومنها: أنه ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أن موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلَّمه الله من غير واسطة وخصَّه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدلّ على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أبواب المبالغة في التواضع، وذلك يدل على أن هذا هو اللائق به، لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر، كان طلبه لها أشدّ،
فكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأرشد.
وكل ذلك يدلّ على أنّ الواجب على المتعلم إظهار التواضع بكل الغايات، وأمّا المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيد نفعاً وإرشاداً إلى الخير، فالواجب عليه ذكره، فإنّ السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور، وذلك يمنعه من التعلم).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآيات في قصة موسى عليه السلام مع الخضر دلالتها باللازم على ضرورة مراعاة الأدب وإظهار التواضع من المتعلم لمعلمه بكل الوسائل؛ حيث كان لموسى عليه السلام مع الخضر ضروباً عظيمة من التواضع والأدب الجمّ، والتذلُّل بكل السبل لتحصيل العلم، وفيها الحث على الاقتداء بفعله في أدبه مع الخضر وتواضعه مع أفضليته!
فموسى عليه السلام أفضل من الخضر
(2)
، وتواضع الفاضل للتعلم ممن دونه دليل أن على طالب العلم أن يتلطّف ويتأدّب مع مُعلمه، وأن الذلَّ للمُعلم وإظهار الحاجة إلى تعليمه من أنفع شيء للمتعلم.
(3)
(1)
السراج المنير (2/ 433)
(2)
قال القرطبي: (في هذه الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول، والفضل لمن فضَّله الله، فالخضر إن كان ولياً فموسى أفضل منه، لأنه نبي والنبي أفضل من الولي، وإن كان نبياً فموسى فضله بالرسالة. والله أعلم). الجامع لأحكام القرآن (11/ 17)
(3)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (1/ 483)
قال ابن عثيمين: (قال موسى للخضر: هل أتبعك؟ وهذا عرض لطيف وتواضع، وتأمّل هذا الأدب من موسى عليه الصلاة والسلام مع أن موسى أفضل منه وكان عند الله وجيهاً، ومع ذلك يتلطف معه لأنه سوف يأخذ منه علماً لا يعلمه موسى، وفي هذا دليل أنَّ على طالب العلم أن يتلطف مع شيخه ومع أُستاذه وأن يُعامله بالإكرام).
(1)
وقد استنبط كثير من المفسرين هذه الفائدة وغيرها من قصة موسى مع الخضر، منهم: الزجاج، والواحدي، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، والنسفي، وابن جزي، وأبو السعود، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور، والعثيمين، وغيرهم.
(2)
وفيما فعله موسى - وهو من جِلّة الأنبياء وقد أوتي التوراة - من طلبه العلم والرحلة في ذلك، ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم، وإن كان قد بلغ نهايته وأحاط بأكثر ما يدركه أهل زمانه، حتى لو استغرق زمناً طويلاً لتحقيق مراده، ويظهر ذلك في قوله تعالى:{أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} ، كما أفادت الآية أن على المعلم النصح لتلميذه غاية النصح، بتبيين حال العلم حتى لا يُدخله فيما لا يطيقه من العلم {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} مع تبيين السبب فيما يردُّه عنه أو يمنعه منه، ويظهر ذلك في بيان الخضر لموسى عليه السلام {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ
(1)
تفسير العثيمين سورة الكهف (1/ 113)
(2)
ينظر: معاني القرآن وإعرابه (3/ 301)، التفسير الوسيط (3/ 158)، والتفسير الكبير (21/ 483)، والجامع لأحكام القرآن (11/ 17)، وأنوار التنزيل (3/ 287)، ومدارك التنزيل (2/ 311)، التسهيل (1/ 470)، والبحر المحيط (7/ 205)، وتفسير القرآن العظيم (5/ 181)، وإرشاد العقل السليم (5/ 234):، وفتح القدير (3/ 354)، ومحاسن التأويل (7/ 48)، تيسير الكريم الرحمن (1/ 484)، والتحرير والتنوير (15/ 370)، وتفسير العثيمين (1/ 113).
تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}، وفي القصة من الفوائد الجليلة ما يطول حصره وقد نبَّه عليها جمع من أهل العلم
(1)
، والله تعالى أعلم.
فوائد قصة موسى عليه السلام مع الخضر.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله (من فوائد هذه القصة
(2)
: أن لا يعجب المرء بعمله
(3)
، ولا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه فلعل فيه سراً لا يعرفه، وأن يداوم على التعلم ويتذلَّل للعلماء، وأن يُنبّه المجرم على جُرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجره).
(4)
وجه الاستنباط:
الاقتداء بأفعال الأنبياء عليهم السلام، والاعتبار بحالهم.
الدراسة:
استنبط الخطيب رحمه الله من الآيات في قصة موسى عليه السلام مع الخضر دلالتها باللازم على فوائد أخرى - غير التي تقدَّمت في بداية القصة -
(1)
ينظر تفصيل هذه الفوائد في فتح الباري لابن حجر (8/ 422)، وتيسير الكريم الرحمن للسعدي (1/ 484)، وتفسير سورة الكهف للعثيمين (1/ 113)، والبداية والنهاية لابن كثير (1/ 324) وغيرهم.
(2)
جاءت هذه التتمة من الفوائد في موضع آخر نهاية القصة وبينهما فصل طويل.
(3)
لعل الأصح (بعلمه) كما وردت عند البيضاوي وغيره، وهي الأليق بسياق الآيات وحاله مع الخضر.
(4)
السراج المنير (2/ 442)
أولاها: أن لا يُعجب المرء بعلمه، ويَظهر ذلك في عتاب موسى عليه السلام بعد أن سُئِل عن أعلم الناس فنسب ذلك إلى نفسه
(1)
، وهو درسٌ لمن بعده أن لا يرى في نفسه إعجاباً بعلمه أو فهمه، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ثانيها: أن لا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه فلعلَّ فيه سراً لا يعرفه، وهذا أصلٌ في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو التثبُّت والتحقُّق من كونه منكرًا، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء، حتى يُعرف ما يراد منه وما هو مقصود؛ فظاهر هذه الأمور التي عاينها موسى عليه السلام أنها من المنكر، وموسى لا يسعه السكوت عنها في غير هذه الحال التي صحِب عليها الخضر، فبادر إلى الحكم ولم يلتفت إلى هذا العارض الذي يوجب عليه الصبر وعدم المبادرة إلى الحكم، فعُوتب على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر، لمَّا تكرر منه الاستنكار، ولم يرعوِ بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية.
(2)
وممن نصّ على هذه الفائدة: القشيري، والرازي، وأبو السعود، والسعدي، وغيرهم.
(3)
ثالثها - وقد تقدَّمت-: أن يداوم على التعلم ويتذلل للعلماء ويراعي الأحب في المقال، كما فعل موسى عليه السلام في حسن أدبه، وتواضعه، وتلطّفه في الخطاب مع جلالة قدره وسعة علمه.
(1)
كما رواه ابن جرير الطبري وغيره عن أُبي بن كعب. ينظر: جامع البيان (18/ 70)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (5/ 181).
(2)
ينظر: إرشاد العقل السليم (5/ 236)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 482)
(3)
ينظر: لطائف الإشارات (2/ 410)، والتفسير الكبير (21/ 484)، وإرشاد العقل السليم (5/ 236)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 482).
رابعاً: أنَّ المخطئ يُنبَّه على خطئه، ويُعفَى عنه حتى يتحقَّق إصراره، ثم يؤدَّب بما يكون مناسبًا، كما فعل الخضر مع موسى عليه السلام حتى قال موسى {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} فعاتبه أولاً على خطئه {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} وعفا عنه ثم فارقه بعد الإصرار {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} .
وممن نصّ على هذه الفائدة من المفسرين: البيضاوي، والقاسمي، وغيرهما.
(1)
والحاصل أنَّ فيما دار بين موسى عليه السلام وبين الخضر من الفوائد ما يطول حصره والغرض الاقتداء بفعله عليه السلام وفعل العبد الصالح (الخضر) معه، والاعتبار بحاله فيما عوتب عليه، وهي فوائد حسنة، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: أنوار التنزيل (3/ 291)، ومحاسن التأويل (7/ 53).