المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة النساء القيّم لا يُصدّق في دعوى الدفع إلا ببينة. قال الله - الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره السراج المنير

[أسماء بنت محمد الناصر]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌مجال البحث وحدوده:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌فأما الدراسات التي عنيت بتفسير الخطيب الشربيني فهي:

- ‌وأما دراسة موضوع الاستنباط لذاته أو عند المفسرين فقد سجل في رسائل علمية نوقش بعضها، والبعض لا يزال قيد الإعداد والمناقشة، وهي:

- ‌خطة البحث:

- ‌منهج البحث:

- ‌التمهيد

- ‌أولاً: - تعريف الاستنباط، ونشأته، وعلاقته بالتفسير. - أهميته، وطرق التوصل إليه

- ‌أولاً: تعريف الاستنباط:

- ‌ثانياً: نشأة الاستنباط وعلاقته بالتفسير:

- ‌ثالثاً: أهمية علم الاستنباط:

- ‌طريق الوصول إلى الاستنباط:

- ‌ثانياً: التعريف بالخطيب الشربيني رحمه الله

- ‌اسمه ونشأته:

- ‌شيوخه:

- ‌مكانته العلمية وآثاره:

- ‌مؤلفاته:

- ‌عقيدته ومذهبه:

- ‌أولاً: التوحيد:

- ‌ثانياً: الإيمان:

- ‌ثالثاً: القرآن:

- ‌رابعاً: النبوات:

- ‌خامساً: القدر:

- ‌سادساً: السببية وأفعال المخلوقات:

- ‌سابعاً: التحسين والتقبيح:

- ‌وفاته

- ‌ثالثاً: التعريف بتفسير"السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير

- ‌القيمة العلمية لتفسير السراج المنير، ومنهجه فيه:

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌الباب الأول:منهج الخطيب الشربيني في الاستنباطمن خلال تفسيره "السراج المنير

- ‌الفصل الأول:أقسام الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌المبحث الأول:الاستنباط باعتبار موضوع المعنى المستنبط

- ‌المطلب الأول: الاستنباطات في علوم القرآن

- ‌ومن الأمثلة على استنباطاته في علوم القرآن:

- ‌أولاً: في مناسبات الألفاظ:

- ‌ثانياً: في أسرار التقديم والتأخير في القرآن

- ‌ثالثاً: في فوائد التكرار في القرآن الكريم:

- ‌رابعاً: في جواز وقوع النسخ في القرآن:

- ‌خامساً: في قصص القرآن:

- ‌سادساً: في المنطوق والمفهوم:

- ‌سابعاً: في الخصوص والعموم:

- ‌المطلب الثاني: الاستنباطات العقدية:

- ‌القسم الأول: استنباطات فيها تقرير مباشر لمسائل العقيدة، وهي على نوعين:

- ‌النوع الأول: تقرير مسائل على عقيدته الأشعرية:

- ‌النوع الثاني: تقرير مسائل على عقيدة أهل السنة والجماعة:

- ‌القسم الثاني: استنباطات فيها تقرير لمسائل عقدية على مذهب أهل السنة والجماعة والرد على مخالفيهم

- ‌المطلب الثالث: الاستنباطات الأصولية

- ‌المطلب الرابع: الاستنباطات الفقهية:

- ‌القسم الأول: استنباطات فقهية كلية، وهي ما يعرف بالقواعد الفقهية

- ‌حجية سد الذرائع:

- ‌الأصل في الأشياء الإباحة:

- ‌القسم الثاني: استنباطات لمسائل فقهية فرعية متنوعة، وهذا هو الأغلب في استنباطات الخطيب الفقهية

- ‌المطلب الخامس: الاستنباطات اللغوية

- ‌المطلب السادس: الاستنباطات التربوية السلوكية

- ‌المبحث الثاني:الاستنباط باعتبار ظهور النص المستنبط منه وخفائه

- ‌المطلب الأول: الاستنباط من ظاهر النص

- ‌المطلب الثاني: الاستنباط من نص غير ظاهر المعنى

- ‌المبحث الثالث:الاستنباط باعتبار الإفراد والتركيب

- ‌المطلب الأول: الاستنباط من الآية الواحدة

- ‌المطلب الثاني: الاستنباط بالربط بين آيتين أو أكثر

- ‌الفصل الثاني:دلالات وطرق الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌المبحث الأول:الاستنباط بدلالة النص (مفهوم الموافقة)

- ‌المبحث الثاني:الاستنباط بدلالة المفهوم (مفهوم المخالفة)

- ‌المبحث الثالث:الاستنباط بدلالة الالتزام

- ‌المبحث الرابع:الاستنباط بدلالة التضمن

- ‌المبحث الخامس:الاستنباط بدلالة الاقتران

- ‌المبحث السادس:الاستنباط بدلالة الجمع بين النصوص

- ‌الفصل الثالث:أساليب الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره، ومميزاته

- ‌المبحث الأول:أساليب الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌المبحث الثاني:مميزات الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌الفصل الرابع:مصادر الاستنباط عند الخطيب الشربيني:

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول:المصادر الأصلية، وهي التي يعتمد عليها غالباً

- ‌أولاً: الرازي:

- ‌ثانياً: البيضاوي:

- ‌ثالثاً: الزمخشري:

- ‌رابعاً: القرطبي:

- ‌خامساً: البغوي:

- ‌المبحث الثاني:المصادر الفرعية، وهي التي لا يعتمد عليها إلا قليلاً أو نادراً

- ‌أولا: الخازن

- ‌ثانياً: أبو حيان

- ‌ثالثاً: ابن عادل الحنبلي

- ‌رابعاً: البقاعي

- ‌الباب الثاني:جمع ودراسة الاستنباطات عند الخطيب الشربينيفي تفسيره من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة الأنفال

- ‌سورة التوبة

- ‌سورة يونس

- ‌سورة هود

- ‌سورة يوسف

- ‌سورة الرعد

- ‌سورة إبراهيم

- ‌سورة الحجر

- ‌سورة النحل

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة مريم

- ‌سورة طه

- ‌سورة الحج

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌سورة النمل

- ‌سورة القصص

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة لقمان

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة سبأ

- ‌سورة فاطر

- ‌سورة يس

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة ص

- ‌سورة الزمر

- ‌سورة غافر

- ‌سورة فصلت

- ‌سورة الشورى

- ‌سورة الزخرف

- ‌سورة الجاثية

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة محمد

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة الذاريات

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة الملك

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة البينة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة قريش

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الناس

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ ‌سورة النساء القيّم لا يُصدّق في دعوى الدفع إلا ببينة. قال الله

‌سورة النساء

القيّم لا يُصدّق في دعوى الدفع إلا ببينة.

قال الله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({فَأَشْهِدُوا} ندباً {عَلَيْهِمْ} بأنهم قبضوها، فإنّ الإشهاد أنفى للتهمة، وأبعد من الخصومة فتحتاجون إلى البينة، وهذا يدلّ على أنّ القيم لا يصدّق في دعواه الدفع ولو أبى إلا ببينة، وهو مذهب الشافعيّ

(1)

، ومالك

(2)

، خلافاً لأبي حنيفة

(3)

).

(4)

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية بدلالة النَّص أنّ القيم لا يُصدّق في دعواه الدفع إلا ببينة، لأن الله تعالى أمر بالإشهاد فقال {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} وهذا أمر من الله تعالى للأولياء بالإشهاد على دفع المال للأيتام إذا بلغوا الرشد، حتى إذا وقع اختلاف أمكن أن يقيم الوصي البينة على أنه ردَّ المال.

فالإشهاد أنفى للتهمة، وأقطع للشر وأحسم للنزاع، وهذا يدلّ على أنّ القيم على اليتيم لا يُصدّق في دعواه الدفع إلا بالبينة؛ إذ ظاهر الأمر للوجوب

(5)

، وبه

(1)

ينظر: الأم (7/ 86)، والمجموع للنووي (14/ 148).

(2)

ينظر: المدونة (4/ 339)، وبداية المجتهد لابن رشد (4/ 94).

(3)

ينظر: رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (6/ 717).

(4)

السراج المنير (1/ 320).

(5)

وهو ما ذهب إليه الإمام الشافعي ومالك - رحمها الله - كما تقدم توثيقه. وينظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 44)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 523).

ص: 291

السلامة من الضمان والغرم على تقدير إنكار اليتيم، والاحتراز من توجه الحلف المفضي إلى التهمة، أو من وجوب الضمان إذ لم يُقِم البينة.

(1)

وممن نصّ على هذه الدلالة من الآية، وأن ظاهر الأمر فيها للوجوب: الزمخشري، والكيا الهراسي، وابن العربي، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، وأبو حيان، والنيسابوري، وابن عاشور، وغيرهم.

(2)

وممن حمل الأمر فيها على الندب: السمرقندي، والسمعاني، والبغوي، وابن جزي، والسيوطي، وغيرهم.

(3)

وهذا الحكم محل خلاف بين العلماء، فإذا ادَّعى الوصي بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه فهل يُصدَّق؟

قال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد في رواية عنه

(4)

: يُصدَّق بيمينه كسائر الأُمناء.

(5)

، وقال مالك والشافعي: لا يُصدَّق إلا بالبينة

(6)

؛ لأنه تعالى نصَّ

(1)

ينظر: البحر المحيط لأبي حيان (3/ 523)

(2)

ينظر: الكشاف (1/ 476)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (2/ 332)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 425)، والتفسير الكبير (9/ 500)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 44)، وأنوار التنزيل (2/ 61)، ولباب التأويل (1/ 343)، والبحر المحيط (3/ 523)، وغرائب القرآن (2/ 354)، والتحرير والتنوير (4/ 247).

(3)

ينظر: تفسير القرآن للسمرقندي (1/ 283)، وتفسير السمعاني (1/ 399)، ومعالم التنزيل (1/ 571)، والتسهيل (1/ 179)، وتفسير الجلالين (1/ 99)

(4)

ينظر: حاشية الروض المربع لعبد الرحمن بن قاسم (5/ 198)، والشرح الممتع على زاد المستقنع (9/ 316).

(5)

جعلوا الأمر بالإشهاد للندب والإرشاد.

(6)

تقدم توثيقه.

ص: 292

على الإشهاد فقال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} وظاهر الأمر للوجوب، ولأنه أمين من جهة الشرع لا من جهة اليتيم، وليس له نيابة عامة كالقاضي، ولا كمال الشفقة كالأب، لكن يُصدَّق في قدر النفقة، وفي عدم التقتير والإسراف، لعسر إقامة البينة على ذلك، وتنفيره الناس عن قبول الوصاية.

(1)

قال ابن الفرس: (لولا أنه يضمن إذا أنكره المحجور، لم يكن للأمر بالتوثق فائدة).

(2)

وقال القرطبي: (وهذا الإشهاد مستحب عند طائفة من العلماء، فإن القول قول الوصي، لأنه أمين. وقالت طائفة: هو فرض، وهو ظاهر الآية، وليس بأمين فيُقبل قوله، كالوكيل إذا زعم أنه قد ردَّ ما دفع إليه، أو المودع).

(3)

ووافق أبا حنيفة في قبول قول الوصي بيمينه دون بينة من المفسرين: أبو السعود، وحقي، والألوسي، وغيرهم.

(4)

والأظهر والله تعالى أعلم أن في أمر الله تعالى أولياء الأيتام بالإشهاد عليهم بعد البلوغ من الحِكم ما لا يخفى، ويكفي فيها الاحتياط لكلٍ من اليتيم ووالي ماله، لأن الأحوال تتبدل، والرشد يتفاوت، فالأمر بالإشهاد أزجر للولي عن الخيانة، لأن من عرف أنه لا يُقبل عند الخصام إلا ببينة عفَّ عنه، واحترز منه. وكذلك الحال بالنسبة لليتيم فإنه إذا قامت عليه البينة بقبض المال كان أبعد أن يدعي ما ليس له

(5)

، وعليه فالأولى والأحوط أن يُشهد عليه

(6)

، كما دلَّت عليه هذه الآية، وبهذا يظهر صحة استنباط الخطيب، والله تعالى أعلم.

(1)

ينظر: غرائب القرآن للنيسابوري (2/ 354)، والتفسير الكبير (9/ 500)، والبحر المحيط (3/ 523).

(2)

أحكام القرآن (2/ 68)

(3)

الجامع لأحكام القرآن (5/ 44)

(4)

ينظر: إرشاد العقل السليم (2/ 146)، وروح البيان (2/ 167)، وروح المعاني (2/ 419).

(5)

ينظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 364)، ونظم الدرر للبقاعي (5/ 199).

(6)

ينظر: الشرح الممتع لابن عثيمين (9/ 316).

ص: 293

فضل إصلاح النية.

قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} أي: إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق، وفيه تنبيه على أنّ من أصلح نيته فيما يتحرّاه أصلح الله تعالى مبتغاه).

(1)

وجه الاستنباط:

أنه تعالى جعل نية الإصلاح سبباً في التوفيق.

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أنه لا يتم شيء من الأغراض والمقاصد إلا بتوفيق الله تعالى؛ إذ المعنى: إن كانت نية الحكمين إصلاح ذات البين يوفق الله بين الزوجين، على الصحيح في عود الضمير، كما هو ظاهر سياق الآية، وهو ماعليه أكثر المفسرين.

(2)

فإن قصد الحكمين إصلاح ذات البين، وكانت نيتهما صحيحة بُورك في وساطتهما وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الألفة والوفاق، وألقى في

(1)

السراج المنير (1/ 346).

(2)

ينظر: جامع البيان (8/ 332)، والمحرر الوجيز (2/ 49)، وفتح القدير (1/ 535)، والتحرير والتنوير (5/ 47)

ص: 294

نفوسهما المودة والاتفاق

(1)

، وهذا يدل على عظم شأن النية في صلاح العمل حيث جعلها تعالى سبباً في التوفيق.

وممن استنبط هذا المعنى من الآية: الرازي، والبيضاوي، والنسفي، وأبو السعود، والقاسمي، وابن عاشور، وغيرهم.

(2)

ولاشك أن عون الله تعالى للعبد على قدر النية فمن تمت نيته تم عون الله له، فإن النية عليها مدار الأعمال ولا يتم أمر ولا تحصل بركته إلا بصلاح القصد والنية.

والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»

(3)

وقد عظّم سبحانه أمر النية الصالحة فقال عز وجل: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]، فدل على عظم أمر النية، وأنه متى ما صلحت وابتغى العبد بها وجه الله والدار الآخرة في كل ما يتقرب به إليه تعالى، وفي كل نفع يعود على الناس، أعطي عليها أعظم الأجر، بل قد يبلغ بنيته

(1)

ينظر: مدارك التنزيل للنسفي 1/ 356.

(2)

ينظر: التفسير الكبير 10/ 75،، وأنوار التنزيل 2/ 73، ومدارك التنزيل (1/ 356)، وإرشاد العقل السليم 2/ 175، ومحاسن التأويل 3/ 102، والتحرير والتنوير 5/ 47.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم (1/ 9) برقم (1)، وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنية» ، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال (3/ 1515)، برقم (1907).

ص: 295

مالم يبلغه بعمله، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل»

(1)

ففيه تعظيم ثواب النية الصادقة، وهذا مما يشهد لصحة هذه الدلالة، وهي لطيفة من لطائف الاستنباط عند الخطيب، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عن حزبه أو مرض (1/ 515) برقم (747).

ص: 296

التيمم لا يرفع الحدث.

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (وفي هذا دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث؛ لأنه غيّاه بقوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا})

(1)

.

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية بدلالة مفهوم المخالفة أن التيمم لا يرفع الحدث؛ لأن الله تعالى جعل غاية التحريم الغسل فقال: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فلا يقوم مقامه الوضوء، وفيه ردٌ على من أباح جلوس الجنُب في المسجد مطلقاً إذا توضأ، حيث أفادت الآية جواز عبور الجنب في المسجد دون لبث فيه، وبهذا قال الجمهور

(2)

؛ خلافاً لأبي حنيفة فإنه لم يُجز للجنب المرور في المسجد، إلا أن لا يجد بُداً فيتيمم ثم يمر.

(3)

(1)

السراج المنير (1/ 332)

(2)

من المالكية والشافعية، ينظر: الفواكه الدواني (1/ 422)، والأم (1/ 71)، وأجاز الحنابلة للجُنب إذا توضأ أن يلبث في المسجد. ينظر: الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 112)، والمغني (1/ 107)

(3)

ينظر: المبسوط (1/ 118)، وبدائع الصنائع (1/ 38)، وأحكام القرآن للجصاص (3/ 169).

ص: 297

ووافق الخطيب في استنباط هذا الحكم من الآية: الرازي، والبيضاوي، وابن العربي، والسيوطي، والسعدي، وغيرهم.

(1)

وفي معنى هذه الآية خلاف بين المفسرين، فحمل بعضهم الآية على ظاهرها، وقال المراد: إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون الماء فتيمموا، فمُنع الجنب من الصلاة حتى يغتسل إلا أن يكون في سفر ولا يجد ماء فيصلي بالتيمم.

(2)

وقال آخرون: بل المراد من الصلاة مواضع الصلاة وهي المساجد

(3)

، كقوله تعالى:{وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] ومعناه: لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا مجتازين فيه للخروج منه، ولا يقيم

(4)

.

(5)

قال الطبري بعد حكايته لهذين القولين: (والأولى قول من قال: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بيَّن حكم المسافر إذا عُدم الماء وهو جُنب في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] إلى آخره. فكان معلوماً بذلك أن قوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} لو كان معنياً به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره في

(1)

ينظر: أنوار التنزيل (2/ 76)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 556)، والإكليل (1/ 93)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 179)

(2)

وهذا قول علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد رضي الله عنهم وإليه ذهب أبو حنيفة. ينظر: زاد المسير (1/ 409)، وينظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 169).

(3)

ينظر: جامع البيان (8/ 384)، وتفسير القرآن للسمرقندي (1/ 305)، والتفسير الكبير (10/ 86)، وتفسير القرآن العظيم (2/ 313)

(4)

وهذا قول ابن مسعود وسعيد بن المسيب والضحاك والحسن وعكرمة والنخعي والزهري. ينظر: النكت والعيون (1/ 490).

(5)

ينظر: معالم التنزيل للبغوي (1/ 627).

ص: 298

قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} معنى مفهوم، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنباً حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل).

(1)

قال ابن كثير معقباً على كلام ابن جرير: (وهذا الذي نصره هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية).

(2)

وفائدة هذا الخلاف تظهر في حكم فقهي، وهو أنه على تقدير أن يكون المعنى: لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى ولا جنباً إلا عابري سبيل، على هذا الوجه يكون الاستثناء

(3)

في قوله {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} دالاً على أنه يجوز للجنب العبور في المسجد، وأما على معنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا تقربوها حال كونكم جنباً إلا عابري سبيل، والمراد بعابر السبيل المسافر، فيكون هذا الاستثناء دليلاً على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء

(4)

.

(5)

(1)

جامع البيان (8/ 384)

(2)

تفسير القرآن العظيم (2/ 313)

(3)

الاستثناء على محمل الجمهور يحتمل أن يكون متصلاً عند من يرى المتيمم جنباً، والتيمم غير رافع للحدث، وهو قول الشافعي، ويحتمل أن يكون منقطعاً عند من يرى المتيمم غير جنب، والتيمم رافع للحدث وهذا قول أبي حنيفة ورواية عن مالك وأحمد. ينظر: التحرير والتنوير (5/ 64)

(4)

قال ابن العربي: (فليس يُفهم من هذا إلا جواز التيمم عند عدم الماء؛ فأما أن يكون التيمم لا يرفع الحدث مع إباحة الصلاة فليس يُفهم إلا من هذا الموضع قبله، وهي فائدة حسنة جداً). أحكام القرآن (1/ 557).

(5)

ينظر: التفسير الكبير للرازي (10/ 86)

ص: 299

والذي يظهر والله تعالى أعلم أن التيمُّم يرفع الحدَث رفعاً مؤقتاً إلى حين وجود الماء، وهو ما عليه الحنفيَّة، وقول طائفة من المالكيَّة

(1)

، ورواية عن أحمد

(2)

.

واختار هذا القول ابن تيميَّة، والشِّنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين، وغيرهم

(3)

قال ابن تيمية: (فمن قال: إن المتيمم جنب أو محدث فقد خالف الكتاب والسنة، بل هو متطهر).

(4)

وقال ابن باز: (التيمم يرفع الحدث مادام الماء غير موجود، أو كان المكلف غير قادر عليه من أجل مرض ونحوه).

(5)

وعليه فدلالة الآية على أن التيمم لا يرفع الحدث كما قاله الخطيب وغيره لا تظهر كل الظهور، بل الأظهر أن التيمم يرفعه، والله تعالى أعلم.

(1)

ينظر: الفواكه الدواني (1/ 422)

(2)

ينظر: الإنصاف للمرداوي (1/ 214)

(3)

ورجحه ابن المنذر، والصَّنعاني. ينظر: الإقناع لابن المنذر (1/ 68)، ومجموع الفتاوى (21/ 404)، وسبل السلام للصنعاني (1/ 97)، وأضواء البيان للشنقيطي (1/ 367)، وفتاوى نور على الدرب لابن باز (5/ 327)، والشرح الممتع لابن عثيمين (1/ 375)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 231).

(4)

مجموع الفتاوى (21/ 404).

(5)

فتاوى نور على الدرب (5/ 327)

ص: 300

وجوب الهجرة لأجل إقامة شعائر الدين.

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (في الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه).

(1)

وجه الاستنباط:

في الوعيد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، دليل أن من لم يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يجب، وعلم أنه يتمكن من إقامته في غيره تجب عليه الهجرة منه.

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية دلالتها بالنَّص على وجوب الهجرة على من كان في موضع لا يتمكن فيه من إقامة دينه، فكل من كان بدار الشرك أو بدار يُعمل فيها بمعاصي الله جهاراً إذا كان قادراً على الهجرة، ولم يكن من المستضعفين تلزمه الهجرة بدلالة هذه الآية؛ لما فيها من العموم وإن كان سببها خاصاً

(2)

، فالوعيد الشديد في هذه الآية يدل على الوجوب؛ لأن القيام بواجب دين المسلم واجبٌ

(1)

السراج المنير (1/ 326)

(2)

ينظر جامع البيان 9/ 106، وأسباب النزول للواحدي 1/ 177، والدر المنثور (2/ 647).

ص: 301

على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

(1)

وممن نصّ على هذا الاستنباط من الآية: ابن عطية، والقرطبي، والبيضاوي، والنسفي، وأبوحيان، والسيوطي، وأبو السعود، والشوكاني، والقاسمي والسعدي، وغيرهم.

(2)

قال القرطبي: (في هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي).

(3)

وحكم الهجرة باقٍ لا ينقطع إلى يوم القيامة على الصحيح من أقول أهل العلم.

(4)

وأما قوله صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»

(5)

، فمعناه: لا هجرة من مكة بعد فتحها لأنها صارت دار إسلام، ومثلها كل بلد فُتح لأنه لم يبق بلد كفر.

(6)

(1)

ينظر: المغني 9/ 294، والبحر المحيط للزركشي 1/ 341، والقواعد والفوائد الأصولية (1/ 142).

(2)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 101، والجامع لأحكام القرآن 5/ 346، وأنوار التنزيل 2/ 92، ومدارك التنزيل 1/ 388، والبحر المحيط 4/ 10، والإكليل 1/ 99، وإرشاد العقل السليم 2/ 223، وفتح القدير (1/ 583)، ومحاسن التاويل (3/ 289)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 195).

(3)

أحكام القرآن 5/ 346.

(4)

ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم 9/ 123، وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد 2/ 63.

(5)

أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: لا هجرة بعد الفتح برقم (3077)، (4/ 75)

(6)

ينظر: بلوغ المرام لابن حجر 2/ 155، ومنار السبيل في شرح الدليل لابن ضويان 1/ 288.

ص: 302

وعليه فمن قدر على إقامة شعائر دينه، وعلِم أنه يتمكن من إقامة حدود الله كما تجب، وإلا فعليه أن يفرّ بدينه من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، ومن بلد البدعة إلى بلد السنة، ومن بلد المعصية إلى بلد الطاعة، ويشهد لصحة هذه الدلالة: قوله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]

قال السعدي في معنى هذه الآية: ({فِيمَ كُنْتُمْ} أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثّرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم .. ثم قال (وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر).

(1)

وهي دلالة صحيحة قوية الظهور، والله تعالى أعلم.

(1)

تيسير الكريم الرحمن 1/ 195.

ص: 303

جواز قصر الصلاة دون وجوبه.

قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله تعالى {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} أي: من أربع إلى ركعتين، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء، يدل على جواز القصر دون وجوبه، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام أتمَّ في السفر

(1)

).

(2)

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية بدلالة النص جواز القصر دون وجوبه؛ لأن ظاهر السياق يدل عليه حيث قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ، ولفظ {فَلَا جُنَاحَ} إنما يستعمل في الرُخص لا فيما يكون حتماً واجباً

(3)

، فنفي الحرج فيه يدل على جوازه دون وجوبه، وقد علّق القصر على الخوف؛ لأن غالب أسفاره عليه الصلاة والسلام لم تخل منه.

(4)

(1)

أخرجه الشافعي، والدارقطني، والبيهقي من طرق عن عائشة رضي الله عنها «أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر، ويصوم» أخرجه الدارقطني في سننه برقم (2298)، (3/ 163)، والبيهقي في السنن الصغرى (1/ 222)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير عن عائشة (1/ 662)

(2)

السراج المنير (1/ 378)

(3)

ينظر: معالم التنزيل للبغوي (1/ 687)، ولباب التأويل للخازن (1/ 418)

(4)

ينظر: تيسير الكريم الرحمن (1/ 197)

ص: 304

ويؤيد هذا الاستنباط أنه صلى الله عليه وسلم أتمَّ في السفر كما تقدم، وقال فيه صلى الله عليه وسلم «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»

(1)

، وكان عثمان رضي الله عنه يُتمّ ويقصر، وما ظهر إنكار من الصحابة عليه.

(2)

وهذه الدلالة مبنية على قول الجمهور

(3)

أن المراد بالقصر في الآية: هو قصر عدد ركعاتها، لا قصر الكيفية في صلاة الخوف كما قال به بعض المفسرين.

(4)

ووافق الخطيب في النصَّ على جواز القصردون وجوبه جمهور المفسرين.

(5)

قال السمعاني في حكاية الخلاف مرجحاً اختيار الشافعي: (اختلفوا في القصر على قولين: أنه إباحة، أم واجب، قال بعضهم: هو إباحة، وهو اختيار الشافعي

(6)

، وهو أصح؛ لقوله عز ذكره:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} ).

(7)

وقال الشوكاني: (قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} فيه دليل على أن القصر ليس بواجب، وإليه ذهب الجمهور

(8)

، وذهب الأقلون

(9)

: إلى أنه واجب.)

(10)

(1)

أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين برقم (686)، (1/ 478)

(2)

ينظر: الاستذكار لابن عبد البر (2/ 227)، والمغني لابن قدامة (3/ 367).

(3)

ينظر: معالم التنزيل (1/ 471)، والمحرر الوجيز (2/ 382)، والتفسير الكبير (11/ 200)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 247)، ومحاسن التأويل (5/ 414)، والتحرير والتنوير (5/ 183).

(4)

ينظر: جامع البيان (9/ 140)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 829)، وأضواء البيان (1/ 210)

(5)

ينظر: التفسير الوسيط (2/ 108)، وتفسير السمعاني (1/ 472)، ومعالم التنزيل (1/ 687)، والتفسير الكبير (11/ 200)، وأنوار التنزيل (2/ 93)، والتسهيل (1/ 207)، ولباب التأويل (1/ 418)، وغرائب القرآن (2/ 483)، والإكليل (1/ 99)، وفتح القدير (1/ 585)، والتحرير والتنوير (5/ 184)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 197).

(6)

ينظر: الأم (1/ 207)، والمهذب للشيرازي (1/ 192).

(7)

تفسير السمعاني (1/ 472).

(8)

ذهب الشافعية والحنابلة: إلى أن القصر جائز، والراجح المشهور عند المالكية: أن القصر سنة مؤكدة؛ وفي المذهب عن مالك أقوال أُخر فقيل: إنه فرض، وقيل: مستحب، وقيل: إنه مباح. ينظر: بداية المجتهد 1/ 161، والشرح الكبير للدردير 1/ 358، والأم (1/ 207)، والمجموع للنووي (4/ 321)، والكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 309)، والمغني (2/ 198).

(9)

وهم أبو حنيفة وأصحابه. ينظر: المبسوط (1/ 239)، وبدائع الصنائع (1/ 91)

(10)

فتح القدير (1/ 585).

ص: 305

ويدل له أن جميع رُخص السفر شُرعت على سبيل الجواز رفعاً للمشقة، لا على سبيل التعيين جزماً فكذلك هنا

(1)

؛ إذ هو تخفيف أُبيح للسفر، فجاز تركه كالمسح ثلاثاً للمسافر.

وخالف الحنفية الجمهور فقالوا بوجوب القصر؛ ووافقهم من المفسرين: الجصاص، والنسفي، وأبو السعود، وحقي، وغيرهم.

(2)

والراجح هو جواز القصر دون وجوبه كما نص عليه الخطيب، ولعل القصر أفضل

(3)

؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه داوموا عليه، وعابوا من تركه

(4)

، والله تعالى أعلم.

(5)

(1)

ينظر: التفسير الكبير (11/ 200)

(2)

أحكام القرآن للجصاص (3/ 231)، ومدارك التنزيل (1/ 390)، وإرشاد العقل السليم (2/ 225)، وروح البيان (2/ 273).

(3)

عند المالكية والحنابلة، ينظر: بداية المجتهد (1/ 161)، والشرح الكبير للدردير (1/ 358)، وكشاف القناع للبهوتي (1/ 324)، ومجموع الفتاوى (22/ 82)، والشرح الكبير على متن المقنع لابن قدامة (2/ 100). وقال الشافعي: الإتمام أفضل. ينظر: الأم (1/ 207)، والمهذب للشيرازي (1/ 192)، أما الحنفية فعلى مذهبهم من وجوب القصر، ينظر: المبسوط (1/ 239).

(4)

قال السعدي: (ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران: أحدهما: ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره. والثاني: أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد.) تيسير الكريم الرحمن (1/ 197).

(5)

قال ابن عبد البر: (وفي إجماع الجمهور من الفقهاء على أن المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين، فأدرك منها ركعة أن يلزمه أربع، دليل واضح على أن القصر رخصة، إذ لو كان فرضه ركعتين لم يلزمه أربع بحال). التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (16/ 311).

ص: 306

رعاية أحوال الباطن في إخلاص النية، وتصفية القلب من الالتفات إلى الدنيا.

قال الله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: هذا المذكور {ابْتِغَاءَ} أي: طلب {مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي: لا غيره من أمور الدنيا؛ لأنّ الأعمال بالنيات، {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} أي: الله في الآخرة بوعد لا خلف فيه {أَجْرًا عَظِيمًا} هو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم، وفي هذه الآية دلالة على أنّ المطلوب من أعمال الظاهر رعاية أحوال الباطن في إخلاص النية، وتصفية القلب من الالتفات إلى غرض دنيوي).

(1)

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أن إخلاص النية وتصفية القلب من الالتفات إلى عرض الدنيا هو أعظم مطلوب، لأنه تعالى وعد بالثواب على فعل المذكورات إذا كان لابتغاء مرضاة الله، فدلّ على فضلها لما فيها من

(1)

السراج المنير (1/ 384)

ص: 307

المنافع، إلا أن الثواب لا يحصل إلا عن فعلها ابتغاء مرضاة الله

(1)

، فإذا فعل المرء ذلك خالصاً لوجه الله نفعه، وإن فعله لتحصيل غرض دنيوي، أو رياء وسمعة لم ينفعه، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى»

(2)

، فهذا يدل على عظم شأن النية في الأعمال، وأن مدار قبول العمل على إخلاص النية، وتطهير القلب من الالتفات إلى الدنيا.

وهي إشارة حسنة من الآية، وممن وافق الخطيب في استنباط هذه الدلالة: أبوحيان، والبقاعي، والخازن، وابن عاشور، والسعدي، وغيرهم.

(3)

قال أبو حيان: (في قوله: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} دليل على أنه لا يجزي من الأعمال إلا ما كان فيه رضا الله تعالى، وخلوصه لله دون رياء ولا سمعة).

(4)

وقال البقاعي: (هذه الآية من أعظم الدلائل على أن المطلوب من أعمال الظاهر رعاية أحوال القلب في إخلاص النية، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض دنيوي، فإن كان رياء انقلبت فصارت من أعظم المفاسد).

(5)

وكمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص، ولهذا كان أعظم مقصود هو رضا الله تعالى، وإخلاص العمل له في الأمر كله؛ إذ النية روح العمل وقوامه،

(1)

ينظر: التحرير والتنوير (5/ 200).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

ينظر: البحر المحيط (4/ 66)، ونظم الدرر (5/ 401)، ولباب التأويل (1/ 427)، والتحرير والتنوير (5/ 200)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 202)

(4)

البحر المحيط (4/ 66)

(5)

نظم الدرر (5/ 401)

ص: 308

واستحضار النية الصالحة في الأمور المباحة يُصيّرها قُربات لله يثاب عليها العبد وهذا من فضله سبحانه.

والإخلاص عزيز، وهو أشد شيء على النفس، ولهذا كان على العبد أن يتعاهد إخلاصه، ويحاسب نفسه، ليحصل له بذلك الأجر العظيم، سواء تمّ مقصوده أم لا؛ لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

ينظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (1/ 202)

ص: 309

النهي للتحريم.

قال الله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 161]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ} أي: والحال إنهم قد {نُهُوا عَنْهُ} في التوراة، فكان محرماً عليهم كما هو محرّم علينا؛ لأنه قبيح في نفسه، مُزر بصاحبه، وفي الآية دليل على أنّ النهي للتحريم).

(1)

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أنّ النهي للتحريم؛ حيث دلّت على أن الله تعالى حرّم على اليهود الربا في التوراة كما حرّمه علينا في القرآن بقوله {وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} ، وقد قال تعالى قبلها:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} . قال ابن القيم: (ويستفاد كون النهي للتحريم من ذمه لمن ارتكبه وتسميته عاصيا وترتيبه العقاب على فعله).

(2)

وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية: البيضاوي، وأبو السعود، وغيرهما من المفسرين.

(3)

(1)

السراج المنير 1/ 399.

(2)

بدائع الفوائد 4/ 3.

(3)

ينظر: أنوار التنزيل للبيضاوي 3/ 9، وإرشاد العقل السليم لأبي السعود 2/ 253.

ص: 310

وهذه المسألة: هل النهي المطلق للتحريم؟ فيها خلاف بين أهل العلم على أقوال مبسوطة في كتب الأصول

(1)

، والذي عليه الجمهور أن الأصل في النهي هو التحريم،

(1)

ينظر: المحصول للرازي 2/ 281، والبحر المحيط للزركشي 3/ 294، وإرشاد الفحول للشوكاني 1/ 279.

ص: 311

ولا ينتقل من التحريم إلى الكراهة إلا بدليل يدل على ذلك، فإذا نهى صلى الله عليه وسلم عن شيء ثم فعله دلَّ على أن النهي للكراهة، كما نهى عن الشرب قائماً ثم شرب عليه الصلاة والسلام قائماً، فدلَّ على أنه ليس نهي تحريم، وأنه يجوز الشرب قائماً وقاعداً، لكن الشرب قاعداً أولى.

ودليل ذلك قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، فهذا يقتضي وجوب الانتهاء عن الفعل الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

كذلك ما ثبت من فعل الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين- في غزوة خيبر لما نفد الطعام واشتد بهم الجوع، أخذوا الحمر الأهلية فذبحوها، وغلت القدور بها، فجاء الصارخ فقال:«إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فكفئوا القدور بما فيها»

(1)

، مع حاجة الناس إلى هذا الطعام، فلو كان هذا النهي على الكراهة لأكل الناس، فدلَّ على أن الأصل في النهي التحريم، كما هي دلالة هذه الآية، وهي دلالة قوية ظاهرة، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه البخاري بنحوه في كتاب: الذبائح والصيد، باب (لحوم الحمر الإنسية)، برقم (5528)، (7/ 96)، ومسلم في كتاب الذبائح، باب تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية برقم (1940)، (3/ 1540)

ص: 312