الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأنفال
بيان العلة في مجادلة بعض المؤمنين للرسول صلى الله عليه وسلم، وكراهيتهم القتال يوم بدر.
قال تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} إليه أي: يكرهون القتال كراهة من يُساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه، وذلك أنّ المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك، وقالوا: لم يعلمنا أنا نلقى العدوّ فنستعد للقائهم، وإنما خرجنا لطلب العير، إذ روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم إلا فارسان
(1)
، وفيه إيماء إلى أنّ مجادلتهم كانت لفرط فزعهم ورعبهم).
(2)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على علة مجادلة بعض الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكراهيتهم تلقي النفير يوم بدر
(3)
، وذلك كان بسبب شدة فزعهم ورعبهم وعدم تأهبهم للقتال، بدلالة الإشارة في قوله تعالى:{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} حيث أفادت علة هذه المجادلة، لأن أشد حال من يُساق إلى الموت أن يكون ناظراً إليه، وعالماً به، فشبَّه حالهم في فرط هذا الفزع والرعب، بحال من يُساق صاغراً إلى الموت المحقق، وهو مُشاهد
(1)
ينظر: التفسير الوسيط (2/ 445)
(2)
السراج المنير (1/ 586)
(3)
في أولئك المجادلين قولان: أحدهما: أنهم طائفة من المسلمين، قاله ابن عباس، وهو قول الجمهور. والثاني: أنهم المشركون، قاله ابن زيد، ينظر: زاد المسير (2/ 190).
لأسبابه، ناظر إليه لا يشك فيه؛ فإن أمرهم بقتال العدو الكثير العدد، وهم في قلة، إرجاء بهم إلى الموت المحقق.
(1)
وكان جدالهم أن قالوا: ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا أخبرتنا لنستعد ونتأهب؟ وذلك لأنهم لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج أنه يكون بينهم وبين عدوهم قتال، فحين تبين لهم أن ذلك واقع، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم طلباً للرخصة في ترك القتال، وكرهوا لقاء عدوهم.
والحال أن هذا لا ينبغي منهم، خاصة بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق، ومما أمر الله به ورضيه، فهذه الحال ليست حال جدال؛ لأن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحق والتباس الأمر، فأما إذا وضح وبان، فليس إلا الانقياد والإذعان.
(2)
وممن استنبط هذه الإشارة من الآية: البيضاوي، والألوسي، وغيرهما.
(3)
قال الألوسي: (فيه إيماء إلى أن مجادلتهم كانت لفرط فزعهم ورعبهم؛ لأنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً في قول
(4)
).
(5)
وقيل: أنهم كانوا رجالة. وأنه ما كان فيهم إلا فارسان.
(6)
(1)
ينظر: فتح القدير (2/ 328)، والتحرير والتنوير (9/ 268)
(2)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (1/ 315).
(3)
ينظر: أنوار التنزيل (3/ 51) وينظر: حاشية زاده على البيضاوي ص 365، وروح المعاني (5/ 160).
(4)
ينظر: جامع البيان (13/ 393)، وزاد المسير (2/ 190).
(5)
روح المعاني (5/ 160)
(6)
وهما المقداد بن الأسود، والزبير بن العوام. ينظر: المرجع السابق.
وهذه الإشارة من الآية إشارة ظاهرة، وذلك أن مجادلة الصحابة كانت ولابد لسبب ظاهر ومبرر قوي، فلا يليق بهم رضوان الله عليهم الاعتراض، بل كان ديدنهم المتابعة وعدم المخالفة لشيء من أمره صلى الله عليه وسلم، وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله. فجاء قوله تعالى بعدها {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} كالتبرير لمجادلتهم وعدم إذعانهم للحق لعلة الهلع وتيقن الهلاك، ثم انقادوا بعد ذلك للجهاد، وثبّتهم الله، وقيّض لهم من الأسباب ما تطمئن به قلوبهم، والله تعالى أعلم.
التوكل على الله مسبب الأسباب سبحانه.
قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله تعالى {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي: لا من عند غيره، وأما إمداد الملائكة وكثرة العدد والأُهب ونحوها فهي وسائط لا تأثير لها، فلا تحسبوا أن النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها، وفي ذلك تنبيه على أنّ الواجب على المسلم أن لا يتوكل إلا على الله تعالى في جميع أحواله، ولايثق بغيره، فإنّ الله تعالى بيده النصر والإعانة).
(1)
وجه الاستنباط:
من حيث إن نظر العامة إلى الأسباب أكثر، فنبّه تعالى إلى أنه مسبب الأسباب.
(2)
الدراسة:
استنبط الخطيب من قوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} دلالتها باللازم على الإعراض عن الأسباب والإقبال على مسبب الأسباب سبحانه، حيث نبّه تعالى عباده أن لا يركنوا إلى الملائكة، وأن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة الذين أُمدّوا بهم، فأعلمهم أنهم وإن قاتلوا معهم فليس للملائكة في ذلك أثر، إذ لم يكن النصر بالملائكة والجند وكثرة العدد، وإنما النصر من عند الله لا من عند غيره، فهو
(1)
السراج المنير (1/ 639)، وقوله:(وسائط لاتأثير لها) على معتقده الأشعري، ينظر رده في الاستنباط (6)
(2)
ينظر: أنوار التنزيل 2/ 37، ولباب التأويل (1/ 294)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (4/ 332).
الناصر على الحقيقة، وليست الملائكة إلا سبباً من أسباب النصر التي سبّبها الله لهم،، فذكّرهم ما يُوجب عليهم التوكل مما يسّر لهم من الفتح يوم بدر وهم في حال قلة وذلة.
(1)
حكى هذا المعنى المستنبط من الآية: الطبري، والواحدي، والبغوي، والزمخشري، والرازي، والبيضاوي، والخازن، والنيسابوري، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي، وغيرهم.
(2)
وهذا ما عليه أهل السنة في وجوب الاعتماد على الله مسبب الأسباب سبحانه، وعدم التعويل على الأسباب وحدها.
(3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فمن فهم معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وحده، وأنه يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستغاثة لا تكون إلا بالله، والتوكل لا يكون إلا عليه، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فالنصر المطلق - وهو خلق ما يغلب به العدو - لا يقدر عليه إلا الله).
(4)
(1)
ينظر: الكشاف 2/ 202. وفتح القدير 2/ 331،
(2)
ينظر: جامع البيان 7/ 190، والتفسير الوسيط 1/ 490، ومعالم التنزيل 1/ 503، والكشاف 2/ 202، والتفسير الكبير 8/ 354، وأنوار التنزيل 3/ 52، ولباب التأويل 1/ 294، وغرائب القرآن 2/ 253، وفتح القدير 2/ 331، ومحاسن التأويل 5/ 263، وتيسير الكريم الرحمن 1/ 146.
(3)
قال الطحاوي: (الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد! ومحو الأسباب أن تكون أسباباً، نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. ومعنى التوكل والرجاء، يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع.). شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 2/ 680.
(4)
مجموع الفتاوى (8/ 175)، وينظر: مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية لمحمد رشيد رضا (1/ 24)
وبهذا يظهر صحة دلالة هذه الآية على استنباط الخطيب، والله تعالى أعلم.
فوائد تكرار قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
قال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال: 54]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فإن قيل: ما فائدة تكرير هذه الآية مرّة ثانية؟ أجيب: بأنّ فيها فوائد: منها: أنّ الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأوّل؛ لأن الكلام الأوّل فيه ذكر أخذهم، وفي الثاني: ذكر إغراقهم وذلك تفصيل.
ومنها: أنه ذَكر في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله، وفي الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم ففي الآية الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها وكفرهم بها
ومنها: أنّ تكرير هذه القصة للتأكيد، ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله:{بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} وبيان ما أخذ به آل فرعون.
ومنها: أنّ الأولى لسببية الكفر، والثانية لسببية التغيير، والنقمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم).
(1)
الدراسة:
(1)
السراج المنير (1/ 659)
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على فوائد تكرار قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} [الأنفال: 54] بعد أن ذُكرت قبل ولم يفصل بينهما إلا آية واحدة، وذلك التكرير إنما جاء لأغراض متنوعة، إذ أن التكرار من أبرز وجوه البيان القرآني، وهو من مظاهر التحدِّي في كتاب الله المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلَق من كثرة الردّ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس في القرآن تكرار محض، بل لابد من فوائد في كل خطاب فـ «المتشابه» في النظائر المتماثلة، و «المثاني» في الأنواع. وتكون التثنية في المتشابه أي هذا المعنى قد ثني في القرآن لفوائد أخر).
(1)
وقد ذكر الخطيب في وجه تكرار هذه الآية أربعاً من الفوائد:
الفائدة الأولى: التفصيل وبيان المعنى.
ووجه بيانه من الآية: أن الآية الأولى قبلها ذكرفيها أخذهم، وفي الآية الثانية ذكر نوع هذا الأخذ وهو: إغراقهم، وذلك تفصيل، وفيه أيضاً تفسير وبيان للأولى؛ ففي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب.
(2)
وهي فائدة ظاهرة من السياق، وممن نصَّ على هذه الفائدة من الآية: الرازي، والنسفي، والخازن، وأبوحيان، والنيسابوري والشوكاني، وغيرهم.
(3)
(1)
مجموع الفتاوى (14/ 408)
(2)
ينظر: الكشاف (2/ 230)، والبحر المحيط (5/ 338)
(3)
ينظر: التفسير الكبير (15/ 496)، ومدارك التنزيل (1/ 652)، ولباب التأويل (2/ 320)، والبحر المحيط (5/ 338)، وغرائب القرآن (3/ 410)، وفتح القدير (2/ 363).
الفائدة الثانية: الزيادة في المعنى.
ووجه ذلك: أنه خولف بين الجملتين تفنناً في الأسلوب، وزيادة للفائدة بذِكر التكذيب هنا بعد ذِكر الكفر هناك، وهما سببان للأخذ والإهلاك.
(1)
وممن نصَّ على هذه الفائدة من المفسرين: الزمخشري، والرازي، والبيضاوي، والنسفي، والخازن، وأبو حيان، وابن عاشور، وغيرهم.
(2)
وهذه الفائدة قريبة محتملة، لكنها ليست ظاهرة كظهور غيرها من الفوائد.
الفائدة الثالثة: التأكيد.
ووجه ذلك: كون التكرير لتقرير النِّعم وتأكيد التذكير بها.
قال ابن قتيبة: (من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز).
(3)
فقوله سبحانه: {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} تفسير لدَأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم، وأُشير بلفظ الرب إلى أن ذلك التغيير كان بكفران نعمه تعالى، لما فيه من الدلالة على أنه مُربيهم والمنعم عليهم، وقوله سبحانه:{فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} تفسير لدأبهم الذي فَعَل بهم من تغييره تعالى ما بهم من نعمته سبحانه.
(4)
(1)
ينظر: التحرير والتنوير (10/ 46)
(2)
ينظر: الكشاف (2/ 230)، والتفسير الكبير (15/ 496)، وأنوار التنزيل (3/ 64)، ومدارك التنزيل (1/ 652)، ولباب التأويل (2/ 320)، والبحر المحيط (5/ 338)، والتحرير والتنوير (10/ 46).
(3)
نقله عنه ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 208)، وينظر: الهداية الى بلوغ النهاية لمكي بن أبي طالب (4/ 2463).
(4)
ينظر: روح المعاني (5/ 216)
فالأول إشارة إلى أنهم أنكروا الدلائل الإلهية، والثاني إشارة إلى أنه سبحانه ربَّاهم وأنعم عليهم بالوجوه الكثيرة، فأنكروا دلائل ربوبيته وإحسانه مع كثرتها وتواليها عليهم، فكان الأثر اللازم من الأول هو الأخذ، والأثر اللازم من الثاني هو الإهلاك والإغراق، وذلك تأكيد ودلالة على أن لكفران النعمة أثر عظيم في حصول الهلاك والبوار.
(1)
قال السيوطي عن أسلوب التكرير: (وهو أبلغ من التأكيد، وهو من محاسن الفصاحة، خلافاً لبعض من غلط).
(2)
وهي فائدة حسنة، يشهد لها تكرار المعاني في كثير من الآيات بغرض التأكيد، وممن نصَّ على هذه الفائدة: القشيري، والزمخشري، والبيضاوي، والنسفي، والخازن، وأبو حيان، والنيسابوري، والشوكاني، والألوسي، وابن عاشور، وغيرهم.
(3)
الفائدة الرابعة: اختلاف السبب وعليه اختلف التشبيه.
ووجه ذلك كما قال ابن عطية: (وهذا التكرير هو لمعنى ليس للأول، إذ الأول دأبَ في أن هلكوا لمَّا كفروا، وهذا الثاني دأبَ في أن لم تُغيّر نعمتهم حتى غيّروا ما بأنفسهم).
(4)
(1)
ينظر: التفسير الكبير (15/ 496)
(2)
الإتقان في علوم القرآن (3/ 224)، وينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (3/ 11).
(3)
لطائف الإشارات (1/ 633)، والكشاف (2/ 230)، وأنوار التنزيل (3/ 64)، ومدارك التنزيل (1/ 652)، ولباب التأويل (2/ 320)، والبحر المحيط (5/ 338)، وغرائب القرآن (3/ 410)، وفتح القدير للشوكاني (2/ 363)، وروح المعاني (5/ 216) والتحرير والتنوير (10/ 46).
(4)
المحرر الوجيز (2/ 541).
قال البيضاوي: (قيل الأول لتشبيه الكفر والأخذ به، والثاني لتشبيه التغيير في النعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم).
(1)
وهذه الفائدة قريبة من سابقتها، وممن نصَّ عليها من المفسرين غير البيضاوي وابن عطية: القرطبي، والنسفي، وأبو حيان، والقاسمي، والألوسي، وغيرهم.
(2)
وعلى هذا ففيه إشارة إلى دفع ما يُتوهم من التكرار في الآيتين، بتغاير التشبيهين فيهما، فلا يحتاج إلى دعوى التأكيد. فمعنى الأول: حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر،
(1)
أنوار التنزيل (3/ 64).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (8/ 29)، ومدارك التنزيل (1/ 652)، والبحر المحيط (5/ 338)، ومحاسن التأويل (5/ 311)، وروح المعاني (5/ 216).
فأخَذهم وآتاهم العذاب. ومعنى الثاني: حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم، وتغيير الله حالهم بسبب ذلك التغيير، وهو أنه أغرقهم
(1)
. وهي إشارة وجيهة حسنة.
وقيل في وجه الجمع بين تكرار الآيتين وفائدته
(2)
غير ذلك من الفوائد مما لا يخلو من بُعد وتكلف، والله تعالى أعلم.
فضل الإخلاص في العمل والترغيب فيه.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} أي: آمنوا وأقاموا بمكة {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: فلا إرث بينكم وبينهم، ولا نصيب لهم في الغنيمة {حَتَّى يُهَاجِرُوا} أي: إلى المدينة {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي: ولم يهاجروا {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي: فيجب عليكم أن تنصروهم على المشركين {إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي: عهد فلا تنصروهم عليهم وتنقضوا عهدهم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} في ذلك ترغيب في العمل بما حثَّ عليه من الإيمان والهجرة، وغير ذلك مما تقدّم وترهيب من العمل بأضدادها، وفي البصير إشارة إلى العلم بما يكون من ذلك خالصاً أو مشوباً، ففيه مزيد حث على الإخلاص).
(3)
(1)
ينظر: محاسن التأويل (5/ 311).
(2)
ينظر: درة التنزيل وغرة التأويل للخطيب الإسكافي (1/ 368)، وينظر للاستزادة: أسرار التكرار للكرماني ص 80.
(3)
السراج المنير (2/ 667).
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على مناسبة ختم الآية بقوله {بَصِيرٌ} وهي الترغيب في العمل بما حثَّ الله عليه من الإيمان والهجرة، والتحذير من تركها، كما أن فيه الإشارة إلى العلم بما يكون من النصرة في الدين المأمور بها في الآية إلا على أهل العهد والذمة، أو التخاذل عن هذه النصرة، وفي هذا إشارة إلى الإخلاص في ذلك كله لله سواء في النصرة، أو حفظ الميثاق والعهد، فالله تعالى بصير مطلع على أعمالهم وقلوبهم.
والمعنى كما حكاه الطبري: (فلا تغدروا ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم، فالله بما تعملون بصير فيما أمركم ونهاكم من ولاية بعضكم بعضا، أيها المهاجرون والأنصار، وترك ولاية من آمن ولم يهاجر، ونصرتكم إياهم عند استنصاركم في الدين، وغير ذلك من فرائض الله التي فرضها عليكم {بَصِيرٌ}، فيراه ويبصره، فلا يخفى عليه من ذلك ولا من غيره شيء).
(1)
وفي هذا مزيد تأكيد وحثّ على الإخلاص في الأعمال كلها، وهو ما أشارت إليه الآية كما استنبطه الخطيب، وذلك أن ترك نصرهم يجر إلى مفسدة، كما أن موالاتهم على غيرهم تجر إلى مفاسد؛ فاستنصارهم يوقع بين مفسدتين: ترك نصرة المؤمن، ونقض العهد وهو أعظم
(2)
.
ولا شك أن معنى هذه الدلالة صحيح؛ فإن الله تعالى أمر بالإخلاص، وحث عليه في مواطن كثيرة من الكتاب وكذلك جاءت به السنة، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
(1)
جامع البيان (14/ 82)
(2)
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي (8/ 343).
بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3]. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 14 - 15].
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم»
(1)
.
(2)
ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق، وتأكيده هنا لئلا تحملهم الشفقة والعطف على إخوانهم المسلمين على قتال قوم بينهم وبينهم ميثاق، فالله تعالى بصير بهم، وهي إشارة حسنة، لم أقف على من أشار إليها وربط هذه الآية بالإخلاص سوى الخطيب
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله برقم (33)، (4/ 1986).
(2)
ينظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/ 90)، وإغاثة اللهفان (1/ 6)
(3)
فيما اطلعت عليه من كتب التفسير.