الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النور
القذف من الكبائر.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4].
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (في ذلك دليل على أن القذف من الكبائر؛ لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أن القذف من الكبائر؛ لأنه تعالى وصف القاذف بالفسق، والفسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة، وقد تضمنت هذه الآية ثلاثة أحكام في القاذف: جلده، ورد شهادته أبداً، وفسقه، فليس بعدل عند الله ولا عند الناس. فيستفاد من هذه الآية بمجموع هذه الأحكام وأظهرها الفسق، أن القذف من الكبائر؛ لأنه بالقذف يفسق، فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى، أو بقيام البينة عليه.
(2)
وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية: الرازي، والخازن، وأبو حيان، وحقي، والسعدي، وغيرهم.
(3)
قال الرازي: (أما قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فاعلم أنه يدل على
(1)
السراج المنير (2/ 664)
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (12/ 182)
(3)
ينظر: التفسير الكبير (23/ 329)، ولباب التأويل (3/ 281)، وروح البيان (6/ 119)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 562).
أمرين: الأول: أن القذف من جملة الكبائر؛ لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب الكبيرة. الثاني: أنه اسم لمن يستحق العقاب لأنه لو كان مشتقاً من فِعله لكانت التوبة لا تمنع من دوامه).
(1)
وقال السعدي موافقاً الخطيب في هذه الدلالة: ({وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طاعة الله، الذين قد كثر شرهم، وذلك لانتهاك ما حرم الله، وانتهاك عرض أخيه، وتسليط الناس على الكلام بما تكلم به، وإزالة الأُخوة التي عقدها الله بين أهل الإيمان، ومحبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهذا دليل على أن القذف من كبائر الذنوب).
(2)
وهي دلالة صحيحة واستنباطها من الآية ظاهر؛ فقذف المسلم كبيرة من الكبائر، بل موبقة من الموبقات السبع، بدلالة هذه الآية وغيرها، وبما جاء في السنة قال صلى الله عليه وسلم:"اجتنبوا السبع الموبقات، وذكر منها: وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"
(3)
،
فالقذف من موجبات الحدود، وكل ما يوجب الحدَّ كبيرة، فمن قذف مسلماً حراً بالغاً عاقلاً عفيفاً فقد استحق حد القذف، وصدق عليه وصف الفسق
(4)
بدلالة هذه الآية، والله تعالى أعلم.
(1)
التفسير الكبير (23/ 329)
(2)
تيسير الكريم الرحمن (1/ 562)
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (145)(1/ 92).
(4)
ينظر: نهاية المطلب للجويني (18/ 603)، وروضة الطالبين للنووي (10/ 106).
عدم النسخ في هذه الآية:
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ( .. {وَاللَّهُ} أي: الذي له الإحاطة العامة بكل شيء {عَلِيمٌ} بكل شيء {حَكِيمٌ} فيما يريده، فلا يقدر أحد على نقضه، وختم الآية بهذا الوصف يدل على أنها محكمة لم تنسخ).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة اللازم من الآية أنها محكمة لم تنسخ، يدلُّ له ختمُها بقوله {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} أي بياناً مقروناً بحكمته، ليتأكد ويتقوى ويُعرف به رحمة شارعه وحكمته، ولهذا قال:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فله العلم المحيط بكل شيء، والحكمة التي وَضَعت كل شيء موضعه، فأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، وأعطى كل حكم شرعي حكمه اللائق به، ومنه هذه الأحكام التي بيَّنها
(2)
، فختمُها بهذا الوصف يُشعِر أنها محكمة ليست منسوخة؛ والله تعالى أحكم وأعلم بخلقه.
وإنما شرع الاستئذان ولم يكن للقوم يومئذٍ ستور ولا حجاب، فكان الوِلدان والخدم يدخلون على أهليهم، فربما يرون منهم ما لا يحبون فأُمروا بالاستئذان، أمَا
(1)
السراج المنير (2/ 703)
(2)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (1/ 574).
وقد بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور والدور، أغنى ذلك عن الاستئذان، لكن لو عادت الحال لعاد الوجوب، فهو سبحانه بحكمته في جميع أفعاله يشرع لعباده ما فيه صلاح أمر معاشهم ومعادهم.
وممن استنبط هذه الإشارة من الآية: ابن كثير، وغيره.
(1)
قال ابن عطية: (أما أمر الاستئذان فإن تغيير المباني والحجُب أغنت عن كثير من الاستئذان، وصيَّرته على حد آخر، وأين أبواب المنازل اليوم من مواضع النوم، وقد ذُكر عن ابن عباس أنه قال: كان العمل بهذه الآية واجباً إذ كانوا لا غلق ولا أبواب، ولو عادت الحال لعاد الوجوب. - إلى أن قال-: فهي الآن واجبة في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها).
(2)
وعلى هذا فليس في الآية نسخ
(3)
، وإنما محمل هذا القول أن الحُكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فيكون الأمر على حاله، ولكن حينما انتفت العلة لم يكن للاستئذان محل.
(4)
قال ابن العربي عن النسخ في هذه الآية: (وهذا ضعيف جداً بما بيَّناه في غير موضع من أن شروط النسخ لم تجتمع فيه، من المعارضة، ومن التقدم والتأخر، فكيف يصح لناظرٍ أن يحكم به؟)
(5)
(1)
قال رحمه الله: ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . تفسير القرآن العظيم (6/ 83)
(2)
المحرر الوجيز (4/ 193) بتصرف يسير.
(3)
ينظر: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد بن سلام (1/ 219)، والناسخ والمنسوخ للنحاس (1/ 594)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (2/ 522)
(4)
ينظر: أسنى المطالب لأبي يحي السنيكي (3/ 105)، وشرح القواعد الفقهية لأحمد بن الشيخ محمد الزرقا (1/ 483)
(5)
أحكام القرآن (3/ 414)
وروى ابن جرير الطبري عن الشعبي
(1)
في قوله: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: لم تُنسخ، قلت: إن الناس لا يعملون به، قال: الله المستعان!
(2)
وعلى هذا فالآية في قول أكثر أهل العلم محكمة
(3)
، ومما يُستأنس به في الدلالة على ذلك قوله تعالى في ختامها:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كما استنبطه الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
هو عامر بن شراحيل الشعبي، أبو عمرو، ثقة مشهور، فقيه فاضل، مات بعد المائة. ينظر: وفيات الأعيان 3/ 12، وسير أعلام النبلاء 4/ 294، وتقريب التهذيب ص 230.
(2)
ينظر: جامع البيان (19/ 213)، والدر المنثور (6/ 218)
(3)
ينظر: جامع البيان (19/ 213)، والجامع لأحكام القرآن (12/ 303)، وفتح القدير (4/ 59)، وينظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (1/ 594)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (2/ 522).
دلالة الأمر على الوجوب.
قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (الآية تدل على أن الأمر للوجوب؛ لأن تارك الأمور مخالف للأمر، ومخالف الأمر يستحق العذاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على مسألة أصولية، وهي أن الأمر للوجوب; لأنه تعالى توعَّد المخالفين عن أمره بالفتنة أو العذاب الأليم، وحذَّرهم من مخالفة الأمر، فدلَّ على أن ترك الأمر يقتضي أحد العذابين، وذلك يستلزم أن الأمر للوجوب؛ لأن غير الواجب لا يستوجب تركه التحذير والوعيد الشديد.
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: الرازي، والقرطبي، والبيضاوي، والنيسابوري، والبقاعي، والشهاب الخفاجي، وحقي، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي، وغيرهم.
(2)
(1)
السراج المنير (2/ 645)
(2)
ينظر: التفسير الكبير (24/ 425)، والجامع لأحكام القرآن (12/ 322)، وأنوار التنزيل (4/ 116)، وغرائب القرآن (5/ 216)، ونظم الدرر (13/ 326)، وحاشيه الشهاب (6/ 403)، وروح البيان (6/ 186)، وفتح القدير (4/ 68)، وروح المعاني (9/ 416)، ومحاسن التأويل (7/ 414)، وأضواء البيان (5/ 558).
وهذه الآية استدل بها جمهور الفقهاء والأصوليين
(1)
على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، ويؤيد هذه الدلالة آيات كثيرة من كتاب الله كما في قوله تعالى:{ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 11 - 12].
ووجه دلالتها: أن الله تعالى لما أَمَرَ الملائكة بالسجود لآدم تبادروا إلى فعله، فعُلِم أنهم عقلوا من إطلاقه وجوب امتثال المأمور به، ثم لما امتنع إبليس من السجود وبَّخَهُ وعاقبه وأهبطه من الجنة، فلولا أن ذلك واجب عليه لما استحق العقوبة والتوبيخ بتركه.
(2)
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] فإن قوله: {ارْكَعُوا} أمر مطلق، وذمَّه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله:{لَا يَرْكَعُونَ} يدل على أن امتثاله واجب، وكقوله تعالى عن موسى:{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93]، فسمى مخالفة الأمر معصية، وأمره المذكور مطلق، وهو قوله:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142]
فدلَّت هذه الآيات وأمثالها في القرآن على أن صيغة الأمر إذا تجردت عن القرائن، فإنها تقتضي الوجوب حقيقة، واستعمالها فيما عداه من المعاني كالندب
(1)
ينظر: العدة في أصول الفقه (1/ 229)، والإحكام للآمدي (2/ 146)، وشرح الكوكب المنير (3/ 40)، وإرشاد الفحول (1/ 249)، ومذكرة في أصول الفقه (191) ومعالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (1/ 398).
(2)
ينظر: العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى (1/ 229)
والإباحة والتهديد يكون مجازاً لا يحمل على أي واحد منها إلا بقرينة،
(1)
، وهو الحق، وعليه الجمهوركما تقدم.
ويشهد له من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة"
(2)
، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم ندب أمته إلى السواك، والندب غير شاق، فدلَّ على أن الأمر يقتضي الوجوب؛ فإنه لو أمر لوجب وشقّ.
ويُستدل له بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على امتثال أوامر الله تعالى، ووجوب طاعته من غير سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما عنى بأوامره.
ويدل له أيضاً أن أهل اللغة عقلوا من إطلاق الأمر الوجوب؛ لأن السيد لو أمر عبده فخالفه حسُن عندهم لومه، وحسُن العذر في عقوبته بأنه خالف الأمر، والواجب ما يعاقب على تركه.
(3)
وبهذا يظهر صحة هذا الاستنباط وقوته، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: الإحكام للآمدي (2/ 148)، والمهذب في علم أصول الفقه المقارن للنملة (3/ 1334)
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب: السواك يوم الجمعة، برقم (887)(2/ 4)
(3)
ينظر: روضة الناظر (2/ 71)، والقواعد والفوائد الأصولية ص (159)، وشرح الكوكب المنير (3/ 40)، ومعالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (1/ 399).