المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة مريم المعدوم ليس بشيء. قال الله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ - الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره السراج المنير

[أسماء بنت محمد الناصر]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌مجال البحث وحدوده:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌فأما الدراسات التي عنيت بتفسير الخطيب الشربيني فهي:

- ‌وأما دراسة موضوع الاستنباط لذاته أو عند المفسرين فقد سجل في رسائل علمية نوقش بعضها، والبعض لا يزال قيد الإعداد والمناقشة، وهي:

- ‌خطة البحث:

- ‌منهج البحث:

- ‌التمهيد

- ‌أولاً: - تعريف الاستنباط، ونشأته، وعلاقته بالتفسير. - أهميته، وطرق التوصل إليه

- ‌أولاً: تعريف الاستنباط:

- ‌ثانياً: نشأة الاستنباط وعلاقته بالتفسير:

- ‌ثالثاً: أهمية علم الاستنباط:

- ‌طريق الوصول إلى الاستنباط:

- ‌ثانياً: التعريف بالخطيب الشربيني رحمه الله

- ‌اسمه ونشأته:

- ‌شيوخه:

- ‌مكانته العلمية وآثاره:

- ‌مؤلفاته:

- ‌عقيدته ومذهبه:

- ‌أولاً: التوحيد:

- ‌ثانياً: الإيمان:

- ‌ثالثاً: القرآن:

- ‌رابعاً: النبوات:

- ‌خامساً: القدر:

- ‌سادساً: السببية وأفعال المخلوقات:

- ‌سابعاً: التحسين والتقبيح:

- ‌وفاته

- ‌ثالثاً: التعريف بتفسير"السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير

- ‌القيمة العلمية لتفسير السراج المنير، ومنهجه فيه:

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌الباب الأول:منهج الخطيب الشربيني في الاستنباطمن خلال تفسيره "السراج المنير

- ‌الفصل الأول:أقسام الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌المبحث الأول:الاستنباط باعتبار موضوع المعنى المستنبط

- ‌المطلب الأول: الاستنباطات في علوم القرآن

- ‌ومن الأمثلة على استنباطاته في علوم القرآن:

- ‌أولاً: في مناسبات الألفاظ:

- ‌ثانياً: في أسرار التقديم والتأخير في القرآن

- ‌ثالثاً: في فوائد التكرار في القرآن الكريم:

- ‌رابعاً: في جواز وقوع النسخ في القرآن:

- ‌خامساً: في قصص القرآن:

- ‌سادساً: في المنطوق والمفهوم:

- ‌سابعاً: في الخصوص والعموم:

- ‌المطلب الثاني: الاستنباطات العقدية:

- ‌القسم الأول: استنباطات فيها تقرير مباشر لمسائل العقيدة، وهي على نوعين:

- ‌النوع الأول: تقرير مسائل على عقيدته الأشعرية:

- ‌النوع الثاني: تقرير مسائل على عقيدة أهل السنة والجماعة:

- ‌القسم الثاني: استنباطات فيها تقرير لمسائل عقدية على مذهب أهل السنة والجماعة والرد على مخالفيهم

- ‌المطلب الثالث: الاستنباطات الأصولية

- ‌المطلب الرابع: الاستنباطات الفقهية:

- ‌القسم الأول: استنباطات فقهية كلية، وهي ما يعرف بالقواعد الفقهية

- ‌حجية سد الذرائع:

- ‌الأصل في الأشياء الإباحة:

- ‌القسم الثاني: استنباطات لمسائل فقهية فرعية متنوعة، وهذا هو الأغلب في استنباطات الخطيب الفقهية

- ‌المطلب الخامس: الاستنباطات اللغوية

- ‌المطلب السادس: الاستنباطات التربوية السلوكية

- ‌المبحث الثاني:الاستنباط باعتبار ظهور النص المستنبط منه وخفائه

- ‌المطلب الأول: الاستنباط من ظاهر النص

- ‌المطلب الثاني: الاستنباط من نص غير ظاهر المعنى

- ‌المبحث الثالث:الاستنباط باعتبار الإفراد والتركيب

- ‌المطلب الأول: الاستنباط من الآية الواحدة

- ‌المطلب الثاني: الاستنباط بالربط بين آيتين أو أكثر

- ‌الفصل الثاني:دلالات وطرق الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌المبحث الأول:الاستنباط بدلالة النص (مفهوم الموافقة)

- ‌المبحث الثاني:الاستنباط بدلالة المفهوم (مفهوم المخالفة)

- ‌المبحث الثالث:الاستنباط بدلالة الالتزام

- ‌المبحث الرابع:الاستنباط بدلالة التضمن

- ‌المبحث الخامس:الاستنباط بدلالة الاقتران

- ‌المبحث السادس:الاستنباط بدلالة الجمع بين النصوص

- ‌الفصل الثالث:أساليب الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره، ومميزاته

- ‌المبحث الأول:أساليب الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌المبحث الثاني:مميزات الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌الفصل الرابع:مصادر الاستنباط عند الخطيب الشربيني:

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول:المصادر الأصلية، وهي التي يعتمد عليها غالباً

- ‌أولاً: الرازي:

- ‌ثانياً: البيضاوي:

- ‌ثالثاً: الزمخشري:

- ‌رابعاً: القرطبي:

- ‌خامساً: البغوي:

- ‌المبحث الثاني:المصادر الفرعية، وهي التي لا يعتمد عليها إلا قليلاً أو نادراً

- ‌أولا: الخازن

- ‌ثانياً: أبو حيان

- ‌ثالثاً: ابن عادل الحنبلي

- ‌رابعاً: البقاعي

- ‌الباب الثاني:جمع ودراسة الاستنباطات عند الخطيب الشربينيفي تفسيره من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة الأنفال

- ‌سورة التوبة

- ‌سورة يونس

- ‌سورة هود

- ‌سورة يوسف

- ‌سورة الرعد

- ‌سورة إبراهيم

- ‌سورة الحجر

- ‌سورة النحل

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة مريم

- ‌سورة طه

- ‌سورة الحج

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌سورة النمل

- ‌سورة القصص

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة لقمان

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة سبأ

- ‌سورة فاطر

- ‌سورة يس

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة ص

- ‌سورة الزمر

- ‌سورة غافر

- ‌سورة فصلت

- ‌سورة الشورى

- ‌سورة الزخرف

- ‌سورة الجاثية

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة محمد

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة الذاريات

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة الملك

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة البينة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة قريش

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الناس

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ ‌سورة مريم المعدوم ليس بشيء. قال الله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ

‌سورة مريم

المعدوم ليس بشيء.

قال الله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9].

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَقَدْ خَلَقْتُكَ} أي: قدّرتك وصوّرتك وأوجدتك {مِنْ قَبْلُ وَلَمْ} أي: والحال أنك لم {تَكُ شَيْئًا} بل كنت معدوماً صرفاً، وفيه دليل على أنّ المعدوم ليس بشيء).

(1)

وجه الاستنباط:

قوله: {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} لأنه نفى أن يكون قبل خلقه له كان شيئاً.

(2)

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية دلالتها بالنصَّ على أنّ المعدوم ليس بشيء

(3)

؛ لأنه تعالى قال: {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} فنفى أن يكون قبل خلقه له كان شيئاً، وهذه الآية استدل بها أهل السنة على أن المعدوم لا يسمى شيئاً وهي نصٌ في ذلك.

قال ابن أبي العز: (والتحقيق: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون ويكتبه، وقد يذكره ويُخبِر به، كقوله تعالى:{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]، فيكون شيئاً في العلم والذكر والكتاب لا في

(1)

السراج المنير (2/ 458)

(2)

ينظر: لطائف الإشارات للقشيري (2/ 421)

(3)

وهو الصحيح الذي عليه أهل السُّنة، ينظر: العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى (1/ 78)، والإحكام للآمدي (2/ 195)، والمستصفى للغزالي (1/ 280)، وروضة الناظر لابن قدامة (1/ 599).

ص: 582

الخارج، كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [فاطر: 82] وقال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] أي: لم تكن شيئاً في الخارج وإن كان شيئاً في عِلمه تعالى. وقال سبحانه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]).

(1)

وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية: القشيري، والرازي، والبيضاوي، والنسفي، والسيوطي، والشنقيطي، وغيرهم.

(2)

والتحقيق هو ما دلّت عليه هذه الآية وأمثالها في القرآن: أن المعدوم ليس بشيء

(3)

خلافًا لقول المعتزلة القائلين: إن المعدمات أشياء وأعيان على ما تكون عليه في الوجود

(4)

، وهذا قول يقتضي بقائله إلى قِدَم العالم ونفي الحدَث والمُحدِث؛ لأن المعدومات إذا كانت على ما تكون عليه في الوجود أعيانًا، لم تكن لقدرة الله على خلقها وإحداثها تعلُّق، وهذا كفرٌ ممن قال به

(5)

، والله تعالى أعلم.

(1)

شرح الطحاوية (1/ 93)

(2)

ينظر: لطائف الإشارات (2/ 421)، والتفسير الكبير (21/ 519)، وأنوار التنزيل (4/ 6)، ومدارك التنزيل (2/ 328)، والإكليل (1/ 173)، وأضواء البيان (3/ 501)

(3)

ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 9)، ودرء تعارض العقل والنقل (8/ 316)، ودقائق التفسير (2/ 325)

(4)

مستدلين لذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [فاطر: 82]، قالوا: قد سماه الله شيئا قبل أن يقول له كن فيكون، وهو يدل على أنه شيء قبل وجوده. ينظر الرد عليهم في: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/ 316)، وتحفة المحتاج في شرح المنهاج للهيتمي (1/ 19).

(5)

ينظر: شرح صحيح البخارى لابن بطال (10/ 445).

ص: 583

تشريف يحيى عليه السلام.

قال الله تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 13 - 15].

قال الخطيب الشربيني رحمه الله عن يحي عليه السلام: ({وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} أي: أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة، وإنما قال:"حياً " تنبيهاً على كونه من الشهداء لأنه قُتِل، وقد قال تعالى {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران، 169].

ثم ذكر فروعاً، قال: (الأول: هذا السلام يمكن أن يكون من الله وأن يكون من الملائكة، وعلى التقديرين ففيه دلالة على تشريفه لأن الملائكة لا يُسلِّمون إلا عن أمر الله تعالى.

الثاني: ليحيى مزيَّة في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء لقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات، 79]، {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات، 109]؛ لأنه تعالى قال {يَوْمَ وُلِدَ} وليس كذلك سائر الأنبياء.

الثالث: روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام: أنت أفضل مني لأن الله تعالى قال: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} وأنا سلمت على نفسي، قال الرازي: وهذا ليس بقوي لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام الله تعالى على يحيى؛ لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمر الله تعالى. انتهى

(1)

، ولكن بين السلامين مزيّة.)

(2)

(1)

التفسير الكبير (21/ 518)

(2)

السراج المنير (2/ 457).

ص: 584

هذه الآية فيها دلالتان:

الأولى: تشريف يحي عليه السلام.

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على تشريف يحي عليه السلام وتفضيله؛ لأنه تعالى قال {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} ، و (السلام) بمعنى السلامة والأمان من الآفات

(1)

وفيه معنى التحية والتشريف، وفي ذكر هذه الأحوال الثلاث «يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث» زيادة في العناية به عليه السلام، والمراد: سلام من الله عليه أو من الملائكة، والملائكة لا يسلمون إلا عن أمر الله تعالى

(2)

، وهو كناية عن تكريم الله عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى كقوله {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58].

وقد أثنى عليه سبحانه في هذه الآيات بذكر محامده وصفاته فقال سبحانه: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} فجمع بين القيام بحق الله وحق خلقه، ولهذا حصلت له السلامة من الله في جميع أحواله مبادئها وعواقبها، وذلك يقتضي سلامته من الشيطان، والشر، والعقاب في هذه الأحوال الثلاثة وما بينها، وأنه سالم من النار والأهوال

(3)

، وإنما خصَّ هذه الأوقات الثلاثة بالسلام التي هي وقت ولادته، ووقت موته، ووقت بعثه، لأنها

(1)

ينظر: جامع البيان (18/ 160)

(2)

قال أبو حيان: والأظهر أنه من الله لأنه في سياق (وآتيناه الحكم). البحر المحيط (7/ 246)

(3)

ينظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (1/ 491)

ص: 585

أوحش من غيرها، فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصَّه بالسلام عليه فيها، وهذه مزيَّة ليحي ليست لغيره من الأنبياء.

وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية: ابن عطية، والقرطبي، والرازي، والقاسمي، والشنقيطي، وغيرهم.

(1)

والظاهر أن سلام الله تعالى على يحيى أعظم من سلام عيسى على نفسه في قوله: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 33] كما هو ظاهر السياق، والحاصل أن دلالة هذه الآية على تشريف يحي عليه السلام – وكرامته قوية ظاهرة، والله تعالى أعلم.

(1)

ينظر: المحرر الوجيز (4/ 8)، والجامع لأحكام القرآن (11/ 89)، والتفسير الكبير (21/ 518)، ومحاسن التأويل (7/ 88)، وأضواء البيان (3/ 381).

ص: 586

الدلالة الثانية:

التنبيه على استشهاد يحي عليه السلام.

وجه الاستنباط:

أنه تعالى قال في ختام الآية: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} ، والحال وصفٌ لصاحبها، فدلَّ على كونه من الشهداء لأنهم أحياء.

الدراسة:

استنبط الخطيب بدلالة اللازم من قوله تعالى: {حَيًّا} التنبيه على استشهاد يحي عليه السلام – لأنه قُتل لبغي من بغايا بني إسرائيل

(1)

، والشهداء كما أخبر الله عنهم أحياء عند ربهم يرزقون.

وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية: الرازي، وأبو حيان، والنيسابوري، والألوسي، وغيرهم.

(2)

وقد اختلف أهل العلم فيما إذا كان زكريا وابنه يحيى عليهما السلام قد قُتلا أو ماتا.

(3)

وذكر الطبري أن فساد بني إسرائيل الأول كان بقتل زكريا، وأن فسادهم

(1)

ينظر: البداية والنهاية لابن كثير (2/ 411)

(2)

ينظر: التفسير الكبير (21/ 518)، والبحر المحيط (7/ 246)، وغرائب القرآن (4/ 473)، وروح المعاني (8/ 393)

(3)

ذكر ذلك ابن كثير عن وهب بن منبه، وقد وردت عدة آثار عن الصحابة والتابعين في قتلهما ذكرها الطبري وابن كثير، والظاهر أنها مأخوذة من أهل الكتاب، ومن أصحها ما روى ابن أبي شيبة في المصنف عن عروة بن الزبير قال: ما قتل يحيى بن زكريا إلا في امرأة بغي قالت لصاحبها: لا أرضى عنك حتى تأتيني برأسه، فذهب فأتاها برأسه في طست. ينظر: البداية والنهاية (2/ 411) وما بعدها

ص: 587

الثاني كان بقتل يحيى، وليس في قتلهما نص ثابت.

(1)

وقد تكرر في القرآن ذكر قتل بني إسرائيل للأنبياء بغير حق، كما في قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112].

وقوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].

واستنباط قتله عليه السلام بإشارة الآية تنبيه حسن، إلا أن قتله عليه السلام لم يثبت بنص صحيح، فلا يمكن الجزم بصحة دلالة الآية على هذا المعنى، وكل ما في ذلك هو من أخبار بني إسرائيل والله أعلم بصحتها، ولعل معنى الآية يشهد لعدم قتله عليه السلام إذ فيه كفالة الله تعالى له بالسلامة والأمان في مولده ومماته ومبعثه.

قال الشنقيطي: (قال أبو حيان: «فيه تنبيه على كونه من الشهداء، لقوله تعالى فيهم:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}

(2)

»

ثم قال الشنقيطي: وليس بظاهر كل الظهور)، والله تعالى أعلم).

(3)

(1)

نصَّ ابن كثير في البداية والنهاية أنهما ممن قُتل قبل تسليط بختنصر على بني إسرائيل، وذكر حديثاً في قتلهما، ولكنه ضعَّفه ونسبه إلى النكارة. ينظر: البداية والنهاية (2/ 411).

(2)

ينظر: البحر المحيط (7/ 246).

(3)

أضواء البيان (3/ 383).

ص: 588

دخول صاحب الكبيرة الجنة.

قال الله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم 63].

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فإن قيل: الفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك الوصف فلا يدخلها؟

أجيب: بأن الآية تدل على أن الجنة يدخلها المتقي وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها، وأيضاً صاحب الكبيرة متقٍ عن الكفر، ومن صدق عليه أنه متقٍ عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق، وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متقٍ وجب أن يدخل الجنة، فدلالة الآية على أنّ صاحب الكبيرة يدخلها أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها).

(1)

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على أنّ صاحب الكبيرة يدخل الجنة لأن الآية أفادت أن الجنة يدخلها المتقي، وصاحب الكبيرة - عنده - متق عن الكفر فدلَّ على أنه يدخلها.

وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية: الرازي، والألوسي، وغيرهما.

(2)

والصحيح أن لفظ التقوى يراد به: اتقاء عذاب الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.

(3)

(1)

السراج المنير (2/ 477)

(2)

ينظر: التفسير الكبير (21/ 554)، وروح المعاني (8/ 430).

(3)

ينظر: جامع البيان (18/ 222).

ص: 589

وتأوَّل الأشعرية معنى التقوى هنا أنه يراد به تقوى الشرك

(1)

، وقالوا: من اتقى الشرك فهو من المتقين وإن عمل الكبائر، وهو مخالف لما عليه أئمة السلف

(2)

، فإطلاق لفظ المتقين والمراد به من ليس بكافر، لا أصل له في خطاب الشارع، فلا يجوز حمله عليه.

(3)

قال شيخ الإسلام في ردّه على الأشاعرة: «وأما قولكم: المتقون الذين اتقوا الشرك. فهذا خلاف القرآن؛ فإن الله تعالى قال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [المرسلات: 41 - 42]، وقال:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 1 - 4].

وقالت مريم: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18].

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 70 - 71]، فهم قد آمنوا واتقوا الشرك، فلم يكن الذي أمرهم به بعد ذلك مجرد ترك الشرك. وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]

(1)

قريب من هذه الدلالة ما تقدم من تأويل المرجئة قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] أن المراد من اتقى الشرك، وذلك في الرد على قول المعتزلة أن الإيمان هو جماع الطاعات. ينظر الاستنباط رقم:: (67).

(2)

ينظر: الإيمان لابن تيمية (1/ 176)، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 410)، والمنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال للذهبي (1/ 383).

(3)

ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 494)(10/ 321) و (11/ 662)، وينظر: عدة الصابرين لابن القيم ص 88.

ص: 590

أفيقول مسلم: إن قطاع الطريق الذين يسفكون دماء الناس، ويأخذون أموالهم، اتقوا الله حق تقاته لكونهم لم يشركوا!، وإن أهل الفواحش وشرب الخمر وظلم الناس اتقوا الله حق تقاته؟

- إلى أن قال رحمه الله: وبالجملة فكون المتقين هم الأبرار الفاعلون للفرائض، المجتنبون للمحارم، هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفاً عن سلف، والقرآن والأحاديث تقتضي ذلك.»

(1)

وأصل الضلال في هذه المسألة كما بينه شيخ الإسلام هو: أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، لم يبق منه شيء، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فالمرجئة جعلوا أهل الكبائر داخلين في اسم " المتقين "

(2)

والمشهور عن الأشاعرة موافقتهم لسائر المرجئة في مرتكب الكبيرة، وأنه قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، فلم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه، فالمرجئة ليس لهم مخالفة في مرتكب الكبيرة إلا في الاسم، حيث يجعلونه مؤمنا كامل الإيمان، وإلا فهم يقولون بأن الفاسق مستحق للذَّم والعقاب، ومعرض للوعيد، وأن من أهل القبلة من يدخل النار.

وأهل السنة والجماعة على أنه ناقص الإيمان، والخلاف في ذلك مع الخوارج والمعتزلة، فإنهم يقولون بتخليد أهل النار.

(3)

(1)

منهاج السنة النبوية (5/ 288 - 292) بتصرف.

(2)

ينظر: متن الطحاوية بتعليق الألباني (1/ 65)، والإيمان لابن تيمية (1/ 176)

(3)

ينظر: المرجع السابق، والملل والنحل للشهرستاني، ص 53، واعتقاد أئمة السلف أهل الحديث لمحمد الخميس (1/ 173).

ص: 591

وأما في الآخرة فالأشاعرة يوافقون السلف في مرتكب الكبيرة، فيفوضون أمره إلى الله تعالى، إن شاء عذَّبه بعدله، وإن شاء غفر له، فيدخله الجنة بفضله ورحمته، وإن شاء أدخله النار، وعذَّبه بقدر جُرمه، ثم أخرجه منها وأدخله الجنة. وذلك إذا مات المذنب من غير توبة

(1)

.

وبهذا يظهرعدم صحة دلالة هذه الآية على كون صاحب الكبيرة من المتقين، وأما دخوله الجنة فهو تحت المشيئة - كما تقدم - ولا يجب دخولها بدلالة هذه الآية كما استنبطه الخطيب، لكونه حقيقة ليس من المتقين.

قال شيخ الإسلام: «ونصوص الكتاب والسنة، مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها متطابقة على أن من أهل الكبائر من يُعذب، وأنه لا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.»

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

ينظر: إتحاف المريد بجوهرة التوحيد، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، ص 173، والإيمان بين السلف والمتكلمين، لأحمد بن عطية الغامدي (1/ 173)

(2)

مجموع الفتاوى (18/ 191).

ص: 592