الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة سبأ
فضل داود عليه السلام.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({مِنَّا} فيه إشارة إلى بيان فضل داود عليه السلام؛ لأن قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} مستقل بالمفهوم وتام، كما يقول القائل: آتى الملك زيداً خلعة، فإذا قال: آتاه منه خلعه، يفيد أنه كان من خاص ما يكون له، فكذلك إيتاء الله تعالى الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من سياق الآية دلالتها باللازم على فضل داود عليه السلام بدلالة تقديم لفظ {مِنَّا} على المفعول في قوله تعالى {مِنَّا فَضْلًا} . والفضل الزيادة، والتنوين للنوع أي: نوعاً من الفضل على سائر الأنبياء مطلقاً
(2)
، سواء كانوا أنبياء بني إسرائيل أو غيرهم، كما دلّ عليه قوله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
والفاضل من وجه لا ينافي كونه مفضولاً من وجه آخر، وهذا الفضل هو ما ذكر بعد ذلك من تأويب الجبال معه، وتسخير الطير، وإلانة الحديد، فإنها معجزة خاصة به، وهذا من النعمة عليه، أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن لأحد قبله ولا بعده، فدلّ على مزيد فضل له على غيره.
(1)
السراج المنير (3/ 351)
(2)
إرشاد العقل السليم (7/ 124)
وهذا لا يقتضي انحصار فضله في هذه النعم فحسب فإنه تعالى أعطاه الزبور، كما قال تعالى في مقام الامتنان والتفضل {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} ، وذكر هنا فضله على صفة النكرة وهي تدل على نوعٍ من الفضل وشيءٍ منه كما دل عليه لفظ «منا» .
(1)
قال أبو السعود مؤكداً هذه الدلالة: ({فَضْلًا} على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أي: نوعاً من الفضل، وهو ما ذُكر بعد، فإنه معجزة خاصة به صلى الله عليه وسلم، أو على سائر الناس، فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن؛ فتنكيره للتفخيم، و {مِنَّا} لتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية، وتقديمه على المفعول الصريح؛ للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر؛ فإن ما حقه التقديم إذا أُخر تبقى النفس مترقبة له، فإذا وردها يتمكن عندها فضل تمكن).
(2)
وقد نصَّ على هذه الدلالة من سياق الآية غير أبي السعود: الرازي، وحقي، والألوسي، وغيرهم.
(3)
وعلى هذا ففي الآية إشارة إلى مزيد فضلٍ لداود عليه السلام، ويشهد له آيات كثيرة، كما في قوله تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55]، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]، وقوله تعالى:{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] وقوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] وقوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 251]، إلى غير ذلك من الآيات
(4)
والله تعالى أجلُّ وعلم.
(1)
ينظر: روح البيان لحقي (7/ 265)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 676)
(2)
إرشاد العقل السليم (7/ 124) بتصرف يسير.
(3)
ينظر: التفسير الكبير (25/ 195)،، روح البيان (7/ 265)، وروح المعاني (11/ 287)
(4)
ينظر: أضواء البيان (6/ 266).
أولوية العمل والسعي للآخرة على غيره من أعمال الدنيا.
قال الله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (تنبيه: كما قال تعالى عقب قوله سبحانه {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ}: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} قال عقب ما تعمله الجن له {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}، إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة في هذه الأشياء، وإنما الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شكراً).
(1)
وجه الاستنباط:
تكرار الأمر بالعمل الصالح عقب أعمال الدنيا.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على ضرورة العمل والسعي للآخرة، وأن لا يجعل الإنسان نفسه مستغرقة في أعمال الدنيا ولو كانت مباحة بدلالة قوله تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} عقب ما تعمله الجن له من محاريب وتماثيل وجفان.
قال ابن كثير: (وقوله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} أي: وقلنا لهم اعملوا شكراً على ما أنعم به عليكم في الدنيا والدين).
(2)
(1)
السراج المنير (3/ 350)
(2)
تفسير القرآن العظيم (6/ 500)
وقيل: مفعول اعملوا محذوف، أي اعملوا الطاعات، وواظبوا عليها شكراً لربكم على ما أنعم به عليكم
(1)
، فالواجب الذي ينبغي أن يُكثر منه هو العمل الصالح الذي يكون شكراً، وعليه ففي الآية إشارة إلى عدم المبالغة في الالتفات إلى هذه الأمور، وقلة الاشتغال بها كما في قوله:{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11]، أي اجعله بقدر الحاجة.
(2)
قال أبو حيان: قال سبحانه عقب {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} : {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} ، وعقب ما يعمله الجن:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} ، إشارة إلى أن الإنسان لا يستغرق في الدنيا ولا يلتفت إلى زخارفها، وأنه يجب أن يعمل صالحاً.
(3)
وممن استنبط هذه الإشارة من الآية: الرازي، وأبو حيان وغيرهما.
(4)
فدلَّ تكرار الأمر بالعمل الصالح عقب العمل الدنيوي على ضرورته، وأنه الأصل الذي بنبغي أن يُسعى إليه ويُجتهد في تحصيله؛ لأنه هو المنجاة والطريق الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، وهذه إشارة حسنة، من لطائف الإشارات عند الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: البحر المحيط (8/ 529)
(2)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (25/ 199)
(3)
البحر المحيط (8/ 529)
(4)
ينظر: المرجعين السابقين.