المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الأنعام فائدة ذكر قوله تعالى {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} {أَلَمْ - الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره السراج المنير

[أسماء بنت محمد الناصر]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌مجال البحث وحدوده:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌فأما الدراسات التي عنيت بتفسير الخطيب الشربيني فهي:

- ‌وأما دراسة موضوع الاستنباط لذاته أو عند المفسرين فقد سجل في رسائل علمية نوقش بعضها، والبعض لا يزال قيد الإعداد والمناقشة، وهي:

- ‌خطة البحث:

- ‌منهج البحث:

- ‌التمهيد

- ‌أولاً: - تعريف الاستنباط، ونشأته، وعلاقته بالتفسير. - أهميته، وطرق التوصل إليه

- ‌أولاً: تعريف الاستنباط:

- ‌ثانياً: نشأة الاستنباط وعلاقته بالتفسير:

- ‌ثالثاً: أهمية علم الاستنباط:

- ‌طريق الوصول إلى الاستنباط:

- ‌ثانياً: التعريف بالخطيب الشربيني رحمه الله

- ‌اسمه ونشأته:

- ‌شيوخه:

- ‌مكانته العلمية وآثاره:

- ‌مؤلفاته:

- ‌عقيدته ومذهبه:

- ‌أولاً: التوحيد:

- ‌ثانياً: الإيمان:

- ‌ثالثاً: القرآن:

- ‌رابعاً: النبوات:

- ‌خامساً: القدر:

- ‌سادساً: السببية وأفعال المخلوقات:

- ‌سابعاً: التحسين والتقبيح:

- ‌وفاته

- ‌ثالثاً: التعريف بتفسير"السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير

- ‌القيمة العلمية لتفسير السراج المنير، ومنهجه فيه:

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌الباب الأول:منهج الخطيب الشربيني في الاستنباطمن خلال تفسيره "السراج المنير

- ‌الفصل الأول:أقسام الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌المبحث الأول:الاستنباط باعتبار موضوع المعنى المستنبط

- ‌المطلب الأول: الاستنباطات في علوم القرآن

- ‌ومن الأمثلة على استنباطاته في علوم القرآن:

- ‌أولاً: في مناسبات الألفاظ:

- ‌ثانياً: في أسرار التقديم والتأخير في القرآن

- ‌ثالثاً: في فوائد التكرار في القرآن الكريم:

- ‌رابعاً: في جواز وقوع النسخ في القرآن:

- ‌خامساً: في قصص القرآن:

- ‌سادساً: في المنطوق والمفهوم:

- ‌سابعاً: في الخصوص والعموم:

- ‌المطلب الثاني: الاستنباطات العقدية:

- ‌القسم الأول: استنباطات فيها تقرير مباشر لمسائل العقيدة، وهي على نوعين:

- ‌النوع الأول: تقرير مسائل على عقيدته الأشعرية:

- ‌النوع الثاني: تقرير مسائل على عقيدة أهل السنة والجماعة:

- ‌القسم الثاني: استنباطات فيها تقرير لمسائل عقدية على مذهب أهل السنة والجماعة والرد على مخالفيهم

- ‌المطلب الثالث: الاستنباطات الأصولية

- ‌المطلب الرابع: الاستنباطات الفقهية:

- ‌القسم الأول: استنباطات فقهية كلية، وهي ما يعرف بالقواعد الفقهية

- ‌حجية سد الذرائع:

- ‌الأصل في الأشياء الإباحة:

- ‌القسم الثاني: استنباطات لمسائل فقهية فرعية متنوعة، وهذا هو الأغلب في استنباطات الخطيب الفقهية

- ‌المطلب الخامس: الاستنباطات اللغوية

- ‌المطلب السادس: الاستنباطات التربوية السلوكية

- ‌المبحث الثاني:الاستنباط باعتبار ظهور النص المستنبط منه وخفائه

- ‌المطلب الأول: الاستنباط من ظاهر النص

- ‌المطلب الثاني: الاستنباط من نص غير ظاهر المعنى

- ‌المبحث الثالث:الاستنباط باعتبار الإفراد والتركيب

- ‌المطلب الأول: الاستنباط من الآية الواحدة

- ‌المطلب الثاني: الاستنباط بالربط بين آيتين أو أكثر

- ‌الفصل الثاني:دلالات وطرق الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌المبحث الأول:الاستنباط بدلالة النص (مفهوم الموافقة)

- ‌المبحث الثاني:الاستنباط بدلالة المفهوم (مفهوم المخالفة)

- ‌المبحث الثالث:الاستنباط بدلالة الالتزام

- ‌المبحث الرابع:الاستنباط بدلالة التضمن

- ‌المبحث الخامس:الاستنباط بدلالة الاقتران

- ‌المبحث السادس:الاستنباط بدلالة الجمع بين النصوص

- ‌الفصل الثالث:أساليب الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره، ومميزاته

- ‌المبحث الأول:أساليب الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌المبحث الثاني:مميزات الاستنباط عند الخطيب الشربيني في تفسيره

- ‌الفصل الرابع:مصادر الاستنباط عند الخطيب الشربيني:

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول:المصادر الأصلية، وهي التي يعتمد عليها غالباً

- ‌أولاً: الرازي:

- ‌ثانياً: البيضاوي:

- ‌ثالثاً: الزمخشري:

- ‌رابعاً: القرطبي:

- ‌خامساً: البغوي:

- ‌المبحث الثاني:المصادر الفرعية، وهي التي لا يعتمد عليها إلا قليلاً أو نادراً

- ‌أولا: الخازن

- ‌ثانياً: أبو حيان

- ‌ثالثاً: ابن عادل الحنبلي

- ‌رابعاً: البقاعي

- ‌الباب الثاني:جمع ودراسة الاستنباطات عند الخطيب الشربينيفي تفسيره من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة الأنفال

- ‌سورة التوبة

- ‌سورة يونس

- ‌سورة هود

- ‌سورة يوسف

- ‌سورة الرعد

- ‌سورة إبراهيم

- ‌سورة الحجر

- ‌سورة النحل

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة مريم

- ‌سورة طه

- ‌سورة الحج

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌سورة النمل

- ‌سورة القصص

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة لقمان

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة سبأ

- ‌سورة فاطر

- ‌سورة يس

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة ص

- ‌سورة الزمر

- ‌سورة غافر

- ‌سورة فصلت

- ‌سورة الشورى

- ‌سورة الزخرف

- ‌سورة الجاثية

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة محمد

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة الذاريات

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة الملك

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة البينة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة قريش

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الناس

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ ‌سورة الأنعام فائدة ذكر قوله تعالى {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} {أَلَمْ

‌سورة الأنعام

فائدة ذكر قوله تعالى {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فإن قيل: ما فائدة ذكر أنشأنا قرناً آخرين بعدهم؟ أجيب: بأنه ذكر للدلالة على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده منهم، فإنه قادر على أن يُنشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده، فهو قادر على أن يفعل ذلك بكم).

(1)

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على فائدة ذكر إنشاء قرن آخرين بعد هؤلاء المذكورين في الآية، وهي التنبيه على أنه تعالى لا يتعاظمه شيء، ولا يعجزه أن يُهلك قرناً، ويخلي ديارهم منهم، بل هوقادر سبحانه على أن يستبدلهم بآخرين، وفيه تعريض بالمخاطبين أيضاً، بإهلاكهم إذا عصوا، والمغزى: فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فما أنتم بأعز على الله منهم، والرسول الذي كذَّبتموه أكرم على الله من رسولكم، فأنتم أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم، لولا لطفه تعالى وإحسانه.

(2)

(1)

السراج المنير (1/ 473)

(2)

ينظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 241)

ص: 356

ودلالة هذه الآية على هذا المعنى نصَّ عليها عموم المفسرين كالزمخشري، والرازي، والبيضاوي، وأبو حيان، والخازن، والنيسابوري، وأبو السعود، وحقي، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور، وغيرهم.

(1)

قال أبو حيان: (فائدة ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم، إظهار القدرة التامة على إفناء ناس وإنشاء ناس، فهو تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده، وينشئ مكانه آخر يعمر بلاده، وفيه تعريض بالمخاطبين، بإهلاكهم إذا عصوا كما أهلك من قبلهم).

(2)

فهذه الآية فيها الإشارة إلى ما يوجب الاعتبار والموعظة بحال من مضى من الأمم والقرون، فإنهم مع ما كانوا فيه من القوة وسعة الرزق وكثرة الأتباع أهلكهم الله لما كفروا وطغوا وظلموا، فكيف حال من هو أضعف منهم، وأقل عدَداً وعُدداً، فهذا يوجب الاعتبار والانتباه من الغفلة.

(3)

وفيها تأكيد على كمال القدرة وسعة السلطان، وأن ما ذُكر من إهلاك الأمم لا ينقص من ملكه تعالى شيئاً بل كُلَّما أهلك أمة أنشأ بدلها أخرى، كقوله تعالى:{وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15].

(4)

وقال: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر: 16]، وقد جرت سنته تعالى بزوال أهل الظلم بعد الإمهال، وهذا دأبه في

(1)

ينظر: الكشاف (2/ 6)، والتفسير الكبير (12/ 485)، وأنوار التنزيل (2/ 154)، والبحر المحيط (4/ 440)، ولباب التأويل (2/ 99)، وغرائب القرآن (3/ 51)، وإرشاد العقل السليم (3/ 112)، وروح البيان (3/ 10)، وفتح القدير (2/ 116)، وروح المعاني (4/ 91)، ومحاسن التأويل (4/ 317)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 251)، والتحرير والتنوير (7/ 140).

(2)

البحر المحيط في التفسير (4/ 440)

(3)

لباب التأويل (2/ 99)

(4)

ينظر: إرشاد العقل السليم لأبي السعود (3/ 112)

ص: 357

الأمم السابقين واللاحقين فلتعتبروا أيها المخاطبون بمن قصَّ الله عليكم نبأهم. وهي إشارات حسنة من الآية، والله تعالى أعلم.

ص: 358

قال الله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَمَنْ بَلَغَ} عطف على ضمير المخاطبين أي: لأنذركم به يا أهل مكة، ومن بلغه من الإنس والجنّ إلى يوم القيامة، وهو دليل على أنّ أحكام القرآن تعمّ الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم، وأنه لا يؤاخذ بها من لم يبلغه).

(1)

هذه الآية فيها دلالتان: الدلالة الأولى:

عموم أحكام القرآن لكل من بلغه.

وجه الاستنباط: أن (مَنْ) من صيغ العموم

(2)

، فتشمل كل من بلغه القرآن إلى يوم القيامة.

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية بدلالة النَّص عموم أحكام القرآن لكل من بلغه؛ حيث أخبر تعالى في هذه الآية أنه صلى الله عليه وسلم منذر لكل من بلغه هذا القرآن العظيم كائناً من كان، ويفهم من الآية أن الإنذار به عام لكل من بلغه، وأن كل من بلغه ولم يؤمن به فهو في النار. فالمعنى: كل من بلغه القرآن من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة.

(1)

السراج المنير (1/ 473).

(2)

لأنها اسم موصول والأسماء الموصولة تفيد العموم، ينظر: البحر المحيط للزركشي (4/ 112)، وإرشاد الفحول للشوكاني (1/ 305).

ص: 359

وهنا مسألة صحة تكليف المعدوم أوخطاب المعدوم؟

(1)

والصحيح فيها أن المعدوم مُكلَّف إذا وُجد بالخطاب الأول، ولا يحتاج في تكليفه لخطاب جديد، ولا يفتقر إلى إدخاله مع الأوائل بالقياس عليهم؛ لأنه كان داخلاً معهم بالأصالة.

ويدل لذلك هذه الآية إذ هي نص قاطع في هذه المسألة، وبيان ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله تعالى بشيراً ونذيراً وداعياً إليه بإذنه، وهذه النذارة التي أوكلت له صلى الله عليه وسلم متوجهة لطائفتين، طائفة موجودة وهي: المرادة بقوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} ، والخطاب هنا للموجودين في عهده، والطائفة الثانية: الطائفة التي لم توجد في عهده، فيدخلون جميعهم في قوله {وَمَنْ بَلَغَ} ، فالموجودة حصلت النذارة لهم بالمباشرة، والمعدومة حصلت النذارة لهم بالبلاغ، فكل من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة واتضحت له المحجة، فسائر الأمة بعده صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة تدخل

(1)

هذه مسألة مشهورة عند الأصوليين، والمراد بالمعدوم هو: من لم يوجد في زمن نزول الخطاب الشرعي، كالأجيال التي جاءت بعد عهد النبوة إلى عهدنا هذا، وكالأجيال التي لم توجد الآن وإنما ستوجد في الأزمنة اللاحقة. وهذه المسألة فيها مذهبان:

الأول: مذهب أهل السنة والجماعة وهو نفسه مذهب الأشاعرة، لكنهما اتفقا في النتيجة وإن اختلفا في الأصل الذي بُنيت عليه المسألة وهو صحة تكليف المعدوم، بشرط:(إذا وُجِد) أي خلق مستجمعًا لشرائط التكليف، وهذا هو الصواب وهو ما دلت عليه ظواهر النصوص من الكتاب والسنة، كما في هذه الآية {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] يعني بلغه القرآن.

والمذهب الثاني هو: مذهب المعتزلة فأنكروا خطاب المعدوم، وعلى هذا عندهم أن أوامر الشرع الواردة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم تختص بالموجودين فقط، فلا يتناول النص إلا الموجود، وأما من بعده فيتناوله الخطاب بالدليل؛ فلا بد من دليل منفصل بنصٍّ أو إجماع أو قياس. ينظر: شرح الطحاوية (1/ 169)، وينظر الخلاف في هذه المسألة وأدلته وتحقيقه في: الإحكام للآمدي 1/ 153، والبحر المحيط للزركشي 2/ 102، وإرشاد الفحول 1/ 38، ومذكرة في أصول الفقه (1/ 240).

ص: 360

في قوله {وَمَنْ بَلَغَ} ، وقد تقرّر في القواعد أن (مَنْ) من صيغ العموم، كما تقدم؛ لأنها اسم موصول، والأسماء الموصولة تفيد العموم، فتشمل كل من بلغه القرآن إذا وُجِد وتمت فيه شرائط التكليف فلا يحتاج في تكليفه لدليل مستقل أو قياس خاص والله تعالى أعلم.

(1)

وممن أشار إلى هذه الدلالة: البيضاوي، والنسفي، وابن جزي، وابن كثير، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، وابن عاشور، والسعدي، والشنقيطي، وغيرهم.

(2)

قال الألوسي: (استُدل بالآية على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، واختلف في ذلك هو بطريق العبارة في الكل أو بالإجماع في غير الموجودين وفي غير المكلفين. فذهب الحنابلة إلى الأول، والحنفية إلى الثاني وتحقيقه في الأصول

(3)

).

(4)

(1)

ينظر: إرشاد الفحول للشوكاني 1/ 38، ومذكرة في أصول الفقه (1/ 240). وينظر: إيضاح هذه المسألة واختصارها في موقع الشيخ: وليد بن راشد السعيدان، وكذلك موقع فضيلة الشيخ: أحمد بن عمر الحازمي، فقد أجادا وأفادا في طرح المسألة وتبسيطها لطلبة العلم من غير المتخصصين.

(2)

ينظر: أنوار التنزيل 2/ 157، ومدارك التنزيل 1/ 495، والتسهيل 1/ 256، وتفسير القرآن العظيم 3/ 245، وإرشاد العقل السليم 3/ 118، وفتح القدير 2/ 120، وروح المعاني 4/ 113، ومحاسن التأويل 4/ 330، والتحرير والتنوير (7/ 168، وتيسير الكريم الرحمن 1/ 253، وأضواء البيان 1/ 475.

(3)

تقدم توثيقه

(4)

روح المعاني 4/ 113.

ص: 361

ويدل له قوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]، وقوله:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]

والحاصل أن دلالة النص في هذه الآية على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد، كشمولها لمن قد كان موجوداً وقت النزول قوية ظاهرة، والله تعالى أعلم.

ص: 362

الدلالة الثانية:

أن من لم يبلغه القرآن فلا يؤاخذ.

وجه الاستنباط:

أن مفهوم قوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} نفي الإنذار بالقرآن عمن لم يبلغه، وعليه تنتفي المؤاخذة لعدم البلاغ.

الدراسة:

استنبط الخطيب كذلك من قوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أن من لم يبلغه القرآن ولم تصله الدعوة فإنه لا يؤاخذ؛ وهو مبني على القول بالمفهوم؛ لأن مفهومها انتفاء الإنذار بالقرآن عمن لم يبلغه وعليه انتفاء المؤاخذة، فدلّ بمفهوم المخالفة على أن من لم تبلغه النذارة فليس بمُنذَر، وأن الله لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه. ويدل له قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]

وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: البيضاوي، والألوسي وغيرهما.

(1)

قال الألوسي: (استُدِل بالآية على أن من لم يبلغه القرآن غير مؤاخذ بترك الأحكام الشرعية).

(2)

وقال البغوي – في غير موضع هذه الآية-: (وذلك أن الله تعالى أجرى السُنَّة أن لا يأخذ أحداً إلا بعد وجود الذنب، وإنما يكون مذنباً إذا أُمر فلم يأتمر،

(1)

ينظر: أنوار التنزيل للبيضاوي (2/ 157)، وروح المعاني للألوسي (4/ 113).

(2)

ينظر: روح المعاني (4/ 113).

ص: 363

أو نُهي فلم ينته، وذلك بعد إنذار الرسل، ولا عذاب على كافر أصلاً حتى تبلغه نذارة الرسول فالحُجة لا تقوم إلا بعد العلم والبيان).

(1)

ومن لم تبلغه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تصله نذارة القرآن فله حكم أهل الفترة الذين لم يأتهم رسول، فهم معذورون بالجهل لكنهم يمتحنون يوم القيامة.

أما نفي المؤاخذة مطلقاً والعذر بالجهل كما قال به الأشاعرة

(2)

فغير صحيح، والذي عليه أهل السنة أن أهل الفترة ومن في حكمهم ممن لم يبلغهم القرآن ودعوة الرسل لا يعذرون بالجهل مطلقاً، بل يمتحنون في عرصات القيامة، وهو الراجح من أقوال أهل العلم.

(3)

وعليه فكل من لم تبلغه نذارة القرآن يكون معذوراً بجهله إلى أن تبلغه نذارته أو بالامتحان، وأما من بلغته نذارة القرآن ولم يؤمن به فهو في النار، ففرضٌ على من بلغه التصديق به واتّباعه، والهجرة لتحصيل ذلك

(4)

، والله تعالى أعلم.

(1)

معالم التنزيل عند تفسير الآية 131 من سورة الأنعام (2/ 161).

(2)

ينظر: شرح الباجوري (1/ 31)، وحاشية الدسوقي (1/ 54 - 70 - 97)

(3)

ممن قال بعذر أهل الفترة ومن في حكمهم وامتحانهم: شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (لا يهلكهم الله ويعذبهم، حتى يرسل إليهم رسولا. وقد رويت آثار متعددة من أن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا فإنه يبعث إليه رسول يوم القيامة في عرصات القيامة). مجموع الفتاوى 17/ 308. وهذا الذي نصره ابن كثير، والبيهقي في كتاب الاعتقاد، والشنقيطي، وغيرهم. ينظر: تفسير القرآن العظيم 3/ 30. وأضواء البيان 1/ 475، وجهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف (2/ 596)

(4)

ينظر: الفصل في الملل والنحل لابن حزم (4/ 50).

ص: 364

الهادي والمضل هو الله تعالى، وما وقع من الأفعال إنما هو بمشيئة الله.

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({مَنْ يَشَإِ اللَّهُ} إضلاله {يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ} هدايته {يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو دين الإسلام، وهو دليل واضح لأهل السنة على المعتزلة في قولهم: إنهما من العبد).

(1)

وجه الاستنباط:

لمَّا نسب الله سبحانه الهداية والضلال إلى نفسه، دلّ على رد قول المعتزلة في زعمهم خلق العبد فعل نفسه.

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية دلالتها بالنَّص على أن الهداية والضلال بيد الله خلافاً لمذهب المعتزلة، ومن تبعهم من القدرية القائلين بأنهما من فعل العبد؛ حيث دلَّت على أنه تعالى المضل من يشاء إضلاله من خلقه عن الإيمان، والهادي منهم من أحب هدايته، فموفقه بفضله للإيمان به، وأنه لا يهتدي من خلقه أحد إلا من سبق له في أم الكتاب السعادة، ولا يضل منهم أحد إلا من سبق له فيها الشقاء.

(2)

(1)

السراج المنير (1/ 484)

(2)

ينظر: جامع البيان للطبري (6/ 422).

ص: 365

قال القرطبي: ({مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} دلَّ على أنه شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله. ألا ترى أنه قال: {وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي على دين الإسلام لينفذ فيه فضله، وفيه إبطال لمذهب القدرية.)

(1)

وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: الرازي، والقرطبي، والبيضاوي، والنسفي، والخازن، وأبوحيان، وابن عادل، والسيوطي، والألوسي، والقاسمي، وغيرهم.

(2)

وتأوّلت المعتزلة هذه الآية فقالوا: معنى يضلله: يخذله، وضلاله أن لم يلطف به؛ لأنه ليس من أهل اللطف، ومعنى يجعله على صراط مستقيم: يلطف به لأن اللطف يجري عليه، وهذا على قول الزمخشري

(3)

، وهو من تحريفاته للهداية والضلالة تبعاً لمعتقده الفاسد في أن الله تعالى لا يخلق الهدى ولا الضلال، وأنهما من جملة مخلوقات العباد.

(4)

ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات المشيئة لله، وأن كل ما في الكون واقع بمشيئة الله تعالى.

(5)

(1)

الجامع لأحكام القرآن (6/ 422)

(2)

ينظر: التفسير الكبير (12/ 531)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 422)، وأنوار التنزيل (2/ 161)، مدارك التنزيل (1/ 503)، ولباب التأويل (2/ 111)، والبحر المحيط (4/ 506)، واللباب في علوم الكتاب (8/ 132)، وروح المعاني (4/ 140)، ومحاسن التأويل (4/ 358)

(3)

ينظر: الكشاف (2/ 22).

(4)

ينظر: حاشية الانتصاف على الكشاف لابن المنير (2/ 22)

(5)

وهي تختلف عن الإرادة بأنها لا تنقسم إلى كونية، وشرعية؛ بل هي كونية محضة؛ فما شاء الله كان؛ وما لم يشأ لم يكن سواء كان مما يحبه، أو مما لا يحبه؛ كما قال تعالى:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} [الأنعام: 39]؛ فهذا لا يحبه؛ وقوله تعالى: {وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]: فهذا يحبه؛ وكل فعل علَّقه الله بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة؛ ودليل ذلك سمعي، وعقلي؛ فمن السمع:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]؛ فدلَّ هذا على أن مشيئته مقرونة بالحكمة؛ وأما العقل فلأن الله سبحانه وتعالى سمَّى نفسه بأنه «حكيم» ؛ والحكيم لا يصدر منه شيء إلا وهو موافق للحكمة. ينظر: تفسير سورة البقرة للعثيمين (3/ 25)

ص: 366

قال ابن أبي العز في شرحه كلام الطحاوي رحمهما الله:

(يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلاً) رداً على المعتزلة في هذا الباب:

قال: (هذا رد على المعتزلة في قولهم بوجوب فعل الأصلح للعبد على الله، وهي مسألة الهدى والضلال. قالت المعتزلة: الهدى من الله: بيان طريق الصواب، والإضلال: تسمية العبد ضالاً، أو حكمه تعالى على العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه. وهذا مبني على أصلهم الفاسد: أن أفعال العباد مخلوقة لهم. والدليل على ما قلناه قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. ولو كان الهدى بيان الطريق لما صح هذا النفي عن نبيه، لأنه صلى الله عليه وسلم بين الطريق لمن أحب وأبغض. وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]. وقوله: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31]. ولو كان الهدى من الله البيان، وهو عام في كل نفس لما صح التقييد بالمشيئة. وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 57]. وقوله {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39].)

(1)

وفي هذا دليل على أن الهادي والمضل هو الله تعالى، وأن ما وقع من الأفعال إنما هوبمشيئة الله، وما لم يقع إنما لم يقع لأن الله لم يشأه، سواء ذلك في الطاعة أو المعصية أو ما ليس بطاعة ولا معصية من المباحات، والمشيئة عند أهل السنة لا يلزم منها الحب والرضا، وإنما تتعلق بالإرادة الكونية القدرية التي لا يخرج شيء

(1)

شرح الطحاوية (1/ 137)، وينظر: شرح الواسطية لصالح الفوزان (1/ 90)

ص: 367

في الوجود عنها سواء كان طاعة أو معصية، فإذا كان الفعل طاعة فإنه يكون واقعاً بمشيئة الله وبحبه ورضاه، وإذا كان معصية فإنه يكون واقعاً بمشيئة الله وعدم حبه ورضاه لذلك.

وبهذا يتضح أن قول المعتزلة في تقسيم المشيئة لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، وبدلالة هذه الآية كما نصَّ عليها الخطيب {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، حيث لا يمكن تقدير المشيئة هنا أنها مشيئة الإلجاء والإكراه، ولكن المعتزلة يأخذون ببعض الكتاب ويردون بعضه، وأهل الحق يدينون لله بالقرآن كله.

(1)

والله تعالى أعلى وأعلم.

(1)

ينظر: حاشية الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار للعمراني (1/ 49 ومابعدها)، وينظر: إعلام الموقعين (2/ 211)، وشفاء العليل لابن القيم (1/ 80)، والإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة (1/ 190).

ص: 368

الفائدة من قوله تعالى: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}

{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فإن قيل: قد يُستدل بهذا على أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء لأنّ معنى الكلام لا أدعي منزلة أقوى من منزلتي، ولولا أنّ الملائكة أفضل لم يصح ذلك؟

أجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك تواضعاً لله تعالى، واعترافاً بالعبودية، حتى لا يُعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح، وبأنّ المراد بما قاله نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة، وذلك لا يدل على أنهم أفضل من الأنبياء).

(1)

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على فائدة قوله تعالى: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} وذلك أنهم قالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج النساء؟

فأجابهم عليه الصلاة والسلام بقوله: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه البشر، وإنما نفى عن نفسه هذه الأشياء تواضعاً لله تعالى، واعترافاً له بالعبودية، وأيضاً حتى لا يقترحوا عليه الآيات التي لايقدر عليها،

(1)

السراج المنير (1/ 487)

ص: 369

فنفى قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة وليس في ذلك دلالة على أنهم أفضل من الأنبياء.

(1)

وممن أشار إلى هذا المعنى من المفسرين: ابن عطية، والرازي، والبيضاوي، والقرطبي، والخازن، وأبو حيان، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، وابن عاشور، وغيرهم.

(2)

قال ابن عطية مؤيداً هذه الدلالة: (وتعطي قوة اللفظ في هذه الآية الملك أفضل من البشر، وليس ذلك بلازم من هذا الموضع، وإنما الذي يلزم منه أن الملك أعظم موقعاً في نفوسهم وأقرب إلى الله، والتفضيل يعطيه المعنى عطاء خفياً وهو ظاهر من آيات أخر، وهي مسألة خلاف).

(3)

وذكر الرازي وجهاً آخر في فائدة هذه الآية إضافة لإظهار التواضع منه عليه الصلاة والسلام، والاعتراف بالعبودية، وهي أن القوم كانوا يقترحون منه إظهار المعجزات القاهرة القوية، كقولهم {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] إلى آخر مطالبهم، فقال تعالى في آخر الآية {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93] يعني لا أدعي إلا الرسالة والنبوة، وأما هذه الأمور التي طلبتموها، فلا يمكن تحصيلها إلا بقدرة الله، فكان المقصود من هذا

(1)

ينظر: لباب التأويل للخازن (2/ 114)

(2)

ينظر: المحرر الوجيز (2/ 294)، والتفسير الكبير (12/ 538)، والجامع لأحكام القرآن (6/ 430)، ولباب التأويل (2/ 114)، والبحر المحيط (4/ 518)، وفتح القدير (2/ 135)، وروح المعاني (4/ 147)، ومحاسن التأويل (4/ 366)، والتحرير والتنوير (7/ 242)

(3)

المحرر الوجيز (2/ 294)

ص: 370

الكلام إظهار العجز والضعف وأنه لا يستقل بتحصيل هذه المعجزات التي طلبوها منه.

(1)

واستدل الجبائي

(2)

بهذه الآية على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وجعل معنى الآية: لا أدعي منزلة فوق منزلتي، قال: فلولا أن الملك أفضل لم يصح ذلك، وتبعه الزمخشري كعادته يُرغم معاني القرآن على مسايرة مذهبه

(3)

، فهو جارٍ على مذهب المعتزلة أن الملَك أفضل خلق الله.

وهذه المسألة

(4)

محل خلاف بين أهل العلم فقال بعضهم بتفضيل الملائكة، وقال بعضهم بتفضيل بني آدم، ولكل قولٍ أدلته

(5)

، ومذهب أهل السنة أن الأنبياء وصالحي البشر أفضل من الملائكة - كما تقدم - وهو الراجح.

(6)

(1)

وذكر فوائد أخرى غيرها، ينظر: التفسير الكبير (12/ 538)

(2)

هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن جمران بن أبان، الجبائي، أحد أئمة المعتزلة؛ وصاحب التصانيف، كان إماما في علم الكلام في عصره، وله في مذهب الاعتزال مقالات مشهورة، توفي سنة 303 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (4/ 267)، وسير أعلام النبلاء (14/ 183).

(3)

ينظر: الكشاف (2/ 25)، وينظر قوله والرد عليه في: التفسير الكبير (12/ 538)، والبحر المحيط (4/ 518)، وروح المعاني (4/ 147)، ومحاسن التأويل (4/ 366)، والتحرير والتنوير (7/ 242)

(4)

تقدم الكلام عنها في أول سورة البقرة عند قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ينظر الاستنباط رقم: (13)

(5)

ينظر: حجج القرآن لأحمد بن المظفر الرازي (1/ 81)، والفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي (1/ 153)، والحبائك في أخبار الملائك لجلال الدين السيوطي (1/ 207).

(6)

ينظر: لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/ 398)، ومجموع الفتاوى (4/ 344)، والصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن القيم (3/ 1002)، وشرح الطحاوية لصالح آل الشيخ (1/ 105).

ص: 371

قال ابن عاشور رداً عليهم: (ومن تلفيق الاستدلال أن يستدل الجبائي بهذه الآية على تأييد قول أصحابه المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء، مع بُعد ذلك عن مهيع الآية).

(1)

وقال الشوكاني موافقاً الخطيب وغيره في هذه الآية: (وليس في هذا ما يدل على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وقد اشتغل بهذه المفاضلة قوم من أهل العلم، ولا يترتب على ذلك فائدة دينية ولا دنيوية، بل الكلام في مثل هذا من الاشتغال بما لا يعني، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

(2)

والصحيح أنه ليس في الآية دليل على تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما هو محل النزاع كما زعم الجبائي وغيره، وإن كان ظاهرها يؤيده؛ لأنها إنما وردت رداً على الكفار في قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} .. الآية، وتكليفهم له عليهم الصلاة والسلام بنحو الرقي في السماء وغيره مما لا طاقة له به. فردَّ قولهم: بأنه بشر، وذلك شأن البشر، ولم يدَّعِ أنه ملك، حتى يُتعجب من أكله للطعام، وحينئذ لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء.

قال الألوسي: (ونحن لا ندعي تميز الأنبياء على الملائكة عليهم الصلاة والسلام في عدم الأكل مثلاً، والقدرة على الأفاعيل الخارقة كالرقي ونحوه، ولا مساواتهم لهم في ذلك، بل كون الملائكة متميزين عليهم، عليهم الصلاة والسلام في ذلك مما أجمع عليه الموافق والمخالف، ولا يوجب ذلك اتفاقاً على أن الملائكة أفضل منهم بالمعنى

(1)

التحرير والتنوير (7/ 242).

(2)

فتح القدير للشوكاني (2/ 135).

ص: 372

المتنازع فيه، وإلا لكان كثير من الحيوانات أفضل من الإنسان ولا يدعي ذلك إلا جماد).

(1)

فلا يلزم من الآية تفضيل الملائكة على الأنبياء، لأنه لا خلاف أن الأنبياء، يأكلون الطعام، وأن الملائكة ليسوا كذلك، فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها، ولا يوجب ذلك اتفاقاً على أن الملائكة أفضل من الأنبياء.

(2)

ولعل هذا الجواب أظهر من كون هذا القول منه صلى الله عليه وسلم من باب التواضع وإظهار العبودية لله كما حكاه الخطيب، والله تعالى أعلم.

(1)

روح المعاني (4/ 147).

(2)

ينظر: حاشية الانتصاف على الكشاف لابن المنير (2/ 25)، ومحاسن التأويل (4/ 366)، وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا (7/ 357)

ص: 373

حجية سد الذرائع.

قال الله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا} أي: اعتداءً وظلماً {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: جهلاً منهم بالله وبما يجب أن يذكر به، وفيه دليل على أنّ الطاعة إذا أدّت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدّي إلى الشرّ شر).

(1)

وجه الاستنباط:

أن اللَّه تعالى قد حرّم سبّ الأصنام التي يعبدها المشركون مع كون السب حمية لله وإهانة لأصنامهم؛ لكون ذلك السب ذريعة إلى أن يسبوا اللَّه تعالى.

الدراسة:

هذه الآية أصل في قاعدة سد الذرائع

(2)

؛ حيث حرّم تعالى سبّ آلهة المشركين مع كون السبّ غيظاً وحميةً لله وإهانةً لآلهتهم، لكونه ذريعة إلى سبّهم لله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبّته تعالى أرجح من مصلحة سبِّنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز

(3)

، فاستنبط الخطيب منها بدلالة اللازم أنّ الطاعة إذا أدّت إلى معصية راجحة وجب تركها.

(1)

السراج المنير 1/ 510

(2)

ينظر تأصيل هذه القاعدة وحجيتها في: الموافقات للشاطبي 3/ 76، والبحر المحيط للزركشي 8/ 89، وإرشاد الفحول للشوكاني 2/ 194، والمهذب في علم أصول الفقه المقارن للنملة 3/ 1016.

(3)

ينظر: إعلام الموقعين لابن القيم 3/ 137

ص: 374

ووجه النهي عن سبّ أصنامهم هو أن السبّ لا تترتب عليه مصلحة دينية؛ لأن المقصود من الدعوة هو الاستدلال على إبطال الشرك، وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله تعالى، فذلك هو الذي يتميز به الحق عن الباطل، وينهض به المُحِق ولا يستطيعه المبطل، فأما السبّ فإنه مقدور للمُحق وللمبطل فيظهر بمظهر التساوي بينهما، وربما استطاع المبطل بوقاحته وفُحشه ما لا يستطيعه المحق، فيلوح للناس أنه تغلّب على المُحق. ويكفي وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر في القدح في إلهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها.

(1)

ومن هذا القبيل - وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها - ماجاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال:«يسبُّ الرجل أبا الرجل، فيسبُّ أباه، ويسبُّ أمه»

(2)

، وكان عليه الصلاة والسلام يكِفُّ عن قتل المنافقين؛ لأنه ذريعة إلى قول الكفار: إن محمداً يقتل أصحابه.

(3)

وممن استنبط هذه القاعدة الجليلة من الآية: السمرقندي، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، وابن كثير، والسيوطي، وأبو السعود، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور وغيرهم.

(4)

(1)

ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور 7/ 430.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب: لايسب الرجل والديه، برقم (5973)، (8/ 3)

(3)

ينظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 315).

(4)

ينظر: تفسير القرآن للسمرقندي 1/ 474، والتفسير الكبير 13/ 110، والجامع لأحكام القرآن 7/ 61، وأنوار التنزيل 2/ 177، وتفسير القرآن العظيم 3/ 315، والإكليل 1/ 120، وإرشاد العقل السليم 3/ 172، وفتح القدير 2/ 171، ومحاسن التأويل 6/ 147، وتيسير الكريم الرحمن 1/ 269، والتحرير والتنوير 7/ 430.

ص: 375

قال الشوكاني: (في هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبَّب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرمة، ومخالفة حق، ووقوع في باطلٍ أشدّ، كان الترك أولى به، بل كان واجباً عليه، .. وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة، وهي أصل أصيل في سد الذرائع وقطع التطرق إلى الشُبه).

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

فتح القدير 2/ 171.

ص: 376

تكذيب القدرية والمعتزلة في قولهم: لا يحسُن من الله تعالى خلق الكفر وتزيينه.

قال الله تعالى: {

كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (وفي هذه الآية دليل على تكذيب القدرية والمعتزلة حيث قالوا: لا يحسن من الله تعالى خلق الكفر وتزيينه فهو الفعال لما يريد، لا يُسأل عما يفعل).

(1)

وجه الاستنباط:

ظاهر الآية يفيد العموم في تزيين الله تعالى الخير والشر.

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية بدلالة النَّص تكذيب القدرية والمعتزلة في قولهم: «لا يحسُن من الله تعالى خلق الكفر وتزيينه» حيث قال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} فنصَّ سبحانه على تزيين العمل لكل أمة. وظاهر قوله تعالى {لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} العموم في الأمم وفي العمل، فيدخل فيه المؤمنون والكافرون، أي: كما زينَّا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان، كذلك زينا لكل أمة عملهم من الخير والشر والطاعة والمعصية.

(2)

(1)

السراج المنير (1/ 510)

(2)

البحر المحيط في التفسير (4/ 612).

ص: 377

قال ابن عباس: «زيَّنا لأهل الطاعة الطاعة، ولأهل الكفر الكفر»

(1)

، وهذا كقوله تعالى:{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وهذا ما عليه أهل السنة من أن المُزين للكافر الكفر، وللمؤمن الإيمان، هو الله تعالى بدلالة ظاهرهذه الآية، ففيه رد على القدرية والمعتزلة في زعمهم أن خَلق الكفر وتزيينه لا يحسن من الله تعالى.

(2)

وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية: الرازي، والقرطبي، والخازن، وأبو حيان، والنيسابوري، والقاسمي، وغيرهم.

(3)

وأهل السُنَّة على أن خَلقه تعالى الكفر والظلم في الكافر والظالم، وإقراره ثم تعذيبهما عليه، وخَلقه الكفر وغضبه منه وسخطه إياه، كل ذلك منه تعالى حكمة وعدل وحق، وممن دونه تعالى سفه وظلم وباطل.

(4)

فالمؤمن اختار الإيمان وأحبَّه واستحسنه وأراده وآثره على ضده، وكرِه الكفر وأبغضه واستقبحه ولم يُرده وآثر عليه ضده، والله خلق له الاختيار والاستحسان والإرادة للإيمان والبغض والكراهة والاستقباح للكفر، قال تعالى {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]

(1)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (7/ 62)

(2)

ينظر الرد عليهم في: الإبانة عن أصول الديانة لابن أبي بردة (1/ 181)، والتوحيد للماتريدي (1/ 236) و (1/ 294)، والفصل في الملل والنحل (3/ 41)، والانتصار في الرد على المعتزلة القدرية (2/ 462).

(3)

ينظر: التفسير الكبير (13/ 111)، والجامع لأحكام القرآن (7/ 62)، ولباب التأويل (2/ 145)، والبحر المحيط (4/ 612)، وغرائب القرآن (3/ 142)، ومحاسن التأويل (4/ 465)

(4)

ينظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 41)

ص: 378

والكافر على عكسه اختار الكفر واستحسنه وأحبَّه وأراده وآثره على ضده، وكرِه الإيمان وأبغضه ولم يُرده، والله تعالى خلق ذلك كله، وليس أحدهما بممنوع عن ضد ما اختاره، ولا بمحمول على ما اكتسبه، ولذلك وجبت حجة الله عليهم، وحقَّ عليهم القول، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76].

(1)

قال ابن القيم: (قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ

(1)

ينظر: التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي (1/ 49).

ص: 379

وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8]، وقال:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]

فأضاف التزيين إليه سبحانه خلقاً ومشيئة. وحذَف فاعله تارة، ونسَبه إلى سببه، ومن أجراه على يده تارة. وهذا التزيين منه سبحانه حسن، إذ هو ابتلاء واختبار للعبد ليتميز المطيع منهم من العاصي، والمؤمن من الكافر، وهو من الشيطان قبيح.

وأيضاً فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيء عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته، وإيثار سيء العمل على حسنه فإنه لا بد أن يعرفه سبحانه السيء من الحسن، فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه، زيَّنه سبحانه له وأعماه عن رؤية قُبحه بعد أن رآه قبيحاً. وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يُريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحاً، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه. فربما رآه حسناً عقوبة له، .. ومع هذه فحجة الله قائمة عليه بالرسالة، وبالتعريف الأول. فتزيين الرب تعالى عدل، وعقوبته حكمة، وتزيين الشيطان إغواء).

(1)

فثبت أنه يمتنع أن يصدر عن العبد فعل، ولا قول، ولا حركة، ولا سكون، إلا إذا زيَّن الله تعالى ذلك الفعل في قلبه وضميره واعتقاده، وأيضاً الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفراً وجهلاً، والعلم بذلك ضروري بل إنما يختاره لاعتقاده كونه إيماناً وعلماً وصدقاً وحقاً، فلولا سابقة الجهل الأول لما اختار هذا الجهل.

(2)

(1)

تفسير القرآن الكريم لابن القيم (1/ 244) بتصرف، وشفاء العليل (1/ 103).

(2)

ينظر: التفسير الكبير (13/ 111)

ص: 380

وبهذا يظهر بطلان قول المعتزلة والقدرية، وأن الحق ما ذهب إليه أهل السنة في أن الخالق للكفر، والمزين له هو الله تعالى كما دلت عليه الآية؛ إذ هي نص في محل النزاع، وهي دلالة قوية ظاهرة، والله تعالى أجل وأعلم.

نجاسة الخنزير نجاسة عين.

قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]

قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله تعالى {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ} أي: الخنزير {رِجْسٌ} أي: نجس، فالضمير يعود على المضاف إليه؛ لأنّ اللحم دخل في قوله {مَيْتَةً}، وحينئذٍ ففي الآية دلالة على نجاسة الخنزير وهو حي، فلحمه وكذا سائر أجزائه بطريق الأولى).

(1)

الدراسة:

استنبط الخطيب من الآية بدلالة النص نجاسة عين الخنزير؛ لأن الضمير فى قوله تعالى {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} عائد على لفظ الخنزير لا على لفظ «لحم» ، وعلَّله بأن اللحم داخل في حكم الميتة، وقال سبحانه في موضع آخر {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، فتحريم اللحم معلوم بالنصّ عليه، ولو عاد الضمير عليه لخلا الكلام من فائدة التأسيس، فوجب عوده إلى كلمة «خنزير» ليفيد الكلام تحريم بقية أجزائه.

(1)

السراج المنير 1/ 524.

ص: 381

وقد اختلف العلماء في نجاسة عين الخنزير، فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن الخنزير حيوان نجس.

(1)

وعمدة أدلتهم هي هذه الآية، وذهب مالك إلى أن الخنزير طاهر

(2)

، كما هو ظاهر قوله تعالى {لَحْمَ خِنْزِيرٍ} أن المحرّم منه هو لحمه فقط، وجمهور الفقهاء على أن المحرم لحمه وسائر أجزائه، وإنما خص اللحم بالذكر والمراد جميع أجزائه؛ لكون اللحم هو معظم ما ينتفع به.

(3)

والخلاف في عود الضمير في قوله {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ، فإما أن يعود على «لحم الخنزير» ، أو يعود على «خنزير» فإنه أقرب مذكور، والأظهر أنه يعود على {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} لأن المُحدَّث عنه إنما هو اللحم، وجاء ذكر الخنزير على سبيل الإضافة إليه، لا أنه هو المُحدَّث عنه المعطوف

(4)

، وعلى كلٍ فهو دليل على نجاسة لحم الخنزير.

(1)

قال ابن قدامة: (لا يختلف المذهب في نجاسة الكلب والخنزير وما تولد منهما أنه نجس عينه وسؤره وعرقه وكل ما خرج منه). الشرح الكبير على متن المقنع/248، وينظر: المغني (1/ 35)، والإنصاف في للمرداوي 1/ 310، وبدائع الصنائع للكاساني 1/ 63، والمجموع للنووي 2/ 568.

(2)

باعتبار أن الأصل في الأشياء الحية الطهارة بما فيها الكلب والخنزير، كما يفيد ظاهر قوله تعالى {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} ، فالمحرّم عنده اللحم دون الشحم فيحلّ شحمه وغضروفه وعظمه وجلده لذلك.

(3)

ينظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 13، وأحكام القرآن للكيا الهراسي 1/ 40، وأحكام القرآن لابن العربي 1/ 80.

(4)

ينظر: البحر المحيط 4/ 674، والإكليل للسيوطي 1/ 123، وإرشاد العقل السليم 1/ 191، وروح المعاني 1/ 439، والتحرير والتنوير 8/ 138.

ص: 382

قال السمين الحلبي: (ورُجِّح الأول - أي عود الضمير على لحم الخنزير - بأن اللحم هو المُحدَّث عنه، والخنزير جاء بعرضية الإضافة إليه، ألا ترى أنك إذا قلت: «رأيت غلام زيد فأكرمته» أن الهاء تعود على الغلام؛ لأنه المُحدَّث عنه المقصود بالإخبار عنه لا على زيد؛ لأنه غير مقصود).

(1)

وقال ابن كثير: (قوله {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} يعني: إنسيه ووحشيه، واللحم يعُمُّ جميع أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا وتعسفهم في الاحتجاج بقوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} يعنون قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير، حتى يعم جميع أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء، كما هو المفهوم من لغة العرب، ومن العرف المطَّرِد).

(2)

وعليه فالذي يظهر ضعف ما قاله الخطيب من عود الضمير على المضاف إليه دون المضاف، كما أن دلالة الآية على نجاسة عين الخنزير ليست دلالة قطعية، فقد يراد بالنجاسة: النجاسة الحُكمية وهى حُرمة الأكل، وليس النجاسة العينية، كنجاسة المشركين في قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، فالمراد: نجاسة الاعتقاد وليس النجاسة العينية، وكما جاء في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، فنجاسة الأنصاب والأزلام حُكمية وهى الحرمة وليست نجاسة عينية، ولذلك استدل بعض العلماء على

(1)

الدر المصون 5/ 200

(2)

تفسير القرآن العظيم 3/ 16.

ص: 383

نجاسة عين الخنزير بالقياس على الكلب؛ لأنه أسوأ حالاً منه حيث لا يجوز الانتفاع به.

(1)

وقد نصَّ على نجاسة الخنزير بدلالة الآية جمهور المفسرين.

(2)

قال الطبري في بيان معنى الآية (وحُرّم عليكم لحم الخنزير أهليه وبريّه. فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج عموم، والمراد منهما الخصوص. وأما لحم الخنزير فإن ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، حرام جميعه، لم يخصص منه شيء).

(3)

وقال السمرقندي: (ذكر اللحم خاصة والمراد به اللحم والشحم وجميع أجزائه. وهذا شيء قد أجمع المسلمون على تحريمه، فقد ذكر الميتة وإنما انصرف إلى بعض منها، وأحل البعض منها، وهو السمك والجراد، وذكر الدم وإنما المراد به بعض الدم؛ لأنه لم يدخل فيه الكبد والطحال، وذكر لحم الخنزير فانصرف النهي إلى اللحم وغيره).

(4)

(1)

قال الشيرازي في المهذب: (وأما الخنزير فنجس لأنه أسوأ حالا من الكلب، لأنه مندوب إلى قتله من غير ضرر فيه، ومنصوص على تحريمه، فإذا كان الكلب نجسا فالخنزير أولى، وأما ما توّلد منهما أو من أحدهما فنجس لأنه مخلوق من نجس فكان مثله). المهذب 2/ 140.

(2)

ينظر: جامع البيان 9/ 493، وأحكام القرآن للجصاص 1/ 13، وتفسير القرآن للسمرقندي 1/ 114، وأحكام القرآن للكيا الهراسي 1/ 40، ومعالم التنزيل 1/ 201، وأحكام القرآن لابن العربي 1/ 80، والتفسير الكبير 5/ 200، والجامع لأحكام القرآن 2/ 222، والدر المصون للسمين الحلبي 5/ 200 وتفسير القرآن العظيم 3/ 16، والإكليل 1/ 123، وإرشاد العقل السليم 1/ 191، وروح المعاني 1/ 439، والتحرير والتنوير 8/ 138.

(3)

جامع البيان 9/ 493.

(4)

تفسير القرآن للسمرقندي 1/ 114.

ص: 384

والحاصل أن الخلاف في عود الضمير لفظي، والآية دالة على نجاسة لحم الخنزير وتحريمه على كلا الاحتمالين، لكننَّا لا نجزم بقطعية دلالتها على نجاسة عين الخنزير.

(1)

والله تعالى أعلم.

(1)

قال النووي: (نقل ابن المنذر إجماع العلماء على نجاسة الخنزير وهو أولى ما يُحتج به لو ثبت الإجماع، ولكن مذهب مالك طهارة الخنزير مادام حياً، وأما ما احتج به المصنف – يعني الشيرازي -فكذا احتج به غيره ولا دلالة فيه، وليس لنا - أي الشافعية - دليل واضح على نجاسة الخنزير في حياته). المجموع (2/ 568).

ص: 385