الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفاتحة
تخصيص ملك الله ليوم الدين بالذكر دون غيره لظهور ملكه وانقطاع أملاك الآخرين.
قال الله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (ويوم الدين يوم الجزاء ومنه قولهم: كما تدين تدان، وهو يوم القيامة، وخص بالذكر: لأنه لا ملك ظاهر فيه لأحد إلا لله تعالى {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على تخصيص ملكه تعالى ليوم الدين دون سائر ملكه، مع عظمة أملاكه سبحانه وكثرتها؛ وذلك لأنه لا ملك ظاهر لأحد في ذلك اليوم إلا له سبحانه، إذ في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق، حتى إنه يستوي في ذلك اليوم، الملوك والرعايا والعبيد والأحرار، كلهم مذعنون لعظمته، خاضعون لعزته، فلذلك خصّه بالذكر، وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.
(2)
وممن وافق الخطيب في استنباط هذه الدلالة من الآية: ابن جرير
الطبري، والزجاج، والسمرقندي
(3)
، والواحدي
(4)
،
(1)
السراج المنير (1/ 10)
(2)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (1/ 39)
(3)
هو: نصر بن محمد بن أحمد السمرقندي، أبو الليث، فقيه له تصانيف مشهورة منها:(تفسير القرآن)، و (النوازل في الفقه)، و (تنبيه الغافلين) وغيرها، توفي سنة 393 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (16/ 322)، وطبقات المفسرين للأدنه وي ص 91.
(4)
هو: علي بن أحمد بن محمد، أبو الحسن الواحدي النيسابوري، كان واحد عصره في التفسير وصنف التفاسير الثلاثة (البسيط) و (الوسيط) و (الوجيز)، وصنف (أسباب النزول)(والإعراب عن الإعراب) وغيرها من المصنفات، توفي سنة 468 هـ. ينظر: طبقات المفسرين للسيوطي ص 78، وطبقات المفسرين للأدنه وي، ص 127.
والسمعاني
(1)
، وابن الجوزي
(2)
، والقرطبي، والخازن، وابن كثير، وابن عادل الحنبلي، وإسماعيل حقي
(3)
، وغيرهم.
(4)
قال البغوي مؤيداً هذا الاستنباط: (خصَّ يوم الدين بالذكر مع كونه مالكا للأيام كلها؛ لأن الأملاك يومئذ زائلة فلا ملك ولا أمر إلا له.)
(5)
(1)
هو أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد التميمي، السمعاني، المروزي، الحنفي كان، ثم الشافعي. العلامة، مفتي خراسان، شيخ الشافعية، وحيد عصره في وقته فضلاً وطريقة، وزهداً وورعاً، من بيت العلم والزهد، تفقه بأبيه، صنف كتاب (الاصطلام)، وكتاب (البرهان)، وله (الأمالي) في الحديث. توفي سنة 489 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (19/ 114)، ووفيات الأعيان (3/ 112)
(2)
هو عبدالرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد بن الجوزي الحنبلي، أبو الفرج جمال الدين الحافظ، كان علامة عصره وإمام وقته في الحديث والوعظ، وصنف في فنون عديدة، ومن تصانيفه:(زاد المسير) و (نواسخ القرآن) و (الموضوعات) في الحديث وغيرها، توفي سنة 597 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (3/ 140)، وسير أعلام النبلاء (21/ 365)، وطبقات المفسرين للداودي ص 191.
(3)
هو أبو الفداء إسماعيل حقي بن مصطفى الحنفي الخلوتي، صوفي، مفسر، تركي الأصل، ومستعرب، سكن القسطنطينية، وانتقل إلى بروسة، وكان من أتباع الطريقة (الخلوتية) فنفي إلى تكفور طاغ، وأوذي، وعاد إلى بروسة فمات فيها عام 1127 هـ، له كتب عربية وتركية، فمن العربية: روح البيان في تفسير القرآن، ويعرف بتفسير حقي، والرسالة الخليلية، والأربعون حديثاً. ينظر: الأعلام (1/ 313)
(4)
ينظر: جامع البيان للطبري (1/ 94)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 47)، وتفسير القرآن للسمرقندي (1/ 17)، والوسيط للواحدي (1/ 67)، وتفسير السمعاني (1/ 37)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 143)،، ولباب التأويل للخازن (1/ 20)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 157)، واللباب في علوم الكتاب لابن عادل (1/ 194)، وروح البيان لحقي (1/ 13)
(5)
معالم التنزيل (1/ 74)
وقال السمرقندي: (فإن قيل: ما معنى تخصيص يوم الدين؟ وهو مالك يوم الدين وغيره، قيل له: لأن في الدنيا، كانوا منازعين له في الملك، مثل فرعون ونمرود وغيرهما. وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له).
(1)
ويشهد لصحة هذا المعنى المستنبط آيات كثيرة منها: قوله تعالى {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، وقوله تعالى {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26]، وقال:{وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].
وتؤيده قراءة من قرأ (ملك) بدون ألف
(2)
، كما أشار إليه الطبري، وأبو السعود
(3)
.
(4)
وذكر بعض المفسرين أن فائدة تخصيص ملك يوم الدين هنا هو: تعظيم شأن ذلك اليوم فهو عظيم في جمعه وحوادثه، حكاه ابن عطية
(5)
، وغيره.
(6)
(1)
تفسير القرآن للسمرقندي (1/ 17)
(2)
وهي قراءة نافع وابن كثير وحمزة وأبو عمرو بن العلاء وابن عامر: (ملك) بغير الألف، وقرأ عاصم والكسائي بالألف. فأما من قرأ بالألف قال: لأن المالك أبلغ في الوصف، لأنه يقال: مالك الدار، ومالك الدابة، ولا يقال ملك: إلا لملك من الملوك. ينظر: تفسير القرآن للسمرقندي (1/ 17)، وينظر: الحجة للقراء السبعة لأبي علي الفارسي (1/ 7).
(3)
هو: محمد بن مصطفى العمادي الحنفي، الإمام العلاّمة، تولى القضاء، واشتغل في التدريس والفتيا، وصنف التفسير المعروف بـ (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم)، توفي سنة 982 هـ.
ينظر: شذرات الذهب (8/ 467)، وطبقات المفسرين للأدنه وي ص 398.
(4)
ينظر: جامع البيان للطبري (1/ 95)، وإرشاد العقل السليم لأبي السعود (1/ 14)
(5)
هو: عبدالحق بن غالب بن عبدالرحمن بن عطية، أبو محمد الغرناطي القاضي، فقيه عالم بالتفسير والأحكام والحديث والنحو واللغة والأدب، ألف كتابه (الوجيز في التفسير)، فأحسن فيه وأبدع، توفي سنة 541 هـ، وقيل: 546 هـ. ينظر: طبقات المفسرين للسيوطي ص 60، وطبقات المفسرين للداودي ص 185.
(6)
ينظر: المحرر الوجيز (1/ 69)، وإرشاد العقل السليم لأبي السعود (1/ 15)، ومحاسن التأويل للقاسمي (1/ 248).
وقال بعضهم خصَّه بالذكر لإثبات بعث العباد من قبورهم، وحشرهم، ومجازاتهم، أفاده أبو حيان.
(1)
وهذه المعاني جميعاً متقاربة، ويمكن الجمع بينها بأن يقال في وجه تخصيص ملكه تعالى ليوم الدين على سائر أملاكه، حتى يظهر للخلق في ذلك اليوم كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق، كما نصًّ عليه الخطيب، وكذلك لما فيه من إثبات البعث، ومجازاة عباده، وحسابهم، ولأنه يوم عظيم فيه أمور وأهوال عظام، وعليه فلا تعارض بين هذه المعاني المستنبطة.
وبهذا يظهر صحة استنباط الخطيب، وموافقته لجمهور المفسرين، كما تقدم، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: البحرالمحيط (1/ 9)
مناسبة تكرار المفعول (إياك) للحصر.
قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فإن قيل: لم كرر ضمير إياك؟ أجيب: بأنه كرر للتنصيص على أنه المستعان به لا غيره).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على مناسبة تكرار لفظ (إياك) وهي إفادة الحصر، وذلك بحصر الاستعانة له سبحانه لا غير، لأنه لو اقتصر تعالى على ضمير واحد لأوهم ذلك أن العبادة له تعالى والاستعانة لغيره، والتكرار أسلوب من أساليب التفخيم المعروفة في كلام العرب.
(2)
قال القرطبي: (وكرر الاسم لئلا يتوهم إياك نعبد ونستعين غيرك).
(3)
وقال ابن كثير: (قدم المفعول وهو {إِيَّاكَ}، وكرر؛ للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة).
(4)
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية موافقاً الخطيب: السمعاني، والقرطبي، والبيضاوي، وأبو حيان، وابن كثير، وحقي، وغيرهم.
(5)
(1)
السراج المنير (1/ 10)
(2)
ينظر: أسرار التكرار من القرآن للكرماني (1/ 20)
(3)
الجامع لأحكام القرآن (1/ 146)
(4)
تفسير القرآن العظيم (1/ 134)
(5)
ينظر: تفسير السمعاني (1/ 37)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 146)، وأنوار التنزيل (1/ 29)، والبحر المحيط (1/ 11)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 134)، وروح البيان (1/ 10).
وقيل في وجه التكرار أيضاً؛ ليكون أدل على الإخلاص والاختصاص والتأكيد.
(1)
وهو قريب من سابقه؛ إذ دلَّ تكرار المفعول {إِيَّاكَ} على اختصاصه سبحانه بالاستعانة وقصرها عليه وحده، وإخلاصها له تعالى، ولا يخفى ما في ذلك من التأكيد والتفخيم لذاته سبحانه.
وبهذا يظهر صحة استنباط الخطيب في وجه تكرار المفعول {إِيَّاكَ} ، وهو الحصر كما عليه كثير من المفسرين، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: الكشف والبيان للثعلبي (1/ 118)
فائدة تقدّيم العبادة على الاستعانة.
قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فإن قيل: لم قدّمت العبادة على الاستعانة؟ أجيب: لتتوافق رؤوس الآي، وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة، وأيضاً لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك فرحاً واعترافاً منه بما يصدر عنه، فعقّبه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ليدل على أنّ العبادة أيضاً مما لا تتم ولا تتيسر له إلا بمعونة منه تعالى وتوفيق).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة اللازم من الآية سر تقديم العبادة على الاستعانة في هذه الآية، وذلك لعدد من الفوائد:
أولاً: لموافقة رؤوس الآي، وهذه فائدة ظاهرة، وممن نَّص عليها من المفسرين: محمود النيسابوري
(2)
، والبيضاوي، وحقي، والألوسي
(3)
، وغيرهم.
(4)
(1)
السراج المنير (1/ 10)
(2)
هو محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي، أبو القاسم نجم الدين، العالم الفاضل، كان مفسراً لغوياً فقيهاً فصيحاً، صنف (إيجاز البيان عن معاني القرآن)، توفي سنة 553 هـ.
ينظر: طبقات المفسرين للداودي ص 508، وطبقات المفسرين للأدنه وي ص 424، والأعلام للزركلي (7/ 167).
(3)
هو: شهاب الدين محمود بن عبدالله الحسيني الألوسي، أبو الثناء، مفسر، محدث، أديب، من أهل بغداد، إمام مجتهد، تقلد الإفتاء ببلده، وله مصنفات مشهورة. توفي سنة 1270 هـ. ينظر: الأعلام (7/ 176)
(4)
ينظر: إيجاز البيان عن معاني القرآن (1/ 34)، وأنوار التنزيل (1/ 29)، وروح البيان (1/ 19)، وروح المعاني (1/ 91).
ثانياً: ليعلم أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة، وذلك أن تقديم العبادة التي هي الوسيلة على طلب العون منه سبحانه أدعى لإجابته وقبوله، وتمكين عبده من طلبه الاستعانة، وهي فائدة حسنة.
قال ابن كثير: (وإنما قدم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والاهتمام والحزم هو أن يُقدم ما هو الأهم فالأهم، والله أعلم).
(1)
وقد أشار إلى هذا المعنى أيضاً: البيضاوي، وحقي، والشوكاني
(2)
، وغيرهم.
(3)
والفائدة الثالثة وهي أظهرها: ليدل على أن العبادة مما لا تتم ولا تتيسر للعبد إلا بمعونة ربه وتوفيقه.
قال السعدي مؤيداً هذا الاستنباط: (ذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى، فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي.)
(4)
(1)
تفسير القرآن العظيم (1/ 135)
(2)
هو: محمد بن علي بن محمد الشوكاني، فقيه مجتهد، أصولي مفسر، من كبار علماء اليمن، ولي قضاء صنعاء، وله تصانيف مشهورة في فنون كثيرة، بلغت 114 مصنفاً، توفي سنة 1250 هـ. ينظر: الأعلام (6/ 298).
(3)
ينظر: أنوار التنزيل (1/ 29)، وروح البيان (1/ 19)، وفتح القدير (1/ 27).
(4)
تيسير الكريم الرحمن (1/ 39)
وممن وافق الخطيب أيضاً في استنباط هذه الدلالة من سياق الآية: البيضاوي، والخازن، والبقاعي، وحقي، وغيرهم.
(1)
ويؤيد هذا المعنى قول ابن القيم: (ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه، أمرَه أن يستعين به ليجتمع له مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله، ولا تتم إلا بمعونته، فأمره بأن يعبده، وأن يستعين به.)
(2)
وقال البقاعي: (وأعقبه بقوله مكرراً للضمير حثاً على المبالغة في طلب العون {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إشارة إلى أن عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته).
(3)
وقد ذكر الخازن، والألوسي وجوهاً أُخر في مناسبة هذا التقديم، بعضها لا يخلو من بُعد.
(4)
وبهذا يتبين صحة استنباط الخطيب، ودقة هذه الدلالات المستفادة من سياق الآية في التقديم والتأخير، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: أنوار التنزيل (1/ 30)، ونظم الدرر في تناسب الآيات والسور (1/ 33)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 135)، وروح البيان (1/ 20)
(2)
شفاء العليل (1/ 19).
(3)
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (1/ 33)، وقال السيوطي في كلامه عن السببية:(ومنه تقديم العبادة على الاستعانة في سورة الفاتحة؛ لأنها سبب حصول الإعانة.) الإتقان في علوم القرآن (3/ 45).
(4)
ينظر: لباب التأويل (1/ 20)، وروح المعاني (1/ 91).
العدول عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب في قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فإن قيل: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ أجيب: بأنّ عادة العرب التفنن في الكلام، والعدول من أسلوب إلى آخر تحسيناً للكلام وتنشيطاً للسامع، فيكون أكثر إصغاءً للكلام فتعدِل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس فيهما).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على استنباط بلاغي وهو فائدة العدول عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب في قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وهي: تحسين الكلام، وتنشيط السامع، فيكون أكثر إصغاءً للكلام، وهذا يسمى بالالتفات في علم البيان، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم
(2)
، وذلك جارٍ على عادة العرب في افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه، ولأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أنشط للسامع، وأيقظ للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد.
(3)
قال أبو حيان: ({إِيَّاكَ} التفات لأنه انتقال من الغيبة، إذ لو جرى على نسق واحد لكان (إياه). والانتقال من فنون البلاغة - إلى أن قال-: وفائدته في (إياك نعبد) أنه لما ذكر أن الحمد لله المتصف بالربوبية، والرحمة، والملك لليوم المذكور،
(1)
السراج المنير (1/ 10)
(2)
ينظر: البديع في البديع لابن المعتز (1/ 152)، ونهاية الأرب في فنون الأدب للنويري (7/ 116)
(3)
ينظر: الكشاف للزمخشري (1/ 13 ومابعدها).
أقبل الحامد مخبراً بأثر ذكره الحمد المستقر له منه ومن غيره، أنه وغيره يعبده ويخضع له. وكذلك أتى بالنون التي تكون له ولغيره، فكما أن الحمد يستغرق الحامدين، كذلك العبادة تستغرق المتكلم وغيره. ونظير هذا أنك تذكر شخصاً متصفاً بأوصاف جليلة، مخبراً عنه إخبار الغائب، ويكون ذلك الشخص حاضراً معك، فتقول له: إياك أقصد، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ إياه، ولأنه ذكر ذلك توطئة للدعاء في قوله «اهدنا» .)
(1)
وقد أشار إلى هذه الفائدة البلاغية كثير من المفسرين غير أبي حيان كالزمخشري، والسمين الحلبي
(2)
، والنيسابوري
(3)
، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي، وغيرهم.
(4)
(1)
البحر المحيط في التفسير (1/ 42).
(2)
هو أحمد بن يوسف بن عبدالدائم الحلبي، شهاب الدين المقريء النحوي، برع في النحو ولازم أبا حيان، وكان فقيهاً بارعاً في القراءات ويتكلم في الأصول، له تفسير القرآن (الدر المصون)، وجمع كتاباً في أحكام القرآن، وشرح (التسهيل) و (الشاطبية)، توفي سنة 756 هـ. ينظر: الدرر الكامنة (1/ 339)، وطبقات المفسرين للأدنه وي ص 287.
(3)
هو نظام الدين، الحسن بن محمد بن الحسين القمي النيسابوري، ويقال له الأعرج، أصله من بلدة (قم) ومنشأه وسكنه في نيسابور، مفسر، له اشتغال بالحكمة والرياضيات، له مؤلفات منها: غرائب القرآن ورغائب الفرقان، ولباب التأويل، توفي عام 850 هـ. ينظر: الأعلام (2/ 216)، ومعجم المؤلفين (3/ 291).
(4)
ينظر: الكشاف (1/ 13 - 14)، والدر المصون في علوم الكتاب المكنون (1/ 57)، وغرائب القرآن ورغائب الفرقان (1/ 85)، وإرشاد العقل السليم (1/ 16)، وفتح القدير (1/ 27)، وروح المعاني (1/ 91).
ويؤيد هذه الدلالة من الآية ماحكاه السيوطي
(1)
في الإتقان قال: (الالتفات نقل الكلام من أسلوب إلى آخر، .. وله فوائد: منها تطرية الكلام وصيانة السمع عن الضجر والملال؛ لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات والسآمة من الاستمرار على منوال واحد وهذه فائدته العامة.
ويختص كل موضع بنكت ولطائف باختلاف محله -كما سنبين مثاله- من التكلم إلى الخطاب، ووجهه: حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عناية تخصيص بالمواجهة
(2)
).
(3)
كما أن في هذا الالتفات فائدة أخرى وهي: الإشارة إلى أنّ العبد إذا ذكر الله تقرّب منه فصار كأنه حاضر بين يديه تعالى ولذلك خاطبه بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} .
قال ابن كثير: (وتحولَ الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب، وهو مناسبة، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى؛ فلهذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}).
(4)
وقد نصَّ على هذه الدلالة غيره من المفسرين كابن جزي
(5)
، والرازي، وابن عادل الحنبلي، وأبو السعود، والألوسي، وغيرهم.
(6)
(1)
هو عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي الشافعي، أبو الفضل، جلال الدين، كان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه، صاحب المؤلفات النافعة الجامعة، من أشهرها (الدر المنثور) و (الإتقان) توفي سنة 911 هـ. ينظر: شذرات الذهب (8/ 87)، وطبقات المفسرين للأدنه وي ص 365.
(2)
وهي فائدة مشتركة بين ألوان الخطاب، فتصدق على الانتقال من الغيبة إلى الخطاب كذلك.
(3)
الإتقان في علوم القرآن (3/ 289)
(4)
تفسير القرآن العظيم (1/ 135)
(5)
هو: محمد بن أحمد بن جزي الكلبي، المالكي، أبو القاسم، كان فقيهاً حافظاً، بارعاً في فنون العربية، والأصول، والقراءات، والحديث، والأدب، توفي سنة 741 هـ. ينظر: الدرر الكامنة (3/ 356)، وطبقات المفسرين للداودي ص 357.
(6)
ينظر: التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 66)، والتفسير الكبير (1/ 215)، واللباب في علوم الكتاب (1/ 198)، وإرشاد العقل السليم (1/ 16)، وروح المعاني (1/ 91)