الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأعراف
التنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة، وأنه سبب طرد إبليس منها لا لمجرد معصيته.
قال تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أي: عن أمري لأنّ الجنة أو السماء مكان الخاشع المطيع لأمر الله تعالى، وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة والسماء، وأنه تعالى إنما طُرد إبليس لتكبره لا لمجرّد المعصية).
(1)
وجه الاستنباط:
أنه تعالى قال {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} فجعله علة للأمر المذكور بقوله {فَاهْبِطْ مِنْهَا} ولا ينبغي أن يسكن الجنة متكبر مخالف لأمر الله.
(2)
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة اللازم من هذه الآية أن التكبر لا يليق بأهل الجنة، وأن إبليس طُرد منها لتكبره لا لمجرد معصيته؛ لأن الله تعالى بيَّن أنه ليس لمن في الجنة أن يتكبَّر فقال {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} فالفاء لترتيب الأمر بالهبوط على مخالفته للأمر، أي: اهبط من السماء أو الجنة التي هي محل المطيعين من
(1)
السراج المنير 1/ 537
(2)
ينظر: إرشاد العقل السليم لأبي السعود 3/ 217.
الملائكة الذين لا يعصون الله فيما أمرهم إلى الأرض التي هي مقر من يعصي ويطيع، فإن السماء لا تصلح لمن يتكبر ويعصي أمر ربه مثلك.
(1)
ولهذا قال: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أي: ليس لك أن تستكبر في الجنة لأنه لا ينبغي أن يسكن في الجنة متكبرٌ مخالفٌ لأمر الله عز وجل.
فدلّ قوله: {فَمَا يَكُونُ لَكَ} على أن ذلك الوصف لا يُغتفر منه، لأن النفي بصيغة (ما يكون لك) أشد من النفي بـ (ليس لك كذا)، وهو يستلزم هنا نهياً؛ حيث نفاه عنه مع وقوعه، وعليه فتقييد نفي التكبر عنه بالكون في السماء؛ لوقوعه علّة للعقوبة، دلّ على عظم قبح التكبر وشناعته، وأنه معصية لا تليق بأهل العالم العلوي، ولهذا كان طرد إبليس من الجنة، وليس للمعصية ومخالفة أمر الله فحسب.
(2)
وممن استنبط هذا المعنى بدلالة هذه الآية: الطبري، والبيضاوي، وأبو السعود، وحقي، وغيرهم.
(3)
وقد تقدم الكلام عن قريب من هذه الدلالة في سورة البقرة، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر» .
(4)
(1)
وهذا على الراجح في مكان الجنة وأنها فوق السماء السابعة وتحت عرش الرحمن كما عليه أهل السنة والجماعة، وسيأتي بيانه في استنباط لاحق في السورة نفسها.
(2)
ينظر: التحرير والتنوير (8/ 44).
(3)
ينظر: جامع البيان (12/ 329)، وأنوار التنزيل 3/ 7، وإرشاد العقل السليم 3/ 217، وروح البيان 3/ 141.
(4)
تقدم تخريجه
والذي يظهر - والله تعالى أعلم- أنه طُرد لتكبره ولمخالفته لأمر الله بالمعصية أيضاً، فالجمع بين هذين السببين أولى من الاقتصار على أحدهما، ولا يقلّ ذلك في الدلالة على قبح التكبر، والتنبيه على شناعته كما استنبطه الخطيب، ولذلك طُرد وأُبعد قال تعالى:{فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} أي من أهل الصغار والهوان على الله، وعلى أوليائه يذُمّه كل إنسان ويلعنه كل لسان - عياذاً بالله منه- والله تعالى أجل وأعلم.
قبح كشف العورة لغير حاجة.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (بيّن علة الوسوسة بقوله تعالى: {لِيُبْدِيَ} أي: ليُظهر {لَهُمَا مَا وُورِيَ} أي: ستر وغطي {عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} أي: عوراتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر، وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة، وعند الزوجة من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع).
(1)
وجه الاستنباط:
أن آدم وحواء عليهما السلام كرها التعري ولم يكن معهما ثالث، فدلّ على قبح التعري وإن لم يكن مع المتعري أحد إلا لحاجة.
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة اللازم من قوله تعالى: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} وقوله سبحانه: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} قُبح كشف العورة؛ لأنه تعالى بيّن علة وسوسة إبليس لآدم وحواء في الجنة وطمعه في غوايتهما، حيث أراد أن يسوءهما بظهور ما كان مستوراً عنهما من عوراتهما، لأنهما كانا لا يريان عورة نفسيهما ولا يراها أحدهما من الآخر، فلمّا ذاقا الشجرة (بدت لهما سوآتهما)
(2)
، فلما ظهرت لهما عوراتهما وتجافى عنهما لباسهما، حتى أبصر كل
(1)
السراج المنير 1/ 536.
(2)
سميت العورة سوءة لأنّ انكشافها يسوء صاحبها، وقيل: كان لباسهما من النور يحول بينهما وبين النظر.
ينظر: جامع البيان 12/ 347، وتفسير القرآن العظيم 3/ 397، والدر المنثور 1/ 146.
واحد منهما ما ووري عنه من سوأة صاحبه حدث في نفسيهما الشعور بقبح بروزها، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعاً وكراهيةً بالفطرة التي فطرهم الله عليها.
(1)
وقد جاء في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» قال: أفرأيت إن كان الرجل خالياً قال: «فالله أحق أن يستحيا منه» .
(2)
وممن وافق الخطيب في استنباط هذه الدلالة من الآية: الرازي، والقرطبي، والبيضاوي، والنسفي، والخازن، وابن عادل، وحقي، والقاسمي، وغيرهم.
(3)
قال القرطبي: (في الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أوجب عليهما الستر، ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة، كما قيل لهما: ولا تقربا هذه الشجرة).
(4)
وهذه دلالة قوية الظهور، وعليه فعدم وجوب ستر العورة بين الزوجين لا يعني أن كشفها لغير حاجة مستساغ، بل هو مستهجن في الطبع تأنفه النفوس، وهو يتنافى مع الحياء الذي هو شعبة من الإيمان خاصة عند قضاء الحاجة، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: التحرير والتنوير (8/ 64).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه باب ماجاء في التعري، برقم (4017)(4/ 40)، والترمذي في سننه، باب ما جاء في حفظ العورة، برقم (2769)، (5/ 97)، وحسّنه الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 934).
(3)
ينظر: التفسير الكبير (14/ 218)، والجامع لأحكام القرآن (7/ 181)، وأنوار التنزيل (3/ 8)، ومدارك التنزيل (1/ 560)، ولباب التأويل (2/ 188)، وروح البيان (3/ 145)، ومحاسن التأويل (5/ 24)
(4)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 181).
مطلق النهي للتحريم.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله تعالى {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي: بيّن العداوة لكما، وقد أبان لكما عداوته بترك السجود تعنتاً وحسداً، وفي ذلك عتاب على مخالفة النهي وتوبيخ على الاغترار بقول العدوّ، ودليل على أنّ مطلق النهي للتحريم).
(1)
وجه الاستنباط:
أنه تعالى رتَّب الظلم على هذا النهي بقوله {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} ، ولو كان نهي تنزيه وكراهة لما استحق آدم بفعله الإخراج من الجنة، ولما وجبت التوبة عليه، واستحق عليه اللوم الشديد.
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة اللازم من هذه الآية أن مطلق النهي للتحريم؛ لأن قوله تعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} عتابٌ من الله لآدم وحواء وتوبيخٌ لهما حيث لم يحذرا ما حذّرهما منه بقوله {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19]، فقَرَن النهي بالوعيد، واستدَلّ بهذا الاقتران من قال أن مطلق النهي للتحريم؛ لما فيها من اللوم الشديد مع الندم والاستغفار المفهوم مما جاء بعدها {
(1)
السراج المنير 1/ 540
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الأعراف: 23 - 24]
قال ابن القيم: (ويستفاد كون النهي للتحريم من ذمِّه لمن ارتكبه وتسميته عاصياً وترتيبه العقاب على فعله).
(1)
والذي عليه جمهور أهل العلم أن الأصل في النهي هو التحريم، ولا يُنقل من التحريم إلى الكراهة إلا بدليل يدل على ذلك.
(2)
ويدلّ له قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]
وأيضاً ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا)
كذلك ما ثبت من فعل الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين- في غزوة خيبر لما نفَدَ الطعام واشتدّ بهم الجوع، أخذوا الحُمُر الأهلية فذبحوها، فجاء الصارخ فقال:(إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية)
(3)
فكفئوا القدور بما فيها، مع حاجة الناس إلى هذا الطعام، فلو كان هذا النهي على الكراهة لأكَل الناس، فدلّ على أن الأصل في النهي التحريم، إلى غير ذلك من الأدلة.
وممن استنبط هذه الدلالة من موضع هذه الآية: البيضاوي، وأبو السعود، والألوسي، والسعدي، وغيرهم من المفسرين.
(4)
(1)
بدائع الفوائد 4/ 3.
(2)
تقدم الحديث عن هذه المسألة في الاستنباط رقم (61)، وينظر: المحصول للرازي 2/ 281، والبحر المحيط للزركشي 3/ 294، وإرشاد الفحول للشوكاني 1/ 279.
(3)
الأحاديث تقدم تخريجها.
(4)
ينظر: أنوار التنزيل 2/ 109، وإرشاد العقل السليم 3/ 221، وروح المعاني 4/ 341، وتيسير الكريم الرحمن 1/ 49.
وعليه، فإن كل ما ورد النهي عنه فإنه حرام، إلا أن تأتي قرينة شرعية تصرف هذا النهي عن التحريم إلى الكراهة أو الإرشاد كما هي دلالة هذه الآية، والله تعالى أعلم.
الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند سواء في الكفر.
قال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَيَحْسَبُونَ} أي: يظنون {أَنَّهُمْ} مع ضلالهم {مُهْتَدُونَ} أي: على هداية وحق، وفيه دليل على أنّ الكافر الذي يظُن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند في الكفر سواء).
(1)
وجه الاستنباط:
أنه تعالى ذمَّ المخطئ الذي ظنّ أنه في دينه على الحق بأنه حقّ عليه الضلالة، وجعله في حكم الجاحد والمعاند، فعُلم منه أن مجرد الظن والحسبان لا يكفى في صحة الدين، بل لا بد فيه من الجزم واليقين، لأنه تعالى ذمّ الكفار بأنهم يحسبون أنهم مهتدون ولو كفى مجرد الحسبان فيه لما ذمّهم بذلك.
(2)
الدراسة:
استنبط الخطيب من هذه الآية بدلالة النصّ - مفهوم الموافقة - أنّ الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق مساوٍ للجاحد والمعاند في الكفر. لأنه تعالى أخبر
(1)
ينظر: السراج المنير (1/ 544)
(2)
ينظر: روح البيان لإسماعيل حقي (3/ 153)
أن الفريق الذي حقَّ عليهم الضلالة، إنما ضلوا عن سبيل الله، باتخاذهم الشياطين نصراء من دون الله، جهلاً منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك، فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحق، وأن الصواب ما أتوا.
قال الطبري: (وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عناداً منه لربه فيها
(1)
. لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلَّ وهو يحسب أنه هاد وفريق الهُدى فرق، وقد فرَّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية).
(2)
فهذه الآية وأمثالها في القرآن تدلّ على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى ; لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبساً ولا شبهة، فولايتهم للشياطين ضلالة، وحسبانهم ضلالهم هُدى ضلالة أيضاً، سواء كان ذلك كله عن خطأ أو عن عناد، إذ لا عذر للضال في ضلاله بالخطأ، لأن الله نصب الأدلة على الحق وعلى التمييز بين الحق والباطل وهذا من أوضح الأدلة في الرد على المعتزلة والقدرية.
(3)
قال ابن القيم: (لا عُذر لهذا وأمثاله من الضُلاَّل الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول، ولو ظن أنه مهتد فإنه مُفرَط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى فإذا ضلّ فإنما أُتي من تفريطه وإعراضه).
(4)
(1)
وهم المعتزلة والقدرية، ينظر: القدر للفريابي (1/ 233)، والانتصار في الرد على المعتزلة القدرية للعمراني (2/ 421)
(2)
جامع البيان (12/ 388)
(3)
ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (8/ 91)
(4)
مفتاح دار السعادة (1/ 44).
وقد وافق الخطيب في استنباط هذه الدلالة من الآية جمهور المفسرين كالطبري، والزجاج، والسمرقندي، والبغوي، والبيضاوي، والخازن، وابن عطية، وأبو حيان، وابن كثير، وأبو السعود، حقي، والقاسمي، وابن عاشور، والشنقيطي، وغيرهم.
(1)
قال البغوي: (فيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند سواء، ولا نفع له بظنه، فأعلم أنهم بالظن كافرون، وأنهم معذبون).
(2)
وبهذا يظهر صحة استنباط الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: جامع البيان (12/ 388)، ومعاني القرآن وإعرابه (2/ 331)، وتفسير القرآن للسمرقندي (1/ 511)، ومعالم التنزيل (2/ 188)، وأنوار التنزيل (3/ 11)، ولباب التأويل (2/ 194)، والمحرر الوجيز (2/ 392)، والبحر المحيط (5/ 39)، وتفسير القرآن العظيم (3/ 405)، وإرشاد العقل السليم (3/ 224)، وروح البيان (3/ 153)، ومحاسن التأويل (5/ 36)، والتحرير والتنوير (8/ 91)، وأضواء البيان (2/ 13).
(2)
معالم التنزيل (2/ 188).
الأصل في أنواع الزينة الإباحة.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (دلّت الآية على أنّ الأصل في الملابس وأنواع التجملات والمطاعم الإباحة، إلا ما ورد النصّ بخلافه؛ لأنّ الاستفهام في من للإنكار).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية بدلالة النص أن الأصل في المنافع والمطاعم وأنواع الزينة وكل مايُستطاب الإباحة والحِل، فلا يُمنع منها شيء إلا بنص صحيح صريح الدلالة، ويبقى ما عدا ذلك على أصل الإباحة. ووجه استنباطه من الآية كما حكاه الخطيب أن الاستفهام في قوله {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إنكاري؛ جاء لإنكار تحريم أنواع الزينة التي أخرجها الله لعباده، حيث أن إنكار الفاعل يوجب إنكار الفعل لعدمه بدونه.
(2)
والزينة في قول جمهور المفسرين: هي كل ما يتزين به الإنسان من ملبوس أوغيره من الأشياء المباحة.
(3)
(1)
السراج المنير 1/ 584.
(2)
ينظر: محاسن التأويل للقاسمي (5/ 46)
(3)
ينظر: جامع البيان (12/ 395، وتفسير القرآن 1/ 512، ومعالم التنزيل 2/ 189، وتفسير القرآن العظيم (3/ 408)، وغيرهم.
وعلى هذا فالأصل في الأشياء الإباحة، وهذه من القواعد الفقهية الثابتة وهي أصل معتبر في الشريعة عند الجمهور، وحكى بعضهم أن الأصل التوقف، وقيل الأصل الحرمة، والصحيح قول الجمهور.
(1)
وممن استنبط دلالة هذه الآية على هذا الأصل: البيضاوي، والرازي، وأبو السعود، وحقي، والقاسمي، وغيرهم.
(2)
فمقتضى هذه الآية حل كل المنافع، وأن الأصل في الأشياء الإباحة، وهي دلالة صحيحة نصَّ عليها الجمهور كما تقدم.
ويشهد لصحتها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ، وقوله سبحانه:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: البحر المحيط للزركشي 6/ 12، والموافقات للشاطبي 4/ 358، والأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 60)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/ 284).
(2)
ينظر: أنوار التنزيل (3/ 11)، والتفسير الكبير (14/ 231)، وإرشاد العقل السليم (3/ 224)، وروح البيان (3/ 156)، ومحاسن التأويل (5/ 46)
نوال الجنة إنما هو بأيسر الأعمال وبما هو في الوسع من غير كُلفة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (قوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} مبتدأ، وقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي: طاقتها من العمل، اعتراضٌ بينه وبين خبره وهو {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وإنما حسُن وقوع ذلك بين المبتدأ والخبر لأنه من جنس هذا الكلام؛ لأنّ الله تعالى لما ذكر عملهم الصالح دلّ ذلك على أنّ ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم، وفيه تنبيه للكفار على أنّ الجنة مع عظم قدرها ومحلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل كلفة ولا مشقة صعبة).
(1)
وجه الاستنباط:
أنه إذا عُلِم أن مبنى التكليف على الوسع، زادت الرغبة في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم لحصوله باليسر لا بالعسر.
(2)
الدراسة:
استنبط الخطيب من هذه الآية بدلالة اللازم أن الجنة إنما تُنال بالإيمان والعمل الصالح الذي يستطيعه الإنسان ويكون في وسعه من غير كُلفة، لا بما يعجز عنه ويشق عليه تحمله، وذلك مستفاد من التنبيه والاحتراز بقوله تعالى {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} إذ هو اعتراضٌ بين المبتدأ والخبر، فائدته الترغيب في
(1)
السراج المنير 1/ 546.
(2)
ينظر: محاسن التأويل للقاسمي (5/ 58)
اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله، وتيسير تحصيله والذي حسّنه سبق العمل الصالح قبله
(1)
، لأنه تعالى لما بشَّرهم بالجنة على فعل الصالحات طمئن قلوبهم بأنهم لا يُطالبوا من الأعمال الصالحة بما يخرج عن وسعهم، حتى إذا لم يبلغوا إليه أيسوا من الجنة، بل إنما يطلبون منها بما في وسعهم وفي طاقتهم وهذا مما يُرجي في رحمة الله ويُعلِم أنّ دينه يسر.
(2)
ويؤيد صحة هذه الدلالة قول ابن القيم: (وأحسن ما يقع هذا الاعتراض إذا تضمن تأكيداً أو تنبيهاً أو احترازاً كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فاعترض بين المبتدأ والخبر بقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} لما تضمنه ذلك من الاحتراز الدافع لتوهم متوهم أن الوعد إنما يستحقه من أتى بجميع الصالحات فرفع ذلك بقوله {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.)
(3)
وقال ابن كثير: (وينبّه تعالى على أن الإيمان والعمل به سهل؛ لأنه تعالى قال: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ})
(4)
.
وممن نصّ على هذا التنبيه موافقاً الخطيب: ابن عطية، والرازي، والبيضاوي، وابن جزي، والخازن، وابن القيم، وأبوحيان، وابن كثير، والنيسابوري، وأبو السعود، والقاسمي، وابن عاشور، والألوسي، وغيرهم.
(5)
(1)
ينظر: محاسن التأويل للقاسمي (5/ 58)
(2)
ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (8/ 130)
(3)
التبيان في أقسام القرآن (1/ 222)
(4)
تفسير القرآن العظيم (3/ 415)
(5)
ينظر: المحرر الوجيز (2/ 401)، والتفسير الكبير (14/ 242)، وأنوار التنزيل (3/ 13)، والتسهيل (1/ 288)، ولباب التأويل (2/ 200)، والتبيان في أقسام القرآن لابن القيم (1/ 222)، والبحر المحيط (5/ 52)، وتفسير القرآن العظيم (3/ 415)، وغرائب القرآن (3/ 235)، وإرشاد العقل السليم (3/ 228)، ومحاسن التأويل (5/ 58)، والتحرير والتنوير (8/ 130)، وروح المعاني (4/ 359).
قال النيسابوري: (فيه تنبيه للمقصرين على أن الجنة مع عظم قدرها تحصل بالعمل السهل من غير ما حرج وصعوبة فبُعداً لمن فاتته وسُحقاً لمن فارقته).
(1)
وهذه الآية من الآيات الدالة على رفع الحرج وعدم التكليف بما لا يطاق، وهي حجة لأهل السنة على من خالفهم
(2)
، وتضمنت هذه الإشارة اللطيفة كما نصَّ عليها الخطيب وغيره، والله تعالى أعلم.
(1)
غرائب القرآن (3/ 235)
(2)
ينظر: التوحيد للماتريدي (1/ 263)، ومجوع الفتاوى (8/ 279)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 96)، والانتصار في الرد على المعتزلة القدرية للعمراني (2/ 463).
الجنة فوق النار.
قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} أي: صبوه، وهو دليل على أنّ الجنة فوق النار).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية أن الجنة فوق النار بدلالة اللازم من قوله {أَفِيضُوا} لأن أصل الإفاضة الصب
(2)
، والصبَّ يكون من عُلو إلى سُفل.
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية: الزمخشري، والبيضاوي، والنسفي، وابن جزي، وأبو السعود، والألوسي، وغيرهم.
(3)
فدلَّ بالإفاضة على علو الجنة وهي إشارة لطيفة، موافقة لما عليه أهل السنة والجماعة من أن الجنة فوق السماء السابعة وتحت عرش الرحمن، كما قال تعالى:{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 14 - 15]
(1)
ينظر: السراج المنير (1/ 551).
(2)
يقال: أفاضَ إناءه، أي ملأه حتَّى فاضَ. وأفاضَ دموعه، وأفاضَتْ دموعه. وأفاضَ الماء على نفسه، أي أفرغَه. ينظر: الصحاح (3/ 1099)، ومختار الصحاح (1/ 245)، ومقاييس اللغة (4/ 465)، وأصل الإفاضة الصب. ينظر: لسان العرب (7/ 213)، و (7/ 210) مادة (فيض).
(3)
ينظر: الكشاف (2/ 108)، وأنوار التنزيل (3/ 15)، ومدارك التنزيل (1/ 571)، والتسهيل لعلوم التنزيل (1/ 289)، وإرشاد العقل السليم (3/ 231)، وروح المعاني (4/ 365).
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» .
(1)
فدلَّ بهذا الحديث أن الجنة تحت عرش الرحمن.
وفي قصة الإسراء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيها: "
…
في السماء السابعة، فإذا أنا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى .. الحديث"
(2)
فثبت بهذا الحديث أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة، وعليه فالجنة - والعلم عند الله تعالى - فوق السماء السابعة، وتحت عرش الرحمن، كما دل عليه هذين الحديثين.
(3)
وجاء في تفسير قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18]. قال ابن عباس: الجنة، وقيل: عليون في السماء السابعة تحت العرش.
(4)
وأما النار ففي مكان يعلمه الله، وهي في أسفل سافلين، كما أخبر سبحانه، وجاء في تفسير قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 7 - 9]
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، برقم (7423)، (9/ 125)
(2)
تقدم تخريجه
(3)
وفي صحيح مسلم أن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. تقدم تخريجه، ينظر الاستنباط رقم:(7)، (18).
(4)
ينظر: جامع البيان للطبري (24/ 291 ومابعدها)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/ 352)، وفتح القدير للشوكاني 5/ 490.
قال ابن كثير: (والصحيح أن سجيناً مأخوذ من السجن وهو الضيق، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع، فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه، وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة، ومصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين، كما قال تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقال: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} وهو يجمع الضيق والسفول كما قال تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} )
(1)
[الفرقان: 13]
والحق أنه لم يأت دليل صحيح يعين مكان جهنم، لكننا نجزم يقيناً بأن الله خلقها وأنها موجودة الآن كما دلت عليه الآيات والأحاديث.
(2)
قال السيوطي: (ونقف عن النار- أي نقول فيها بالوقف - أي محلها حيث لا يعلمه إلا الله، فلم يثبت عندي حديث أعتمده في ذلك).
(3)
وعلى هذا فدلالة الآية على علو الجنة صحيحة، وأما أنها أعلى من النار فهذا ما لا يمكن الجزم به، ولعل من حكمة الله تعالى عدم إطلاعنا على مكان النار؛ إذ لو عُلِم مكانها يقيناً لما فرح أحد على وجه الأرض، والله تعالى أعلم وأحكم.
(1)
تفسير القرآن العظيم 8/ 349 بتصرف يسير.
(2)
تقدمت عند قوله تعالى {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 133] وينظر: شرح الطحاوية للراجحي (1/ 320)، شرح لمعة الاعتقاد للمحمود (11/ 16)، والجنة والنار لعمر الأشقر (1/ 21)
(3)
إتمام الدراية لقراء النقاية 1/ 15.
في حكاية قصص الأنبياء السابقين دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله عند هذه الآية: (فيه دليل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب ولم يلق أحداً من علماء زمانه، وقد أتى بمثل هذه القصص والأخبار عن القرون الماضية والأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد، فعُلم بذلك أنه إنما أتى من عند الله، وأنه أوحى إليه بذلك فكان ذلك دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً على صحة نبوّته صلى الله عليه وسلم.
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من قصة نوح عليه السلام مع قومه، وأمثالها في القرآن دلالتها باللازم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث إنه إخبار بالغيب؛ لأنه كان أمياً لا يخط، ولا يقرأ، ولم يدارس أحداً، وقد جاء بهذه القصص والأخبار عن الأنبياء والرسل والأمم السابقة وأحوالهم، بما يطابق ما جاء في كتب أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فمجيء هذه القصص على هذا الوجه من غير تحريف ولا خطأ يدلّ على أنه إنما عرفها بالوحي الذي يوحى إليه من ربه لا محالة، وذلك يدل على صحة نبوته، ويشهد له قوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].
قال الطبري: (إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، ولم يكن علمُ ذلك إلا عند أهل
(1)
السراج المنير (1/ 557)
الكتاب، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم، بل كان أمياً وقومه أميون، فكان معلوماً بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه.)
(1)
وقال الرازي مؤيداً ذلك: (ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب، أما أهل الكتاب فلأنهم كانوا يعلمون هذه القصص فلما سمعوها من محمد من غير تفاوت أصلاً، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوحي. وأما العرب فلما يشاهدون من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار).
(2)
وممن استنبط دلالة صحة نبوته صلى الله عليه وسلم من قصص آية سورة الأعراف: الرازي، والخازن، والنيسابوري، والقاسمي، وابن عاشور،
(3)
وغيرهم.
(4)
والآيات المشيرة لإثبات رسالته عليه الصلاة والسلام بدليل إخباره بالقصص الماضية التي لا يمكنه علم حقائقها إلا عن طريق الوحي كثيرة، كقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
(1)
جامع البيان 5/ 442.
(2)
التفسير الكبير 3/ 559
(3)
ينظر: التفسير الكبير 14/ 293، ولباب التأويل 2/ 214، وغرائب القرآن 3/ 265، ومحاسن التأويل 5/ 109.
(4)
استنبط كثير من المفسرين هذه الدلالة من قصص الأنبياء في غير هذه الآية، ينظر على سبيل المثال: جامع البيان 5/ 442، وأحكام القرآن للجصاص (2/ 301)، وزاد المسير 2/ 475، والجامع لأحكام القرآن (18/ 34)، والتسهيل (1/ 397)، وروح المعاني (2/ 220)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 408)، وأضواء البيان 2/ 218.
إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]، وقوله سبحانه في قصة يوسف:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102].
(1)
فحكايته عليه الصلاة والسلام أنباء من سبق من الأمم بوقائعها الصحيحة الدقيقة حكاية من شهدها وحضرها بما لا يدع مجالًا لإعمال الفكر ودقِّة الفراسة هي أكبر دليل على صحة نبوته. فمِن أين أتى بهذه الدقائق الصحيحة لو لم يكن يُوحى إليه وهو الرجل الأمي الذي عاش في أُمة أمية لا تكتب ولا تحسب؟
(2)
، وهو استنباط حسن قوي، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: أضواء البيان للشنقيطي 2/ 218.
(2)
ينظر بسط هذه الدلالة في كتب الإعجاز وعلوم القرآن كما في: إعجاز القرآن للباقلاني (1/ 49)، والقرآن وإعجازه العلمي لمحمد إسماعيل إبراهيم (1/ 22)، والبرهان في علوم القرآن للزركشي (3/ 28)، ومباحث في علوم القرآن لمناع القطان (1/ 41) وغيرها.
جواز مدح الإنسان نفسه عند الحاجة والضرورة
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (فإن قيل: مدح الذات بأعظم صفات المدح غير لائق بالعقلاء؟
أجيب: بأنه فعَل هود ذلك؛ لأنه كان يجب عليه إعلام قومه بذلك، ومقصوده الرد عليهم في قولهم:{وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فوصف نفسه بالأمانة، وأنه أمين في تبليغ ما أرسل به من عند الله، وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها).
(1)
وجه الاستنباط:
الاقتداء بالأنبياء عليهم السلام في أفعالهم، حيث وصف نبيُ الله هود نفسه بصفتين عظيمتين هما: النصح والأمانة لحاجته لذلك المدح في ذلك المقام.
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على جواز مدح الإنسان نفسه عند الحاجة والضرورة، فقول هود عليه السلام لقومه:{وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} جاء رداً عليهم في قولهم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فجاء
(1)
السراج المنير (1/ 560)
بوصف النصح والأمانة التي هي من أعظم الصفات، ولا أمانة أعظم من أمانة الرسالة، فدلَّ على جواز مدح الإنسان نفسه عند الحاجة.
ولا يتعارض مثل هذا مع النهي عن المديح وتزكية النفس في قوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 33].
قال النووي: (وأما النهي عن تزكية النفس فإنما هو لمن زكَّاها ومدحها لغير حاجة بل للفخر والإعجاب، وقد كثرت تزكية النفس من الأماثل عند الحاجة، كدفع شرٍ عنه بذلك أو تحصيل مصلحة للناس، أو ترغيب في أخذ العلم عنه أو نحو ذلك، فمن المصلحة قول يوسف – عليه السلام – {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ} [يوسف: 55]، وأشباهه).
(1)
وهذا القول من يوسف عليه السلام دليل أيضاً على صحة هذه الدلالة التي استنبطها الخطيب حيث اضطر يوسف عليه السلام لتزكية نفسىه للحاجة إلى ذلك؛ وذلك أنه لم يكن بحضرته من يعرف حقه فيثني عليه بما هو فيه ويعرف فضله، ورأى أن ذلك المكان لا يقعده غيره من أهل وقته إلا قصَّر عما يجب لله عز وجل من القيام به من حقوقه، فدلَّ بذلك على أنه جائزٌ للعالم الثناء على نفسه
(2)
، والتنبيه على موضعه، وأن من أدب العالم ترك الدعوى لما لا يحسنه، وترك الفخر بما يحسنه إلا أن يضطر إلى ذلك.
(3)
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 17)، بتصرف يسير.
(2)
قال ابن حجر في شرحه لقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه «إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله
…
»: قال ابن الجوزي: «إن قيل كيف ساغ لسعد أن يمدح نفسه ومن شأن المؤمن ترك ذلك لثبوت النهي عنه؟ فالجواب أن ذلك ساغ له لما عيّره الجُهال بأنه لا يحسن الصلاة! فاضطر إلى ذكر فضله. والمِدحَة إذا خلت عن البغي والاستطالة، وكان مقصود قائلها إظهار الحق وشكر نعمة الله لم يكره، كما لو قال القائل: إني لحافظ لكتاب الله، عالم بتفسيره، وبالفقه في الدين، قاصداً إظهار الشكر، أو تعريف ما عنده ليستفاد منه، ولو لم يقل ذلك لم يُعلم حاله» ) فتح الباري (11/ 291)، وينظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (1/ 240)، وتحفة الأحوذي للمباركفوري 7/ 26
(3)
ينظر: جامع بيان العلم لابن عبد البر 1/ 576.
وممن استنبط هذه الدلالة من الآية موافقاً الخطيب: الرازي، والخازن، والنيسابوري، وغيرهم.
(1)
وبهذا يتضح أن لهذه المسألة أصل في الشرع
(2)
والنهي عن مدح النفس وتزكيتها ليس على إطلاقه، بل إن ذلك متوقف على تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، والضابط فيه الضرورة والحاجة، وهو ما دلت علية الآية كما استنبطه الخطيب، والله تعالى أعلم.
(1)
التفسير الكبير للرازي (14/ 301)، ولباب التأويل للخازن (2/ 217)، وغرائب القرآن للنيسابوري (3/ 266).
(2)
ينظر: جامع بيان العلم لابن عبد البر 1/ 576، وشرح النووي على صحيح مسلم (16/ 17)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 163).
ما يجب على الناصح من الرفق والصبر.
قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 66 - 67]
ذكر الخطيب الشربيني رحمه الله عند هذه الآية تنبيهاً فقال: (في إجابة الأنبياء الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإعراض عن مقالتهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة وهكذا ينبغي لكل ناصح).
(1)
وجه الاستنباط:
في رد هود عليه السلام على قومه حيث لم يقابل سفاهتهم بالسفاهة، ولم يزد على قوله:{لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} وذلك يدل على أن ترك الانتقام أولى.
(2)
الدراسة:
استنبط الخطيب من خطاب قوم هود- عليه السلام في الآية استنباطاً تربوياً حيث كان جواب هود لما رماه قومه بخفة الحلم وكثرة الطيش أن نفى ذلك عن نفسه فقال: (ليس بى سفاهة) فردّ ذلك عليهم برد لطيف، ونزّه عليه السلام عبارته عن شنيع عبارتهم وقبح مواجتهم، سالكاً بذلك طريق حسن المجادلة مع ما سمع منهم من شنيع الكلام الموجب لتغليظ القول والمشافهة بالسوء، وقبله رد نوح عليه السلام:{قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف: 61 - 62]، فكل ما ردُّوا به هو
(1)
السراج المنير (1/ 560)
(2)
ينظر: التفسير الكبير للرازي 14/ 301
نفي التهمة، وبيان أنهم رسل الله، مما ينبيء عن كمال الحلم والعقل، والرزانة وغاية النصح والشفقة بأقوامهم، وكذلك سائر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع من عاداهم وظلمهم، وفيه من الدلالة على حيازتهم القدر الأكبر من مكارم الأخلاق ما لا يخفى، وهو تنبيه- بدلالة اللازم - لمن دونهم أن يحذوا حذوهم ويقتدوا بهم.
(1)
قال الزمخشري: (وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة، بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم- أدب حَسَن وخُلق عظيم، وحكاية الله عز وجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم).
(2)
وهي فائدة حسنة، نصَّ عليها كثير من المفسرين كالزجاج، والزمخشري، والنيسابوري، والرازي، والبيضاوي، والنسفي، وأبو حيان، وابن كثير، وأبو السعود، وحقي، والألوسي، والقاسمي، وغيرهم.
(3)
(1)
ينظر: ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل لأحمد بن الزبير الغرناطي 1/ 197، وقصص الأنبياء لابن كثير (1/ 127)، وإرشاد العقل السليم (3/ 238)، وروح البيان 3/ 185، ودعوة الرسل عليهم السلام لأحمد علوش 1/ 544.
(2)
الكشاف 2/ 116.
(3)
: ينظر: معاني القرآن وإعرابه (2/ 347)، والكشاف 2/ 116، وغرائب القرآن 3/ 269، والتفسير الكبير للرازي 14/ 301، وأنوار التنزيل 3/ 19، ومدارك التنزيل 1/ 578، والبحر المحيط 5/ 87، والبداية والنهاية لابن كثير (1/ 141)، وإرشاد العقل السليم 3/ 238، وروح البيان 3/ 185، وروح المعاني 4/ 493، ومحاسن التأويل 5/ 116.
قال الزجاج: (هذا موضع أدب للخلق في حسن الحوار وفي المخاطبة، أنه دَفَع مانسبوه إليه من السفاهة بأن قال: ليس بي سفاهة، فدفَعهم بنفي ما قالوا فقط).
(1)
(1)
معاني القرآن وإعرابه (2/ 347)
وهذا شأن الناصح أن يُسدي نصيحته للمنصوح بصورة الرحمة له والشفقة والغيرة عليه، ومرادُ الناصح بها وجه الله ورضاه، والإحسان إلى خلقه، فيتلطَّف في بذلها غاية التّلطُّف، ويحتمل أذى المنصوح ولائِمَتَه، ويحتمل سوء خُلُقِه ونفرتَه، ويتلطَّف في وصولها إليه بكلِّ ممكن.
(1)
والله تعالى أعلم.
جواز رؤية الله تعالى عقلاً، ووقوعها شرعاً.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله – عند قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} : (ثاني مفعولي أرني محذوف أي: أرني نفسك أنظر إليك. فإن قيل: الرؤية عين النظر فكيف قيل: أرني أنظر إليك؟
أُجيب: بأنّ معنى أرني نفسك، اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك، وفي هذا دليل على أنّ رؤيته تعالى جائزة في الجملة
(2)
، لأنّ
(1)
ينظر: البداية والنهاية (1/ 141)، وقصص الأنبياء لابن كثير (1/ 127)، ودعوة الرسل عليهم السلام لأحمد علوش (1/ 544)، وأصول الدعوة لعبدالكريم زيدان (1/ 429).
(2)
قوله: (في الجملة) يعني بقطع النظر عن الدنيا والآخرة، لأنّ طلب المستحيل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام محال؛ لأنه إن علِمَ باستحالته، فطلبُه عبث، وان لم يعلم فجهل، وكلاهما غير لائق بمنصب النبوّة. ينظر: حاشيه الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي (4/ 213)
طلب المستحيل من الأنبياء محال خصوصاً ما يقتضي الجهل بالله تعالى، ولذلك ردّه بأن {قَالَ} له {لَنْ تَرَانِي} دون لن أُرى، ولن أريك، ولن تنظر إليّ؛ تنبيهاً على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على بُعد في الرائي لم يوجد فيه بَعد
(1)
، وجعلُ السؤال لتبكيت قومه الذين: قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء، 153] كما قاله الزمخشري
(2)
أشدّ خطأ؛ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيل شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} ، والاستدلال بالجواب وهو قوله تعالى:{لَنْ تَرَانِي} على استحالتها أشدّ خطأ؛ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أنه لا يراه أبداً، وأن لا يراه غيره أصلاً، فضلاً عن أن يدل على استحالته، فإنّ أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة قالوا:(لن) تكون لتأبيد النفي
(3)
وهو خطأ؛ لأنها لو كانت للتأبيد لزم التناقض بذكر اليوم في قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]، ولزم التكرار بذكر أبداً في قوله تعالى:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95]، ولن تجتمع مع ما هو لانتهاء الغاية نحو قوله تعالى:{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80]، وأمّا تأبيد النفي في قوله تعالى:{لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} [الحج: 73] فلأمر خارجيّ لا من مقتضيات (لن)، ولا تقتضي تأكيد النفي أيضاً، خلافاً للزمخشريّ في كشافه
(4)
، بل قولك: لن أقوم، محتمل لأن تريد به أنك لا
(1)
وهذا في الدنيا، فلا أحد يرى الله تعالى في الدنيا؛ لضعف أجسام الناس ومداركهم عن رؤية الله، فإن الله أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها، ولا يثبتون لرؤية الله، أما في الآخرة فإن الله يعطي المؤمنين قوة بها يستطيعون أن يروا ربهم سبحانه وتعالى،وأمور الآخرة تختلف عن أمور الدنيا. ينظر: تيسير الكريم الرحمن (1/ 302)
(2)
ينظر: الكشاف (2/ 154)
(3)
ويقصدون بتأبيد النفي نفي رؤية الله في الآخرة، وسيأتي مزيد بيان وتفصيل لقصدهم وبطلانه.
(4)
ينظر: الكشاف (2/ 154)
تقوم أبداً، وأنك لا تقوم في بعض الأزمنة المستقبلة وهو موافق لقولك: لا أقوم، في عدم إفادة التأكيد، وقوله تعالى:{وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيق الرؤية، وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضاً دليل على جوازها لأنّ استقرار الجبل عند التجلي ممكن بأن يجعل الله تعالى له قوّة على ذلك والمعلق على الممكن ممكن.)
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب بدلالة اللازم من الآية جواز رؤية الله تعالى وإمكانها وعدم استحالتها عقلاً كما زعم نفاة الرؤية
(2)
، بدليل قوله تعالى:{قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} ، فلو كانت الرؤية مستحيلة لما طلبها موسى عليه السلام – من الله، لأنه كان أعلم بالله من أن يسأل ما يستحيل في وصفه، فلا يجوز أن يجهل موسى مثل ذلك، إذ معرفة الأنبياء لله ليس فيها نقص، وعليه فطلب المستحيل من الأنبياء غير ممكن، خاصة فيما يقتضي نسبة الجهل إليهم بالله تعالى.
وفي قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} دليل على جواز الرؤية أيضاً؛ لأنه لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أُرى. قال ابن عباس في رواية عطاء: «لن تراني في الدنيا» .
(3)
وقد استنبط جواز الرؤية بدلالة هذه الآية جمهور المفسرين.
(4)
(1)
السراج المنير (1/ 586)
(2)
من أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة كما سيأتي بيانه.
(3)
ينظر: التفسير الوسيط للواحدي (2/ 406)، وزاد المسير (2/ 152)
(4)
ينظر: التفسير الوسيط (2/ 406) تفسير السمعاني (2/ 212)، ومعالم التنزيل (2/ 228)، والمحرر الوجيز (2/ 450)، وزاد المسير (2/ 152)، والتفسير الكبير (14/ 354)، والجامع لأحكام القرآن (7/ 279)، وأنوار التنزيل (3/ 33)، والتفسير المظهري (3/ 403)، والتسهيل (1/ 300)، وتفسير القرآن العظيم (3/ 469)، والإكليل (1/ 131)، وإرشاد العقل السليم (3/ 269)، وفتح القدير (2/ 276)، ومحاسن التأويل (5/ 179).
وتعلق نفاة الرؤية من أهل البدع، والخوارج، والمعتزلة، وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية
(1)
، وقالوا: قال الله {لَنْ تَرَانِي} ، ولن تكون للتأبيد والدوام
(2)
، ولا حجة لهم فيها ولا دليل، ولا يشهد لهم في ذلك كتاب ولا سنة، ولا نص عن أهل اللغة، بل هو خطأ بيِّن ودعوى كاذبة، ومعنى الآية: لن تراني في الدنيا أو في الحال
(3)
، لأنه كان يسأل الرؤية في الحال، ويدل على صحة ذلك، وأن (لن) لا تكون للتأبيد: قوله تعالى في صفة اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95]، ثم أخبر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرة، قال تعالى:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]، وقوله {يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة: 27]، والدليل أنه لم ينسبه إلى الجهل بسؤال الرؤية، وأنه لم يقل: إني لا أُرى حتى تكون لهم حجة، بل علَّق الرؤية على استقرار الجبل، واستقرار الجبل عند التجلي غير مستحيل إذا جعل الله تعالى له تلك القوة، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالا.
(4)
(1)
ينظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل (1/ 133)، وينظر في الرد على المعتزلة: مجموع الفتاوى (6/ 499)، والإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري (1/ 46)، والانتصار في الرد على المعتزلة للعمراني (2/ 641)، ولمعة الاعتقاد لابن قدامة (1/ 22).
(2)
أشكل حرف: لن، هنا على كثير من العلماء لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة، وهذا أضعف الأقوال لأنه قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن المؤمنين يرونه في الآخرة، وقيل: إنها لنفي التأبيد في الدنيا جمعاً بين هذه وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة. ينظر: عمدة القاري للغيتابي (15/ 294)، وتفسير القرآن العظيم (3/ 469)
(3)
ينظر: تفسير السمعاني (2/ 212)، ومعالم التنزيل (2/ 229)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 302).
(4)
ينظر: المراجع السابقة، ولباب التأويل للخازن (2/ 245)، وفتح القدير للشوكاني (2/ 277).
قال السمعاني: (يستدل من ينفي الرؤية بهذه الكلمة {لَنْ تَرَانِي}، وليس لهم فيها مستدل؛ وذلك لأنه لم يقل: إني لا أُرى؛ حتى يكون حجة لهم؛ ولأنه لم ينسبه إلى الجهل في سؤال الرؤية، كما نسب إليه قومه بقولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} لما لم يجز ذلك، وأما معنى قوله {لَنْ تَرَانِي}، يعني: في الحال أو في الدنيا. {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} .. وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يرى؛ لأنه لم يعلق الرؤية بما يستحيل وجوده؛ لأن استقرار الجبل مع تجليه له غير مستحيل، بأن يجعل له قوة الاستقرار مع التجلي).
(1)
وعليه فلو صح أن {لَنْ} لتأبيد النفي، فيكون معنى {لَنْ تَرَانِي} محمولاً على الدنيا، أي: لن تراني في الدنيا، جمعاً بين دلائل الكتاب والسنة، فإنه قد ثبت أن المؤمنين يرون ربهم عز وجل في الآخرة بالأحاديث المتواترة
(2)
، منها: حديث أبي هريرة
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«إنكم سترون ربكم عياناً، كما ترون هذا، لا تُضامون في رؤيته»
(4)
، وغيرها من الأحاديث التي تثبت رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة.
(1)
تفسير السمعاني (2/ 212).
(2)
قال ابن أبي العز: (أما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم الدالة على الرؤية فمتواترة، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن). شرح الطحاوية (1/ 215)، وينظر: طريق الهجرتين لابن القيم (1/ 59)، ومفتاح دار السعادة (2/ 123)، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (1/ 292)
(3)
أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب: قول الله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] برقم (7434)(9/ 128)، ومسلم في كتاب، باب برقم (633) كتاب الإيمان باب معرفة طريق الرؤية (1/ 163)
(4)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} برقم (4851)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، برقم (181)، (1/ 171).
وعلى هذا فرؤية الله عز وجل ثابتة عند الأشعرية وأهل السنة، جائزة عقلاً كما هي دلالة هذه الآية، وقال بها الخطيب، لكن الأشاعرة يختلفون في إثباتها عن أهل السنة والجماعة، فهم يقولون:(نظرٌ لا إلى جهة)
(1)
؛ لأنهم ينفون الجهة والمقابلة، فيجعلونها رؤية بقوى يحدثها الله تعالى في الأجسام يوم القيامة لا إلى جهة.
أما أهل السنَّة والجماعة فيجعلون الرؤية بالعينين إلى جهة العلو حيث اللهُ جلّ وعلا.
(2)
وبهذا يظهر اختلاف إثباتهم للرؤية عن إثبات أهل السنة، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: الحرة للباقلاني (1/ 187)، والتمهيد للباقلاني (1/ 277)، والاعتصام للشاطبي (2/ 326)، وينظر: منهج الأشاعرة في العقيدة لسفر الحوالي (1/ 91).
(2)
ينظر: معارج القبول للحكمي (2/ 772)، وصفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي السقاف (1/ 95).
السيئات كلها مشتركة في قبول التوبة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)} [الأعراف: 153]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} أي: عملوا الأعمال السيئة ويدخل في ذلك كل ذنب حتى الكفر .. ، وفي الآية دليل على أنّ السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة، وأنّ الله تعالى يغفرها جميعاً بفضله ورحمته، فإنّ عفوه وكرمه أعظم وأجل، وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين التائبين، وتقدير الآية: أنّ من أتى بجميع السيئات ثم تاب إلى الله تعالى وأخلص التوبة فإنّ الله يغفرها له ويقبل توبته).
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها بالنَّص على أنّ السيئات كلها صغيرها وكبيرها مشتركة في قبول التوبة منها؛ إذ ظاهر الآية يدل على أن التوبة هي شرط العفو، ولكن عموم لفظ السيئات يدل على أن من أتى بجميع المعاصي، ثم تاب فإن الله يغفرها له، وفيه الترغيب في التوبة، والحث على المبادرة إليها؛ حيث تضمنت هذه الآية الوعد بأن الله عز وجل يغفر للتائبين.
وممن نصَّ على هذه الدلالة من الآية: الطبري، والرازي، والخازن، وابن كثير، والنيسابوري، والسعدي، وغيرهم.
(2)
(1)
السراج المنير (1/ 594)
(2)
ينظر: جامع البيان (13/ 136)، والتفسير الكبير (15/ 374)، ولباب التأويل (2/ 253)، وتفسير القرآن العظيم (3/ 478)، وغرائب القرآن (3/ 323)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 304).
قال الطبري: (وهذا خبر من الله تعالى ذِكره أنه قابِل من كل تائب إليه من ذنب أتاه، صغيرة كانت معصيته أو كبيرة، كُفراً كانت أو غير كفر، كما قبِل من عبدة العجل توبتهم بعد كفرهم به بعبادتهم العجل وارتدادهم عن دينهم).
(1)
فنبَّه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان، حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق؛ ولهذا عقَّب هذه القصة بقوله:{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .
(2)
وفي هذا رد على المعتزلة القائلين بوجوب وعيد الفساق، وأن مغفرة الذنب بدون التوبة منه من المحال الممتنع.
(3)
، والحق أن المغفرة لما عدا الشرك موكولة إلى المشيئة، غير ممتنعة عقلاً، ثم هي واقعة نقلاً
(4)
، وأهل السنة لا يقطعون للمؤمن مرتكب الكبيرة بالعقوبة ولا بالعفو، بل هو في مشيئة الله، وإنما يقطعون بعدم الخلود في النار بمقتضى ما سبق من وعده تعالى وثبت بالدليل
(5)
، خلافاً للمعتزلة والخوارج
(6)
، وهو استنباط حسن من الآية، والله تعالى أعلم.
(1)
جامع البيان للطبري (13/ 137)
(2)
ينظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 478).
(3)
ينظر الرد عليهم في: لوامع الأنوار البهية (1/ 389)، والانتصار في الرد على المعتزلة (3/ 669)، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن عبدالوهاب التميمي (1/ 79)، ومعارج القبول للحكمي (3/ 1004).
(4)
ينظر: حاشية الانتصاف على الكشاف لأحمد بن المنير (2/ 162)
(5)
ينظر: لوامع الأنوار البهية (1/ 389)، وفتح الباري (1/ 68).
(6)
قالت المعتزلة: نقطع له بالعذاب الدائم، والبقاء المخلد في النار، لكنه عندهم يعذب عذاب الفساق لا عذاب الكفار، وأما الخوارج فعندهم أنه يعذب عذاب الكفار لكفره عندهم. ينظر: شرح الطحاوية (2/ 442).
أن الله تعالى خالق أفعال العباد جميعها خيرها وشرّها.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (في الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله تعالى خالق أفعال العباد جميعها خيرها وشرّها؛ لأنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيراً من الجنّ والإنس للنار، ولا مزيد على بيان الله تعالى؛ ولأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار، فلما عمل بما يوجب عليه دخول النار به عُلم أنّ له من يضطرّه إلى ذلك العمل الموجب لدخول النار وهو الله تعالى.
(1)
)
(2)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على صحة مذهب أهل السنة في خلق الله تعالى أفعال العباد جميعها خيرها وشرّها، خلافاً لمن زعم غير ذلك؛ لأنه تعالى قال {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} فبيّن أنه خلق كثيراً من الجنّ والإنس للنار
(3)
، واللام في {لِجَهَنَّمَ} للتعليل، أي خلقنا كثيراً لأجل جهنم
(4)
، وهم الذين حقت عليهم
(1)
قوله (يضطرّه إلى ذلك العمل الموجب لدخول النار وهو الله تعالى) هذه العبارة توهم موافقة مذهب الجبرية لكنها ليست كذلك، بدليل بيانه ورده على الجبرية في أكثر من موضع، كما يظهر جلياً في استنباطاته، ينظر منها على سبيل المثال: السراج المنير (2/ 26)
(2)
السراج المنير (1/ 610)
(3)
ينظر: جامع البيان (13/ 276)، وتفسير القرآن للسمرقندي (1/ 568)
(4)
ينظر: المرجع السابق، ومعالم التنزيل (2/ 252).
الكلمة الأزلية بالشقاوة، ولا مزيد على بيان الله تعالى، فمن خلقه الله لجهنم فلا حيلة له في الخلاص منها.
(1)
وقالت المعتزلة: ليس هذا مراد الآية، لأن كثيراً من الآيات دلَّت على أنه تعالى أراد من الكل الطاعة والعبادة كما في قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وجعلوا اللام في هذه الآية للعاقبة، لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنه لا استحقاق للنار، والمعنى: خلقناهم للطاعة فآل أمرهم إليها – أي إلى جهنم-
(2)
.
وقول المعتزلة هذا بأن اللام للعاقبة هو فرار عن إرادة الله المعاصي، وهو عدول عن ظاهر الآية الكريمة
(3)
؛ لأنه يلزم منه كون الكفر مراد الله تعالى وهو خلاف مذهبهم.
قال الرازي: (واعلم أن المصير في التأويل إنما يحسن إذا ثبت بالدليل امتناع العقل حمل هذا اللفظ على ظاهره، وأما لما ثبت بالدليل أنه لا حق إلا ما دلَّ عليه ظاهر اللفظ، كان المصير إلى التأويل في مثل هذا المقام عبثاً. وأما الآيات التي تمسكوا بها في إثبات مذهب المعتزلة، فهي معارضة بالبحار الزاخرة المملوءة من الآيات الدالة على مذهب أهل السنة، ومن جملتها ما قبل هذه الآية وهو قوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ
(1)
ينظر: التفسير الوسيط للواحدي (2/ 428)، ومعالم التنزيل للبغوي (2/ 252).
(2)
ينظر: غرائب التفسير وعجائب التأويل للكرماني (1/ 428)، وينظر: مدارك التنزيل (1/ 619).
(3)
قال الزمخشري: (جعلهم لإغراقهم في الكفر، وشدة شكائمهم فيه، وأنه لا يأتى منهم إلا أفعال أهل النار، مخلوقين للنار، دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار). الكشاف (2/ 179) وهذا يقتضي الاستعارة في ذرأنا وهو تكلف راعى به قواعد الاعتزال في خلق أفعال العباد وفي نسبة ذلك إلى الله تعالى. ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (9/ 182 وما بعدها).
فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 178] وهو صريح مذهبنا، وما بعد هذه الآية وهو قوله:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182، 183]، ولما كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلا ما يقوي قولنا ويشيد مذهبنا، كان كلام المعتزلة في وجوب تأويل هذه الآية ضعيفاً جداً.»
(1)
وممن استنبط دلالة هذه الآية على صحة مذهب أهل السنة في خلق الله أفعال العباد خيرها وشرّها: السمعاني، والرازي، والنسفي، والخازن، وابن عادل، والنيسابوري، والألوسي، وابن عاشور، وغيرهم.
(2)
قال ابن أبي العز: (اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية، فزعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان السمرقندي
(3)
أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى، وهي كلها اضطرارية، .. وقابلتهم المعتزلة، فقالوا: إن جميع الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات بخلقها، لا تعلق لها بخلق الله تعالى. واختلفوا فيما بينهم: أن الله تعالى يقدر على أفعال العباد أم لا؟!
(1)
التفسير الكبير (15/ 408)
(2)
ينظر: تفسير السمعاني (2/ 234)، والتفسير الكبير (15/ 408)، ومدارك التنزيل (1/ 619)، ولباب التأويل (2/ 273)، واللباب في علوم الكتاب (9/ 397)، وغرائب القرآن (3/ 349)، والتحرير والتنوير (9/ 182)، وروح المعاني (5/ 110).
(3)
هو الجهم بن صفوان الترمذي، أبو محرز الراسبي مولاهم السمرقندي،، المتكلم، أس الضلالة، ورأس الجهمية. كان صاحب ذكاء وجدال. وهو من الجبرية الخالصة، وأول من ابتدع القول بخلق القرآن وتعطيل الله عن صفاته، قتل سنة 128 هـ، وقيل: سنة 130 هـ، وقيل 132 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (6/ 26)، والوافي بالوفيات (11/ 160).
وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات، لا خالق لها سواه. فالجبرية غلوا في إثبات القدر، فنفوا صنع العبد أصلاً، كما غلت المشبهة في إثبات الصفات، فشبهوا. والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى، ولهذا كانوا «مجوس هذه الأمة» ، بل أردأ من المجوس، من حيث إن المجوس أثبتوا خالقَين، وهم أثبتوا خالقِين!
وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فكل دليل صحيح يقيمه الجبري، فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة ولا مريد ولا مختار، .. وكل دليل صحيح يقيمه القدري فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مريد له، مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى، وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته.
فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى، فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة، من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم).
(1)
(1)
شرح الطحاوية لابن أبي العز (1/ 438) بتصرف.
وهذا لا يعني أن العبد مجبور على فعله لا اختيار له، بل إن الله تعالى خلقه على نشأة وصفة يتمكن بها من إحداث إرادته وأفعاله وتلك النشأة بمشيئة الله وقدرته وتكوينه.
(1)
فخلق أفعال العباد واختراعها، خيرها وشرها، نفعها وضرها، لا يخرجها عن كونها مقدورة للعبد، يخلق الله له قدرة يقوى بها على الاكتساب، فهو تعالى خالق المسببات والأسباب، خلق القادر والمقدور معاً، وخلق الاختيار والمختار جميعاً.
(2)
والأدلة على أن أفعال العباد مخلوقة لله كثيرة
(3)
، قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، فقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} يدل على أن اقتتالهم بمشيئة الله، ثم قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} ففعلهم منسوب إلى الله خلقاً كما أنه منسوب إلى الله تعالى إرادة وتقديراً.
(1)
ينظر: شفاء العليل لابن القيم (1/ 137).
(2)
ينظر: مرهم العلل المعضلة في الرد على أئمة المعتزلة لليافعي (1/ 170)، وينظر: الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للبيهقي (1/ 143 - 144)، والتوحيد للماتريدي ص 228، وشرح الطحاوية (1/ 438)، ولوامع الأنوار البهية (1/ 293)، وشرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين (1/ 325).
(3)
ينظر: خلق أفعال العباد للبخاري ص 108، واعتقاد أئمة الحديث لابن مرداس الجرجاني (1/ 60)، والإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة (1/ 161)، والفصل في الملل لابن حزم (3/ 32)، ولمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة لأبي المعالي الجويني (1/ 120)، والانتصار في الرد على المعتزلة للعمراني (1/ 67)، ومجوع الفتاوى (8/ 449)
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، فأضاف فعلهم إلى الله، وأنه واقع بمشيئته.
وأما إضافته إلى العبد فكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة: 277]، فقوله: آمنوا وعملوا الصالحات، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، أضاف الفعل في ذلك كله إليهم.
وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقال تعالى:{وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [النحل: 111]، فأضاف الله تعالى الأفعال والكسب إلى الفاعل المكتسب، وجعل ذلك بمشيئته وتقديره كما تقدم.
وبهذا يظهر صحة دلالة هذه الآية على ما استنبطه الخطيب إذ وافق الأشاعرة أهل السنة في هذا الباب، والله تعالى أعلم.
إنكار عبادة الأصنام.
قال تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: (وقد تعلق بعض الجهال بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى
(1)
، فقال: إنّ الله تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلاً على عدم إلهيتها، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية، وذلك باطل فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى.
أجيب: بأن المقصود من هذه الآية بيان أنّ الإنسان أفضل وأحسن حالاً من الصنم؛ لأنّ الإنسان له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة، والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة، فكان الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم، فاشتغال الأفضل الأكمل بحال الأخس الأدون جهل، فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال.)
(2)
وجه الاستنباط:
(1)
يقصد بهم المشبهة كما سيأتي بيانه، وقد نقل هذا الاستنباط برُمَّته عن الرازي قال: "وقد تعلق بعض أغمار المشبهة وجهالهم بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى. فقالوا: إنه تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلا على عدم إلهيتها، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله تعالى لكان عدمها دليلا على عدم الإلهية وذلك باطل، فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى
…
الخ كلامه." ينظر: التفسير الكبير (15/ 432).
(2)
السراج المنير (1/ 625).
أنه تعالى قدح في إلهية الأصنام لأجل أنها ليس لها شيء من هذه الأعضاء، فلو لم تحصل لله هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إلهاً، ولمَّا بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء له كما زعمت المشبهة.
(1)
الدراسة:
استنبط الخطيب من الآية دلالتها باللازم على إبطال مذهب المُشبِّهة
(2)
ورد حجتهم في إثبات هذه الأعضاء المذكورة لله تعالى ببيان الغرض من هذه الآية وهو: إنكار عبادة هذه الأصنام، وبيان أنّ الإنسان أفضل وأحسن حالاً من الصنم، ولذلك جاء الخطاب بصغية الاستفهام الإنكاري
(3)
، والمقصود: إن كانت آلهتكم التي تعبدونها ليس فيها شيء من هذه الآلات المذكورة، فأنتم مفضلون عليهم بالأرجل الماشية والأيدي الباطشة والأعين البصيرة والآذان السامعة، والمُعظَّم من الأشياء إنما يُعظَّم لما يرجى منه من المنافع، فما وجه
(1)
ينظر: التفسير الكبير (12/ 395) عند تفسيره لقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} من سورة المائدة.
(2)
المشبهة: هم الذين يشبهون صفات لله بصفات خلقه، فيقولون مثلاً لله سمع كسمع البشر، وعلى رأس هؤلاء المشبهة: الحكمية: أصحاب هشام بن الحكم الرافضي، الذي زعم أن الله ـ تعالى عن ذلك ـ جسم له حد ونهاية، ومنهم الجواليقية أتباع هشام الجواليقي، الرافضي، ومنهم الحوارية، أتباع داود الحواري، ومن المشبهة أيضا: الكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني الذين يزعمون أن لله جسم، وغير هؤلاء كثير، وقد تصدي لهم الأئمة بالرد، وأنكروا عليهم، بل كفروا كثيراً منهم، واعتبروهم غلاة خارجين عن الإسلام.
ينظر: الفرق بين الفرق (1/ 214)، وأصول الدين للبغدادي (1/ 337)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 105)، ومنهاج السنة لابن تيمية (2/ 598)، والفتاوى (3/ 186)، (4/ 138)
(3)
ينظر: التحرير والتنوير (9/ 222).
عبادتكم للأصنام، وهي خالية من كل ما يتوصل به إلى اجتلاب النفع ودفع الضر؟
وفي هذا بيان جهالتهم، وذلك أن قدرة المخلوقين إنما تكون بهذه الآلات والجوارح، وليست لهم تلك الآلات، فكيف يعبدون من هم أفضل منه؟.
(1)
قال السمرقندي: (وقد احتجت المشبهة بهذه الآية أن من لا يكون له يد ولا رجل ولا بصر لا يصلح أن يكون إلهاً. ولكن لا حجة لهم في ذلك لأن الله تعالى بيّن ضعف معبودهم وعجزهم، وبيّن أنهم اشتغلوا بشيء لا فائدة فيه ولا منفعة لهم في ذلك.)
(2)
وقال ابن عطية: (وقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ} الآية، الغرض من هذه الآية: ألهم حواس الحي وأوصافه؟ فإذا قالوا لا، حكموا بأنها جمادات، فجاءت هذه التفصيلات لذلك المجمل الذي أريد التقرير عليه، فإذا وقع الإقرار بتفصيلات القضية لزم الإقرار بعمومها، وكان بيانها أقوى ولم تبق بها استرابة.)
(3)
وممن أشار إلى مقصود الآية دون تكلف إثبات هذه الصفات: السمرقندي، والواحدي، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، والخازن، والنيسابوري، وأبو حيان، وابن عادل، وأبو السعود، والقاسمي، وغيرهم.
(4)
(1)
ينظر: جامع البيان (13/ 322)، والتفسير الوسيط (2/ 436)، وتفسير السمعاني (2/ 241)، ومعالم التنزيل (2/ 259)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 312).
(2)
تفسير القرآن (1/ 575)
(3)
المحرر الوجيز (2/ 489)
(4)
ينظر: تفسير القرآن للسمرقندي (1/ 575)، والتفسير الوسيط (2/ 436)، والمحرر الوجيز (2/ 489)، والتفسير الكبير (15/ 432)، والجامع لأحكام القرآن (7/ 342) ولباب التأويل (2/ 283)، وغرائب القرآن (4/ 251)، والبحر المحيط (5/ 252)، واللباب في علوم الكتاب (7/ 428)، وإرشاد العقل السليم (3/ 306)، ومحاسن التأويل (5/ 239).
قال القاسمي: (الظاهر أن ملحظ مثبتيها هو أن عدمها يدل على النقص، وهو محال على المولى تعالى، إذ له كل صفة كمال. ومعلوم أن في إثباتها له تعالى من آيات أخر، وأحاديث مشهورة، ما يغني عن تكلف استثباتها له تعالى من مثل هذه الآية، ولكن على المنهاج السلفيّ، وهو إثبات بلا تكييف، إذ من كيّف فقد مثل، ومن نفى فقد عطّل. فالمشبهة كالمعطلة، والحق وراءهم، والمسألة شهيرة).
(1)
والذي عليه أهل السنة والجماعة إثبات صفات الله تعالى كما جاءت، من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل، فأثبتوا لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، وعلى هذا مضى أئمة السلف يُجرون هذه النصوص على ظاهرها، وحقيقة معناها اللائق بالله عز وجل، ويمرونها كما جاءت.
(2)
ويدل له قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فهو سبحانه مباين لخلقه، له يدان لا كأيدي المخلوقين، وله قدرة لا كقدرة المخلوقين، وقال تعالى:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] أي: لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً
(3)
، والمشبهة عندما يزعمون أن يدي الله كأيديهم وسمعه كسمعهم وغير ذلك فقد جعلوا لله أمثالاً وأشباهاً - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً - وقال تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أي مثيلاً أو
(1)
محاسن التأويل (5/ 239).
(2)
ينظر: أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات لمرعي الكرمي (1/ 60)، وينظر: لوامع الأنوار البهية (1/ 219)، ومعارج القبول للحكمي (1/ 147)، والقواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لابن عثيمين (1/ 70)، وشرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 270).
(3)
ينظر: تفسير القرآن العظيم (2/ 212)
شبيهاً، وقال تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، وهذه الآية أثبتت الكمال المطلق لله تعالى من جميع الوجوه.
(1)
ويجدر التنبيه هنا إلى أن معطلة الصفات يطلقون لقب المشبهة على السلف، فالمعطلة من الجهمية، والمعتزلة، والأشعرية، ومن تبعهم، يطلقون هذا الوصف على كل من خالفهم في إثبات ما ينكرونه من الصفات؛ وذلك أن أهل السنة يصفون الله عز وجل بكل ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تأويل، ولا تشبيه ولا تمثيل، وعند هذه الفِرق لا بد من تأويل النصوص الواردة في باب الصفات؛ لأن ظاهرها يوهم التشبيه عندهم؛ لذا عدُّوا كل من أثبت لله ما أثبتته النصوص من غير تأويل، مشبهًاً
(2)
، فالمعتزلة يصفون كل من أثبت شيئاً من الصفات، أو أثبت الرؤية، أو لم يقل بخلق القرآن أنه مُشبِّه
(3)
، فيدخل في ذلك السلف، كما يدخل فيه أيضاً الأشعرية الذين يثبتون بعض الصفات.
أما الأشعرية
(4)
، فيطلقون هذا الوصف على كل من أثبت شيئاً من الصفات الذاتية التي ينكرونها مثل الوجه واليد والقدم. وكذلك الصفات الفعلية التي ينكرونها أيضا جملة وتفصيلاً مثل العلو والاستواء والغضب والرضى،
(1)
ينظر: مباحث العقيدة في سورة الزمر (1/ 169).
(2)
ينظر: وسطية أهل السنة بين الفرق لمحمد با كريم با عبد الله (1/ 128).
(3)
ينظر: شرح الأصول الخمسة ص 183،
(4)
كما فعل الخطيب هنا في إثبات هذه الأعضاء في هذه الآية، غير أنه يقصد بهم المجسمة والممثلة لا السلف.
ويزعمون أن من وصف الله بشيء من ذلك فقد جسَّم الله ومثَّله، وشبَّهه ووصفه بصفات الحدوث والنقص.
(1)
ولا شك أن كل ذلك من الضلال والانحراف؛ لأن الله عز وجل قد أثبت لنفسه الصفات وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفى عن نفسه التمثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى 11]، فعُلِم أن المُثبِت إنما وافق القرآن، ثم إنه إذا صرَّح بنفي التمثيل والتشبيه بين صفات الخالق وصفات المخلوق. فبأي وجه يطلق عليه أنه مشبه أو ممثل وهو ينفيه ويرده ويبطله، كما نفاه الله وأبطله؟
لا ريب أن ذلك من الكذب على مثبتة الصفات من السلف، ومن الاعتداء والظلم لهم، والتشنيع عليهم بالباطل، بل المعطلة أحق بهذا التشنيع والوصف.
(2)
ومن هنا يظهر صحة دلالة هذه الآية على فساد مذهب المشبهة، وأنه خارج عن نطاق الشرع والعقل؛ إذ وقعوا في محظور لم يسبقوا إلى مثله حيث شبهوا الخالق بالمخلوق - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - وإنما أطلت التفصيل في هذه المسألة نظراً لأهميتها في بيان منهج الخطيب في باب الصفات، وللإحالة عليها فيما سيأتي من مسائل، والله تعالى أعلم.
(1)
ينظر: الإرشاد للجويني ص 58. ومقالات الإسلاميين 1/ 282، 283
(2)
وقد نبه الإمام إسحاق بن راهويه على أن المعطلة هم الذين يستحقون وصف التشبيه؛ لأنهم شبهوا أولاً، ثم عطلوا ثانياً، حتى صار من علامة الجهمية تسمية أهل السنة مشبهة. ينظر: شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة ص 24 ـ 25، وشرح الطحاوية (1/ 85)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (3/ 588)، وبيان تلبيس الجهمية (6/ 507)، والقول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد للبدر (1/ 14)
حضور القلب عند الاستعاذة أنفع وأوقع في القلب.
قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: ({وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}، {إِنَّهُ سَمِيعٌ} للقول {عَلِيمٌ} بالفعل، وفي الآية دليل على أنّ الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع، واستحضر معنى الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك).
(1)
وجه الاستنباط:
في ختم الآية بقوله {عَلِيمٌ} إشارة إلى علمه سبحانه بما في الضمائر فلا يكفي مجرد التلفظ باللفظ دون استحضار المعنى.
الدراسة:
استنبط الخطيب من هذه الآية دلالتها باللازم على مناسبة ختم الآية بقوله تعالى {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وهي التنبيه إلى حضور القلب عند الاستعاذة؛ حيث جرى مجرى التعليل لطلب الاستعاذة بالله، والمعنى: لا تستعذ بغيره، فإنه هو (السميع) لما تقول سبحانه، أو السميع لما تقوله الكفار فيك، (العليم) بقصدك في الاستعاذة، أو العليم بما انطوت عليه ضمائرهم من الكيد لك فهو ينصرك عليهم ويجيرك منهم.
(2)
(1)
السراج المنير (1/ 626)
(2)
ينظر: البحر المحيط لأبي حيان (5/ 257)
وفي هذا إشارة إلى حضور القلب أثناء التلفظ بالاستعاذة، فالمستعيذ بالله عند تفوهه بلفظ الاستعاذة يستشعرمعنى الاعتصام بالله تعالى واللجوء إليه، ولا يكتفي بمجرد اللفظ، بل يتيقن كل اليقين أنه متعرض لشر عظيم، ومن ثمّ فإنه يلجأ إلى الله تعالى ويمتنع به ويعتصم؛ ليجيره من هذا الشر ويحميه منه، أما التلفظ بالاستعاذة مجرد قول وذكر، مجرداً من غير حضور قلب ولا شعور، فإنه لا يحصل للمستعيذ ما يرجوا من النجاة من شر إبليس وكيده، ووسوسته، وكما أن حضور القلب مطلوب في الصلاة والدعاء وغيرها من الطاعات، فكذلك في الاستعاذة.
وهذه إشارة لطيفة، حسُن التنبيه عليها، وقد وافق الخطيب في استنباطها من الآية: الرازي، وابن القيم، وأبوحيان، والنيسابوري، وغيرهم.
(1)
قال ابن القيم مشيراً لهذا المعنى: ( .. والإخبار بأنه سبحانه يسمع ويعلم، فيسمع استعاذتك فيجيبك، ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك، فالسمع لكلام المستعيذ، والعلم بالفعل المستعاذ منه، وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة).
(2)
وقال أبو حيان: (وختم بهاتين الصفتين لأن الاستعاذة تكون بالنسيان ولا تجدي إلا باستحضار معناها فالمعنى سميع للأقوال، عليم بما في الضمائر).
(3)
ولهذا فإن الاستعاذة من شر هذا العدو مُتأكدة، استعاذة متيقن أنه بصدد خطر يوشك أن يحيط به، ويحاول جهده أن يعتصم بالله الذي يحول بينه وبين هذا
(1)
ينظر: التفسير الكبير (15/ 436)، وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 96)، والبحر المحيط (5/ 257)، وغرائب القرآن (3/ 365).
(2)
إغاثة اللهفان (1/ 96)، وينظر: تفسير القرآن لابن القيم (1/ 686)، وبدائع الفوائد (2/ 267).
(3)
البحر المحيط (5/ 257).
العدو، ولامُعين له على إدراك هذا المعنى إلا دفع الخواطر الشاغلة وقطع سُبلها، والله أعلم.