الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
341 -
إذا جَشَأتْ نَفْسِي أقُولُ لَها: ارْجِعِي
…
وَراءَكِ، واسْتَحْيِي بَياضَ اللَّهازِمِ
(1)
وقوله: {فَالْتَمِسُوا نُورًا} يعني: مِنْ حَيْثُ جِئْتُمْ، فاطْلُبُوا هنالك لأنفسكم نورًا، فإنه لا سَبِيلَ لكم إلى الاقتباس من نورنا، فالتَمَسُوا نورًا من الظلمة، فَلَمْ يَجْدُوا شيئًا {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ} يعني: بين المؤمنين والمنافقين {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} يَعْنِي بالسُّورِ حائِطًا بين أهل الجنة والنار، وقيل
(2)
: هو السُّورُ الذي يُسَمَّى الأعرافَ، والسُّورُ في موضع رفع على أنه اسمُ ما لَمْ يُسَمَّ فاعلُهُ، والباء فيه صلة زائدة، قاله الكسائي
(3)
، والباب رفع على الخبر لِلّامِ الزائدة.
فصل
رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "تَغْشَى النّاسَ ظُلْمةٌ يومَ القيامة، فيبعث اللَّه عز وجل نورًا يهتدي به المؤمنون إلى الجنة، فإذا اتَّبَعَهُ المؤمنون تَبِعَهُم المنافقون، فَيَضْرِبُ اللَّهُ عز وجل بينهم بسور له باب {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)} ، فَيُنادِي المنافقون المؤمنين: {انْظُرُونَا
(1)
البيت من الطويل، للفرزدق من قصيدة يمدح بها هشام بن عبد الملك.
اللغة: جَشَأتْ نَفْسُهُ تَجْشَأ جُشُوءًا: ارْتَفَعَتْ ونَهِضَتْ إليه وجاشَتْ من حُزْنٍ أو فَزَعٍ، بَياضُ اللَّهازِمِ: شَيْبُهُ، واللَّهازِمُ: أُصُولُ الحَنَكَيْنِ، واحدها لِهْزِمةٌ.
التخريج: ديوانه 2/ 307، شرح نقائض جرير والفرزدق 1/ 517، كتاب الشعر ص 4، المسائل الشيرازيات ص 273، أمالِيُّ ابن الشجري 1/ 251، منتهى الطلب 5/ 206.
(2)
قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والفراء وابن قتيبة، ينظر: معانِي القرآن للفراء 3/ 134، غريب القرآن لابن قتيبة ص 453، جامع البيان 27/ 292 - 293، زاد المسير 8/ 166، تفسير القرطبي 17/ 246.
(3)
ينظر قوله في الكشف والبيان 9/ 238، تفسير القرطبي 17/ 246.
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}، فيقول المؤمنون:{ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} في الموضع الذي كُنّا فيه -وفيه الظُّلْمةُ-، فالتَمِسُوا منه النورَ
(1)
.
والرحمة: الجنة، والعذاب: جهنم، وقيل: الرحمة: النور، والعذاب: الظلمة، والباطن والظاهر رفع على الابتداء، والعذاب رفع لأنه خبر "مِنْ"
(2)
.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ} ؛ أي: يَحِنْ {لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} ؛ أي: تَرِقَّ وتَلِينَ قلوبُهُمْ {لِذِكْرِ اللَّهِ} يقال: أنَى لَكَ يَأْنِي إنًى: إذا حانَ، ويقال: آنَ يَئينُ، وأنِىَ يَأْنَي وحانَ يَحِينُ بمعنًى واحدٍ
(3)
، و {أَنْ} في قوله:{أَنْ تَخْشَعَ} فِي موضع رفع بـ {يَأْنِ} .
قوله: {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} يعني القرآن، ومحل "ما" خفض بالعطف على {لِذِكْرِ اللَّهِ} ، قرأ شيبة ونافع وعاصم برواية المُفَضَّلِ وحَفْصٍ:"نَزَلَ" خفيفة الزاي، وقرأ غيرهم بالتشديد
(4)
، والمعنى فيهما واحد؛ لأنه لا يَنْزِلُ إلا بأن يُنَزِّلَهُ اللَّهُ.
(1)
ينظر: إعراب القرآن للنحاس 4/ 357، تفسير ابن كثير 4/ 331.
(2)
يعني قوله: "باطِنُهُ" و"ظاهِرُهُ"، فقوله:"لَهُ بابٌ" مبتدأ وخبر، والجملة صفة لقوله:"بِسُورٍ"، و"باطِنُهُ" مبتدأ و"الرَّحْمةُ" مبتدأ ثانٍ، و"فِيهِ" خبر الثانِي، والمبتدأ الثانِي وخبره خَبَرُ المبتدأ الأول، والجملة في موضع رفع صفة لـ "بابٌ"، وكذلك قوله:"وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذابُ". ينظر: الفريد 4/ 431.
(3)
قاله الزجاج والنحاس، ينظر: معانِي القرآن وإعرابه 5/ 125، إعراب القرآن 4/ 359، وينظر أيضًا: تهذيب اللغة 15/ 553.
(4)
قرأ أبو عمرو وابنُ كثيرٍ، وأبو بكر عن عاصمٍ، وحَمْزةُ والكسائي وابنُ عامر وخَلَفٌ ويعقوبُ وأبو جعفر، ورُويْسٌ في روايةٍ:"وَما نَزَّلَ" بالتشديد، وقرأ نافعٌ، وحَفْصٌ والمُفَضَّلُ كلاهما عن عاصم:"نَزَلَ" بالتخفيف، ورَوَى عباسٌ ويونسُ عن أبي عمرو:"نُزِّلَ" مشدّدًا مبنيًّا للمفعول، وهي قراءة أبِي جعفر والأعمش والجحدري. ينظر: السبعة ص 626، معانِي =
قوله: {وَلَا يَكُونُوا} ؛ أي: وألَّا يَكُونُوا، محله نصب بالعطف على {تَخْشَعَ} ، قال الأخفش
(1)
: وإن شِئْتَ جَعَلْتَهُ نَهْيًا، ودليل هذا التأويل روايةُ رُويسٍ عن يعقوب:{وَلَا تَكُونُوا} بالتاء
(2)
{كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} وهم اليهود والنصارى {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} يعني الزمان والدهر والغاية بينهم وبين أنبيائهم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} قال ابن عباس
(3)
: مالُوا إلى الدنيا، وأعْرَضُوا عن مَواعِظِ اللَّهِ.
والمعنى أنه يَنْهَى المؤمنين أن يكونوا في صُحْبةِ القُرْآنِ كاليهود والنصارى الذين قَسَتْ قُلُوبُهُمْ لَمّا طالَ عليهم الدهرُ {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} يعني الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمدٍ -عليهما أفضل التحية والسلام-، قال محمد بن كعب القُرَظِيُّ
(4)
: كانت الصحابة في مكة مُجْدِبِينَ، فلما هاجَرُوا -يعني: إلى المدينة- أصابُوا الرِّيفَ والنِّعْمةَ، فَفَتَرُوا عَمّا كانوا عليه، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، فينبغي للمؤمن أن يَزْدادَ إيمانًا ويقينًا وإخلاصًا فِي طُولِ صُحْبةِ الكِتابِ.
= القراءات 3/ 55، الحجة للفارسي 4/ 30، البحر المحيط 8/ 222، النشر 2/ 384، الإتحاف 2/ 522.
(1)
ينظر قوله في الكشف والبيان 9/ 245. قال النحاس: {يَكُونُوا} في موضع نصب معطوف على {تَخْشَعَ}؛ أي: وَألّا يَكُونُوا، ويجوز أن تكون في موضع جزم، والأوَّلُ أوْلَى لأنها واو عطف، ولا يُقْطَعُ ما بعدها مِمّا قبلها إلّا بدليل". إعراب القرآن 4/ 360.
(2)
وقرأ بالتاء أيضًا: عيسى بنُ عمر وابنُ أبِي إسحاق وأبو حَيْوةَ وابنُ أبِي عَبْلةَ، وإسماعيلُ عن أبِي جعفرٍ، وسليمٌ عن حمزةَ، ينظر: تفسير القرطبي 17/ 249، البحر المحيط 8/ 222، النشر 2/ 384.
(3)
ينظر قوله في الوسيط 4/ 250، اللباب في علوم الكتاب 18/ 482.
(4)
ينظر قوله في الكشف والبيان 9/ 241، الوسيط 4/ 250، تفسير القرطبي 17/ 250.
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} قرأه العامة بتشديد الصاد على معنى المتصدقين، فأدغمت التاء فِي الصاد، وقرأ ابنُ كثيرٍ وعاصمٌ برواية أبِي بكر والمفضلِ بتخفيف الصاد
(1)
من التصديق الذي هو بمعنى الإيمان، ومعناه: إن المؤمنين والمؤمنات {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} بالصَّدَقةِ والنَّفَقةِ في سبيل اللَّه، قال الحسن
(2)
: كل ما في القرآن من القَرْضِ الحَسَنِ فهو التَّطَوُّعُ.
وإنما عطف بالفعل على الاسم؛ لأنه في تقدير الفعل مجازه: إن الذين صَدَّقُوا، وأقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
(3)
{يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)} قرأ العامة: {يُضَاعَفُ} بالألف وفتح العين، وقرأ الأعمش:{يُضَاعِفَهُ} بكسر العين وزيادة هاء، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر:{يُضَّعَفُ لَهُمْ} بالتشديد
(4)
، {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}: ثَوابٌ حَسَنٌ، وهو الجنة.
(1)
وبها قرأ أيضًا: أبو عمرو في رواية هارون عنه، وأبانٌ وابنُ مُحَيْصِنٍ، ينظر: السبعة ص 626، معانِي القراءات 3/ 56، الحجة للفارسي 4/ 31، تفسير القرطبي 17/ 252، البحر المحيط 8/ 222، الإتحاف 2/ 522.
(2)
ينظر قوله في الكشف والبيان 9/ 243، تفسير القرطبي 17/ 252.
(3)
يعني أن قوله: {وَأَقْرَضُوا} معطوف في المعنى على {الْمُصَّدِّقِينَ} ؛ لأن "أل" في {الْمُصَّدِّقِينَ} بمَنْزِلةِ {الَّذِي} ، واسم الفاعل بمعنى المضارع، وقد ذكر الفارسيُّ هذا الوجهَ، وذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ، وهو أن يكون قوله:{وَأَقْرَضُوا} اعتراضًا بين اسم {إِنَّ} وهو {الْمُصَّدِّقِينَ} ، وبين خبرها وهو {يُضَاعَفُ لَهُمْ} ، وجاز الاعتراض لأنه توكيد للأول، ينظر: الحجة 4/ 31، وينظر أيضًا: الأصول لابن السراج 2/ 311، كشف المشكلات 2/ 354، أمالِي ابن الشجري 2/ 438، 3/ 204، البيان للأنباري 2/ 422، الفريد 4/ 433، تفسير القرطبي 17/ 252، خزانة الأدب 5/ 144.
(4)
ينظر: تفسير القرطبي 17/ 252، النشر 2/ 228، الإتحاف 2/ 522.
قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} يعني: حياة الكفار باطل وغرور؛ لأنها في غير طاعة اللَّه، وهي تنقضي عما قريب {وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} لأنهم يُزَيِّنُونَ في الدنيا دُونَ العَمَلِ للآخرة، ويُفاخِرُ الرَّجُلُ قَرِيبَهُ وجارَهُ في مالِهِ وَوَلَدِهِ، والمعنى: أنه يُفْنِي عُمُرَهُ في هذه الأشياءِ.
ثم ضرب لهذه الحياة مثلًا، فقال:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} مفعول، يعني الزُّرّاعَ
(1)
{نَبَاتُهُ} رفعه بفعله {ثُمَّ يَهِيجُ} ؛ أي: يَيْبَسُ {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} بعد خُضْرَتِهِ ورِيِّهِ {ثُمَّ يَكُونُ} بعد ذلك {حُطَامًا} يَتَحَطَّمُ ويَتَكَسُّرُ بعد يُبْسِهِ {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} ؛ أي: لهم عذاب شديد، وقيل: هو رفعٌ خَبَرٌ لـ "في"، و {مُصْفَرًّا} نصب على الحال؛ لأنه من رُؤْيةِ العَيْنِ، نظيره في سورة الروم
(2)
.
ثم قال تعالى: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} يريد: لأوليائه وأهل طاعته {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} لِمَن اغْتَرَّ بِها ولَمْ يَعْمَلْ لآخِرَتهِ.
قوله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا} أي تَحْزَنُوا {مَا فَاتَكُمْ} يعني: من الدنيا {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} يعني: بما أعطاكم اللَّهُ منها، قرأ العامة:{آتَاكُمْ} بِمَدِّ الألِفِ؛ أي: أعْطاكُمْ، واختاره أبو حاتم
(3)
، وقرأ أبو عمرو
(1)
قال ابن قتيبة: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ؛ أي: الزُّرّاعَ، يقال لِلزّارِعِ: كافِرٌ لأنه إذا ألْقَى البَذْرَ في الأرض كَفَرَهُ أي: غَطّاهُ". غريب القرآن 454، وينظر: إعراب القرآن 4/ 205، 362، تهذيب اللغة 10/ 199.
(2)
الآية 51 ينظر ما تقدم 2/ 48.
(3)
اختيار أبِي حاتم في الكشف والبيان 9/ 245، تفسير القرطبي 17/ 258.
بِقَصْرِ الألف
(1)
من الإتيان؛ أي: جاءَكُمْ، واختاره أبو عبيد
(2)
لِلْمُعادَلةِ بينه وبين {فَاتَكُمْ} لِيُوافِقَ الكلامُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ونَقِيضُ الفَوْتِ الإتْيانُ، قال ابن عباس
(3)
: لَيْسَ أحَدٌ إلّا وهو يَفْرَحُ ويَحْزَنُ، ولكن اجعلوا للمصيبة صَبْرًا وللخير شُكْرًا {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} مُتَكَبِّرٍ بما أُوتِيَ من الدنيا فَخُورٍ به على الناس.
قوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} في محله من الإعراب وجهان، أحدهما: الخفض على نعت المختال، والثانِي: الرفع بالابتداء، وخَبَرُهُ فيما بعده، ويجوز أن يكون في موضع نصب على البدل من {كُلَّ} ، أو على الذمِّ بمعنى: أعْنِي، والمَعْنِيُّ بالآية قيل
(4)
: هم اليهود بَخِلُوا بِصِفةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكَتَمُوا أمْرَهُ لِيَأْخُذُوا الفَضلَ من أتباعهم وسِفْلَتِهِمْ.
قوله: {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} يعني: بِكِتْمانِ أمْرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وصِفَتِهِ، والناس هاهنا هم اليهود وأتباعهم، وقرأ حمزة والكسائي:"بِالبَخَلِ"
(5)
بفتح الباء والخاء {وَمَنْ يَتَوَلَّ} يعني: عن الإيمان باللَّه ورسوله فيما دَعاهُ إليه، وهو
(1)
قرأ أبو عمرو والحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم: {آتَاكُمُ} بقصر الهمزة. ينظر: السبعة ص 626، تفسير القرطبي 17/ 258، البحر المحيط 8/ 224، الإتحاف 2/ 523.
(2)
ينظر اختيار أبِي عبيد في إعراب القرآن للنحاس 4/ 365، الكشف والبيان 9/ 245، تفسير القرطبي 17/ 258.
(3)
ينظر قوله في جامع البيان 27/ 305، شفاء الصدور ورقة 104/ ب، الوسيط 4/ 253، تفسير القرطبي 17/ 258.
(4)
ذكره النقاش في شفاء الصدور ورقة 104/ ب.
(5)
وبها قرأ أيضًا: أنَسٌ وخَلَفٌ وعُبَيدُ بنُ عُمَير وابنُ يَعمُرَ ومجاهدٌ وحُمَيدٌ وابنُ مُحَيصِن، ينظر: السبعة ص 627، تفسير القرطبي 17/ 259، النشر 2/ 249، الإتحاف 2/ 523.
شرط وجزاء {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عن خَلْقِهِ {الْحَمِيدُ (24)} عند جميع خَلْقِهِ.
قرأ نافعٌ وابنُ عامر: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ}
(1)
، وقرأ العامة:{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} ، قال الواحِدِيُّ
(2)
: فمن أثبت {هُوَ} كان فَصْلًا، ولَمْ يكن مبتدأً، ومن حذف فلأن الفصلَ حَذْفُهُ سَهْلٌ، ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب، فَحَذْفُهُ لا يُخِلُّ بالمعنى، وقال صاحب "إنسان العين"
(3)
: جَعْلُ هُوَ
(4)
فَصلًا أوْلَى؛ لأنه لا حَظَّ لَهُ من الإعراب، فَحَذْفُهُ أسْهَلُ، تقول في الفَصْلِ: ضَرَبْتُ زيدًا هُوَ قائِمًا، وفي الابتداء: هُوَ قائِمٌ.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} يعني: الحَوارِيِّينَ، اتَّبَعُوا عيسى عليه السلام {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} يعني المَوَدّةَ، ويقال:"رَآفةً"
(5)
، وقد رَؤُفَ وَرَأفَ رَأْفةً وَرَحْمةً، وذلك أنهم كانوا مُتَوادِّينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كما وَصَفَ اللَّهُ تعالى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله:{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}
(6)
.
(1)
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر: "فَإنَّ اللَّهَ الغَنِيُّ"، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام، وقرأ الباقون:{هُوَ الْغَنِيُّ} ، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة والعراق، ينظر: السبعة ص 627، البحر المحيط 8/ 224، الإتحاف 2/ 523.
(2)
الوسيط 4/ 253.
(3)
السَّجاوِنْدِيُّ ذَكَرَ القِراءةَ، ولَمْ يذكر عِلَّتَها في عين المعانِي ورقة 132/ أ، وأما قوله:"ضَرَبْتُ زَيْدًا هُوَ قائِمًا" فلا يجوز عند البصريين؛ لأن من شروط ضمير الفصل أن يقع بين مبتدأ وخبر أو بين ما أصله المبتدأ والخبر، والمثال الذي ذكره وقع فيه الضمير بين المفعول به وبين الحال.
(4)
في الأصل: "جعل الغني".
(5)
وقد قرأ قُنْبُلٌ من طريق ابن شَنَبُوذٍ: "رَآفةً" بالمَدِّ، ينظر: الإتحاف 2/ 523.
(6)
الفتح 29.
وقولُهُ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} ؛ أي: أحْدَثُوها، مأخوذ من الرَّهْبةِ، وهي نصب بإضمار فعل؛ أي: وابْتَدَعُوا رَهْبانِيّةً، لَمْ نَكْتُبْها علمِهم، وليس بعطف على ما قبله
(1)
، وقيل
(2)
: هو معطوف على الأول، وقوله:{مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} ؛ أي: ما فَرَضْناها عليهم، وفي مصحف أبَيٍّ:"ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ وَلَكِنِ ابْتَدَعُوها"
(3)
يعني الرَّهْبانِيّةَ {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} نصب على الاستثناء الذي ليس من الأول، ويجوز أن يكون بدلًا من المضمر في {كَتَبْنَاهَا}
(4)
.
وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} يريد: حين ضَيَّعُوها، وكَفَرُوا بِدِينِ عِيسَى عليه السلام، فَتَهَوَّدُوا وتَنَصَّرُوا، ودخلوا في دِينِ مُلُوكِهِمْ، وتَرَكُوا التَّرَهُّبَ، وأقام منهم أُناسٌ على دين عيسى حتى أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله تعالى:{فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)} يعني الذين تَهَوَّدُوا وتَنَصَّرُوا.
(1)
هذا قول الزجاج وابن الأنباري والنحاس والفارسي، ينظر: معانِي القرآن وإعرابه 5/ 130، إيضاح الوقف والابتداء ص 926، إعراب القرآن 4/ 367، المسائل الشيرازيات ص 305، وينظر أيضًا: تهذيب اللغة 6/ 291، التبيان للعكبري ص 1211، تفسير القرطبي 17/ 263، مغني اللبيب ص 751 - 752.
(2)
هذا القول ذكره النحاس بغير عزو في إعراب القرآن 4/ 367، وجوزه الزمخشريُّ فقال:"ويَجُوزُ أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها، و"ابْتَدَعُوها" صفة لها في محل النصب؛ أي: وجعلنا في قلوبهم رَأْفةً ورَحْمةً، ورَهْبانِيّةً مُبْتَدَعةً من عندهم، بمعنى: وَفَّقْناهُمْ لِلتَّراحُمِ بينهم ولابْتِداعِ الرَّهْبانِيّةِ واسْتِحْداثِها، ما كَتَبْناها عليهم إلّا لِيَبْتَغُوا بها رِضْوانَ اللَّهِ". الكشاف 4/ 68، وينظر: التبيان للعكبري ص 1211، الفريد 4/ 436، تفسير القرطبي 17/ 263، البحر المحيط 8/ 226.
(3)
ينظر: إيضاح الوقف والابتداء ص 926، شواذ القراءة للكرمانِي ورقة 235.
(4)
ينظر في هذين الوجهين: معانِي القرآن وإعرابه 5/ 130، إعراب القرآن 4/ 368، مشكل إعراب القرآن 2/ 361، تفسير القرطبي 17/ 263.