الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الجاثية
مكِّية
وهي ألف ومائة وأحد وتسعون حرفًا، وأربعمائة وثمان وثمانون كلمة، وسبع وثلاثون آية.
باب ما جاء فِي فضل قراءتها
عن أُبَيِّ بنِ كعب رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأ سُورةَ "حم الجاثِيةِ" سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَسَكَّنَ رَوْعَتَهُ عِنْدَ الحِسابِ"
(1)
.
ورُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قالَ: "مَنْ قَرَأ سُورةَ الجاثِيةِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِعَدَدِ أيّامِ الدُّنْيا ألْفَي حَسَنةٍ، وَمَحا عَنْهُ ألْفَي سَيِّئةٍ"
(2)
.
باب ما جاء فيها من الإعراب
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: {حم (1)} مبتدأ، وخَبَرُهُ:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} وقيل: "تَنْزِيلُ" مرفوع بالابتداء، وخبره "مِنَ اللَّهِ"، ويجوز أن
(1)
ينظر: الكشف والبيان 8/ 358، الوسيط 4/ 94، الكشاف 3/ 514، مجمع البيان 9/ 117، عين المعانِي ورقة 121/ أ.
(2)
لَمْ أعثر له على تخريج.
يكون مرفوعًا على أنه خبر ابتداء محذوف؛ أي: هذا تَنْزِيلُ الكتابِ، ويجوز أن يكون مرفوعا على أنه خَبَرٌ بعد خَبَرٍ
(1)
.
ثم أخبر بما يَدُلُّ على قدرته فقال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} ؛ يعني: في خلقهما دليلٌ على وحدانية اللَّه تعالى؛ لأنه رَفَعَ السماواتِ بغير عَلَاقةٍ، وبَسَطَ الأرضَ على غَيْرِ عَمَدٍ، وجعل فيها رَواسِيَ لِئَلّا تَمِيدَ بهم الأرضُ، فَجَعَلَها لَهُم ذَلُولًا، وأخْرَجَ منها مَعايِشَهُمْ، ففي ذلك دليلٌ لَهُمْ على أنه الإلهُ الذي لا إلَهَ غيْرُهُ
(2)
.
قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)} أنه لا إله غيره، قرأ حمزة والكسائي ويعقوب والأعمش:{آياتٍ} وبكسر التاء، وكذلك التي بعدها في قوله تعالى:{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ (5)} ، وهي في موضع نصبٍ، نَسَقًا على قوله:{لَآيَاتٍ}
(3)
،
(1)
هذه الأوجه الإعرابية قالها النحاس في إعراب القرآن 4/ 139، وينظر أيضًا: الفريد للمنتجب الهمدانِيِّ 4/ 279، وينظر ما سبق في أول سورة فصلت 2/ 400.
(2)
قاله النقاش في شفاء الصدور ورقة 8/ أ.
(3)
والمبرد لا يجيز قراءة النصب، بل إنه حكم عليها بأنها لحن؛ لأن فيها عَطْفًا على مَعْمُوليْ عامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وهما "إنّ" و"في"، ينظر: المقتضب 4/ 195، الكامل 1/ 287، 3/ 99. والعطف على مَعْمُولَي عامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أباهُ سيبويه وأكثر النحويين، وأجازه الأخفش فيما حكاه عنه المبرد في الكامل 3/ 99.
وقد خَرَّجَ ابنُ خالَوَيْهِ قراءةَ النصب على أن {آيات} الثانية بَدَلٌ من {آياتٍ} الأولى، وخَرَّجَهُ الفارسي على أحد وجهين، الأول: على تقدير حذف حرف الجَرِّ في {آياتٍ} الثانيةِ والثالثةِ؛ لأنه تقدم في قوله: "لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ"، والتقدير: لآياتٍ لِقَوْمٍ يوقنونَ، ولآياتٍ لقوم يعقلون، فحذفت اللام لتقدمها في الأولى، والوجه الثانِي: أن يجعل {واخْتِلَافِ اللَّيْلِ} معطوفًا على قوله: {في السَّماواتِ} ، ويكون {آياتٍ} مُكَرَّرًا لَمّا طال الكلام على سبيل التوكيد. ينظر: الحجة للفارسي 3/ 390، 391، وينظر أيضًا: إعراب القرآن للنحاس 4/ 140 - 141، إعراب القراءات السبع 2/ 311 - 312، معانِي القراءات للأزهري 2/ 375، مشكل إعراب القرآن 2/ 293: 295، البيان للأنباري 2/ 363، 364، =
وقرأ الباقون: "آياتٌ" بالرفع
(1)
على الاستئناف بعد "إنّ"، وقيل: هو حمل على موضع "إنّ" قبل دخولها
(2)
، وقيل: على خبرها، وقيل
(3)
: على خبر الصفة، قال الفراء
(4)
: تقول العرب: إنّ لِي عَلَيْكَ مالًا، وَعَلَى أخِيكَ مالٌ، فينصبون الثانِيَ ويرفعونه، وقرأ حمزة والكسائي:"الرِّيحِ" على الواحد، الباقون:"الرِّياحِ" على الجمع
(5)
.
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} قال ابن عباس: يريد: هذا الذي قَصَصْنا عليك من آيات اللَّه نَقُصُّها عليك بالحق {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ} أي: بَعْدَ كِتاب اللَّهِ، وقيل: بعد حديث اللَّه وكلامه {وَآيَاتِهِ} حُجَجِهِ وأدِلَّتِهِ {يُؤْمِنُونَ (6)} إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا.
قرأ ابن عامر وأهل الكوفة سوى حَفْصٍ بالتاء، على تأويل: قُلْ لهم يا محمد: فَبِأيِّ حَدِيثٍ تُؤْمِنُونَ، واخْتُلِفَ فيه عن عاصم ويعقوب، وقرأ الباقون بالياء
(6)
.
= الفريد للمنتجب الهمدانِيِّ 4/ 280 - 281، أمالِيُّ ابن الحاجب 1/ 298 - 299، البحر المحيط 8/ 43، الدر المصون 6/ 121.
(1)
ينظر: السبعة ص 594، تفسير القرطبي 16/ 157، البحر المحيط 8/ 43، النشر 2/ 371، الإتحاف 2/ 465.
(2)
هذا الوجه والذي قبله قالهما الزجاج والنحاس، ينظر: معانِي القرآن وإعرابه 4/ 431، إعراب القرآن 4/ 140، وينظر أيضًا: مشكل إعراب القرآن 2/ 295، كشف المشكلات 2/ 306.
(3)
قاله الأخفش، وهو مذهب الكوفيين، ينظر: مشكل إعراب القرآن 2/ 295، كشف المشكلات 2/ 306، البيان للأنباري 2/ 363، الفريد للهمداني 4/ 280.
(4)
معانِي القرآن 3/ 45.
(5)
وقرأ بالإفراد أيضًا: خَلَفٌ، ينظر: النشر 2/ 223، الإتحاف 2/ 466.
(6)
قرأ ابنُ عامرٍ وحمزةُ والكسائيُّ، وعاصمٌ في رواية يحيى عن أبِي بكر عنه، والأعمشُ =
قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)} ؛ أي: كَذّابٍ صاحِبِ إثْمٍ، يعني النضر ابن الحارث {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} يعني آيات القرآن {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}؛ أي: يُعْرِضُ عن الإيمان بآيات القرآن {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)} ؛ أي: وَجِيعٍ، ونصب {مُسْتَكْبِرًا} على الحال.
قوله تعالى: {هَذَا هُدًى} يعني: هذا القرآن بَيانٌ من الضلالة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)} قرأ ابن كثير وحفص: "ألِيمٌ" بالرفع على نعت العذاب، وقرأ الباقون بالكسر
(1)
على نعت الرِّجْزِ، والرِّجْزُ معناه العذاب.
قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} ؛ أي: لا يخافون وقائع اللَّه، ولا يخشون مِثْلَ عذاب الأمم الخالية.
نزلت هذه الآية في عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(2)
، وذلك أن رجلًا من غِفارٍ كان يَشْتُمُهُ، فَهَمَّ عُمَرُ رضي الله عنه أن يَبْطِشَ به، فأنزل اللَّه عز وجل هذه الآية، وأمَرَهُ بالعفو والتجاوز عنه، والمعنى: قُلْ للذين آمنوا اغْفِرُوا، ولكنه شَبَّهَهُ
= وخلفٌ وابنُ محيصن ورُويْسٌ ويعقوبُ بالتاء، وقرأ الباقون، وعاصم في رواية حَفْصٍ والأعشى عن أبِي بكر عنه بالياء، ينظر: السبعة ص 594، تفسير القرطبي 16/ 158، البحر المحيط 8/ 44، النشر 2/ 371 - 372، الإتحاف 2/ 466.
(1)
قرأ ابن كثير وحَفْصٌ عن عاصم ويعقوبُ وطلحة وابن محيصن: "ألِيمٌ" بالرفع، وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة والأعمش وعيسى بن عمر وبقية السبعة بالخفض، ينظر: السبعة ص 594، تفسير القرطبي 16/ 165، البحر المحيط 8/ 45، النشر 2/ 349، الإتحاف 466. وانظر ما سبق 2/ 149.
(2)
ينظر: شفاء الصدور ورقة 9/ ب، أسباب النزول ص 253 - 254، الوسيط 4/ 96، زاد المسير 7/ 358، عين المعانِي ورقة 121/ ب، تفسير القرطبي 16/ 161.
بالشرط والجزاء، كقوله تعالى:{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ}
(1)
، وقد تقدم ذِكْرُهُ في سورة إبراهيم، وهذه الآية منسوخة بآية القتال
(2)
.
وقوله: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} ؛ أي: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الكُفّارَ بما عملوا من السيئات، قرأ حمزة والكسائي وابن عامر:{لِيَجْزِيَ} بفتح النون
(1)
إبراهيم 31، وهي في القسم المفقود من هذا الكتاب.
وكونه شبيها بالشرط والجزاء هو قول الفراء والأخفش، فقد قال الفراء:"وقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} معناه في الأصل حكايةٌ بمَنْزِلةِ الأمر، كقولك: قُلْ للذين آمنوا اغْفِرُوا، فإذا ظهر الأمرُ مُصَرَّحًا فهو مجزوم؛ لأنه أمرٌ، وإذا كان على الخبر مثل قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا}، و {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا}، و {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ}، فهذا مجزوم بالتشبيه على الجزاء والشرط". معانِي القرآن 3/ 45، وقال مثله في المعاني 1/ 159، 2/ 77، وينظر: معانِي القرآن للأخفش ص 75، 306.
وقد رُدَّ هذا بأنه يَصِيرُ المعنى: قُلْ لِعِبادِي، فَإنْ تَقُلْ لَهُمْ يُؤْمِنُوا، وهذا لا يجوز؛ لأن العباد كُلُّهُمْ لَمْ يؤمنوا، وذهب الكسائي والزجاج إلى أن {يُقِيمُوا} مجزوم بلام الأمر المقدرة، والأصل: لِيَغْفِرُوا، ينظر: معانِي القرآن وإعرابه 3/ 162 - 163، وقول الكسائي في المسائل المنثورة للفارسي ص 159.
وأما البصريون فإنهم يجعلونه مجزومًا على جواب الأمر المقدر، والمعنى: قل للذين آمنوا اغْفِرُوا يَغِفْرُوا، قال سيبويه: "وتقول: قُمْ يَدْعُوكَ؛ لأنك لَمْ تُرِدْ أن تجعل دُعاء بعد قيامه، ويكونُ القيام سَبَبًا له، ولكنك أردتَ: قُمْ إنّهُ يَدْعُوكَ، وإن أردت ذلك المعنى جَزَمْتَ. . . وتقول: مُرْهُ يَحْفِرْها، وقُلْ له يَقُلْ ذاك، وقال اللَّه تعالى:{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} . الكتاب 3/ 98 - 99، وينظر: المقتضب للمبرد 2/ 81، معانِي القرآن وإعرابه 3/ 163، إعراب القرآن 3/ 143، المسائل المنثورة ص 159 - 165، المسائل العسكرية ص 116، البيان للأنباري 2/ 59، 92، التبيان للعكبري 769 - 775، الفريد 4/ 283 - 282.
(2)
قاله قتادة، ينظر: معاني القرآن للنحاس 6/ 424، الناسخ والمنسوخ ص 56، نواسخ القرآن ص 224.
والياء وكسر الزاي، وقرأ أبو جعفر بضم الياء الأولى وجَزْمِ الثانية
(1)
، قال أبو عمرو
(2)
: وهو لَحْنٌ ظاهِرٌ، وقال الكسائي
(3)
: معناه: لِيُجْزَى الجَزاءُ قَوْمًا، وقرأ الباقون بفتح الياءين على وجه الخبر عن اللَّه تعالى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم
(4)
لذكر اللَّه تعالى قبل ذلك.
ثم ذَكَرَ المؤمنين وأعمالهم والمشركين وأعمالهم، فقال:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)} .
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} التوراة {وَالْحُكْمَ} الفهم في الكتاب {وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني الحَلَالَاتِ من المَنِّ والسَّلْوَى، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)} يعني عالَمِي زَمانِهِمْ {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} يعني ما بُيِّنَ لهم في التوراة من الحلال والحرام، والعِلْمِ بِمَبْعَثِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
قرأ ابنُ عامر وحمزةُ والكسائيُّ وزيدُ بن عَلِيِّ والسلمي والأعمشُ وأبو علية: "لِنَجْزِيَ" بالنون، وقرأ أبو جعفر بخلاف عنه وشيبةُ والأعرجُ:"لِيُجْزَى" بالبناء للمفعول، ورُويَت عن عاصم، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو ويعقوب والحسن واليزيدي والأَعمش:{لِيَجْزِيَ} ، ينظرْ: السبعة ص 594، إعراب القراءات السبع 2/ 312 - 313، تفسير القرطبي 16/ 162، البحر المحيط 8/ 45، النشر 2/ 372، الإتحاف 2/ 466.
(2)
ينظر قوله في الكشف والبيان 8/ 360، تفسير القرطبي 16/ 162.
(3)
ينظر قوله في إعراب القرآن 4/ 144، تفسير القرطبي 16/ 162، وقال النحاس:"وإنما أجازه الكسائي على شذوب، بمعنى: لِيُجْزَى الجَزاءُ قَوْمًا"، ثم قال النحاس:"وقد أجمع النحويون على أنه لا يجوز: ضُرِبَ الضَّرْبُ زَيْدًا". إعراب القرآن 4/ 144، يعني النحاس بذلك أنه لا تجوز إنابةُ المصدر عن الفاعل مع وجود المفعول، ولكن الكوفيين والأخفش يجيزونه، ينظر: البيان للأنباري 2/ 365، التبيان للعكبري ص 1152، الفريد للهمداني 4/ 283، شرح التسهيل لابن مالك 2/ 128 - 129، ارتشاف الضرب ص 1338 - 1339.
(4)
ينظر اختيار أبِي عبيد في إعراب القرآن 4/ 143، واختياره واختيار أبِي حاتم في الكشف والبيان 8/ 360.
{فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} البيان {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} نصب على المفعول من أجله {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)} .
قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} ؛ أي: على سُنّةِ ومِلّةِ ومِنْهاجِ وطَرِيقةِ ودِينِ الإسلامِ {فَاتَّبِعْهَا} يا محمد {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} توحيد اللَّه، يعني كفار قريش، والشريعة جمعها شرائع، والشرائع في الدين: المذاهب التي شرعها اللَّه تعالى لعباده، ليعرفوها ويستقيموا عليها، ومنه سُمِّيَتْ شريعة النهر؛ لأنها يُوصَلُ منفا إلى الانتفاع به، والطريقُ الشّارِعُ: المُمْتَدُّ الواضح الذي يَرِدُ به ضرُوبٌ من الناس
(1)
.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} ؛ أي: اكتسبوا الكفر والمعاصي، يعني كفار مكة {أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} من بني هاشم وبني المُطَّلِبِ، وذلك أن كفار مكة قالوا للمؤمنين: إنا نُعْطَى فِي الآخرة من الجنة مِثْلَ ما تُعْطَوْنَ، والمعنى: بل أحسب
(2)
، وهو استفهام إنكار، ثم قال:{سَوَاءً} نصبًا، جعلوه مفعولًا ثانيًا، تقديره: أن نَجْعَلَ مَحْياهُمْ ومَماتَهُمْ سَواءً
(3)
،
(1)
من أول قوله: "والشرائع فِي الدين". قاله أبو بكر النقاش بنصه في شفاء الصدور ورقة 10/ أ.
(2)
يعني أن "أمْ" هنا منقطعة بمعنى "بَلْ" والهمزةِ جميعًا.
(3)
هذا التأويل لا يصح على قراءة نصب "سَواءً"؛ لأن المفعول الأول لـ {نَجْعَلَ} هو الضمير "هُمْ" في {نَجْعَلَهُمْ} ، و {سَوَاءً} هو المفعول الثانِي، و {مَحْيَاهُمْ} فاعل بـ {سَوَاءً} ، و"مَماتُهُمْ" معطوف عليه، ومعناه: أن نجعلهم مُسْتَوِيَا محياهم ومَماتُهُمْ، وأما التأويل الذي ذكره المؤلف هنا فمعناه أن {مَحْيَاهُمْ} بدل من الضمير "هُمْ" في {نَجْعَلَهُمْ} ، وهذا إنما يَتَأتَّى على قراءة الأعمش {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} بالنصب فيها جميعًا، وهو قول الأخفش والزجاج، ينظر: معاني القرآن للأخفش ص 476 - 477، معانِي القرآن وإعرابه 4/ 433، إعراب القرآن 4/ 146، الفريد للهمداني 4/ 283 - 284.
واختاره أبو عبيد وقال
(1)
: معناه: نجعلهم سواءً، وقيل
(2)
: هو منصوب على الحال.
وقرأ الآخرون بالرَّفع
(3)
على الابتداء والخبر، وهو خبر مقدم
(4)
، تقديره: مَحْياهُمْ ومَماتُهُمْ سَواءٌ
(5)
، وأمالَ الكسائيُّ {مَحْيَاهُمْ}
(6)
، وقرأ الأعمش:{وَمَمَاتُهُمْ}
(7)
نصبًا على الظرف؛ أي: في محياهم ومماتهم
(8)
، {سَاءَ مَا
(1)
ينظر اختيار أبِي عبيد وقوله في إعراب القرآن 4/ 145 - 146، الكشف والبيان 8/ 360.
(2)
وإذا جعل "سَواءً" حالًا، فالمفعول الثانِي لـ {نَجْعَلَ} هو الكاف في قوله:{كَالَّذِينَ} ، وصاحب الحال هو الضمير "هُمْ" في قوله:{نَجْعَلَهُمْ} ، وقوله:{مَحْيَاهُمْ} فاعل بـ {سَوَاءً} ؛ لأنه بمعنى "مُسْتَوِيًا"، ينظر: مشكل إعراب القرآن 2/ 297، كشف المشكلات 2/ 357، التبيان للعكبري ص 1152، الفريد للهمداني 4/ 284.
(3)
قرأ ابنُ كثير ونافعٌ وأبو عمرو وابنُ عامر، وأبو بكر عن عاصمٍ، وأبو جعفر ويعقوبُ:"سَواءٌ" بالرفع، وقرأ زيد بن عَلِيٍّ وحمزة والكسائي وخلف وحفص عن عاصم بالنصب، ينظر: السبعة ص 595، تفسير القرطبي 16/ 165، البحر المحيط 8/ 47، الإتحاف 2/ 467.
(4)
في الأصل: "وهو ابتداء خبر مقدم".
(5)
ويكون المفعول الأول لـ {جَعَلَ} هو الضمير {هُمْ} في {نَجْعَلَهُمْ} ، والمفعول الثاني هو جملة المبتدأ والخبر.
(6)
وهي قراءة وَرْشٍ أيضًا، وقَلَّلَهُ الأزرقُ. ينظر: غيث النفع ص 261، النشر 2/ 37، الإتحاف 2/ 467.
(7)
وهي قراءة عيسى بن عمر أيضًا، ينظر: مختصر ابن خالويه ص 139، تفسير القرطبي 16/ 166، البحر المحيط 8/ 48.
(8)
قاله الفراء في معاني القرآن 3/ 47، وهو قول ابن الأنباري أيضًا، فقد قال:"ويجوز في العربية: "سَواة مَحْياهُمْ وَمَماتَهُمْ" بالنصب، على معنى: سَواءً في مَحْياهُمْ وَمَماتِهِمْ، فلما أسقطنا الخافض نصبناه على المَحَلِّ". إيضاح الوقف والابتداء ص 892، وبه قال الزمخشري والباقولِيُّ، ينظر: الكشاف 3/ 512، كشف المشكلات 2/ 357، وذهب الأخفش والزجاج إلى أن {مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} بالنصب بدل من الضمير في {نَجْعَلَهُمْ} ، ينظر: معانِي القرآن للأخفش ص 476، معانِي القرآن وإعرابه 4/ 433، وينظر أيضًا: إعراب القرآن 4/ 146 - 147، الفريد 4/ 284 - 285.
يَحْكُمُونَ (21)}؛ أي: بئس ما يقضون حين يرون أن لهم في الآخرة ما لِلْمُؤْمِنِينَ الذين عملوا الصالحات.
قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني: واضحات من الحلال والحرام، وهو في موضع نصب على الحال {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وقد تقدم نظيره من سورة الدخان
(1)
، ونصب {حُجَّتَهُمْ} على أنه خبر "كانَ"؛ لأن الحجة والاحتجاج واحد، والاسم قوله:{إِلَّا أَنْ قَالُوا} ؛ أي: إلا مَقالَتُهُمْ.
قوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} ؛ أي: مُجْتَمِعةً مُسْتَوْفِزةً على رُكَبِها من هَوْلِ يوم القيامة، وأصل الجُثْوةِ: الجَماعةُ من كل شيء
(2)
، قال طرفة يَصِفُ قَبْرَيْنِ:
239 -
تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرابٍ عَلَيْهِما
…
صَفائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ
(3)
قال سفيان
(4)
: المُسْتَوْفِزُ: هو الذي لا يُصِيبُ الأرضَ منه شَيْءٌ إلّا رُكْبَتاهُ وأطْرافُ أصابِعِهِ.
(1)
الآية 36، وهي قوله تعالى:{فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، وينظر ما تقدم 3/ 16.
(2)
قاله الثعلبي في الكشف والبيان 8/ 366، وينظر: تفسير القرطبي 16/ 174، والمُسْتَوْفِزُ: القاعِدُ قُعُودًا غَيْرَ مُطْمَئِنِّ، والوَفَزةٍ: العَجَلةُ. اللسان: وفز.
(3)
البيت من الطويل لِطَرَفةَ بن العبد، من معلقته.
اللغة: الجُثْوَتانِ: تثنية جُثْوةٍ، وهي كومة من تراب متجمع كالقبر، الصَّفائح: حجارة رِقاقٌ عراض، صُمٌّ: شديدة صلبة، نَضَدَ المتاعَ: جعل بعضه على بعض، والتنضيد: مبالغة فيه.
التخريج: ديوانه ص 53، غريب الحديث للهروي 3/ 205، جمهرة اللغة ص 416، 1034، معانِي القرآن للنحاس 6/ 43، تهذيب اللغة 11/ 171، الكشف والبيان 8/ 366، أساس البلاغة: جثو، عين المعانِي 121/ ب، تفسير القرطبي 11/ 133، 16/ 174، اللسان: جثا، البحر المحيط 8/ 50، الدر المصون 6/ 132، التاج: جثا.
(4)
ينظر قوله في شفاء الصدور ورقة 12/ ب، تفسير القرطبي 16/ 174.