الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمعنى: أنه يَنْتَفِعُ بها أهْلُ البَوادِي والأسفار، ومنفعتهم بها من منفعة أهل الحَضَرِ؛ لأنهم يوقدونها ليلًا لتهرب منهم السباع، ويهتدي بهم الضّالُّ عن الطريق.
فصل
عن أبِي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن نارَكُمْ هذه التي يُوقِدُ بنو آدم جُزْءٌ من سبعين جُزْءًا من حَرِّ جَهَنَّمَ"، قالوا: واللَّهِ إنْ كانَتْ لَكافِيَتَنا يا رسول اللَّه، قال:"فإنها فُضِّلَتْ عليها بِتِسْعةٍ وسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّها مِثْلُ حَرِّها"
(1)
.
قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} معناه: أُقْسِمُ، و {لَا} صلة زائدة، المعنى: فَأُقْسِمُ
(2)
، وتصديقه قراءة عيسى بن عمر:{فَلأُقْسِمُ}
(3)
= اللغة: حُيِّيتَ: أحْياكَ اللَّهُ، تَقادَمَ عَهْدُهُ: طالَ عَهْدُهُ بأهلِهِ وَقَدُمَ، فَتَغَيَّرَ لذلك، أقْوَى: خَلا من أهلِهِ، أُمُّ الهَيْثَمِ: كُنْيةُ عَبْلةَ محبوبتهِ.
التخريج: ديوانه ص 189، الأغانِي 7/ 137، 8/ 134، 15/ 132، 133، تهذيب اللغة 1/ 424، المحرر الوجيز 5/ 250، شمس العلوم 8/ 5679، زاد المسير 1/ 81، تفسير القرطبي 17/ 222، اللسان: شرع، اللباب فِي علوم الكتاب 18/ 426، التاج: شرع.
(1)
رواه الإمام أحمد في المسند 2/ 244، 313، 478، ومسلم في صحيحه 8/ 149 كتاب الجنة وصفة نعيمها: باب فِي شدة حَرِّ نار جهنم، والترمذي في سننه 4/ 110 أبواب صفة جهنم: باب ما جاء "إن ناركم هذه جزء. . . إلخ".
(2)
قاله سعيد بن جبير وأبو عبيدة والزجاج وكثير من العلماء، ينظر: مجاز القرآن 2/ 252، 277، جامع البيان 27/ 264، معانِي القرآن وإعرابه 5/ 115، وينظر أيضًا: المسائل الحلبيات ص 147، المسائل الشيرازيات ص 152، الكشاف 4/ 58 وغيرها.
(3)
وهي قراءة الحسن وحُمَيْدٍ أيضًا. ينظر: المحتسب 2/ 309، تفسير القرطبي 17/ 223، البحر المحيط 8/ 212.
على التحقيق، وقال بعض أهل العربية
(1)
: معناه: فليس الأمر كما يقولون، ثم استأنف القَسَمَ فقال:"أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ".
وعَنَى بالنجوم نُجُومَ القرآن التي كانت تُنَزَّلُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نُجُومًا متفرقةً، قال ابن عباس
(2)
: نزل القرآن فِي ليلة القدر جُمْلةً من عند اللَّه من اللَّوْحِ المحفوظ إلى السَّفَرةِ الكِرامِ الكاتبين فِي السماء الدنيا، فنَجَّمَتْهُ السَّفَرةُ الكِرامُ على جبريل عليه السلام عشرين ليلة، ونَجَّمَهُ جِبْرِيلُ على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، فذلك قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} يعني نجوم القرآن، وقيل: أراد مَشارِقَ النجوم ومَغارِبَها، وقيل: أراد منازلها، وقيل: أراد انْكِدارَها وانْتِثارَها يوم القيامة.
واختلف القراء فيه، فقرأ حمزة والكسائي وخلف:"بِمَوْقِعِ"
(3)
ساكنة
(1)
هذا قول الفراء، فقد قال فِي الآية الأولى من سورة القيامة:"وقوله: {لَا أُقْسِمُ} كان كثير من النحويين يقولون: "لا" صلة. قال الفراء: ولا يُبْتَدَأُ بِجَحْدٍ ثم يُجْعَلُ صِلةً، يُرادُ به الطَّرْحُ؛ لأن هذا لو جاز لَمْ يُعْرَفْ خَبَرٌ فيه جَحْدٌ من خَبَرٍ لا جَحْدَ فيه، ولكن القرآن جاء بالرَّدِّ على الذين أنكروا البعثَ والجنةَ والنارَ، فجاء الإقْسامُ بالرَّدِّ عليهم في كثير من الكلام: المبتدأ منه وغير المبتدأ، كقولك في الكلام: لا واللَّهِ لا أفْعَلُ ذاك، جعلوا "لا"، وإن رَأيْتَها مبتدأةً، رَدًّا لكلام قد كان مَضَى، فلو ألْقَيْتَ "لا" مما يُنْوَى به الجَوابُ لَمْ يكن بين اليمين التي تكون جوابًا واليمينِ التي تُسْتَأنَفُ فَرْقٌ". معانِي القرآن 3/ 207، وينظر: جامع البيان 27/ 264، الكشف والبيان 9/ 218، المحرر الوجيز 5/ 250.
(2)
قول ابن عباس رواه الحاكم في المستدرك 2/ 530 كتاب التفسير: سورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} ، وينظر: تفسير القرطبي 2/ 297، 17/ 224، 20/ 130، الدر المنثور 4/ 205.
(3)
وبهذا قرأ أيضًا: ابنُ مسعود وعُمَرُ بنُ الخطاب وابنُ عباس، رضي الله عنهم، والنَّخْعِيُّ والحسنُ وابنُ مُحَيْصِنٍ والأعمشُ ورُويسٌ ويعقوبُ، ينظر: السبعة ص 624، تفسير القرطبي 17/ 224، البحر المحيط 8/ 213، النشر 2/ 383، الإتحاف 2/ 517.
الواو محذوفة الألف على الواحد، قال المبرد
(1)
: "مَوْقِعٌ" هاهنا مصدر فهو يصلح للواحد والجمع، وقرأ الباقون:"بِمَواقِعِ" على الجمع، وهو الاختيار
(2)
.
قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} أخْبَرَ عن عِظَمِ القَسَمِ، قال الفَرّاءُ
(3)
والزَّجّاجُ
(4)
: وهذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نُزُولُ القرآن، والضمير في "إنّهُ" يعود على القَسَمِ، ودَلَّ عليه "أُقْسِمُ"، والمعنى: وَإنّ القَسَمَ بمواقع النجوم لَقَسَمٌ عَظِيمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ.
ثم ذكر المُقْسَمَ عليه بقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} حَسَنٌ عَزِيزٌ مُكَرَّمٌ، وقيل: غير مَخْلُوقٍ، وقيل: سُمِّيَ كَرِيمًا لأنّ يُسْرَهُ يَغْلِبُ عُسْرَهُ
(5)
، وقال مقاتل
(6)
: كَرَّمَهُ اللَّهُ وأعَزَّهُ لأنه كلامه، وقال أهل المعانِي
(7)
: القرآن الكريم: الذي من شأنه أن يُعْطِيَ الخَيْرَ الكَثِيرَ بالدلائل التي تُؤَدِّي إلى الحَقِّ في الدِّينِ، قال الأزهريُّ
(8)
: الكَرِيمُ: اسْمٌ جامِعٌ لِما يُحْمَدُ، والقرآن كَرِيمٌ لِما فيه من الهُدَى والبَيانِ والعلم والحكمة.
(1)
ينظر قوله في الوسيط 4/ 239.
(2)
قال ابن خالويه: "وقرأ الباقون بالجمع، وهو الاختيار، لأن مواقع النجوم هاهنا يعني بها نجوم القرآن ونُزُولَها من السماء الدنيا على محمد عليه السلام، وكان يَنْزِلُ نجومًا". إعراب القراءات السبع 2/ 347 - 348.
(3)
معانِي القرآن 3/ 129.
(4)
معانِي القرآن وإعرابه 5/ 115.
(5)
تنظر هذه الأقوال في: الكشف والبيان 9/ 218، زاد المسير 8/ 151، تفسير القرطبي 17224.
(6)
ينظر قوله في الوسيط 4/ 239.
(7)
ذكره الواحدي في الوسيط 4/ 239.
(8)
تهذيب اللغة 10/ 234.
{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)} مَصُونٍ مَسْتُورٍ من خَلْقِهِ عند اللَّه في اللَّوْحِ المحفوظ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} قال أكثر المفسرين
(1)
: الكناية فِي قوله: {لَا يَمَسُّهُ} تعود إلى الكتاب المكنون، والمُطَهَّرُونَ هم الملائكة الذين طُهِّرُوا من الذنوب، قال: لا يَمَسُّ ذلك اللَّوْحَ المحفوظَ إلا الملائكةُ الذين وُصِفُوا بالطهارة من الذنوب، وذهب قوم إلى أن الضمير يعود إلى القرآن، والمراد به المُصْحَفُ، سَمّاهُ قُرْآنًا على قُربِ الجِوارِ والاتِّساعِ
(2)
، كالخبر الصحيح:"أنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ يُسافَرَ بِالقُرْآنِ إلَى أرْضِ العَدُوِّ"
(3)
، يَعْنِي به المُصْحَفَ.
وأراد بقوله: "المُطَهَّرُونَ"، يعني: من الأحْداثِ والجَناباتِ والنَّجاساتِ، وقالوا: لا يجوز لِلْمُحْدِثِ والجُنُبِ والحائِضِ مَسُّ المُصْحَفِ. وبه قال مالك والشافعيُّ وطاوُوسُ
(4)
وغَيْرُهُمْ من أهل العلم
(5)
، بدليل ما رَوَى عَبْدُ الِله بن
(1)
ينظر: معانِي القرآن للفراء 3/ 129، 130، جامع البيان 27/ 266، معانِي القرآن وإعرابه 5/ 116، الكشف والبيان 9/ 219، الوسيط 4/ 239، المحرر الوجيز 5/ 251.
(2)
قاله الشريف المرتضى في أماليه 1/ 427، وذكره الثعلبي في الكشف والبيان 9/ 219، وينظر: الوسيط 4/ 239.
(3)
رواه الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر في المسند 2/ 7، 55، 128، والبخاري في صحيحه 4/ 15 كتاب الجهاد: باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو، ورواه مسلم في صحيحه 6/ 30 كتاب الإمارة: باب النهي أن يُسافَرَ بالمصحف إلى أرض الكفار.
(4)
هو طاوُوسُ بن كَيْسانَ، أبو عبد اللَّه اليمانِيُّ الخَوْلَانِيُّ الهَمْدانِيُّ بالولاء، من أكابر التابعين تفقّها في الدين وروايةً للحديث، أصله من الفرس، ومولده ونشأته باليمن، وتوفِّي حاجًّا سنة (106 هـ)، وكان يأبَى القُرْبَ من الملوك والأمراء. [تهذيب الكمال 13/ 357 - 374، سير أعلام النبلاء 5/ 38 - 49، الأعلام 3/ 224].
(5)
الموطأ 1/ 199، وينظر: المجموع للنووي 2/ 65، 67، 68، 72.
أبِي بكر
(1)
عن أبيه قال: كان في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بن حَزْمٍ
(2)
: "لَا يُمسُّ القُرْآنُ إلّا عَلَى طُهْرٍ"
(3)
.
وأصل قوله: "لَا يَمَسُّهُ": لا يَمْسَسُهُ، فأُدْغِمَت السين بالسين، ونُقِلَت الحركة إلى الميم، فظاهر الآية خبر، ومعناها نَهْيٌ، كقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}
(4)
ونحوها، فاللفظ لفظ الخبر، والمراد به النَّهْيُ.
قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} يعني: القُرآنُ مُنَزَّلٌ من عند رَبِّ العالمين على رسولِهِ سَيِّدِ المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، فَسُمِّيَ المُنَزَّلُ تَنْزِيلًا على اتساع اللغة، كما تقول للمقدور: قَدَرٌ، وللمخلوق: خَلْقٌ، و"تَنْزِيلٌ" رفع على
(1)
عبد اللَّه بن أبِي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، أبو محمد المديني، تابعي ثقة ثبت صدوق، كان كثير الحديث، روى عن أنس بن مالك وعروة بن الزبير وغيرهم، توفِّي سنة (135 هـ)، وقيل:(130 هـ). [التاريخ الكبير 5/ 54، تهذيب الكمال 14/ 349 - 351، سير أعلام النبلاء 5/ 314 - 315].
(2)
عمرو بن حزم بن زيد بن لَوْذانَ، أبو الضحاك الأنصاري، والٍ من الصحابة، شهد غزوة الأحزاب وما بعدها، استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على نَجْرانَ، وتوفِّي سنة (53 هـ). [أسد الغابة 4/ 98، الإصابة 4/ 511، الأعلام 5/ 76].
(3)
رواه عبد الرزاق في مصنفه 1/ 341، 342، وينظر: الكشف والبيان 9/ 220، الوسيط 4/ 240.
(4)
البقرة 228، وهذا وجه، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبِي حنيفة، والوجه الثانِي: أن يكون اللفظ والمعنى نَهْيًا، وهو مذهب ابن عمر ومالك والشافعي وطاووس، وذلك بأن تكون "لا" ناهية، ويكون "يَمَسُّهُ" مجزومًا بـ "لا"، قاله مَكِّيُّ بن أبِي طالب في مشكل إعراب القرآن 2/ 354، وينظر: المحرر الوجيز 5/ 252، الفريد 4/ 422، تفسير القرطبي 17/ 225 - 226.
خبر ابتداء محذوف تقديره: هو تَنْزِيلٌ، ويحتمل أن يكون رَفْعُهُ على البَدَلِ من قوله:{لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}
(1)
.
قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} يعني القرآن {أَنْتُمْ} يا أهل مكة {مُدْهِنُونَ (81)} مُكَذِّبُونَ كافرون، والمُدْهِنُ والمُداهِنُ: الكَذّابُ المنافق
(2)
، ومعنى المُدْهِنِ من الإدْهانِ وهو الجَرْيُ في الباطن على خلاف الظاهر، هذا أصله.
قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} يعني حَظَّكُمْ ونَصِيبَكُمْ من القرآن {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} وقيل
(3)
: هذا فِي الاستسقاء، كانوا يقولون: مُطِرْنا بنَوْءِ كَذا، ولا يَنْسُبُونَ ذلك إلى اللَّه تعالى، فقيل لهم:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي: شُكْرَكُمْ بما رُزِقْتُم التكذيبَ، والمعنى: شُكْرَ رِزْقِكُمْ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كقوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}
(4)
ونحوها.
(1)
لا وجه للبدل هنا، ولكن "تَنْزِيلٌ" إما أن يكون خَبَرًا لمبتدأ محذوف، وإما أن يكون صفة أخرى لـ "قُرآنٌ"؛ أي: مُنَزَّلٌ من رَبِّ العالمين، من باب تسمية المفعول بالمصدر، كالخَلْقِ بمعنى المَخْلُوقِ، ينظر: معانِي القرآن وإعرابه 5/ 116، الكشاف 4/ 59، الفريد للهمداني 4/ 423.
(2)
قاله الزجاج فِي معانِي القرآن وإعرابه 5/ 116، وينظر أيضًا: تهذيب اللغة 6/ 207.
(3)
قاله ابن عباس وعطاء وابن قتيبة، ينظر: غريب القرآن لابن قتيبة ص 452، الوسيط 4/ 240، زاد المسير 8/ 154، تفسير القرطبي 17/ 228.
(4)
يوسف 82، وهذا قول الزجاج والنحاس، ينظر: معانِي القرآن وإعرابه 5/ 116، إعراب القرآن 4/ 344، وقال الطبري:"وقد ذُكِرَ عن الهيثم بن عَدِيٍّ أن من لغة أزْدِ شَنُوءةَ: ما رِزْقُ فُلانٍ؟ بمعنى: ما شُكْرُه". جامع البيان 27/ 270، وقال ابن دريد: "والرِّزق: الشكر، لغة سَرَويّة، قال الشاعر:
مَنَنْتُ عَلَى رُجّالِ عَمْرٍو
…
بِرَزاقِيٍّ غَيْرِ مَرْزُوقِ
أي؛ غير مَشْكُورٍ، ومنه:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} ؛ أي: شُكْرَكُمْ". جمهرة اللغة 2/ 707 - 708، =
قوله: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)} ؛ أي: فَهَلَّا إذا بلغت الرُّوحُ أو النَّفْسُ الحُلْقُومَ عند خروجها من الجَسَدِ، فحذف النفس لدلالة الكلام عليها، كقول الشاعر:
337 -
لَعَمْرُكَ ما يُغْنِي الثَّراءُ عَنِ الفَتَى
…
إذا حَشْرَجَتْ يَوْمًا، وَضاقَ بِها الصَّدْرُ
(1)
قوله: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)} يعني: إلى أمْرِي وسُلْطانِي، قال ابن عباس
(2)
: يريد: مَنْ حَضَرَ المَيِّتَ مِنْ أهْلِهِ، ينظرون إليه مَتَى تَخْرُجُ نَفْسُهُ؟ قال الفراء
(3)
: وذلك معروف من كلام العرب أن يُخاطِبُوا الجماعةَ بالفعل كأنهم أهْلُهُ وأصْحابُهُ والمراد بعضهم، غائبًا كان أو شاهدًا، فتقول: أقَتَلْتُمْ فُلَانًا، والقاتل منهم واحدٌ، ويقولون لأهل المسجد إذا آذَوْا رَجُلًا بالازدحام: اتَّقُوا اللَّهَ! فَإنّكُمْ تُؤْذُونَ المُسْلِمِينَ.
قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} يعني: مَلَكَ الموت وَحْدَهُ، إذا أتى لِقَبْضِ
= وينظر أيضًا: تهذيب اللغة 8/ 430، غريب القرآن للسجستانِي ص 155، الوسيط 4/ 240، المحرر الوجيز 5/ 252، تفسير القرطبي 17/ 228.
(1)
البيت من الطويل، لحاتم الطائي، ورواية ديوانه:"أما وَيَّ ما يُغْنِي"، والحَشْرَجةُ: تَرَدُّدُ النَّفَسِ عند الموت.
التخريج: ديوانه ص 83، غريب الحديث للهروي 3/ 80، الشعر والشعراء ص 252، جمهرة اللغة ص 1034 - 1133، العقد الفريد 3/ 232، الصاحبي ص 441، الكشف والبيان 9/ 223، أمالِيُّ المرتضى 2/ 155، أساس البلاغة: حشر، أمالِيُّ ابن الشجري 1/ 90، 3/ 117، زاد المسير 8/ 155، عين المعانِي ورقة 131/ أ، تفسير القرطبي 17/ 12، 230، شرح التسهيل لابن مالك 1/ 157، اللسان: حشرج، قرن، البحر المحيط 8/ 380، همع الهوامع 1/ 219، خزانة الأدب 4/ 212.
(2)
ينظر قوله في الكشف والبيان 9/ 223، تفسير القرطبي 17/ 231.
(3)
معانِي القرآن 3/ 130 باختلاف في ألفاظه.
رُوحِهِ أقْرَبُ إلى الميت من أهله، وقيل: أراد مَلَكَ الموت وأعْوانَهُ، والمعنى: وَرُسُلُنا القابِضُونَ لِرُوحِهِ أقْرَبُ إليه منكم {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)} يعني: أولئك الحاضرين.
قوله: {فَلَوْلَا} ؛ أي: فَهَلّا {إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)} ؛ أي: غير مَمْلُوكِينَ أذِلَّاءَ، من قولك: دِنْتُ له بالطاعة
(1)
، وقيل
(2)
: مُحاسَبِينَ ومَجْزِيِّينَ.
فإن قيل: أين جواب قولِهِ: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} وقولِهِ: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} ؟ فالجواب عنه ما قاله الفراء
(3)
: أنهما أُجِيبا بجوابٍ واحدٍ، وهو قوله تعالى:{تَرْجِعُونَهَا} ، وربما أعادت العَرَبُ الحرفين ومعناهما واحد، وهذا من ذلك، ومنه قوله تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
(4)
أُجِيبا بجواب واحد وهما جزاءان، وقيل
(5)
: في الآية تقديمٌ وتأخيرٌ، مَجازُها: فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها، أي: تَرُدُّونَ نَفْسَ المَيِّتِ إلى جَسَدِهِ إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ.
ثم ذكر طَبَقاتِ الخَلْقِ عند الموت بقوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ} يعني هذا الميت {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)} يريد: عند اللَّه في الدرجات والفضل {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}
(1)
قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ص 452، وينظر: غريب القرآن للسجستانِي ص 155.
(2)
قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 253، وحكاه عنه ابن قتيبة في غريب القرآن ص 452، وحكاه ابن الجوزي عن ابن عباس وابن جبير والحسن وعطاء وعكرمة في زاد المسير 8/ 155، وينظر أيضًا: غريب القرآن للسجستانِي ص 155.
(3)
معانِي القرآن 3/ 130.
(4)
البقرة 38.
(5)
ذكره الثعلبي بغير عزو في الكشف والبيان 9/ 224، وينظر: تفسير القرطبي 17/ 232، اللباب في علوم الكتاب 18/ 445.
رفع لأنه خبر الصفة المحذوفة، تقديره: فَلَهُ رَوْحٌ وَريحانٌ {وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)} قرأ العامة: {فَرَوْحٌ} بفتح الراء، وقرأ الحسن وقتادة ويعقوب بضم الراء
(1)
، وَرُوِيَ أنّها قِراءةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(2)
، فَمَنْ ضَمَّ الرّاءَ أراد: فَحَياةٌ لا مَوْتَ فيها
(3)
، ومَنْ فَتَحَ الراء فمعناه: طِيبُ نَسِيمٍ، {وَرَيْحَانٌ} رِزْقٌ فِي الجنة، وقيل
(4)
: هو الرِّيْحانُ المعروف الذي يُشَمُّ، والمقربون هم السابقون.
قال أبو العالية
(5)
: لا يُفارِقُ أحَدٌ من المُقَرَّبِينَ الدنيا حتى يُؤْتَى بِغُصْنٍ من ريحانِ الجنة، فَيَشَمُّهُ ثم تُقْبَضُ رُوحُهُ
(6)
.
(1)
وقرأ بِضَمِّ الرّاءِ أيضًا: ابنُ عباس والضحاكُ والأشهبُ ونُوحٌ القارئُ وبُدَيْلٌ وسليمانُ التَّيْمِيُّ وشعيبُ بنُ الحارث والرَّبِيعُ بن خُثَيْمٍ وأبو عمران الجَوْنِيُّ وأبو جعفر محمد بن عَلِيٍّ، وفَيّاضٌ وعبدُ الوارث كلاهما عن أبِي عمرو، ورُويسٌ. ينظر: مختصر ابن خالويه ص 152، المحتسب 2/ 310، تفسير القرطبي 17/ 232، البحر المحيط 8/ 215.
(2)
رواه الإمام أحمد بسنده عن السيدة عائشة في المسند 6/ 64، 213، وأبو داود في سننه 2/ 247، كتاب الحروف والقراءات، والترمذي في سننه 4/ 261 أبواب القراءات عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(3)
قاله الفراء والزجاج، ينظر: معانِي القرآن للفراء 3/ 131، معانِي القرآن وإعرابه 5/ 117.
(4)
قاله ابن عمر والحسن وقتادة وأبو العالية وأبو الجوزاء، ينظر: إعراب القرآن للنحاس 4/ 346، تفسير القرطبي 17/ 233.
(5)
هو رُفَيْعُ بنُ مهران الرِّياحِيُّ البصري، الإمام المقرئ المفسر، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم شابًّا، وأسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وسمع من عُمَرَ وعَلِيٍّ وعائشة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وقرأ القرآن على أُبَيِّ بنِ كعب وتصدر لإفادة العلم، توفِّي سنة (90 هـ). [تهذيب الكمال 9/ 214: 218، غاية النهاية 1/ 284، سير أعلام النبلاء 4/ 207 - 213].
(6)
ينظر قوله في جامع البيان 27/ 276، الكشف والبيان 9/ 234، الوسيط 4/ 242، تفسير القرطبي 17/ 233.
واختلف في ذلك أهلُ اللسان، فقال أبو بكر الوَرّاقُ: الرَّوْحُ: النجاة من النار والرَّيْحانُ: دخول دار القَرارِ، وقيل: الرَّوْحُ: السلامة، والرَّيْحانُ: الكرامة، وقيل: الرَّوْحُ: مُعانَقةُ الأبكار، والرَّيْحانُ: مرافقة الأبرار، وقيل: الرَّوْحُ: الموت على الشهادة، والرَّيْحانُ: نداء السعادة، وقيل: الرَّوْحُ: كَشْفُ الكُرُوبِ، والرَّيْحانُ: غُفْرانُ الذُّنُوبِ، وقيل: الرَّوْحُ: تخفيف الحساب، والرَّيْحانُ: تضعيف الثواب، وقيل: الرَّوْحُ: عَفْوٌ بلا عتاب، والرَّيْحانُ: رِزْقٌ بلا حساب، وقيل: الرَّوْحُ لأزواجهم، والرَّيْحانُ لِقُلُوبِهِمْ، والجنة لأبدانهم، وقيل:"فَرَوْحٌ" للسابقين، "وَريحانٌ" لِلْمُقْتَصِدِينَ، "وَجَنّةُ نَعِيمٍ" للصائمين
(1)
.
قوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ} يعني هذا الميت {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90)} وهم التابعون بإحسان {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} ؛ أي: سَلَامةٌ لك يا محمد من أصحاب اليمين، يعني: أنك ترى فيهم ما تُحِبُّ من السلامة، وقيل: معناه: فَسَلَامٌ عليك من أصحاب اليمين، وارتفع على معنى: فَلَكَ سَلامٌ، وَهُوَ سَلَامٌ لَكَ مِنْ أصْحابِ اليَمِينِ
(2)
.
قوله: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ} يعني هذا المَيِّتَ {مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} يعني: بالبعث {الضَّالِّينَ (92)} عن الهُدَى، قال الحسن: وهم أصحاب المشأمة {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)} ؛ أي: فَلَهُ نُزُلٌ من حميم وهو الحارُّ الشديد الذي قد انتهى حَرُّهُ {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)} وإدْخالُ نارٍ عَظِيمٍ
(3)
، والجَحِيمُ: ما عَظُمَ من النار.
(1)
ينظر في هذه الأقوال: الكشف والبيان 9/ 224، 225، عين المعانِي ورقة 131/ ب.
(2)
يعني بقوله: "فلك سلامٌ" أنه مبتدأ وخبر، وبقوله:"وهو سلام لك. . . " أن "سَلامٌ" خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هو"، ينظر: مشكل إعراب القرآن 2/ 355.
(3)
قوله: "وَإدْخالُ نارِ عَظِيمٍ" فيه تذكير لوصف النار، وهي مؤنثة، ولا تُذَكَّرُ بحالٍ، قال الفراء:"والنار: أنثَى، وتَحْقِيرُها: نُوَيْرةٌ، وتجمعها: أنْوُرٌ ونيرانٌ". المذكر والمؤنث =