الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المفسرون
(1)
: وذلك أنه لَمّا يَئسَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من قومِهِ أهلِ مَكّةَ أن يُجِيبُوهُ خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام، فلما انصرف إلى مكة، فكان بِبَطْنِ نَخْلةَ بين مكة والطائف، قام يقرأ القرآن فِي صلاة الفجر، فَمَرَّ به نَفَرٌ من أشراف جِنِّ نَصِيبِينَ وساداتِهِمْ، فاستمعوا لقراءته، فجعلهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم رُسُلًا إلى قومهم، وذلك قوله تعالى:{فَلَمَّا حَضَرُوهُ} ؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: حضروا استماع القرآن {قَالُوا أَنْصِتُوا} يعني: قال بعضهم لبعض: صَهْ! أنْصِتُوا لِلْقُرْآنِ {فَلَمَّا قُضِيَ} بفتح القاف والضاد
(2)
يعنِي النبي صلى الله عليه وسلم {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} ؛ يعني: مُخَوِّفِينَ مُحَذِّرِينَ إيّاهُمْ عَذابَ اللَّه إن لَمْ يؤمنوا، داعِينَ قَوْمَهُمْ إلى الإيمان باللَّه وبرسوله، ونصب {مُنْذِرِينَ} على الحال.
فصل
اختلف العلماء فِي مُؤْمِنِي الجِنِّ! هل يدخلون الجنة كَمُؤْمِنِي الإنْسِ أم لا؟ فقال بعضهم: ليس لِمُؤْمِنِي الجِنِّ ثوابٌ على إيمانهم إلا نَجاتُهُمْ من النار، وتَأوَّلُوا قوله تعالى:{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} ، وهذا جواب الأمر في قوله تعالى:{يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم {وَآمِنُوا بِهِ} ، وهذا يدل على أنه كان مبعوثًا إلى الجِنِّ كما كان مبعوثًا
= الضعفاء 7/ 22، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 106 كتاب التفسير: سورة الأحقاف، وينظر: تفسير القرطبي 16/ 213، الدر المنثور 6/ 44.
(1)
ينظر: تاريخ الطبري 2/ 346، 347، الكشف والبيان 9/ 19 - 20، الوسيط 4/ 115، البداية والنهاية 3/ 168.
(2)
هذه قراءة أبِي مِجْلَزٍ وخبيب بن عبد اللَّه بن الزبير ولاحق بن حميد، ينظر: تفسير القرطبي 16/ 216، البحر المحيط 8/ 67.
إلى الإنس، قال مقاتل
(1)
: ولَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إلى الإنس والجن قبله، وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة، بدليل ما رُوِيَ عن الليث
(2)
أنه قال: الجِنُّ ثَوابُهُمْ أن يُجارُوا من النار، ثم يُقالُ لَهُمْ: كُونُوا تُرابًا مِثْلَ البهائم.
وقال آخرون
(3)
: إنْ كان عليهم العقابُ في الإساءة، وجب أن يكون لهم الثواب في الإحسان مثل الإنس، وإلى هذا القول ذهب مالكٌ وابنُ أبِي ليلى، بدليل ما رُوِيَ عن الضَّحّاكِ أنه قال: الجِنُّ يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون، وهذا القول أصَحُّ؛ لأن المُسِيءَ منهم يدخل النار بدليل قوله تعالى:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}
(4)
، فكان المُحْسِنُ منهم يدخل الجنة، واللَّه أعلم بِنا وبِهِمْ.
قوله تعالى: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ} شرط {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} وهذا جواب الشرط؛ أي: لا يُعْجِزُ اللَّهَ فَيَسْبقُهُ، وقوله:{وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} أنصار يمنعونه من اللَّه {أُولَئِكَ} الذي لا يَجيبون داعيَ اللَّه {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)} .
(1)
هذا رأي الليث بن أبِي سُلَيْمٍ، ورُوِيَ عن أبي حنيفة، ينظر: الكشف والبيان 9/ 23، شرح صحيح مسلم للنووي 4/ 169، تفسير القرطبي 16/ 217، تفسير ابن كثير 4/ 184، فتح الباري 6/ 246، الدر المنثور 6/ 310.
(2)
هو الليث بن أبِي سُلَيْمِ الكوفي الليثي، محدث الكوفة وعالمها، صدوق كان من أوعية العلم، ومن أكثر الناس صلاة وصيامًا، اسم أبيه أيمن وقيل: أنس، توفي سنة (148 هـ). [تهذيب الكمال 24/ 279 - 288، سير أعلام النبلاء 6/ 179: 184]، وينظر قوله في شفاء الصدور ورقة 90/ أ.
(3)
هذا مذهب الحسن والضحاك والأوزاعي وأبِي يوسف، ينظر: الكشف والبيان 9/ 23، شرح صحيح مسلم للنووي 4/ 169، تفسير القرطبي 16/ 217 - 218، 19/ 189، تفسير ابن كثير 4/ 184، فتح الباري 6/ 246.
(4)
هود 119، والسجدة 13.
قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} ؛ أي: لَمْ يَصْعُبْ عليه ذلك، يقال: عَيِيتُ بالأمْرِ أعْيا، وكذلك: عَيِيتُ بالجواب: إذا لَمْ تَتَّجِهْ لَهُ
(1)
، وفَي فُلَانٌ بِأمْرِهِ: إذا لَمْ يَهْتَدِ له، ولَمْ يَقْدِرْ عليه.
وقوله: {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وهم أضْعَفُ خَلْقًا من السماوات والأرض، وهذا احتجاج على من أنكر البعث، قرأ العامة:{بِقَادِرٍ} بالباءِ والألفِ على الاسم، واختلفوا فِي وجه دخول الباء فيه، فقال أبو عبيدة
(2)
والأخفش
(3)
: الباء زائدة مؤكدة، وهي صلة كقوله تعالى:{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}
(4)
.
وقال الفراء
(5)
والكسائي
(6)
والزجاج
(7)
: الباء فيه دخلت للاستفهام والجحد في أول الكلام، كقوله تعالى:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ}
(8)
، والعرب تُدْخِلُها في الجحود إذا كانت رافعةً لِما قبلها كقول الشاعر:
248 -
فَما رَجَعَتْ بِخائِبةٍ رِكابٌ
…
حَكِيمُ بْنُ المُسَيَّبِ مُنْتَهاها
(9)
(1)
قاله النقاش في شفاء الصدور ورقة 21/ أ، وينظر: تهذيب اللغة 3/ 259.
(2)
مجاز القرآن 2/ 213.
(3)
معانِي القرآن للأخفش ص 478.
(4)
المؤمنون 20.
(5)
معانِي القرآن 3/ 56، ونص الكلام له.
(6)
ينظر قوله فِي إعراب القرآن للنحاس 4/ 174، الكشف والبيان 9/ 24، الوسيط 4/ 116، تفسير القرطبي 16/ 219.
(7)
معانِي القرآن وإعرابه 4/ 447.
(8)
يس 81.
(9)
البيت من الوافر للقُحَيْفِ العُقَيْلِيِّ.
التخريج: معانِي القرآن للفراء 3/ 57، معانِي القراءات للأزهري 2/ 313، الكشف والبيان 9/ 24، عين المعانِي ورقة 122/ ب، شرح التسهيل لابن مالك 1/ 385، اللسان: منى، =
وكذلك قال الفراء
(1)
: العرب تُدْخِلُ الباءَ مع الجحد، مثل قولك: ما أظُنُّكَ بِقائِيم، وهو قول الكسائيِّ
(2)
والزجاج أيضًا
(3)
.
وقرأ الأعرج وعاصم الجَحْدَرِيُّ وابنُ أبِي إسحاق ويعقوب: {يَقْدِرُ}
(4)
على الفعل، واختاره أبو حاتم؛ لأن دخول الباء في خبر "أنّ" قبيح
(5)
، واختار أبو عبيد قراءة العامة لأنها في قراءة عبد اللَّه:"قادِرٌ" بغير باء
(6)
{عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} على ذلك لا يُعْجِزُهُ شيءٌ.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّار} يعني: إذا كُشِفَ الغِطاءُ
= الجنى الدانِي ص 55، ارتشاف الضرب ص 1219، مغني اللبيب ص 149، شرح شواهد المغني ص 339، همع الهوامع 1/ 406، خزانة الأدب 10/ 137، 278.
(1)
معانِي القرآن 3/ 56.
(2)
ينظر قوله في إعراب القرآن للنحاس 4/ 174، الكشف والبيان 9/ 24.
(3)
معانِي القرآن وإعرابه 4/ 447.
(4)
وهي أيضًا قراءة ابن مسعود ورُوَيْسٍ ورَوْحٍ وزيد بن عَلِيٍّ وعمرو بن عبيد وعيسى بن عمر، وقرأ ابن مسعود:"قادِرٌ" بالرفع، ينظر: تفسير القرطبي 16/ 219، البحر المحيط 8/ 68، النشر 2/ 355، الإتحاف 2/ 405، 473.
(5)
هذا قبيح عند أبِي حاتم وحده، قال النحاس مُعَلِّقًا على كلام أبِي حاتم:"وفي هذا طَعْنٌ على مَنْ تقوم الحجة بقراءته، ومع ذلك فقد أجمعت الأئمة على أنْ قرؤوا: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ}، ولا نعلم بينهما فرقًا، ولا تجتمع الجماعة على ما لا يجوز". إعراب القرآن 4/ 174.
وقال الأزهري في آية "يس": "وكان أبو حاتم يُوَهِّنُ القراءةَ التي اجتمع عليها القراءُ ويُضَعِّفُها، وغَلِطَ فيما ذهب وَهَمُهُ إليه"، ثم قال الأزهريُّ:"وأجاز سيبويه وأبو العباس المبرد وأبو إسحاق الزجاج وأحمد بن يحيى ما أنكره السجستانِيُّ، وهم أعلم بهذا الباب منه، والقُرّاءُ أكثرهم على هذه القراءة". معانِي القراءات 2/ 313.
(6)
ينظر اختيار أبي عبيد في الكشف والبيان 9/ 24، القرطبي 16/ 219.
عنها، فينظرون إليها، وانتصب {يَوْمَ} على إضمار فعل تقديره: واذكر يا محمد يوم يُعْرَضُ الذين كفروا على النار، وقد تقدم نظيرها في هذه السورة
(1)
{أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} ؛ أي: فَيُقالُ لهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ} لهم المُقَرِّرُ بذلك: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)} .
قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وهذا قول ابن عباس وقتادة
(2)
، وقال مقاتل
(3)
: هم سِتّةٌ: نُوحٌ صَبَرَ على أذَى قَوْمِهِ، وإبراهيمُ صَبَرَ على النار، وإسحاقُ صَبَرَ على الذبح، ويعقوبُ صَبَرَ على فَقْدِ الوَلَدِ وذَهابِ البَصَرِ، ويوسفُ صَبَرَ في البئر والسجن، وأيوب صَبَرَ على الضُّرِّ، وقال الكلبي
(4)
: هم الذين أُمِرُوا بالجهاد والقتال، فأظهروا المكاشفة، وجاهدوا في الدين، وهذا قول السُّدِّيِّ، وقال أهل المعانِي والتحقيق
(5)
: كل الرسل أولو العزم، ولَمْ يَبْعَث اللَّهُ رسولًا إلّا كان ذا عَزْمٍ وحَزْمٍ ورَأْيٍ وكَمالِ عَقْلٍ، وإنما دخلت "مِنْ" للتجنيس لا للتبعيض، كما يقال: شَرَيْتُ أكْسِيةً مِنَ الخَزِّ، وَأرْدِيةً مِنَ البَزِّ
(6)
، وكأنه قيل له: اصبر كما
(1)
الآية 320/ 51.
(2)
ينظر: الكشف والبيان 9/ 25، الوسيط 4/ 116، الكشاف 3/ 528، المحرر الوجيز 5/ 107، تفسير القرطبي 16/ 220.
(3)
ينظر: الكشف والبيان 9/ 25، الوسيط 4/ 116، الكشاف 3/ 528، المحرر الوجيز 5/ 107، تفسير القرطبي 16/ 220.
(4)
ينظر: الكشف والبيان 9/ 25، الوسيط 4/ 116، تفسير القرطبي 16/ 220.
(5)
هذا قول ابن عباس وابن زيد، ينظر: جامع البيان 26/ 49، الكشف والبيان 9/ 25، الوسيط 4/ 116، المحرر الوجيز 5/ 107، تفسير القرطبي 16/ 220.
(6)
فعلى هذا تكون "مِنْ" مثلها في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} ، وهذا قول مقاتل وعَلِيِّ ابن مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ. ينظر: الكشف والبيان 9/ 25، الوسيط 4/ 116، عين المعانِي ورقة 122/ ب، الفريد للهمداني 4/ 303، البحر المحيط 8/ 68.