الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع والمئة
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِ مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لاِبْنِ صَيَّادٍ تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ. فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَضَهُ وَقَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ. فَقَالَ لَهُ مَاذَا تَرَى. قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا. فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ الدُّخُّ. فَقَالَ اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ. وَقَالَ سَالِمٌ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِى فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لاِبْنِ صَيَّادٍ يَا صَافِ وَهْوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ هَذَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ. وَقَالَ شُعَيْبٌ فِي حَدِيثِهِ فَرَفَصَهُ رَمْرَمَةٌ، أَوْ زَمْزَمَةٌ.
ومقصود البخاري منه الاستدلال هنا بقوله صلى الله عليه وسلم لابن صياد: "أتشهد أني رسول الله؟ " وكان إذ ذاك دون البلوغ، فإنه يدل على المدعى، ويدل على صحة إسلام الصبيّ وأنه لو أقر لقبل لأنه فائدة العرض. وقوله: إن عمر انطلق، هذا الحديث فيه ثلاثة قصص، أوردها المصنف تامة في الجهاد في باب كيف يعرض الإِسلام على الصبيّ من طريق معمر، وفي الأدب من طريق شعيب، واقتصر هنا على الاثنتين الأُوْلَيَين، وفي الشهادات على الثانية، وفي الفتن على الثالثة.
وقوله: قبَل ابن صياد بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: إلى جهته، وقوله: عند أُطُم بني مغالة، الأُطُم بضمتين، بناء كالحصن، ومَغَالة، بفتح الميم والمعجمة الخفيفة، بطن من الأنصار. وقوله: وقد قارب ابن صِيّاد الحلم، وفي رواية أبي ذَرٍّ "صائد" وكلا الأمرين كان يدعى به، وفي رواية معمر "وقد قارب ابن صياد يومئذ يحتلم"، ولم يقع ذلك في رواية الإِسماعيليّ، فاعترض به، فقال: لا يلزم من كونه غلامًا أن يكون لم يحتلم.
وقوله: أشهد أنك رسول الأميين، فيه إشعار بأن اليهود الذين كان ابن صيّاد منهم، كانوا معترفين ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن يدّعون أنها مخصوصة بالعرب، وفساد حجتهم واضح جدًا، لأنهم إذا قروا أنه رسول الله استحال أن يكذب على الله، فإذا ادعى أنه رسوله إلى العرب وإلى غيرهم تعين صدقه، فوجب تصديقه.
وقوله: فقال ابن صياد أتشهد أني رسول الله؟ وعند الترمذي عن أبي سعيد "أتشهد أنت أني رسول الله". وقوله: فرفضه، للأكثر بالضاد المعجمة، أي تركه. قال الزين بن المنير: أنكرها القاضي، ولبعضهم بالمهملة، أي دفعه برجله، قال عياض: كذا في رواية أبي ذَرٍ عن غير المستملي، ولا وجه لها. قال المازريّ: لعله رفسه، بالسين المهملة، أي ضربه برجله. قال عياض: لم أجد هذه اللفظة في جماهير اللغة بالصاد، قال: وفي رواية الأصيلي بالقاف بدل الفاء، وفي رواية عَيْدوس "فوقصه" بالواو والقاف.
وقوله: وقال رسول الله آمنت بالله وبرسله، وللمستملي "ورسوله" بالإِفراد، وفي حديث أبي سعيد "آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر". قال الزين بن المنير: إنما عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإِسلام على ابن صيّاد بناءًا على أنه ليس الدجال المحذَّر منه، ولا يتعين هذا، بل الذي يظهر أن أمره كان محتملًا، فأراد اختباره بذلك، فإن أجاب غلب ترجيح أنه ليس هو وإن لم يجب تمادى الاحتمال، أو أراد باستنطاقه إظهار كذبه المنافي لدعوى النبوءة، ولمّا كان ذلك هو الجواب أجابه بجواب منصف، فقال: آمنت بالله ورسله.
وقال القرطبيّ: كان ابن صياد على طريقة الكهنة، يخبر بالخبر فيصح تارة، ويفسد أخرى، فشاع ذلك، ولم ينزل في شأنه وحيٌ، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام سلوك طريقة يختبر حاله بها، أي: فهو السبب في انطلاق النبي صلى الله عليه وسلم إليه. وأخرج أحمد عن جابر قال: ولدت امرأة من اليهود غلامًا ممسوحة عينه، والأخرى طالعة ناتئة، فاشفق النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الدجال. وللتِّرْمِذِيّ عن أبي بكرة مرفوعًا "يمكث أبو الدجال وأمه ثلاثين عامًا لا يولد لهما، ثم يولد لهما غلامٌ أضر شيء وأقله منفعة، قال: ونعتهما فقال: فأما أبوه فطويل، ضَرْب اللحم، كأنّ أنفه منقارُ. وأما أمه فَفَرْضَاخَة، أي: بفاء مفتوحة وراء ساكنة وبمعجمتين، والمعنى أنها ضخمة طويلة اليدين. قال: فسمعنا بمولود بتلك الصفة، فذهبت أنا والزبير بن العوّام حتى دخلنا على أبويه، يعني ابن صياد، فإذا هما بتلك الصفة".
قلت: هذا الحديث لا تمكن صحته، لأن راوية أبا بكرة لم يقع إسلامه إلا عام الفتح سنة ثمان، وابن صياد في الحديث الصحيح أنه قد قارب الحلم، وقت اختباره عليه الصلاة والسلام له إلا على التجوز في قوله "فسمعنا بمولود". ولأحمد والبزار عن أبي ذَرٍّ قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمه
فقال: سلها كم حملت به؟ فقال: حملت به اثني عشر شهرًا، فلما وقع صاح صياح الصبيّ ابن شهر. فكان ذلك هو الأصل في إرادة استكشاف أمره.
وقوله: فقال له ماذا ترى؟ فقالَ ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، في حديث جابر عند الترمذيّ، ونحوه عند مسلم، فقال: أرى حقًا وباطلًا، أرى عرشًا على الماء. وفي حديث أبي سعيد عنده "أرى صادقين وكاذبًا" ولأحمد:"أرى عرشًا على البحر، حوله الحيتان، فقال: "خلط عليك الأمر" وفي رواية "لبُس" بضم اللام وتخفيف الموحدة المكسورة بعدها مهملة، أي: خلط عليه.
وفي حديث أبي الطفيل عند أحمد، فقال:"تعوّذوا بالله من شر هذا" وقوله: إني قد خبأت لك خبيئًا، بفتح المعجمة وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم همزة، وفي رواية بكسر المعجمة وبفتحها وسكون الموحدة بعدها همزة، أي أخفيت لك شيئًا، وقوله: هو الدُّخ، بضم المهملة بعدها معجمة، وحكى صاحب "المحكم" الفتحَ، وعند الحاكم الزَّخ، بفتح الزاي بدل الدال، وفسره بالجماع، واتفق الأئمة على تغليطه في ذلك.
ويرده ما وقع في حديث أبي ذرٍّ المذكور "فأراد أن يقول الدخان، فلم يستطع، فقال: الدخ" وللبزّار والطبرانيّ في الأوسط عن زيد بن حارثة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم خبأ له سورة الدخان، وكأنه أطلق السورة وأراد بعضها، فإن عند أحمد عن عبد الرزاق في حديث الباب "وخبأت له يوم تأتي السماء بدخان مبين". وأما جواب ابن صياد "بالدخ" فقيل: إنه اندهش فلم يقع من لفظ "الدخان" إلا على بعضه. وحكى الخطابيّ أن الآية حينئذ كانت مكتوبة في يد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يهتد ابن صياد منها إلَاّ لهذا القدر الناقص على طريقة الكهنة. ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لن تعدو قدرك" أي: قدر مثلك من الكُهَّان الذين يحفظون من إلقاء شياطينهم ما يحفظونه مختلطًا صدقه بكذبه.
وحكى أبو موسى المَدِينيّ أنّ السرّ في امتحان النبي صلى الله عليه وسلم له، بهذه الآية، الإشارةُ إلى أن عيسى بن مريم يقتل الدجال بجبل الدخان، فأراد التعريض لابن صياد بذلك، واستبعد الخطابيّ ما تقدم، وصوب أنه خبأ له الدخ، وهو نبت يكون بين البساتين، وسبب استبعاده له أن الدخان لا يخبأ في اليد ولا الكم، ثم قال: إلا أن يكون خبأ له اسم الدخان في ضميره، وعلى هذا، فيقال: كيف اطّلع ابن صياد أو شيطانه على ما في الضمير؟ ويمكن أن يجاب باحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تحدّث عن نفسه أو أصحابه بذلك قبيل أن يختبره، فاسترق الشيطان ذلك أو بعضه.
وقوله: أخسأ، بهمز ساكنة، وحذفت في رواية بلفظ "اخْسَ" وهو تخفيف. قال ابن بطال: اخسأ زجر للكلب وإبعاد له، هذا أصل هذه الكلمة، واستعملتها العرب في كل من قال أو فعل ما
لا ينبغي مما يسخط الله. وقال ابن التين في هذا الحديث: "اخسأ" معناه اسكت صاغرًا مطرودًا. وقال الراغب: خَسَأ البصر انقضى عن مهماته، وخَسَأتُ الكلب فانخسأ، زجرته فانزجر مستهينًا به. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى:{قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي: قاحِسين مبعدين، يقال: خسأته عني وخَسَأ هو، يتعدى ولا يتعدى.
وقال في قوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} أي: مبعدًا. وقوله: فلن تعدو قدرك، أي: لن تجاوز ما قدره الله فيك، أو مقدار أمثالك من الكهان. قال العلماء: واستكشف النبي صلى الله عليه وسلم أمره ليبين للناس تمويهه، لئلا يلتبس حاله على ضعيف لم يتمكن في الإِسلام، ومحصل ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له، على طريق الفرض، والتنزل: إن كنت صادقًا في دعواك الرسالةَ، ولم يختلط عليك الأمر، آمنت بك، وإن كنتَ كاذبًا، وخلط عليك الأمر، فلا، وقد ظهر كذبك والتباس الأمر عليك، فلا تعدو قدرك.
وقوله: إنْ يكنه، هو رواية الكشميهنيّ بوصل الضمير، واختار ابن مالك جوازه، وفي رواية الأكثر "إن يكن هو" بضمير فصل، والضمير لغير مذكور لفظًا، وعند أحمد عن ابن مسعود "إن يكن هو الذي تخاف فلن تستطيعه" وفي مرسل عُروة عند الحارث بن أبي أُسامة "إن يكن هو الدجال" وقوله: فلن تسلط عليه، في حديث جابر، "فلست بصاحبه إنما صاحبه عيسى بن مريم".
وقوله: وإن لم يكنه، فلا خير لك في قتله، قال الخطابيّ: إنما لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله مع ادعائه النبوءة بحضرته، لأنه كان غير بالغ، ولأنه كان من جملة أهل العهد. والثاني هو المتعين، وقد جاء مصرحًا به عن جابر عند أحمد، في مرسل عُروة "فلا يحل لك قتله" ثم إن في السؤال نظرًا، لأنه لم يصرح بدعوى النبوءة، وإنما أوهم أنه يدّعي الرسالة، ولا يلزم من دعوى الرسالة دعوى النبوءة. قال الله تعالى:{أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية.
وقوله: وقال سالم: سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول انطلق .. الخ. هذه هي القصة الثانية من هذا الحديث، وهو موصول بالإسناد الأول، وقد أفردها أحمد عن عبد الرزاق بإسناد حديث الباب، وفي حديث جابر "ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر وعمر، ونفر من المهاجرين والأنصار، وأنا معهم" ولأحمد عن أبي الطُّفيل أنه حضر ذلك أيضًا. وقوله: وهو يختِل، بمعجمة ساكنة بعدها مثناة مكسورة، أي: يخدعه، والمراد أنه كان يريد أن يستغله ليسمع كلامه، وهو لا يشعر، وفي حديث جابر "رجاء أنْ يسمع من كلامه شيئًا ليعلم أصادق هو أم كاذب".
وقوله: فيها رمزة أو زمرة، كذا للأكثر على الشك في تقديم الراء على الزاي، أو تأخيرها، ولبعضهم زمزمة ورمرمة على الشك، هل بزايين أو براءين، مع زيادة ميم فيهما، ومعنى هذه الكلمة
المختلفة متقاربٌ، فأما التي بتقديم الراء وميم واحدة، فهي فَعْلَة من الرمز، وهو الإِشارة، وأما التي بتقديم الزاي كذلك، فمن الزمر، والمراد حكاية صوته. وأما التي بمهملتين وميمين فأصله من الحركة، وهي هنا بمعنى الصوت الخفي، وأما التي بمعجمتين كذلك، فقال الخطابي: هو تحريك الشفتين بالكلام، وقال غيره: هو كلام العُلوج، وهو صوت يصوَّت من الخياشيم والحلق.
وقوله: وهو يتقي، أي يستتر. وقوله: يا صاف، بمهملة وفاء، وزن باغ. وقوله: هذا محمد، في حديث جابر "فقالت: يا عبد الله، هذا أبو القاسم، قد جاء" وكأن الراوي عبّر باسمه الذي تسمى به في الإِسلام، وأما اسمه الأول فهو صافٍ. وقوله: فثار ابن صياد، أي: قام، كذا للأكثر، وللكشميهنيّ "فثاب" بموحدة، أي رجع عن الحالة التي كان فيها. وقوله: لو تركته بَيَّن، أي أظهر لنا من حاله ما نطَّلع به على حقيقته، والضمير لأم ابن صياد، أي لو لم تعلمه بمجيئنا لتمادى على ما كان فيه، فسمعنا ما يستكشف به أمره.
ونقل بعض الشراح فجعل الضمير للزمزمة، أي لو لم يتكلم بها لفهمنا كلامه، لكن عدم فهمنا لما يقول كونه يهمهم، كذا قال. والأول هو المعتمد، وقوله: وقال شعيب: زمزمةٌ فَرَفَصه، في رواية أبي ذَرٍّ بالزايين وبالصاد المهملة، وفي رواية غيره "وقال شعيب في حديثه: فرفصه زمزمة أو رمرمة" بالشك، وسيأتي في الأدب موصولًا من هذا الوجه بالشك، لكن فيه "فَرَصَّه" بغير فاء وبالتشديد، وذكره الخطابيّ في غريبه بمهملة، أي ضَغَطه وضم بعضه إلى بعض. وقد مرَّ شعيب في السابع من بدء الوحي.
وفي قصة ابن صيّاد اهتمام الإِمام بالأمور التي يخشى منها الفساد، والتنقيب عليها، وإظهار كذب المدعي الباطل، وامتحانه بما يكشف حاله، والتجسس على أهل الريب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيما لم يودع إليه فيه، وفيه الرد على من يدعي الرَّجْعة إلى الدنيا، لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر:"إنْ يكن هو الذي تخاف منه فلن تستطيعه" لأنه لو جاز أن الميت يرجع إلى الدنيا لما كان بين قتل عمر له حينئذ، وكون عيسى بن مريم هو الذي يقتله بعد ذلك منافاة، ولم يذكر المصنف هنا القصة الثالثة كما مرَّ، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليها عند أول ذكرها.
وقد اختلف العلماء في أمر ابن صيّاد اختلافًا كثيرًا استوفاه ابن حجر في كتاب الاعتصام في باب "من رأى ترك النكير" الخ عند حديث جابر "أنه كان يحلف بالله أن ابن صياد الدجال لأنه سمع عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه" وها أنا أذكر جميع ما ذكره هنا لتتم الفائدة بجمع ما قيل فيه هنا، فأقول.
استدل جابر بتقريره عليه الصلاة والسلام لعمر، والتقرير منه حجة، ولكن شرط العمل به أن
لا يعارضه التصريح بخلافه، فمن قال أو فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فأقره، دل ذلك على الجواز، فإن قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إفعل خلاف ذلك، دل على نسخ التقرير، إلا إنْ ثبت دليل الخصوصية. قال ابن بطال بعد أن قرر دليل جابر: فإن قيل: مرَّ في الجنائز أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة ابن صياد: دعني أضرب عنقه، فقال: إن يكنه فلن تسلط عليه الخ، فهذا صريح في أنه تردد في أمره، يعني فلا يدل سكوته على إنكاره عند حلف عمر على أنه هو.
قال: وعن ذلك جوابان، أحدهما أن الترديد كان قبل أن يعلمه الله تعالى أنه هو الدجال، فلما أعلمه لم ينكر على حلفه، والثاني أن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك، وإن لم يكن في الخبر شك، فيكون ذلك من تلطف النبي صلى الله عليه وسلم بعمر في صرفه عن قتله. ومما ورد مما يدل على أن ابن صياد هو الدجال، عن غير جابر، ما أخرجه عبد الرزاق، بسند صحيح عن ابن عمر قال: لقيت ابن صياد يومًا ومعه رجل من اليهود، فإذا عينه قد طفئت، وهي خارجة مثل عين الجمل، فلما رأيتها قلت: أنشدك الله يا ابن صياد، متى طفئت؟ قال: لا أدري والرحمن. قلت: كذبت، لا تدري وهي في رأسك؟ قال: فمسحها ونخر ثلاثًا، فزعم اليهوديّ أني ضربت بيدي صدره، وقلت له: اخسأ، فلن تعدو قدرك. فذكرت ذلك لحفصة، فقالتْ حفصة: اجتنب هذا الرجل، فإنما يتحدث أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها.
وقد أخرج مسلم هذا الحديث بمعناه من وجه آخر عن ابن عمر، ولفظه "لقيته مرتين .. " فذكر الأولى، ثم قال: لقيته أخرى وقد نفرت عينه، فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: ما أدري، قلت: لا تدري وهي في رأسك؟ قال: إن شاء الله جعلها في عصاك هذه، ونخر كأشد نخير حمارٍ سمعت، فزعم أصحابي أني ضربته بعصا كان معي حتى تكسرت، وأنا والله ما شعرت. قال: وجاء حتى دخل على أم المؤمنين حفصة، فحدثها فقالت: ما تريد إليه، ألم تسمع أنه قد قال: إن أول ما يبعثه على الناس غضبٌ يغضبه؟
ثم قال ابن بطال: فإن قيل: هذا أيضًا يدل على التردد في أمره، فالجواب أنه إن وقع الشك في كونه الدجال الذي يقتله عيسى بن مريم، فلم يقع الشك في أنه أحد الدجالين الكذابين الذين أنذر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "إنّ بين الساعة كذابين دجالين .. " الحديث الآتي في كتاب الفتن، ومحصله عدم تسليم الجزم بأنه الدجال، فيعود السؤال الأول عن جواب حلْف عمر، ثم جابر، على أنه الدجال المعهود، لكن في قصة حفصة وابن عمر دليل على أنهما أرادا الدجال الأكبر، واللام في القصة الواردة عنهما للعهد لا للجنس.
وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن موسى بن عُقبة عن نافع قال: كان ابن عمر يقول: والله ما أشك أن المسيح الدَّجَّال هو ابن صياد. ووقع لابن صياد مع أبي سعيد الخُدريّ قصة أخرى
تتعلق بأمر الدجال، فأخرج مسلم عن أبي نضرة عن أبي سعيد فقال: صحبني ابن صياد إلى مكة فقال لي: ماذا لقيت من الناس؟ يزعمون أني الدجال، ألستَ سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يولد له؟ قلت: بلى، قال: فإنه وقد ولد لي، قال: أولست سمعته يقول: لا يدخل المدينة ولا مكة، قلت: بلى، قال: فقد ولدت بالمدينة، وها أنا أريد مكة.
وعن أبي سعيد قال: أخذتني من ابن صياد دَمَامة، فقال: هذا عذرت الناس، مالي وأنتم يا أصحاب محمد، ألم يقل نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه يعني الدجال يهودي؟ وقد أسلمت، فذكر نحوه. وعن أبي سعيد أيضًا: خرجنا حُجاجًا ومعنا ابن صياد، فنزلنا منزلًا وتفرق الناس، وبقيت أنا وهو، فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال فيه، فقلت: الحر شديد، فلو وضعت ثيابك تحت تلك الشجرة، ففعل. فرفعت لنا غنم، فانطلق فجاء بُعسّ، فقال: اشرب يا أبا سعيد، فقلت: إن الحر شديد، وما بي إلَاّ أني أكره أن أشرب من يده، فقال: لقد هممت أن آخذ حبلًا فأعلقه بشجرة ثم اختنق به، مما يقول لي الناس: يا أبا سعيد، من خفي عليه حديث محمد صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار ثم ذكر نحو ما تقدم، وزاد "قال أبو سعيد حتى كدت أعذره" وفي آخر كل من الطرق الثلاثة أنه قال إني لا أعرفه وأعرف مولده، وأين هو الآن قال أبو سعيد: فقلت له: تبًا لك سائر اليوم.
وأجاب البيهقيّ عن قصة ابن صياد بعد أن ذكر ما أخرجه أبو داود عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مكث أبو الدَّجال ثلاثين عامًا، لا يولد لهما" الخ، وقد مرَّ في أول الكلام على الحديث أن هذا الحديث لا تمكن صحته إلا على التجوز في قوله "فسمعنا بمولود ولد لليهود" ووقفت على ما ذكرته في فتح الباري فقال: إلا أن يحمل قوله "فسمعنا أنه ولد لليهود مولود" على تأخر السماع، وإن كان مولده سابقًا على ذلك بمدة، بحيث يأتلف مع حديث ابن عمر في الصحيح. ثم قال البيهقي: ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على حلف عمر، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كانَ متوقفًا في أمره، ثم جاءه الثبت من الله تعالى بأنه غيره، على ما تقتضيه قصة تميم الداريّ، وبه تمسك من قال: إن الدجال غير ابن صياد، وطريقه أصح، وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال.
وقصة تميم أخرجها مسلم عن فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فذكر أن تميمًا الداري ركب في سفينة مع ثلاثين رجلًا من قومه فلعب بهم الموج شهرًا، ثم نزلوا إلى جزيرة فلقيتهم دابة كثيرة الشعر، فقالت لهم: أنا الجسّاسة، ودلتهم على رجل في الدير، قال: فانطلقنا سراعًا. فدخلت الدير، فإذا فيه أعظم إنسان، رأيناه قطّ، خلقًا، وأشده وثاقًا، مجموعةٌ يداه إلى عنقه بالحديد، فقلنا: ويلك، ما أنت؟ فذكر الحديث.
وفيه أنه سألهم عن نبيِ الأميين، هل بعث؟ وأنه قال: إن يطيعوه فهو خير لهم، وأنه سألهم عن بُحيرة طبرية، وعن عَين زُغَر، وعن نَخْل بَيْسان. وفيه أنه قال: إني مخبركم عني، أنا المسيح، وإني أوشك أن يُؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها، في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة.
وفي بعض طرقه عند البيهقيّ: أنه شيخ، وسندها صحيح، قال البيهقيّ فيه: إن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وقد خرج أكثرهم، وكأنّ الذين يجزمون بأن ابن صياد هو الدّجال لم يسمعوا بقصة تميم، وإلاّ فالجمع بينهما بعيد جدًا، إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه المحتلم، ويجتمع به النبي صلى الله عليه وسلم، ويسأله، أن يكون في آخرها شيخًا كبيرًا مسجونًا في جزيرة من جزائر البحر، موثقًا بالحديد يستفهم عن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم هل خرج أو لا؟
فالأَوْلى أنْ يحمل على عدم الاطلاع، أما عمر فيحتمل أن يكون ذلك منه قبل أن يسمع قصة تميم، ثم لما سمعها لم يعد إلى الحلف المذكور، وأما جابر فشهد حلفه عند النبي صلى الله عليه وسلم، فاستصحب ما كان عليه من عمر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أخرج أبو داود عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر، فذكر قصة الجساسة والدجال بنحو قصة تميم، قال: قال الوليد بن عبد الله بن جُميع قال لي ابن أبي مسلمة: إنّ في هذا شيئًا ما حفظته، قال: شهد جابر أنه ابن صياد، قلت: فإنه قد مات، قال: وإن مات، قلت: فإنه أسلم، قال: وإن أسلم. قلت: فإنه دخل المدينة، قال: وإن دخل المدينة.
وابن أبي مسلمة اسمه عمر، فيه مقال، ولكن حديثه حسن، ويتعقب به على من زعم أن جابرًا لم يطلع على قصة تميم، وقد تكلم ابن دقيق العبد على مسألة التقرير بما محصله "إذا أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر ليس فيه حكم شرعيّ فهل يكون سكوته عليه الصلاة والسلام دليلًا على مطابقة ما في الواقع، كما وقع لعمر في حلفه على ابن صياد، أنه هو الدجال، كما فهمه جابر حتى صار يحلف عليه، ويستند على حلف عمر، أولا يدل؟ فيه نظر. قال: والأقرب عندي أنه لا يدل، لأن مأخذ المسألة ومَنَاطها هو العصمة من التقرير على باطل، وذلك يتوقف على تحقق البطلان، ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة، إلا أنْ يدعي مدع أنه يكفي في وجوب البيان عدم تحقق الصحة، فيحتاج إلى دليل، وهو عاجز عنه، نعم التقرير يسوّغ الحلف على غلبة الظن لعدم توقف ذلك على العلم.
ولا يلزم من عدم تحقق البطلان أن يكون السكوت مستوي الطرفين، بل يجوز أن يكون المحلوف عليه من قسم خلاف الأوْلى. قال الخطابي: اختلف الناس في أمر ابن صياد بعد كبره،
فروي أنه تاب من ذلك القول، ومات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه، كشفوا وجهه ليراه الناس، وقيل لهم: اشهدوا.
وقال النووي: قال العلماء قصة ابن صياد مشكلة، وأمره مشتبه، لكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوحَ إليه فيه شيء، وإنما أُوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام لا يقطع في أمره بشيء، بل قال لعمر:"لا خير لك في قتله .. " الحديث.
وأما احتجاجاته هو بأنه مسلم إلى سائر ما ذكر، فلا دلالة فيه على دعواه، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت خروجه آخر الزمان، قال: ومن جملة ما في قصته قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ وقوله: إنه يأتيه صادق وكاذب، وقوله: إنه تنام عينه ولا ينام قلبه. وقوله: إنه يرى عرشًا على الماء، وأنه لا يكره أن يكون الدجال، وأنه يعرفه ويعرف مولده وموضعه، وأين هو الآن.
قال: وأما إسلامه وحجه وجهاده، فليس فيه تصريح بأنه غير الدجال، لاحتمال أن يختم له بالشر، فقد أخرج أبو نعيم الأصبهانيّ، في تاريخ أصبهان، ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال، فساق عن شُبيل، بمعجمة، عن حسّان بن عبد الرحمن عن أبيه قال: لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ، فكنا نأتيها فنمتار منها، فأتيتها يومًا، فإذا اليهود يزفنون ويضربون، فسألت صديقًا لي منهم، فقال: ملكنا الذي نستفتح به على العرب يدخل، فبت عنده على سطح، فصليت الغداة، فلما طلعت الشمس إذا الرهج من قبل العسكر، فنظرت فإذا رجل عليه قبة من ريحان، واليهود يزفنون ويضربون، فنظرت فإذا هو ابن صياد، فدخل المدينة، فلم يعد حتى الساعة.
قال في الفتح: عبد الرحمن بن حسان ما عرفته، والباقون ثقات، وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرّة، وبسند حسن، فقيل: إنه مات، وهذا يضعف ما تقدم أنه مات بالمدينة، وأنهم صلوا عليه، وكشفوا عن وجهه، ولا يلتئم حديث جابر هذا مع خبر حسان بن عبد الرحمن، لأن فتح أصبهان كان في خلافة عمر، كما أخرجه أبو نعيم في تاريخها، وبيْن قتل عمر ووقعة الحرة نحو أربعين سنة. ويمكن الحمل على أن القصة إنما شاهدها ولد حسان بعد فتح أصبهان بهذه المدة، ويكون جواب "لما" في قوله: لما افتتحنا أصبهان، محذوفًا، تقديره: صرت أتعاهدها، وأتردد إليها، فجرت قصة ابن صياد، فلا يتحد زمان فتحها وزمان دخول ابن صياد لها.
وقد أخرج الطبرانيّ في الأوسط عن فاطمة بنت قيس مرفوعًا "أن الدجال يخرج من أصبهان"،
وعن عمران بن حصين، أخرجه أحمد بسند صحيح من أنس، لكن عنده "من يهودية أصبهان". قال أبو نعيم في تاريخ أصبهان: كانت اليهودية من جملة قرى أصبهان، وإنما سميت اليهودية لأنها كان تختص بسكنى اليهود. قال: ولم تزل على ذلك إلى أن مَصَّرها أيوب بن زياد أمير مصر في زمن المهدي بن المنصور، فسكنها المسلمون، وبقيت لليهود منها قطعة منفردة.
وأما ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا قال: يتبع الدجال سبعون الفًا من يهود أصبهان، فلعلها كانت يهودية أصبهان، يريد البلد المذكور، لا أن المراد أن جميع أهل أصبهان يهود، وأن القدر الذي يتبع الدجال منهم سبعون ألفًا. وأخرج نعيم بن حماد في كتاب الفتن، عن جبير بن نُفَير وشريح بن عبيد وعمرو بن الأسود وكثير بن مُرة قالوا جميعًا: الدجال ليس هو إنسان، وإنما هو شيطان موثق بسبعين حَلْقة، في بعض جزائر اليمن، لا يعلم من أوثقه سليمان النبي أو غيره؟ فإذا آذن ظهوره، فك الله عنه كل عامٍ حلقة، فإذا برز أتته أتان عَرْض ما بين أذنيها أربعون ذراعًا، فيضع على ظهرها منبرًا من نحاس، ويقعد عليه، ويتبعه قبائل الجن، يُخرجون له خزائن الأرض، وهذا لا يمكن معه كون ابن صياد هو الدجال، ولعل هؤلاء، مع كونهم ثقات، تلقوا ذلك من بعض كتب أهل الكتاب.
وأخرج أبو نعيم أيضًا، عن كعب الأحبار، أن الدجال تلده أمه بقوص من أرض مصر، قال: وبين مولده ومخرجه ثلاثون سنة، قال: ولم ينزل خبره في التوراة والإِنجيل، وإنما هو في بعض كتب الأنبياء، وأَخْلِقْ بهذا الخبر أن يكون باطلًا، فإن الحديث الصحيح أن كل نبي قبل نبينا أنذر قومه الدجال، وكونه يولد قبل مخرجه بالمدة المذكورة، مخالف لكونه ابن صياد، ولكونه موثوقًا في جزيرة من جزائر البحر.
وذكر ابن وصيف المؤرخ أن الدجال من وَلَد شِقّ، الكاهن المشهور، قال: وقال: بل هو شِق نفسه، أنظره الله وكانت أمه جنية، عشقت أباه، فأولدها، وكان الشيطان يعمل له العجائب، فأخذه سليمان فحبسه في جزيرة من جزائر البحر. وهذا أيضًا في غاية الوحي، وأقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال، أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقًا، وأنّ ابن صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة، إلى أن توجه إلى اصبهان، فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها.
ولشدة التباس الأمر في ذلك سلك البخاري مسلك الترجيح، فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صياد، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم، وقد توهم بعضهم أنه غريب، فرد، وليس كذلك، فقد رواه مع فاطمة بنت قيس أبو هريرة وعائشة وجابر، أما أبو هريرة فأخرجه أحمد عن الشعبيّ عن المُحْرز بن أبي هريرة عن أبيه، مطولًا، وأخرجه أبو داود مختصرًا،