الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلَاّ الله
قال الزين بن المنير: لم يأت بجواب "إذا" لأنه صلى الله عليه وسلم، لما قال لعمه: قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها، كان محتملًا لأن يكون ذلك خاصة له، لأن غيره إذا قالها، وقد أيقن بالوفاة لم تنفعه، ويحتمل أن يكون ترك جواب "إذا" ليفهم الواقف عليه أنه موضع تفصيل وفكر، وهذا هو المعتمد، وهو أنه لا يخلو إما أن يكون من أهل الكتاب أو لا يكون، وعلى التقديرين لا يخلو إما أن يقول لا إله إلا الله في حياته قبل معاينة الموت، أو قالها عند موته، وعلى كلا التقديرين لا ينفعه ذلك عند الموت، لقوله تعالى:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا} بإسناد "ينفعه ذلك" إذا كان في حياته، ولم يكن من أهل الكتاب حتى يحكم بإسلامه، لقوله عليه الصلاة والسلام:"حتى يقولوا لا إله إلا الله" وإن كان من أهل الكتاب، فلا ينفعه حتى يتلفظ بكلمتي الشهادة، ويتبرأ عن كل دين سوى الإِسلام.
قلت: حديث اليهودي الصبي الماضي قريبًا، لم يقع فيه هذا التبرؤ، قبل إسلامه. وقال عليه الصلاة والسلام:"الحمد لله الذي أنقذه من النار"، اللهم إلا أن يكون هذا خاصًا بالصبي، لكونه لم يعقل الأديان.
الحديث الخامس عشر والمئة
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِى طَالِبٍ يَا عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَي أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَا وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآيَةَ.
قوله: لما حضرت أبا طالب الوفاة، قال الكرماني: المراد حضرت علامات الوفاة، وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة، لم ينفعه الإِيمان لو آمن، ويدل على الأول ما وقع من المراجعة بينه وبينهم. ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة، لكن رجا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد، ولو في تلك الحالة، أن ذلك ينفعه بخصوصه، وشفاعته صلى الله عليه وسلم، لمكانه منه، ولهذا قال:"أُجادل لك بها" أو "أشفع لك" كما يأتي قريبًا.
ويؤيد الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد، وقال: هو على ملة عبد المطلب، ومات على ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يترك الشفاعة له، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه. وتأتي الرواية بذلك في السيرة.
وقوله: فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أُمية، يحتمل أن يكون المسيب حضر هذه القصة، فإنّ المذكورين من بني مخزوم، وهو من بني مخزوم أيضًا، وكان الثلاثة يومئذ كفارًا، فمات أبو جهل على كفر، وأسلم الآخران، وأما قول بعض الشَّرَّاح: هذا الحديث من مراسيل الصحابة، فمردود، لأنه استدل بأن المسيب على قول مصعب من مُسْلِمة الفتح، وعلى قول العسكري ممن بايع تحت الشجرة. كما ذكره البخاري في المغازي قال: فأيًا ما كان، فلم يشهد وفاة أبي طالب، لأنه توفي هو وخديجة في أيام متقاربة، في عام واحد، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ نحو الخمسين.
ووجه الرد أنه لا يلزم من كون المسيب تأخر إسلامه أنْ لا يشهد وفاةَ أبي طالب، كما شهدها عبد الله بن أبي أمية، وهو يومئذ كافر، ثم أسلم بعد ذلك، وقوله: يا عم، وفي رواية: أي: عم، أمّا أي: فهي بالتخفيف، حرف نداء، وأما عم، فهو منادى مضاف، ويجوز فيه إثبات الياء وحذفها. وقوله: كلمةً، بالنصب على البدل من لا إله إلا الله، أو الاختصاص، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف.
وقوله: أشهد لك بها عند الله، وفي رواية القصص "أحَاجّ لك بها" أي: بتشديد الجيم، من المُحاجّة، وهي مفاعلة من الحُجّة، والجيم مفتوحة على الجزم جواب الأمر، والتقدير: أنْ تقل أُحاجّ، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وفي رواية مجاهد عند الطبريّ "أجادل عنك بها"، زاد الطبريّ عن الزُّهري، قال: أي: عمِّ، إنك أعظم الناس عليَّ حقًا، وأحسنهم عندي يدًا، فقل كلمة تجبْ لي بها الشفاعة فيك يوم القيامة" وقوله: فلم يزل يَعرضِها، بفتح أوله وكسر الراء، وعند الطبريّ عن الشعبيّ "فقال له ذلك مرارًا".
وقوله: ويعودان بتلك المقالة، أي: ويعيدانه إلى الكفر بتلك المقالة، كأنه قال: كأن قارب أنْ يقولها فيردّانه. والرواية الأولى أوضح. وعند مسلم، "فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويقول له تلك المقالة".
قال القرطبيّ في "المفهم": كذا في الأصول، وعند أكثر الشيوخ، والمعنى أنه عرض عليه الشهادة، وكررها عليه. وقوله: آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب. وقوله هو أراد بذلك نفسه، ويحتمل أن يكون قال: أنا، فغيَّرها الراوي أنفةَ أن يحكي كلام أبي طالب، استقباحًا للفظ المذكور، وهو من التصرفات المستحسنة. وفي رواية مجاهد قال: يا ابن أخي، ملة الأشياخ. وعند مسلم والتِّرمذيّ والطبريّ عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لولا أن تعيّرني قريشٌ، يقولون ما حمله عليه إلا جَزَعَ الموت، لأقررت بها عينك.
وفي رواية الشعبي عند الطبري قال: لولا أن يكون عليك عار لم أبال أن أفعل، وضبط "جَزَع" بالجيم والزاي محركين، ولبعض رواة مسلم بالخاء المعجمة والراء، وقوله: وأبى أن يقول لا إله إلا الله، هو تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب، وكأنه استند في ذلك إلى عدم سماعه ذلك منه في تلك الحال، وهذا القدر هو الذي يمكن إطلاعه عليه، ويحتمل أن يكون أطلعه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقوله: والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عَنْك، وفي رواية، ما لم أُنه عنه، أي: الاستغفار. قال الزين بن المنير: ليس المراد طلب المغفرة العامة، والمسامحة بذنب الشرك، وإنما المراد تخفيف العذاب عنه، كما جاء مبينًا في حديث آخر، قال في الفتح: هذا غفلة شديدة منه، فإن الشفاعة لأبي طالب في تخفيف العذاب، لم ترد، وطلبها لم يُنْهَ عنه، وإنما وقع النهي عن طلب المغفرة العامة، وإنما ساغ ذلك للنبي اقتداءًا بإبراهيم في ذلك، ثم ورد نسخ ذلك، كما يأتي واضحًا قريبًا.
وقوله: فأنزل الله تعالى فيه الآية، يعني قوله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} أي: ما ينبغي لهم ذلك، وهو خبر بمعنى النهي، كذا هو في هذه الرواية.
وروى الطبريُّ عن عمرو بن دينار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي" قال أصحابه: لنستغفرنَّ لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه، فنزلت، قال في الفتح: وهذا إشكال، لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقًا. قلت: لم أعرف وجه الإشكال، فإنه عليه الصلاة والسلام بمكة كانت له أصحاب ماتت آباؤهم على الكفر، فيمكن أن يحصل منهم هذا القول.
وقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر، فاستأذن ربه أن يستغفر لها، فنزلت هذه الآية، والأصل عدم تكرار النزول، وأخرج الحاكم وابن أبي حاتم عن مسروق عن ابن مسعود قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى المقابر، فاتبعناه، فجاء حتي جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلًا، ثم بكى فبكينا لبكائه، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أُمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها، فلم يأذن لي، فأنزل الله عليّه {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} .