الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما جاء في قاتل النفس
قال ابن رشيد: مقصود الترجمة حكم قاتل النفس، والمذكور في الباب حكم قاتل نفسه، فهو أخص من الترجمة، ولكنه أراد أن يلحق بقاتل نفسه قاتل غيره من باب الأوْلى، لأنه إذا كان قاتل نفسه الذي لم يتعد ظلم نفسه، ثبت فيه الوعيد الشديد، فأول من ظلم غيره بإماتة نفسه. قال ابن المنير: عادة البخاريّ إذا توقف في شيء، ترجَمَ عليه ترجمة مبهمة، كأنه ينبه على طريق الاجتهاد.
وقد نقل عن مالك أن قاتل النفس لا تقبل توبته، ومقتضاه أنه لا يصلى عليه، وهو نفس قول البخاري، ولعله أشار بذلك إلى ما رواه أصحاب السنن عن جابر بن سمرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتي برجل قتل نفسه بمَشَاقِصَ فلم يصلِّ عليه، وفي رواية النَّسَائيّ "أما أنا فلا أصلِّي عليه" لكنه لمّا لم يكن على شرطه، أومأ إليه بهذه الترجمة، وأورد فيها ما يشبه من قصة قاتل نفسه.
الحديث الثامن عشر والمئة
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
وقوله: من حلف بملة غير الإِسلام كاذبًا متعمدًا، فهو كما قال، وفي رواية الإِيمان والنذور "من حلف بغير ملة الإِسلام"، وفي رواية الأدب عن علي بن المبارك "مَنْ حلف على ملة غير الإِسلام، وفي رواية مسلم "من حلف على يمين بملة غير الإِسلام كاذبًا متعمدًا، فهو كما قال "والمِلة، بكسر الميم وتشديد اللام، الدين والشريعة، هي نكرة في سياق الشرط، فتعم جميع أهل الملل من أهل الكتاب، كاليهودية والنصرانية، ومن لحق بهم من المجوسية والصابئة، وأهل الأوثان والدهرية، والمعطلة، وعَبَدَة الشياطين، والملائكة، وغيرهم.
وقال ابن دقيق العيد: الحلف بالشيء حقيقةً، هو القسم به، وإدخال بعض حروف القسم عليه، كقوله: والله، والرحمن، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمينٌ كقولهم: من حلف بالطلاق فالمراد تعليق الطلاق، وأُطلق عليه الحلف لمشابهته باليمين في اقتضاء الحث والمنع، وإذا تقرر
ذلك، فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني، لقوله: كاذبًا متعمدًا، والكذب يدخل القضية الإِخبارية التي يقع مقتضاها تارة، وتارة لا يقع وهذا بخلاف قولنا: والله، وما أشبهه، فليس الإِخبار بها عن أمر خارجيّ، بل هي لإِنشاء القسم، فتكون صورة الحلف هنا على وجهين: أحدهما أن يتعلق بالمستقبل، كقوله: إن فعل كذا فهو كافر. والثاني أن يتعلق بالماضي كقوله: إن كان فعل كذا فهو يهودي، وقد يتعلق بهذا من لم ير فيه الكفارة، كالمالكية، لكونه لم يذكر فيه كفّارة، بل جعل المرتَّب على كذبه. قوله، "فهو كما قال" ابن دقيق العيد، ولا يكفر في صورة الماضي إلا أن قصد التعظيم، وفيه خلاف عند الحنفية، لكونه يتخير معنى، فصار كما لو قال: هو يهودي.
ومنهم من قال: إن كان لا يعلم أنه يمين لم يكفِّر، وإن كان يعلم أنه يكفرْ بالحِنْث به كَفَّر، لكونه رضي بالكُفْر حين أقدم على الفعل. وقال بعض الشافعية: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبًا، لما روى بُريدة مرفوعًا "من قال أنا بريء من الإِسلام، فإن كان كاذبًا، فهو كما قال، وإن كان صادقًا رجع إلى الإِسلام سالمًا"، والحق التفصيل، فإن اعتقد تعظيم ما ذكر، كفر، وعليه يحمل قوله:"من حلف بغير الله فقد كفر"، رواه الحاكم. وقال: صحيح على شرط الشيخين، وإن قصد حقيقة التعليق فيُنظر، فإن كان أراد أن يكون متصفًا بذلك كَفَر، لأن إرادة الكُفْر كُفر، وإنْ أراد البعد عن ذلك لم يكفر.
لكنه هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيهًا؟ المشهور الثاني، وليقل ندبًا لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويستغفر الله، قاله في الفتح. وعند المالكية: لا يكفرُ إلا إذا قصد التعظيم بالحلف لمعبود من دون الله، وفعله حرام اتفاقًا في الأصنام، وعلى خلاف في الأنبياء وكل معظم شرعًا. واحتج أبو حنيفة وأصحابه وأحمد، بهذا الحديث، على أن الحالف باليمين المذكور ينعقد يمينه، وعليه الكفّارة، لأن الله تعالى أوجب على المظاهر الكفّارة، وهو منكر من القول وزور، والحلف بهذه الأشياء منكر وزور.
وقال النوويّ: لا ينعقد بهذه الأشياء يمين، وعليه أن يستغفر الله، ويوحده ولا كفّارة عليه، سواء فعله أو لم يفعله، وهذا مذهب مالك والشافعيّ وجمهور العلماء، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام "من حلف باللاّت والعُزّى، فليقل: لا إله إلا الله" ولم يذكر كفارة.
وقوله: كاذبًا متعمدًا، قال عِياض: تفرّد بزيادتها سُفيان الثَّوْرِيّ، وهي زيادة حسنة، يستفاد منها أن الحالف المتعمد إن كان مطمئن القلب بالإِيمان، وهو كاذب في ما لا يعتقد تعظيمه، لم يَكْفُر، وإن قاله معتقدًا لليمين بتلك المِلة، لكونها حقًا، كفَر، وإن قالها لمجرد التعظيم لها، احتمل.
قال في "الفتح": وينقدح بأن يقال: إن أراد تعظيمها، باعتقاد ما كانت عليه قبل النسخ، لم يكفر، ودعواه أن سفيان تفرد بها إن أراد، بالنسبة لرواية مسلم، فعسى. فأنه أخرجه من طرق، وبيّن