الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكي في الوجه أبشع وأشهر، وفي الظهر والجنب أوجع وآلم. وقال البيضاويّ: خص الجنب والجبين والظهر لأنه جمع المال ولم يصرفه في حقه لتحصيل الجاه والتنعم بالمطاعم والملابس، أو لأنه أعرض عن الفقير، وولاه ظهره، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة، لاشتمالها على الأعضاء الرئيسة. وقيل: المراد بها الجهات الأربع التي هي مقدم البدن ومؤخره وجنباه، نسأل الله تعالى العافية والسلامة.
وقد أخرج مسلم من رواية زيد بن أسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائحٍ من نارٍ، فأُحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره". وروى ابن أبي حاتم مرفوعًا "ما من رجل يموت، وعنده أحمر أو أبيض، إلا جعل الله بكل صحيفة من نار تكوى بها قدمه إلى ذقنه".
وروي أنه لا يوضع دنيار على دينار، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم في موضع على حدة. وقوله:{فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} أي: كنزكم، أو ما تكنزونه، فما مصدرية أو موصولة، وأكثر السلف أن الآية عامة للمسلمين وأهل الكتاب. وفي سياق المؤلف لها تلميح إلى تقوية ذلك،
خلافًا لمن زعم أنها خاصة بالكفار، والوعيد المذكور في كل ما لم تُؤَد زكاته، ففي حديث عمر:"أيما مال أُدِّيت زكاته، فليس بكنز، وإن كان مدفونًا في الأرض، وأيما مالٍ لم تُؤَد زكاته، فهو كنز مكويٌّ به صاحبه، وإن كان على وجه الأرض".
الحديث الثامن
حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "تَأْتِى الإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا، عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَأْتِي الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا. وَقَالَ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ. قَالَ: وَلَا يَأْتِي أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُ. وَلَا يَأْتِي بِبَعِيرٍ، يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ، فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُ.
قوله: "تأتي الإبل على صاحبها" يعني يوم القيامة، وقوله:"على خير ما كانت" أي: من العِظَم والسِّمَن والكثرة؛ لأنها تكون عنده على حالات مختلفة، فتأتي أكملها، ليكون ذلك أنكىِ له، لشدة ثقلها. وقوله:"إذا هو لم يعطِ فيها حقها" أي: لم يؤد زكاتها. وقد رواه مسلم عن أبي ذَرٍّ بهذا اللفظ. وقوله: "تطأه بأخفافها" بألف من غير واو، وكذا هو عند بعض النحويين، لشذوذ هذا الفعل من بين نظائره في التعدي؛ لأن الفعل إذا كان فاؤه واوًا، وكان على فَعِل، مكسور العين،
كان غير متعدٍ، غير هذا الحرف ووَسِع، فلما شذا دون نظائرهما، أعطيها هذا الحكم. وقيل: أصله يَوْطِىء، بكسر الطاء، فسقطت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، ثم فتحت الطاء لأجل الهمزة.
والأخفاف جمع خف، وهو للإبل كالظلف للغنم والبقر، والحافر للحمار والبغل والفرس، والقدم للآدمي. وفي رواية همام عن أبي هريرة في ترك الخيل فتخبط وجهه بأخفافها، ولمسلم عن أبي صالح عنه "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها منها إلا إذا كان يوم القيامة بُطح لها بقاعٍ قَرْقَرٍ، أو فر ما كانت، لا يفقد منها فصيلًا واحدًا، تطؤه بأخفافها وتعضده بأفواهها، كلما مرت عليه أولاها ردت عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد، ويرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار".
وللمصنف من حديث أبي ذَرٍّ "إلا أُتي بها يوم القيامة أعظم ما كانت، وأسمنه" ورواية مسلم هذه "كلما مرت عليه أُولاها ردت عليه أُخراها" قال عياض: قالوا هو تغيير وتصحيف، وصوابه ما في رواية سُهيل عن أبيه "كلما مرَّ عليه أُخراها رد عليه أُولاها" وبهذا ينتظم الكلام، وكذا وقع عند مسلم من حديث أبي ذَرٍّ أيضًا، وأقره النوويّ على هذا، وحكاه القُرطبيّ، وأوضح وجه الرد بأنه إنما يرد الأول الذي قد مرَّ قبل، وأما الآخر، فلم يمر بعد، فلا يقال فيه رد، ثم أجاب بأنه يحتمل أن المعنى أن أول الماشية إذا وصلت إلى آخرها تمشي عليه، تلاحقت بها أخراها، ثم إذا أرادت الأولى الرجوع بدأت الأخرى بالرجوع، فجاءت الأُخرى أول حتى تنتهي إلى آخرِ الأولى.
وكذا وجهه الطيبي فقال: إن المعنى أنَّ أُولاها إذا مرت على التتابع إلى أن تنتهي إلى الأُخرى، ثم ردت الأُخرى من هذه الغاية، وتبعها ما يليها إلى أن تنتهي أيضًا إلى الأُولى، هكذا قيل. ولم يتضح لي غاية الاتضاح.
وقوله: وتأتي الغنم تطأه بأظلافها، وتنطِحه بقرونها، بكسر الطاء من تنطحه، ويجوز الفتح، زاد في رواية أبي صالح المذكورة:"ليس فيها عقصاء ولا جَلحاء ولا عضباء، تنطحه بقرونها". وزاد فيه ذكر البقر أيضًا، وذكر في البقر والغنم ما ذكر في الإبل، وسيأتي ذكر البقر في حديث أبي ذَرٍّ في باب مفرد.
وقوله: "ومن حقها أنْ تُحلب على الماء" بحاء مهملة، أي لمن يحضرها من المساكين، وإنما خص الحلب بموضع الماء ليكون أسهل على المحتاج من قصد المنازل، وأرفق بالماشية، لكونه أوسع عليها. وذكره الداوديّ بالجيم، وفسره بإحضارها عند الماء للمصدق، ولو كان هذا هو المراد، لقال "إلى" بدل "على" وجزم ابن دَحْية بأنه تصحيف، وعند أبي داود عن أبي هُريرة ما يؤذن بأن هذه الجملة مرفوعة، ولفظه "قلنا: يا رسول الله، ما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله" وستأتي في أواخر الشرب هذه القطعة وحدها مرفوعة من وجه آخر، عن أبي هريرة. ودلت هذه القطعة على أن في المال حقًا سوى الزكاة.
وقد روى ابن ماجةَ عن فاطمة بنت قيس: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس في المال حق سوى الزكاة" وفي رواية "في المال حق سوى الزكاة" وهذا الحديث ليس بصحيح، والصحيح أنه من كلام الشعبيّ، وقد قال به غيره من التابعين، كالحسن وعطاء وطاووس، ومذهب أكثر العلماء أن هذا على النَّدبْ والمواساة.
قال ابن بطال: يريد حق الكرم والمواساة، وشريف الأخلاق، لا أن ذلك فرض، وقال أيضًا: كانت عادة العرب التصديق باللبن علي الماء، فكان الضعفاء يرصدون ذلك منهم، وقال أيضًا: الحق حقان: فرضُ عينٍ وغيره. فالحلب من الحقوق التي هي من مكارم الأخلاق. وقال إسماعيل القاضي: الحق المفترض هو الموصوف المحدود، وقد تحدث أمور لا تحد، فتجب فيها المواساة للضرورة التي تنزل، من ضيف مضطر، أو جائعٍ أو عار أو ميت ليس له من يواريه، فيجب حينئذ على مَنْ تمكنه المواساة التي تزول بها هذه الضرورات.
وقيل: المراد بالحق القدر الزائد على الواجب، ولا عقاب بتركه، وإنما ذكر استطرادًا لما ذكر، حقها بين الكمال فيه، وإن كان له أصل يزول الذم بفعله، وهو الزكاة، وقيل: كان هذا قبل فرض الزكاة، ويؤيده ما يأتي في حديث ابن عمر في الكنز، لكن يعكر عليه أن فرض الزكاة متقدم على إسلام أبي هريرة كما تقدم تقريره.
وفي الحديث أن الله يحيي البهائم ليعاقب مانع الزكاة، وفي ذلك معاملة له بنقض قصده؛ لأنه قصد منع حق الله تعالى منها، وهو الارتفاق والانتفاع بما يمنعه منها، فكان ما قصد الانتفاع به أضر الأشياء عليه، والحكمة في كونها تعاد كلها، مع أن حق الله فيها، إنما هو في بعضها؛ لأن الحق في جميع المال غير متميز، ولأن المال، لما لم تخرج زكاته، كان غير مطهر.
وقوله: "ولا يأتي أحدكم" في رواية النَّسَائيّ "ألا لا يأتين أحدكم" وفي رواية الجهاد "لا أُلْفِيَنَّ" بضم أوله، والفاء أي: لا أجدَنَّ، وهذا نفي مراد به النهي، وهو وإن كان من نهي المرء نفسه، فليس المراد ظاهره، وإنما المراد نهي مَنْ يخاطبه عن ذلك، وهذا طرف من حديث متعلق بالغلول من الغنائم، أخرجه المصنف مفردًا في أواخر الجهاد في باب الغلول.
وقوله: "لها يُعار" بتحتانية مضمومة ثم مهملة، صوت المعز، وفي رواية المستملي والكشمينهيّ "ثُغاء" بضم المثلثة ثم معجمة بغير راء، ورجحه ابن التين، وهو صياح الغنم، وحكى ابن التين عن القزاز أنه رواه "تُعار" بمثناة مضمومة ومهملة، وليس بشيء. وقوله:"رُغاء" بضم الراء ومعجمة، صوت الإبل.
وقوله: "لا أملك لك شيئًا من المغفرة" لأن الشفاعة أمْرُها إلى الله تعالى. وقوله: "قد بلغتك" أي: فليس لك عذر بعد الإبلاع، وكأنه صلى الله عليه وسلم أبرز هذا الوعيد في مقام الزجر والتغليظ، وإلا فهو يوم القيامة صاحب الشفاعة في مذنبي الأمة، وهذا العمل، قال المهلب: إنه وعيد لمن أنفذه الله عليه