الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما إنكم لو رأيتموه لأمردتموه، فما مثَله ومَثلكم إلا كما قيل:
أقِلّوا عليهم ويلكم لا أبا لكم
…
من اللؤم أوْ سُدُوا المكانَ الذي سَدّوا
وقال يحيى بن الضريس: شهدن سفيان وأتاه رجل فقال: ما تنقم على أبي حنيفة؟ قال: وما له؟ قال: سمعته يقول: آخذ بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد فبقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشَّعبيّ وابن سيرين وعطاء، فقوم اجتهدوا فأجتهد كما أجتهدوا.
له في كتاب التِّرمذيِّ: ما رأيت أكذب من جبار الجعفيّ، ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح. وله في كتاب النسائي: ليس على من أتى بهيمة حدٌّ. وقال مكي بن إبراهيم: كان أبو حنيفة أعلم أهل زمانه. رأى أنس بن مالك غير مرة، لما قدم عليهم الكوفة. وروى عن عطاء بن أبي رباح وهشام بن عُروة ويحيى بن سعيد الأنصاري وعديّ بن ثابت الأنصاريّ وخلق. وروى عنه ابنه حاد وإبراهيم بن طَهمان وزُفر بن الهُذيل وأبو يوسف القاضي ووكيع وغيرهم. مات سنة إحدى وخمسين ومئة، وقيل سنة خمسين. وفضائله أكثر من الحصر، فرضي الله تعالى عنه، وأسكنه الفردوس.
الحديث الحادي والمئة
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ.
قوله: العجماء جُبَار، أي بضم الجيم وتخفيف الموحدة، والعجماء البهيمة، سميت البهمة عجماء لأنها لا تتكلم، فعن أبي حاتم يقال لكل من لم يبيّن الكلامَ من العرب والعجم والصفار: أعجم ومستعجم، وكذلك من الطير والبهائم كلها. ومعنى جُبَار هَدَر لا ضمان فيه. وفيه حذف لابد من تقديره، أي فعل العجماء جُبار، لأنه من المعلوم أن نفس العجماء لا يقال لها هدر، وفي رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة: العجماء عَقَلها جُبار، وأصله أن العرب تسمي السيل جُبار أي لا شيء فيه. وقال التِّرمذيِّ: فسر بعض أهل العلم فقال: العجماء الدابة المنفلتة من صاحبها، فما أصابت من انفلاتها فلا غرم على صاحبها. وقال أبو داود بعد تخريجه: العجماء التي نكون منفلتة لا يكون معها أحد، وقد تكون بالنهار، ولا تكون بالليل. وفي رواية الأسود عند مسلم: العجماء جرحها جُبار، وكذا في حديث كثير بن عبد الله المزنيّ عند ابن ماجه.
وفي حديث عُبادة بن الصامت عنده، وفي شرح التِّرمذيّ، ليس ذكر الجرح قيدًا، وإنما المراد به إتلافها بأي وجه، سواء كان بجرح أو غيره، والمراد بالعَقَل الدية، أي لا دية فيما تتلفه، وقد استدل بهذا الإطلاق من قال: لا ضمان فيما اتلفت البهيمة، سواء كانت منفردة أو معها أحد، سواء
كان راكبها أو سائقها أو قائدها. وهو قول الظاهرية. واستثنوا ما إذا كان الفعل منسوبًا إليه بأن حملها على ذلك الفعل، إذا كان راكبًا، بأنْ يلوي عنانها فتتلف شيئًا برجلها مثلًا، أو بطنها أو يزجرها حين يسوقها، أو يقودها حتى تتلف ما مرت عليه. وأما ما لا ينسب إليه فلا ضمان فيه.
وقال الشافعية: إذا كان مع البهيمة إنسان فإنه يضمن ما أتلفته من نفس أو عضو أو مال، سواء كان سائقًا أو قائدًا أو راكبًا، سواء كان مالكًا أو أجيرًا أو مستأجرًا أو مستعيرًا أو غاصبًا، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو أُذنيها أو رأسها، وسواء كان ذلك ليلًا أو نهارًا. والحجة في ذلك أن الإِتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره، ومن هو مع البهيمة حاكم عليها، فهي كالآلة بيده، ففعلها منسوب إليه سواء حملها عليه أم لا، سواء علم به أم لا، وعن مالك كذلك، إلا إن رَمَحت شيئًا بغير أن يفعل بها أحد ما ترمح بسببه. وحكاه ابن عبد البَرّ عن الجمهور. وفي رواية جابر عند أحمد والبَزَّار بلفظ "السائمة جُبار" وفيه إشعار بأن المراد بالعجماء البهيمة التي ترعى، لا كل بهيمة. لكن المراد بالسائمة هنا التي ليس معها أحد، لأنه الغالب على السائمة، وليس المراد بها التي تعلف، كما في الزكاة، فإنه ليس مقصودًا هنا.
وعند أبي حنيفة أنه لا ضمان فيما رمحت برجلها دون يدها، لإمكان التحفظ من اليد دون الرجل. واستدل به على أنه لا فرق في إتلاف البهيمة للزروع وغيرها، في الليل والنهار. وهو قول الحنفية والظاهرية. وقال الجمهور: إنما يسقط الضمان إذا كان نهارًا، وأما بالليل فإنه عليه حفظها، فإذا انفلتت بتقصير منه وجب عليه ضمان ما أتلفت، ودليل هذا التخصيص ما أخرجه الشافعي وأبو داود والنّسائيّ وابن ماجه عن البراء بن عازب قال: كانت له ناقة ضارية، فدخلت حائطًا فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأنَّ حِفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل.
وقد قال ابن عبد البر: هذا الحديث، وان كان مرسلًا، فهو مشهور حدث به الثقات، وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول. وأما إشارة الطحاويّ إلى أنه منسوخ بحديث الباب، فقد تعقبوه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، مع الجهل بالتاريخ، وأقوى من ذلك قول الشافعيّ أخذًا بحديث البراء لثبوته ومعرفة رجاله، ولا يخالفه حديث "العجماء جُبار" لأنه من العام المراد به الخاص، فلما قال "العجماء جبار" وقضى فيما أفسدت العجماء بشيء في حال دون حال، دل ذلك على أن ما أصابت العجماء من جرح وغيره في حال جُبار، وفي حال غير جُبار. ثم نقض على الحنفية أنهم لم يستمروا على الأخذ بعمومه في تضمن الراكب، متمسكين بحديث "الرِّجل جبار" مع ضعف راويه، ومعناها أنها إذا رمحت برجلها لا يضمن من معها، وإن أفسدت بيدها ضمن.
وتعقب بعضهم على الشافعية قولهم إنه لو جرت عادة قوم بإرسال المواشي ليلًا وحبسها نهارًا انعكس الحكم على الأصح. وأجابوا بأنهم اتبعوا المعنى في ذلك ونظيره القسم الواجب للمرأة لو كان يكتسب ليلًا، ويأوي إلى أهله نهارًا لانعكس الحكم في حقه، مع أن عماد القسم الليل، نعم
لو اضطربت العادة في بعض البلاد، فكان بعضهم يرسلها ليلًا وبعضهم يرسلها نهارًا، فالظاهر أنه يقضي بما دل عليه الحديث.
وقوله: والبئر جبار، أي سقوط البئر على الشخص أو سقوط الشخص في البئر. في رواية الأسود بن العلاء عند مسلم "والبئر جرحها جُبار" وأما البئر فهي بكسر الموحدة ثم ياء ساكنة مهموزة، ويجوز تسهيلها، وهي مؤنثة، وقد تذكر على معنى القليب والطوي، والجمع أبؤر وآبار بالمد والتخفيف، وبهمزتين بينهما موحدة ساكنة. قال أبو عبيد: المراد بالبئر هنا العادِيَّة القديمة التي لا يعلم لها مالك، تكون في البادية، فيقع فيها إنسان أو دابة، فلا شيء في ذلك على أحد، وكذا لو حفر بئرًا في ملكه، أو في موات، فوقع فيها إنسان أو غيره فتلف، فلا ضمان إذا لم يكن منه تسبب إلى ذلك، ولا تغرير، وكذا لو استأجر إنسانًا ليحفر له البئر، فانهارت عليه، فلا ضمان. وأما من حفر بئرًا في طريق المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه، فتلف بها إنسان، فإنه يجب ضمانه على عاقلة الحافر، والكفّارة في ماله. وإن تلف بها غير آدمي وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كل حفرة على التفصيل المذكور، والمراد بجَرحها، وهو بفتح الجيم لا غير، ما يحصل بالواقع فيها من الجراحة، وليست الجراحة مخصوصة بذلك، بل كل الإتلافات ملحقة بها.
قال عياض وجماعة: إنما عبر بالجَرح لأنه الأغلب، أو هو مثال نبه به على ما عداه، والحكم في جميع الإتلاف بها سواء، سواء كان على نفس أو مال. ورواية الأكثر تتناول ذلك على بعض الآراء، ولكن الراجح الذي يحتاج إلى تقدير لا عموم فيه. قال ابن بطال: وخالف الحنفية في ذلك، فضمنوا حافر البئر مطلقًا قياسًا على راكب الدابة، ولا قياس مع النص. قال ابن العربي: اتفقت الروايات المشهورة على التلفظ بالبئر، جاءت رواية شاذة بلفظ "النار جبار" بنون وألف ساكنة قبل الراء، ومعناه عندهم أن من استوقد نارًا مما يجوز له، فتعدت حتى أتلفت شيئًا، فلا ضمان عليه. قال: وقال بعضهم: صحفها بعضهم؛ لأنّ أهل اليمن يكتبون النار بالباء لا بالألف، فظن بعضهم البئر بالموحدة النار بالنون، فرواها كذلك، وهذا هو الذي جزم به يحيى بن مُعين، جاعلًا التصحيف من معمر، وقال ابن عبد البر: لم يأت ابن مُعين على قوله بدليل، وليس بهذا تُرَدُّ أحاديث الثقات، ولا يعترض على الحفاظ الثقات بالاحتمالات، ولكن يؤيد ما قال ابن مُعين اتفاق الحفاظ من أصحاب أبي هريرة على ذكر البئر دون النار، ويؤيده أنه وقع عند أحمد عن جابر بلفظ "الجُبُّ جبار" بجيم مضمومة وموحدة ثقيلة، وهي البئر.
وقد اتفق الحفاظ على تغليط سفيان بن حسين، حيث روى عن الزُّهريّ في حديث الباب "الرّجل جبار" بكسر الراء وسكون الجيم، وقال الشافعي: لا يصح هذ، نعم الحكم الذي نقله ابن العربي صحيح، ويمكن أن يتلقى من حيث المعنى من الإلحاق بالعجماء، ويلتحق به كل جماد، فلو أن شخصًا عثر فوقع رأسه في جدار فمات، أو انكسر، لم يجب على صاحب الجدار شيء. وقوله: والمعدن جبار، أي هدر، وليس المراد أنه لا زكاة فيه، وإنما المعنى أن من استأجر رجلًا