الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب سنة الصلاة على الجنازة
قال الزين بن المنير: المراد بالسنة ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فهو أعم من الواجب والمندوب، ومراده بما ذكره هنا من الآثار والأحاديث، أن لها حكم غيرها من الصلوات والشرائط والأركان، وليست مجرد دعاء، فلا تجزىء بغير طهارة مثلًا، وسيأتي في أواخر الباب بسط ذلك. ثم قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صلّى على جنازة" .. هذا طرفٌ من حديث يأتي موصولًا بعد باب بلفظ "مَنْ شهد الجنازة"، وهذا اللفظ عند مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة، ومن حديث ثوبان أيضًا.
ثم قال: وقال: "صلوا على صاحبكم"، وهذا طرف من حديث لسلمة بن الأكوع، يأتي موصولًا في أوائل الحُوالة، أوَّله "كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُتِيَ بجنازة، فقالوا: صل عليها، وقال: هل عليه دَيْنٌ .. الحديث".
ثم قال: وقال: صلوا على النجاشيّ، سماها صلاةً ليس فيها ركوع، ولا سجود ولا يتكلم فيها، وفيها تكبير وتسليم. وهذا قد مرَّ في باب الصفوف على الجنازة. وقوله: سماها صلاة، أي: يشترط فيها ما يشترط في الصلاة، وإن لم يكن فيها ركوع ولا سجود، فإنه لا يتكلم فيها، ويكبر فيها ويسلم منها بالاتفاق، وإن اختلف في عدد التكبير والتسليم، كما مرَّ ذلك مستوفى في باب الإِذن بالجنازة.
ثم قال: وكان ابن عمر لا يصلي إلا طاهرًا، ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها، وهذا وصله مالك في الموطأ عن نافع بلفظ "إن ابن عمر كان يقول: لا يصل الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر" ومرَّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه.
وقوله: ولا يصلى عند طلوع الشمس ولا غروبها، وهذا وصله سعيد بن منصور عن أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذا سئل عن الجنازة بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر، يقول: ما صلينا لوقتهما، "ما" في قوله "ما صلينا" ظرفية يدل عليه رواية مالك عن نافع قال: كان ابن عمر يصلي على الجنازة بعد الصبح والعصر إذا صلينا لوقتهما، ومقتضاه أنهما إذا أُخِّرتا إلى وقت الكراهة عنده، لا يصلي عليها حينئذ، ويبين ذلك ما رواه مالك أيضًا أن ابن عمر قال، وقد أُتي بجنازة بعد صلاة الصبح بغَلَس: إمّا أن تصلوا عليها وإما أن تتركوها حتى ترتفع الشمس. فكان ابن
عمر يرى اختصاص الكراهة بما عند طلوع الشمس وعند غروبها، لا مطلق ما بين الصلاة وطلوع الشمس أو غروبها.
وروى ابن أبي شيبة عن ميمون بن مِهران قال: كان ابن عمر يكره الصلاة على الجنازة إذا طلعت الشمس، وحين تغرب، وقد تقدم ذلك عنه، وإلى قول ابن عمر في ذلك ذهب مالك والأوزاعيّ والكوفيون وأحمد وإسحاق. قلت: مشهور مذهب مالك أن الصلاة على الجنازة تباح بعد صلاة العصر إلى الاصفرار، وبعد صلاة الصبح إلى الإِسفار. وقول ابن عمر "وإما أن تتركوها حتى ترتفع الشمس" لا ينافيه.
ثم قال: ويرفع يديه، وصله البخاريّ في كتاب رفع اليدين المفرد عن نافع عن ابن عمر، أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة على الجنازة. وقد روي مرفوعًا. أخرجه الطبرانيّ في الأوسط من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر بإسناد ضعيف. قلت: مشهور مذهب مالك ندب رفع اليدين عند التكبيرة الأولى، وهو خلاف الأوْلى عند غيرها.
وروي عن ابن القاسم أنه لا يرفع في شيء منها، وفي سماع أشهب "إن شاء رفع بعد الأُولى، وإن شاء ترك" ومذهب الحنفية كالمالكية: يرفع عند الأُولى فقط، واستدلوا بما أخرجه التِّرمذيُّ عن أبي هُريرة مرفوعًا "إذ صلّى على جنازة يرفع يديه في أول تكبيرة"، زاد الدارقطنيّ "ثم لا يعود". وعند الشافعية يستحب رفع اليدين عند كل تكبيرة من الأربع.
ثم قال: وقال الحسن: أدركت الناس، وأحقهم على جنائزهم من رَضُوه لفرائضهم، وهذا الأثر لم ير موصولًا، وقوله: من رضوه، في رواية الحمويّ والمستملي "من رضوهم" بصيغة الجمع، وفائدة أثر الحَسَنُ هذا بيانُ أنه نقل عن الذين أدركهم، وهم جمهور الصحابة، أنهم كانوا يلحقون صلاة الجنازة بالصلوات التي يجمع فيها.
وقد جاء عن الحسن أن أحق الناس بالصلاة على الجنازة الأب ثم الابن، أخرجه عبد الرزاق، وهي مسألة اختلاف بين أهل العلم، فروى ابن أبي شَيبة عن جماعة، منهم سالم والقاسم وطاوس، أن إمام الحيّ أحق. وقال علقمة والأسود وآخرون: الوالي أحق من الوَلِيّ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو يوسف والشافعيّ الوَليُّ أحق من الوالي، ومذهب المالكية أنّ الأوْلى تقديم من أوصى الميت بالصلاة عليه، لأن ذلك من حق الميت إذ هو أعلم بمن يشفع له، إلا أن يعلم ذلك من الميت كان لعداوة بينه وبين الولي، وإنما أراد بذلك إنكاءه فلا تجوز وصيته، فإن لم يكن وصى فالخليفة مقدم على الأولياء، لا نائبه، لأنه لا يقدم على الأولياء إلا أن يكون صاحب الخطبة، فيقدم على المشهور، ثم أقرب العصبة، وعند الاستواء في القرابة يقدم
أفضل الأولياء. وقد مرَّ الحسن البصريّ في الرابع والعشرين من الإِيمان.
ثم قال: وإذا أحدث يوم العيد أو عند جنازة، يطلب الماء ولا يتيمم، يحتمل أن يكون هذا الكلام معطوفًا على أصل الترجمة، ويحتمل أن يكون بقية كلام الحسن، وقد وجد عن الحسن في هذه المسألة اختلاف، فروى سعيد بن منصور عن كثير بن شِنْظِير قال: سُئل الحسن عن الرجل يكون في الجنازة على غير وضوء، فإن ذهب يتوضأ تفوته، قال: يتيمم ويصلي. وعن هُشَيم عن يونس عن الحسن مثله. وروى ابن أبي شيبة عن أشعث عن الحسن قال: لا يتيمم ولا يصلي على طهر، وقد ذهب جمع من السلف إلى أنه يجزىء لها التيمم لمن خاف فواتها لو تشاغل بالوضوء. وحكاه ابن المنذر عن عطاء وسالم والزهريّ والنخعيّ وربيعة والليث والكوفيين. وهو رواية عن أحمد، وفيه حديث مرفوع عن ابن عباس، رواه ابن عديّ، وإسناده ضعيف، وهذا هو مذهب أبي حنيفة، وقيده بأن يكون الوليّ غيره.
وعند مالك يتيمم الحاضر الصحيح العادم الماء، والخائف باستعماله ذوات الصلاة للجنازة المتعينة عليه، بأن لا يوجد متوضىء يصلى عليها. وقال الشافعيُّ وأبو ثَور: لا يتيمم، وقال ابن حبيب: الأمر فيه أوسع. ونقل ابن التين عن ابن وهب أنه يتيمم إذا خرج طاهرًا فأحدث، وإن خرج معها من غير طهارة لم يتيمم.
وأما التيمم لصلاة العيد فعند المالكية لا يجوز للحاضر الصحيح العادم الماء التيمم لها، ويجوز للمريض والمسافر، وكذلك عند الشافعيّ، لا يجوز التيمم لصلاة العيد أداء وبناء. قال النّوويّ: قاس الشافعيّ صلاة الجنازة والعيد على الجمعة، وقال: تفوت الجمعة بخروج الوقت بالإِجماع، والجنازة لا تفوت، بل يصلي على القبر إلى ثلاثة أيام بالإِجماع، ويجوز بعدها عندنا وعند الحنفية، إنْ كان قبل الشروع في صلاة العيد لا يجوز للإِمام، لأنه ينتظر، وأما المقتدي: فإنْ كان الماء قريبًا بحيث لو توضأ لا يخاف الفوت لا يجوز، وإلا فيجوز، فلو أحدث أحدهما بعد الشروع بالتيمم يتيمم، وإن كان الشروع بالوضوء وخاف ذهاب الوقت لو توضأ، فكذلك عند أبي حنيفة خلافًا لهما.
وفي المحيط: وإن كان بالوضوء وخاف زوال الشمس لو توضأ يتيمم بالإِجماع، وإلا فإن كان يرجو إدراك الإِمام، قبل الفراغ، لا يتيمم بالإِجماع، وألَاّ يتيمم ويبني عند أبي حنيفة. وقالا: يتوضأ ولا يتيمم، فمن المشائخ من قال: هذا اختلاف عصر وزمان، ففي زمن أبي حنيفة كانت الجَبَّانة بعيدة من الكوفة، وفي زمانهما كانوا يصلون في جبانة قريبة.
ثم قال: وإذا انتهى إلى الجنازة وهم يصلون، يدخل معهم بتكبيرة، هذا بقية من كلام الحسن
أيضًا، أي: إذا انتهى الرجل إلى الجنازة، والحال أن الجماعة يصلون، يدخل معهم بتكبيرة، وقد وصله ابن أبي شيبة عن أشعث عن الحسن في "الرجل ينتهي إلى الجنازة وهم يصلون عليها، قال يدخل معهم بتكبيره".
وروي عن محمد بن سيرين قال: يكبر ما أدرك، ويقضي ما سبقه. وقال الحسن: يكبر ما أدرك ولا يقضي ما سبقه، وعند الحنفية: لو كبر الإِمام تكبيرة أو تكبيرتين لا يكبر الآتي حتى يكبر الإِمام تكبيرة أخرى عند أبي حنيفة ومحمد، ثم إذا كبر الإِمام يكبر معه، فإذا فرغ الإِمام كبر هذا الآتي ما فاته قبل أن يرفع الجنازة، وكذا الحكم عند المالكية، فإنه لا يكبر حال اشتغال الإِمام بالدعاء، حتى يكبر، فإن التكبيرات كالركعات، ولا يقضي ركعة كاملة في صلب الإِمام، وروى مُطرِف أنه يكبر حين يحضر، وبه قال، واختاره، ابن
…
وابن رشد وسند من المتأخرين. وبه قال أبو يوسف. وعند المالكية يدعو المسبوق، إذا تركت له الجنازة، وإلا والى التكبير وسلم، لئلا يكون مصليًا على غائب.
ومذهب الشافعيّ أنه يكبر حين يحضر، وهو رواية عند أحمد، وهو قول الثّوريّ، ويستحب أن لا ترفع الجنازه حتى يتم المسبوق ما عليه، فلو رفعت لم يضر، قال القسطلاني: وتبطل بتخلفه عن إمامه بتكبيرة بلا عذر، بأن لم يكبر حتى كبر الإِمام المستقبلة، إذ الاقتداء هنا إنما يظهر في التكبيرات، وهو تخلف فاحش يشبه التخلف بركعة، وفي الشرح الصغير احتمال أنه كالتخلف بركن، حتى لا تبطل إلا بتخلفه بركنين. وخرج بالتقييد "بلا عذر" من عذر ببطء القراءة أو النسيان أو عدم سماع التكبير، فلا يبطل تخلفه بتكبيرة فقط، بل بتكبيرتين على ما اقتضاه كلامهم.
ثم قال: وقال ابن المسيب يكبِّر بالليل والنهار والسفر والحضر أربعًا. قال في "الفتح"، لم أره موصولًا عنه، ووجدت معناه بإسناد قويّ عن عقبة بن عامر الصّحبي. أخرجه ابن أبي شيبة عنه موقوفًا، وقد مرَّ ابن المسيب في التاسع عشر من الإِيمان.
ثم قال: وقال أنس التكبيرة الواحدة استفتاح الصلاة، وصله سعيد بن منصور عن زُريق بن كريم أنه قال لأنس بن مالك: رجل صلى فكبر ثلاثًا. قال أنس: أوليس التكبير ثلاثًا؟ قال: يا أبا حمزة التكبير أربعًا، قال: أجل، غير أن واحدة هي استفتاح الصلاة. وأنس مرَّ في السادس في الإِيمان.
ثم قال: وقال، {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} أي: وقال الله سبحانه وتعالى، وهذا معطوف على أصل الترجمة، ثم قال: وفيها صفوف وإمام، وهذا معطوف على قوله "وفيها تكبير وتسليم". وقال مفلطاي: كأنّ البخاريّ أراد الرد على مالك، فإن ابن العربيّ نقل عنه أنه استحب كأن يكون المصلون على الجنازة سطرًا واحدًا، قال: ولا أعلم لذلك وجهًا، وقد تقدم حديث مالك
ابن هبيرة في استحباب الصفوف في باب "الإِذن بالجنازة" عند حديث النجاشي.
وقال ابن رشيد، نقلًا عن ابن المُرابط وغيره ما محصله: مراد هذا الباب الرد على من يقول إن الصلاة على الجنازة إنما هي دعاء لها واستغفار، فتجوز على غير طهارة، فأوّلُ الرد عليه عند المصنف من جهة التسمية التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً، ولو كان الفرض الدعاء وحده، لما أخرجهم إلى البقيع، ولدعا في المسجد، وأمرهم بالدعاء معه، أو التأمين على دعائه، ولما صفهم خلفه كما يصنع في الصلاة المفروضة والمسنونة، وكذا وقوفه في الصلاة وتبكيره في افتتاحها، وتسليمه في التحلل منها، كل ذلك دالٌّ على أنها على الأبدان لا على اللسان وحده، وكذا امتناع الكلام فيها، وإنما لم يكن فيها ركوع وسجود لئلا يتوهم بعض الجهلة أنها عبادة للميت، فيضل بذلك.
ونقل ابن عبد البرّ الاتفاق على اشتراط الطهارة لها، إلا عن الشعبيّ قال: ووافقه إبراهيم بن علية، وهو ممن يُرغب عن كثير من قوله، ونقل غيره أن ابن جرير الطبريّ وافقهما على ذلك، وهو مذهب شاذّ، قال ابن رشيد: وفي استدلال البخاريّ بالأحاديث التي صُدِّر بها الباب من تسميتها صلاة لمطلوبه من إثبات شرط الطهارة إشكال، لأنه كإن تمسك بالعُرف الشرعيّ عارضه عدم الركوع والسجود، وإن تمسك بالحقيقة اللغوية عارضته الشرائط المذكورة.
ولم يستو التبادر في الإطلاق، فيُدّعى الاشتراك لتوقف الإِطلاق على القيد عند إرادة الجنازة، بخلاف ذات الركوع والسجود، فتعين العمل على المجاز، ولم يستدل البخاري على مطلوبه بمجرد تسميتها صلاة، بل بذلك وبما انضم إليه من وجود جميع الشرائط، إلا الركوع والسجود، وقد تقدم ذكر الحكمة في حذفهما منها، ففي ما عداهما على الأصل، وقال الكرمانيّ غرض البخاريّ بيان جواز إطلاق الصلاة على صلاة الجنازة، وكونها مشروعة، وإن لم يكن فيها ركوع ولا سجود، فاستدل تارة بإطلاق اسم الصلاة والأمر بها، وتارة بإثبات ما هو من خصائص الصلاة، نحو عدم التكلم فيها، وكونها مختتمة بالتسليم، وعدم صحتها بدون الطهارة، وعدم أدائها عند الوقت المكروه، وبرفع اليد، وإثبات الأحقية بالإِمامة، وبوجوب طلب الماء، وبكونها ذات صفوف وإمام.
قال: وحاصله أن الصلاة لفظ مشترك بين ذات الأركان المخصوصة وبين صلاة الجنازة، وهو حقيقة شرعية فيهما. وقد قال بذلك غيره، ولا يخفى أن بحث ابن رشيد أقوى، ومطلوب المصنف حاصل، كما مرَّ بدون الدعوى المذكورة، بل بإثبات ما مرَّ من خصائصها.