الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكأنه رجع إليهما للإِيضاح. وقوله: يوم الخروج من قبورهم، أي يوم خروج أهل القبور من قبورهم. وقوله: ينسلون يخرجون، كذا أورده عبد بن حميد وغيره عن قتادة، وقال أبو عبيدة: ينسلون يخرجون، كذا بسرعة، وفي المجمل: النَّسَلان مشية الذِّيب إذا أسرع في المشي، وفي الجامع للقزّاز: نُسُولًا، وأصله عَدْوٌ مع مُقَارَبَة خَطْو، وهذه التفاسير أوردها لتعلقها بذكر القبر استطرادًا، ولها تعلق بالموعظة أيضًا.
قال الزين بن المنير: مناسبة إيراد هذه الآيات، في هذه الترجمة، للإِشارة إلى أن المناسب لمن جلس عند القبر أن يقصر كلامه على الإِنذار بقرب المصير إلى القبور، ثم إلى النشر لاستيفاء العمل. والأعمش قد مرَّ محله في رجال السند.
الحديث السابع عشر والمئة
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَاّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَاّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً. فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآيَةَ.
قوله: عن علي، في رواية مسلم "البطين عن أبي عبد الرحمن السلميّ، أخذ بيدي عليّ، فانطلقنا نمشي، حتى جلسنا على شاطىء الفرات، فقال عليّ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" فذكر الحديث مختصرًا، وقوله: كنا في جنازة في بقيع الغَرْقد، فأتانا النبيّ الخ، الغَرْقَد، بفتح الغين المعجمة والقاف بينهما راء ساكنة وفي آخره مهملة، وهو شجر له شوك كان ينبت هناك، فذهب الشجر وبقي الاسم لازمًا للموضع. وفي هذه الرواية دلالة على أنهم سبقوا بالجنازة، وأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
وفي الرواية الآتية في كتاب القدر: كنا جلوسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عبد الواحد عن الأعمش: كنا قعودًا، وفي رواية الثَّوريّ عن الأعمش: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغَرْقد، وظاهر هذه الروايات أنهم كانوا جميعًا شهدوا الجنازة.
وقوله: ومعه مِخْصَرة، وفي رواية القدر "ومعه عود ينكث به الأرض" وفي رواية شعبة "وبيده عود
فجعل ينكث به الأرض" والمخصَرة بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الصاد المهملة، هي عصا أو قضيب يمسكه الرئيس ليتوكأ عليه، ويدفع به عنه، ويشير به لما يريد، وسميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالبًا، للاتكاء عليها. في اللغة: إختصر الرجل إذا أمسك المخصرة.
وقوله: فنكَّس، بتشديد الكاف أي أطرق، وقوله: فجعل ينكث بمخصرته، قال المهلّب: نكثه الأرض بالمخصرة، أصل في تحريك الأصابع في التشهد، وقيل: هذا بعيد، وإنما هي عادة لمن يتفكر في شيء يستحضر معانيه، فيحتمل أن يكون ذلك تفكرًا منه عليه الصلاة والسلام، في أمر الآخرة، بقرينة حضور الجنازة، ويحتمل أن يكون فيما أبداه بعد ذلك لأصحابه من الحكم المذكورة.
وقوله: ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، أي مصنوعة مخلوقة، واقتصر في رواية أبي حمزة والثَّوريّ على الأول. وقوله: إلا كُتب مكانها من الجنة والنار، وفي رواية سفيان "إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار". وفي هاتين الروايتين إشارة إلى حديث ابن عمر الآتي "أن لكل أحد مقعدين" وفي رواية القدر "إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة" أو: للتنويع، والظاهر أنها بمعنى الواو، لتوافق الروايتين المذكورتين.
وقوله: وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، إعادة "إلا" يحتمل أن يكون "ما من نفس" بل "ما منكم"، وإلا الثانية بدل من الأولى، وأن يكون من باب اللف والنشر، فيكون فيه تعميم بعد تخصيص، والثاني في كل منهما أعم من الأول.
وقوله: فقال رجل: أفلا نتكل يا رسول الله؟ وفي رواية سفيان وشعبة: فقالوا: يا رسول الله، وهذا الرجل عند مسلم عن جابر أنه سُراقة بن مالك، ولفظه "جاء سراقة فقال: يا رسول الله، أنعمل اليوم فيما جفت به الأقلام. وجرت به المقادير؟ أو فيما يستقبل؟ قال: فبما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، فقال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكلكم مُيَسَّرٌ لما خلق له". وأخرجه الطبرانيّ وابن مردويه نحوه، وزاد "وقرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} إلى قوله {لِلْعُسْرَى} .
وأخرجه ابن ماجه عن سُراقة نفسه، لكن دون تلاوة الآية، ووقع هذا السؤال وجوابه، سوى تلاوة الآية، لشريح بن عامر الكلابيّ، أخرجه أحمد والطبرانيّ ولفظه "قال: ففيم العمل إذا قال: اعملوا فكلكم ميسر لما خلق له"؟ وأخرج التِّرمذيّ عن ابن عمر قال: قال عمر: يا رسول الله، أرأيتَ ما نعمل فيه أمر مبتدع أو أمر قد فُرِغ منه؟ قال: فيما قد فرغ منه، فذكر نحوه.
وأخرج البزّار والفريابي عن أبي هُريرة أن عمر قال: يا رسول الله، فذكره، وأخرجه أحمد والبزّار والطَّبرانيّ عن أبي بكر الصديق، قلت: يا رسول الله، نعمل على ما فرغ منه .. ؟ الحديث، نحوه. وفي حديث سعد بن أبي وقّاص "فقال رجلٌ من الأنصار" والجمع بينها تعدد السائلين عن ذلك، ففي حديث عبد الله بن عمرو أن السائل عن ذلك جماعة، ولفظه "فقال أصحابه: فيم العمل إن
كان قد فرغ منه، فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل .. " الحديث. أخرجه الفريابيّ.
وقوله: أفلا نتكل، الفاء معقبة لشيء محذوف تقديره: أفإذا كان كذلك فلا نتكل؟ وقوله: على كتابنا وندع العمل، أي: نعتمد على ما قدر علينا، وفي رواية القدر الآتية "اعملوا، فكلكم ميسر لما خلق له" وحاصل السؤال ألا نترك مشقة العمل، فإنا سنصير إلى ما قدر علينا، وحاصل الجواب لا مشقة، لأن كل أحد ميسر لما خلق له، وهو يسير على من يسره الله.
قال الطيبيّ: الجواب من الأسلوب الحكيم، منعهم عن ترك العمل، وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة، فلا يجعلوا العبادة وتركها سببًا مستقلًا لدخول الجنة والنار، بل هي علامات فقط، وقوله: فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة .. الخ، قد مرَّ الكلام على الشقي والسعيد، وما قيل في معناه من الخلاف في باب "مُخَلَّقة وغير مخلقة" من كتاب الحيض.
وقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية، وساق في رواية سفيان ووكيع الآيات إلى قوله {لِلْعُسْرَى} وعند الطبرانيّ عن ابن عباس نحو حديث عمر، وفي آخر حديث سُراقة، ولفظه "فقال يا رسول الله، ففيم العمل إذا قال: كلٌ لا ينال إلا بالعمل؟ قال عمر: إذًا نجتهد" وأخرج الفريابيّ بسند صحيح إلى بشير بن كعب قال: سأل غلامان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فيم العمل؟ فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم شيء نستأنفه؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام، فإلاّ ففيم العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما هو عامل، قالا: فالجِدّ الآن.
وفي الحديث جواز القعود عند القبور، والتحديث عندها بالعمل والموعظة، ومناسبته للقصة أن فيه إشارة إلى التسلية عن الميت بأنه مات بفراغ أجله، وهذا الحديث أصل لأهل السنة في أن السعادة والشقاء بتقدير الله القديم. وفيه رد على الجبرية، لأن التيسير ضد الجبر، لأن الجبر لا يكون إلا عن كره، ولا يأتي الإِنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له.
واستدل به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا، كمن اشتهر له بلسان صدق، وعكسه، لأن العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر، ورد بما جاء في حديث ابن مسعود الآتي في كتاب القدر "أن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع .. " الخ فإن هذا العمل الظاهر قد ينقلب لعكسه على وفق ما قدر، والحق أن العمل أمارة وعلامة، فيحكم بظاهر الأمر، وأمر الباطن إلى الله تعالى.
قال الخطابيّ: لما أخبر صلى الله عليه وسلم عن سَبْق الكائنات، رامَ مَنْ تَمسَّك بالقدر أن يتخذه حجة في ترك العمل، فأعلمهم أن هنا أمرين لا يبطل أحدهما بالآخر: باطنٌ، وهو العلة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر، وهو العلامة اللازمة في حق العبودية، وإنما هي أمارة مُخيلة في مطالعة علم